"أحبك قدرًا يخطفني وقطرة ماءٍ ترويني"
لقد بدأت عواصف أمشير في الهبوب وأنا عاطلة من أساليب الأمان عاجزة عن الشعور بالدفء؛ فبقيت أنتظر عودتك لكن لم تلفحني إلا برودة غيابك وجمود خذلانك لي ... لتصبح هذه العواصف جزءً مني
*********
لا ترمي الوعود وتهرب لأنني كالحمقاء أنتظر..
ولكن عاملني برفق فأنا أنثى تُعجبها كلمة دافئة وتذوب من مجرد ضمة!
نظرت للبيت حولها بنظرات ريبة وعدم ارتياح فهي لم تطأ قدمها هذا البيت منذ شهور عديدة لا تعرف هل فقدت قدرتها على عدهم أم هي لا تريد تذكير نفسها باحتمالية عقوقها تجاه والدها..
أغمضت عينيها وأخذت نفسًا مضطربًا كان يزحم صدرها لكنها بعده لم تتخلص من الضيق إذا عاودت لها الذكريات المؤلمة في هذا المكان الموحش، والذي من المفترض أنه يكون بيتها!!
بيتها!! .. يا للسخرية حقًا!!
هذا المنزل لم يعد بيتها منذ وفاة والدتها بل منذ زواجها من عدي، وهي تعتبر هذا الزواج نعمة لأنها خلّصها من والدها القاسي، عديم الرحمة... والحياء
-ما بك نهاد؟؟ تبدين منزعجة
فتحت عينيها على يد عدي التي أمسكت كفها المتشنج، فرمقته بامتنان لإخراجها من شرودها المخزي والحزين، هزت رأسها نفيًا بينما تُتمتم بخفوت
-لا ليس هناك شيء هل يمكننا الرحيل؟
قطبَ حاجبيه وقد توصلَ لشعورها الغير مرتاح ليُجيب بقلق
-وصلنا لتونا!! ولا يصح أن نترك الرجل وهو يقوم بضيافتنا ونرحل
شدد على كلمة "رجل" لنفورها من كلمة "أب"، وهذه من المرات التي يراعي فيها عدي شعورها والأدهى أنه عرف كيف يفسره!!..
عادَ والد نهاد بينما يحمل في يده صينية يحتلها ثلاث أكواب كبار من المياه الغازية ويبتسم باتساع كأنه سعيد حقًا بتلك الزيارة التي قامت بها ابنته وزوجها بعد انقطاع دام لأشهر، وهذا ما جعلَ نهاد تبتسم بسخرية وتُحدث نفسها "منذ متى وأبيها يبتسم بل والأدهى منذ متى وهو يُقدم الضيافة بالمياه الغازية التي بالتأكيد كلفته ثمانية جنيهًا ومن طبيعته البخيلة لم يكن ليفعلها بل سيكتفي بكوب شاي لعدي لأنه هو ونهاد يعتبرا من أهل البيت"
أسبلت جفنيها وأخرجت زفيرًا خفيفًا من بين شفتيها المكتنزتين وهي تنأى بظهرها وسمعها بعيدًا عنهم، تتطلع لعدي الذي أخذَ يتباسط في الحديث من والدها المُبتسم من حينٍ لأخر ويرد عليه ببعض الحماس، بالتأكيد الموضوع به نقود، تفرست ملامح عدي الباسمة والمرتاحة وهي تتمنى لم لا يكون هكذا معها؟ .. هل تستطيع أن تسلب منه هذه النظرة الرائقة خلسة دون أن يشعر؟.. هي تتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي تُعري روحها إليه وتُخبره بأفاعيل والدها وماضيها المؤلم وطيبة والدتها المتوفاة التي كانت تُزيح عن عاتقها الكثير.. لكن كيف ستخبره وحاضرها معه حزين وغامض ومستقبلها مجهول!!
صدحت ضحكات عدي بصوتٍ عالٍ مما جعلَ عينيها تتسعان بصدمة فهو لم يضحك هكذا منذ زمن وهي لم تحظَ بشرف إضحاكه إلا قليلاً فهذه السنة الثانية لزواجهم ولا تتذكر هل شعرَ بكل تلك السعادة معها؟!!
لم تحتمل واستأذنت منهم سريعًا بأنها ستمر على غرفتها وغرفة والدتها لأنها تشتاق للجلوس فيها، كانت حجة غير منطقية جعلت عدي يقطب جبينه ووالدها ينظر لها بندم لكنها كانت الأمثل للانفراد بنفسها وتحميلها لوم حياتها التعيسة
ساور قلب عدي القلق وهو يراقب خطواتها البطيئة وكتفيها المتهدلين بقنوط كأنها تدخل معركة لم تستعد لها نفسيًا أو جسديًا، فهو يعرف طبعها الأبلة سترثي نفسها الآن وعندما يعود للمنزل ستبدأ وصلة بكاء أخرى بينما هو يقف لا يعرف ماذا يفعل لأنها كالعادة لا تخبره لم هي حزينة!!، يشعر أنها وبعد كل هذه المدة لا تزال تثق بـــــــه!
كاد يقوم من مكانه لكن يد الوالد كانت سابقه وهو يُمسك بذراعه ليجلس مرة أخرى قائلاً بمرارة لم تخف على عُدي المتحفز
-اتركها قليلاً.. هي بحاجة لوالدتها
سأل عدي بسخرية وهو لا يفهم حقًا
-هل صدّقت ما قالته؟ لقد توفيت والدتها!! ما الذي ستفعله بالداخل سوى البكاء؟
نظرَ له الرجل بخيبة بعض الشيء عندما وجدَ أن أمر بكائها عادي بالنسبة له ثم ما لبثَ أن برقَ الأمل في عينيه وهو يُحدثه محاولاً البحث عن إجابة شافية معطيًا له فرصة أخيرة
-هي تريد أن تشعر بوالدتها حتى لو لم تكن موجودة يكفيها فقط أن تنظر لملابسها وتشم رائحتها بين ثناياها... وإن كنت قادرًا على إيقاف حزنها فأنا لا أمنعك.. تفضل
تركَ يده عدي بعدما أنهى كلامه وقد انتظرَ أن يقوم صهره من مكانه ويذهب ناحيتها ليخفف عنها لكنه لم يفعل بل اضجعَ على الكرسي خلفه ليقول بنبرة غير مفهومة
-حسنًا لا بأس... المهم أنها تثق فيما تفعله
-ماذا!!
حدقَ الرجل به بالرغم من ملامح القلق التي تحتل وجه عدي إلا أنه استشفَ أن العلاقة بينهما متوترة، وهو ما كان يحاول لسانه وقلبه تصحيحه فلا يريد لعدي أن يطمس شخصية ابنته أو يقع في الفخ الذي وقعَ فيه غروره قبل سنواتٍ عدة
تلك المرة هما يحتاجان بعضهما، يحتاجان للشعور بالأمان والسكينة ولو قليلاً
الحقد والكره وجهان لعملة واحدة .. وعلى أي وجهٍ تستقر هذه العملة لن تجد ما يسرك
وفي الداخل وقفت على أعتاب باب غرفتها ولم تستطع أن تتحرك قدميها خطوة واحدة، فخلفها الباب الذي أغلقته وأمامه كانت تقبع ذكريات غرفتها الضيقة بمآسيها، هنا الركن الذي ضربها والدها فيه بالحزام، وهنا السرير الذي أحرقها فيه مرة تاركًا أثرًا سطحيًا على جلدها عميقًا في نفسها وهذا لأنها طلبت منه زيادة في النقود!!، وهذا الدولاب... ااه
انتابتها قشعريرة وهي تحدق ناحيته بخوف وقلق واضحين كأن أبيها سيخرج منه ويسحبها إلى داخله كما فعلَ كعقاب وهي في العاشرة..
-اهدأي يا نهاد.. اهدأي والدك في الخارج يجلس مع زوجك ولن يحدث شيء
كانت مغمضة العينين تُتمتم بخفوت من يراها يظن أنها تتلو تعويذة ما لكن هذا لم يكن سوى دعاءً يحميها شر أبيها، عادت لتُكمل وهي تفتح عينيها بينما تزدرد ريقها بتوجس خشية أن يحدث شيء فهي لا تثق في هذا المكان أبدًا
-عدي في الخارج وإن حدث شيء سيتصرف فقط سأصرخ
ترجمت كل ما تشعر به بكلمات متخبطة ومتعثرة تفاجأت هي منها، وسرعان ما ضبطت نفسها وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تخرج لهم وفي ذهنها جُملة واحدة " هل حقًا سيساندك عدي؟"
********
في السيارة أثناء عودتهما للمنزل بدأ عُدي الحديث قاطعًا الصمت المتوتر من جهته والمتشنج الجامد من جهتها قائلاً بنبـــرة ودودة
-لم تكن بشعة إلى الحد الذي تخيلته أليس كذلك؟
التفتت له قاطبة حاجبيها وخارجة من شرودها في أخر جملة طرقت بعقلها في منزل والدتها وتساءلت بتلقائية
-ما الذي تتحدث عنه؟
أجاب بعفوية بينما يركز على القيادة
-زيارة منزل والدك
صححت له بينما تعتدل في مقعدها وتمرر أصابعها في شعرها القصير
-أه.. منزل والدتي ... لم أكن منتبهه للحوار الدائر بينكما ومعظم الوقت كنت في غرفتي أو غرفة والدتي لذا فكانت ممتازة
قالت جملتها الأخيرة بابتسامة عصبية لمحها عُدي بطرف عينيه، لكنه لم يعلق واستمر الصمت لدقائق أخرى قبل أن يعود قاطعًا إياها بسؤال قاطع لكــنه مراعي
-ما الذي حدث بينك وبين والدك لتتضرر العلاقة بينكما هكذا؟
أراحت رأسها على المقعد وأجابت بهدوء وهي تتأمل الخارج من زجاج النافذة
-لم يكن هناك ما يُسمى بعلاقة بيننا لتقول أنها تضررت لم يحدث هذا أبدًا... الشيء الوحيد الذي يصف الرابط بيني وبين أبي هو "الاستبعاد"، "السيادية".. "الكــره" من ناحيتي غير هذا فلا ... لم تكن حياتنا طبيعية معًا ووالدتي لا تزال على قيد الحياة وتحولت لمستحيلة بعدما ماتت..
علّقت حديثها ثم صمتت لتأخذ نفسًا عميقًا ثم أفلتته ببطء مكملة كأنها تتعمد التريث فيما ستقوله
-الموضوع بيننا معقد بطريقة لن تتخيلها... فهو لم يعتبرني ابنته وأنا بدوري لا صفة للأب له في حياتي.. أنا أكرهه
تفاجأ عدي مما يسمعه لأول مرة منها، يعلم أن علاقتها بأبيها متوترة حتى أنها لا تذهب لزيارته إلا بضع مراتٍ قليلة وتحت ضغط من أعمامها وعماتها، لكــن ما الذي يجعلها تشعر بكل هذه المشاعر السلبية تجاهه ... ماذا فعل هذا الرجل ليستحق كل هذا النفور من ابنته؟!!
أجلى حلقه ثم أردف بجدية
-لكــن مهما بلغ شعورك بالاستياء منه ومن أفعاله واجبٌ عليكِ أن تبريه وتذهبي لزيارته وتُطيعيه أنتِ مُجبرة لفعل ذلك طالما هو أبيكِ .. التمرد ليس حلاً يا نهاد .. ومن رؤيتي له يبدو أنه نادم
حوّلت نظرها إليه بغتة ونظرت له بحدة حتى ظنَ عدي أنها على وشك إلقاء كلمات نابية أو ستضربه من النظرة الشريرة المتمثلة في عينيها رغم أنه يعرف طبعها الهادئ، ولكــن هي مصرة على مفاجأته اليوم بتصرفات غير مسبوقة، ففي غمرة تفكيره فيما ستفعله كانت هي تُطلق ضحكة عالية دون مرح وتحمل ألوان القهر جميعها "الأسود والرمادي " والذي لا يتخللها أبيض الأمل أبدًا
-هل أنت جاد فيما تقوله؟ هل تسمع الكلمات التي تخرج من فمك أصلاً؟؟؟ أنت لا تعرف ما الذي حدثَ بيني وبينه لأتخذ منه هذا الموقف ولا تعرف أيضًا أي شخصٍ هو لتدعي أنه نادم بحق.. شعوري هذا لم يكن إلا نتيجة لأفعاله السيئة التي طالتني أنا وأمي ، ماتت هي بحسرتها عليّ وأنا بقيت وحيدة وعانيت لسنوات حتى تزوجت...
ازدردت ريقها وقد بدأت دموعها في الهطول تباعًا وحلقها ينتابه المرارة بين كل حرفٍ وآخر
-هل تعلم أنني في بعض الأحيان كنت ألوم أمي وناقمة عليها لأنها ماتت وتركتني أعاني وحدي بعدما كنا نتقاسم الحمل سويًا؟.. ظننت أنها رحلت لأنها لم تعدل تحتمل ما يحدث لها على يده ولم تلقِ بالاً لي –استغفر الله- ... وأنت الآن تخبرني أنه يجب عليّ مسامحته وبرّه؟؟ أنت لا تعرف إلى أي درجة بلغت من عدم إيماني لدرجة أنني فكرت هذا التفكير في أمي دون أنا اعمل حسابًا لقدرة الله وتدابيره الحكيمة، وأنه رحمها منه بعدما أخذت من حسناته الكثير ووضعني في طريقك بطريقة اعتقدتها صدفة لكن ما لبثت وأن استعدت إيماني وأدركت للتو أنها قدرًا مُقدرًا حتى تعوضني عن طول سنين بؤس وجفاء
تحدثت في البادئ بحسرة وندم ثم سرعان تغيرت نبرتها لقسوة حازمة غير معتادة من نهاد الرقيقة، وهنا يبدو أنها تحولت لنهاد الطفلة التي تعرضت للتعنيف باستمرار
حدقَ في وجهها لبرهة يتفرس ملامحها الباكية ونظرة الشراسة التي التمعت في مقلتيها وهلة ثم انطفأت وهي تدخل في وصلة بكاء مُقيّمًا موقفها التي تشعر به الآن وقد توصل أنه ضعيف.. ضعيف للغاية فعندما مدَّ ذراعه لالتقاطها في كنفه ارتمت في مأمنها كأنها تنشد الراحة والأمان مُفتقدة ذلك الحضن لفترة من الزمن
لامَ عدي نفسه على انشغاله الفترة السابقة بعدم اتصال سلطان لكن الأمر ليس بيده وهو الأخر ممنوع من الاتصال حتى يفعل أخيه!!.. أي جحودِ هذا!!
قبَّلَ رأسها بحب زوجي، وحنان أبوي وتحدثَ بنبرة مواسية كما يفعل الأصدقاء
-أنت الآن ناضجة كفاية حتى لا تفكري في تلك الذكريات الأليمة، وتعرفين أنني أحبك وسأكون دائمًا معك مهما بلغ الأمر... أنا لم أتزوجك بسهولة ولن أفرطِ فيكِ أبدًا.. لكن علينا مناقشة أمر زيارتك على الأقل بإمكاننا إيجاد حلًا فانا أريدك معي في الجنة
ضحكت نهاد وتمرغت في صدره كقطة ناعمة تحتاج لحنان صاحبها ويد دافئة تربت على رأسها، ثم أردفت بصوتٍ مبحوح لا يخلو من دلال بعدما استطاع إخراجها مما هي فيه قليلاً
-اطمئن .. لا أتركك لغيري حتى لو كانت حور عين
ضحكَ عاليًا على دعابتها المرحة التي تكررت عدة مرات على مواقع التواصل الاجتماعي ثم تنهدَ ودام الصمت لدقائق...
هي.....
تتذكر كل ما عانته على يد والدها بداية من المال حتى مرضها التي لم تتخلص منه حتى الآن، أغمضت عينيها محاولة أن تفكر فقط في كلام عدي الأخير، رغم أنه كان حوارًا واحدًا بسيطًا إلا أنه فتحَ قلبها وأشعرها بمدى احتياجها إليه رغم جفاء الأيام الماضية، لكن ذكريات والدها عادت تنخر رأسها بقوة دون هوادة، تطرق عليها بمطارق من الألم وبسندان العجز
-هل يمكنني الحصول على مال؟
ردَّ والدها بغلظة بعدما التفتَ إليها بحدة أجفلتها
-ألم تأخذي مالاً البارحة لشراء حاجياتك الخاصة رغم أنه لا داعي لتلك الأشياء الباهظة فعلى أيامنا لم يكن هناك سوى قطعة قماش وانتهى الأمر
تخضبت وجنتيها بحمرة بالغة وتحوّلَ خجلها الطفيف إلى آخر عارم جعلَ الدم يتدفق بسرعة ودقات قلبها تتصارع كمن تعاني من علو في ضغط الدم، لكنها لم تستسلم هي ستموت حرجًا أكثر لو رأي بقع الدماء تزين عباءتها .. ستموت قبل أن يراها هكذا
-أبي أنا لدي وضع خاص أشعر بذلك والأمر أصبحَ زائدًا عن حده ولا أعتقد أن القماش وغيره قد ينفع معي.. لذا لزام عليّ أن أحاول منع الأمر بطريقة صحية والذهاب لطبيب
يا إلهي هل هي تخوض في هذا الحديث مع والدها حقًا؟؟، هل أمر دورتها الشهرية أصبحَ نقاشًا قد تتحدث فيه مع والدها قليل الكلام معها؟!، الأمر مُثير للسخرية فالمرة الوحيدة التي يتكلمان فيها مطولاً عن كل مرة تكون عن أكثر شيء حساس لدى أي امرأة ..!
زمَّ شفتيه بقرف واضح وتطلعَ إلى جسدها السمين من عباءتها الفضفاضة والتي لم تدارِ تقاسيمها المنبعجة عن الشكل الطبيعي، لم يقصد أن يتحرش بها نظريًا كان ممتعضًا من زيادة وزنها:
-لن تذهبي لطبيب من أمرٍ تافه كهذا فالنساء جميعهن تأتيهن الدورة ولا يفعلن مثلك ويتدللن للحصول على نقود زائدة لا أعلم فيما تصرفيها، فبالتأكيد لن تنتهي فوطك الصحية في يوم.. استعملي المناديل هي أرخص وستوقف الدماء
المناديل!!!
مرة أخرى!!!
صرخت وقد كفاها الموقف المحرج الذي هي فيه
-أنا أعاني من نزيف وقد يستمر لأسبوع وأكثر... وأعتقد أن أقل ما تقدمه لي هو شراء بعض الأشياء الأساسية لهذا الأمر بالإضافة لدواء النزيف الذي سيقضي عليّ يومًا
وذلة لسانها تلك كلفتها صفعات على وجهها ومنعًا من النقود التي كانت ستأخذها لو رضي من الأساس، وكما ينتهي بها الحال كل مرة تطلب فيها نقودًا هي تذهب لغرفتها بآلام مُميتة ووالدتها تمد يدها لجارتها طلبًا للنقود على استحياء، والأخرى مصمصمت شفتيها وأخرجت من صدرها خمسون جنيهًا لم تكفِ إلا ثمن دواء النزيف وعادت نهاد تستخدم المناديل الورقية المضرة والتي لم تكفِ سد احتياجها....
عادت من تلك الحادثة الأليمة لملامح العدي الساكنة وتساءلت لم يبقَ معها كل هذا الوقت معاديًا عائلته؟... هل لأنها كانت أول من يقابله بعدما تمرد على القبيلة فتوهم بها وتزوجها أم يُحبها حقًا؟... فمن سيصبر على امرأة دورتها الشهرية تمتد لأسبوعين ويُمكن أن تُتبع بنزيف والأدهى أن هذا هو سبب عدم وجود حملٍ إلى الآن
وهو....
كان شاردًا في أحوال أخيه المنقطعة وصوت والدته الذي لم يسمعه لمدة، إلى أي جحودٍ وصلوا حتى يجتثوا أخر أنفاسه في الحياة؟!
تزاحمت الأفكار داخل عقله تطرق عليه بلا هوادة أو شفقة، لقد تركَ المنزل والقبيلة منذ سنوات عندما أصرَ على إكمال دراسته خارجها بل أن يتخذ مسكنًا بعيدًا إذا ما صادف الوقت امتحاناته أو ظرفًا قد يضطره للمبيت بدلاً من السفر كل تلك المسافة...
كانت هذه أول تمرد يثور به وبعدها توالت سلسلة التمرد لينتهي بتحديه لجده بأنه سيتزوج من البلدة الذي يعيش بها ضاربًا بقوانين القبيلة عرض الحائط ومعترضًا على قرار جده بالمجحف بالزواج من بدور ابنة عمه...
يعرف هذا اليوم جيدًا وإلى الآن هو محفورٌ بين ثنايا ذاكرته، يومها تلقى صفعة من جده أنبئته أن القادم أسوأ بكثير مما مضى، ما زالَ يتذكر عينيه اللتين اتقدتا بشرارٍ تأزر مع حديثه ليحرقه
-إن أردت أن تتزوجها فستنسى أن لكَ عائلة قد أكرمتك في يومٍ ما.. سترحل من هذا الباب" ولن تعد ... وسأصدر أمرًا لحراس البلدة أن يطلقوا عليك النار لو ظهرت مرة أخرى ولن تُدفن هنا أيضًا"
كلمات جده آلمته لكنه لطالما كرهه لم يعتد منه الحنان على أيةً حال، ما جعلَ قلبه ينتفض بين جنبات صدره هو نشيج والدته الباكي وعيني جدته الملتمعه بالدموع.. حتى والده!
كان غاضبًا لأنه لم يوافق على الزواج من بدور... ابنة خاله محمد وأخت رابحة..!!!
حتى وإن كان سيضحي بنفسه وحبه بالتأكيد لن يُضحي بابن عمته.. سالم!!، ، لن يكون رجلاً وهو يكسر قلبه بيده ويتزوج من يُحب ... هو ليس بذلك الخائن .. وإلى الآن هو لم يندم قط على مخالفة أوامر جده وترك القبيلة بل في قرارة نفسه علمَ أنه رجلاً لا يكسر كلمته
"هل ستتزوجها؟"
التفتَ ليرى سالم يُحدثه وملامح وجهه متجهمة.. حزينة.. تبكي بصمت دون دموع
"لن يحدث هذا يا سالم... ليس أنا من يفعلها"
قطب سالم حاجبيه ليسأل
"إذًا ما الذي ستفعله"
قالَ بجمود
"سأرحل ولن أعود إل عندما يموت جدك أو تنتهي تلك القوانين البشعة من الوجود"
تسلل الإحباط لقلب سالم وهو يرى ابن خاله يضحي بنفسه من أجله، المشاعر التي تأججت داخل صدره كانت عظيمة تفوق حروف اللغة العربية بأكملها فلا جيوشًا منها تكفي ولا عبارات توازي امتنانه
"سأشتاق إليك يا عُدي .. أنا أسف.. فقط عدني أنك ستكون بخير"
احتضنه سالم ليبادله عُدي بدوره هاتفًا
"لا تتأسف هذا ما يفعله الأشقاء أنت ابني الذي لم أنجبه... كن بخير من أجلي يا سالمـ وتزوج بدور ... اطلبها من جدك سيوافق حتى يداري الإحراج الذي حدثَ برفضي للزواج منها...عش حياة هنيئة وتذكرني في صلاتك حينها سأكون ممتنًا ومن يعلم ...ربما اُدفن هنا"
لطالما كانت لسالم مكانة خاصة في قلب عدي عن الجميع بعد أخيه سلطان ، لقد راقبه وشجعه في حبه تجاه بدور المدللة من وجهة نظره، كما منعَ عنه وشاية رابحة المتكررة لجدها أثناء لقائهم
شعرَ سالم بالسخونة تجتاح جسده فجأة وهو يسمع نبرة ابن خاله المستسلمة الجالبة للشؤم ليقول بلهفة معترضًا
"لا تقل هذا .. بعيد الشر عليك أرجوك بالكاد أمسك نفسي الآن"
"لا تخف كلها أقدار مُقدرة من عند الله وليس هناك أفضل من وضع ثقتي كلها بالله"
كانت تلك أخر مرة التقى فيها سالم وحدثه، فالأخير يقطع علاقته معه بناءً على حديث جده المشدد، تنهدَ بعمق لكن التنهيدة لم تُزل شعور النبذ الذي يشعر بها الآن، لقد تعودَ على وطنه نهاد لكنــه لم ينسَ أراضي مولده وأول مكانٍ استقبله، أول ذراعٍ حملته وأول صبيٍ داعبه... هو يريد أن يخلق وطنًا مزيجًا بين اثنين أرضه وحُبه.. وأي استحاله قد تحدث إلا هذه
التفتَ فوجدها تحدق بوجهه بنظرات متخبطة لم يتبين ماهيتها كليًا سوى خيط رفيع من الاحتياج الذي ظهرَ وبإلحاح، وفي وسط كل تلك النظرات المتبادلة في ثوانٍ قليلة كان فمه يقول ما يحتاجاه الإثنين دون بوح
-هل تريدين الذهاب للملاهي؟
اتسعت عينيها شغفًا وتمتمت
-الملاهي؟؟... لم أذهب إليها أبدًا ولا أعرف كيف تبدو
تألم قلبه لحالها ثم ما لبثَ أن استعادَ روحه المرحة قائلاً بحماس
-نعم أعتقد أن الوقت مناسبًا سنذهب الآن ثم نأخذ غداءنا في مطعم قريب من الملاهي سيعجبك بالتأكيد
بدا واثقًا مما يقوله، والسعادة تنطلق من بين ثنايا أحرفه لأنه سيجرب هذا الأمر معها لأول مرة، فهو يستحق أن يتصرف برعونة أحيانًا ويعيش حياته طالما تركَ أهله بسببها فليفعل ما يُمليه عليه شغفه وقلبه ولنترك صوت العقل لاحقًا
أما هي فقطبت حاجبيها وقالت بشراسة بعدما استمعت لإجابته
-كيف عرفت يا عيوني؟ وأنت كنت تقضي كل أوقاتك معي منذ أن الدراسة .. مع من ذهبت إلى المطعم بجوار الملاهي لدرجة أنك مبهور بطعامه بهذا الشكل!!
جفلَ من تعليقها قبل أن يُجيب بمرح
-كنت أتردد عليه كل فترة والأخرى مع الفتيات بعد أن أطمئن أنني لن أراك لفترة.. لم أقدر على فراقك فجئت بأخرى تحتوي حزني إليكِ
-عدييييييي!!
صرخت نهاد عاليًا فرفع يده باستسلام عن المقود وقد بدا متمرسًا في القيادة ليفعل تلك الحركة ثم أجابَ بابتسامة عالق بها بعض الحزن
-كنا نأتي هنا أنا وسلطان وسالم وفراس.. كنا حينها بالجامعة وكنا نتردد على هذا المطعم كثيرًا حتى أدمنَاه
شعرت نهاد بحزنه، فكل أمر يتطرق إلى القبيلة لا يعود عليه إلا بالحسرة والاشتياق، أرادت أن تُزيل عنه فأطلقت دعابة جريئة على عكس طبيعتها لتنتشله من الابتسامة المتوترة ونظرة عينيه المشتاقة
-حسنًا أن تكون شاذًا خيرٌ لك من أن تخونني ...
أطلقَ ضحكة رجولية عالية اخترقت مسامع الجالسة بجانبه فأصابت قلبها بسهام العشق لينتهي أمر صمودها أمامه، فهي الآن تريد تقبيله وبشدة!!
-في الحالتين تسمى خيانة يا نهودة .. ولكن لا تقلقي ليس من طبعي الخيانة فأنا أكرهها
-أعلم
أجابت بثقة تامة، فهي على دراية شديدة بأن الأمر يتعلق بخيانة عائلته له وعدم الدفاع عنه، وهو الآن يعاني منها بشكلٍ مُطلق
صمتا قليلاً ليستعيدا أنفاسهم بعد وصلة الشجار المرح الذي كان على أعتاب بداية مشكلة جديدة، ولم يقطع هذا الصمت سوى عُدي الذي راح يُلقي شعرًا بصوتٍ جميل
-أحبك نبضًا يدق بقلبي ويُحيني
أحبك شمسًا تشرق أيامي وسنيني
أحبك ليلاً يختال سكوني ويكويني
أحبك صبحًا في أول يومي يهديني
أحبك بيتًا في برد شتائي يأويني
أحبك شعرًا بقصيدة كلماتها تغويني
أحبك عمرًا أذوب فيه.. فيجري هواك في شراييني
أحبك قدرًا يخطفني وقطرة ماءٍ ترويني
"القصيدة مجهولة المصدر"
استمعت إليه نهاد بانبهار جم ترمش بين كل حينٍ وآخر وهي ترى زوجها يطرب أذانها بالشعر، زوجها البارد مؤخرًا والذي اعتقدت أنه لم يعد يحبها يأتي حاملاً أبيات استوطنت قلبها توًا..
ردت عليه بابتهاج وملامحها يزورها الفرح الحقيقي
- أحبك قدرًا يخطفني وقطرة ماءٍ ترويني ... يا إلهي ما هذا الجمال يا عدي لم أعرف أن لديك موهبة تأليف الأشعار وإلقائها!!
أمسكَ يدها وقبلها بخفة ليسري شعورًا آخر داخلها وهو الامتنان والحب الذي فقدته مؤخرًا، وبينما هي هائمة تنظر له بعشق كان هو يُتمتم بخفوت وهو بصدد ركن السيارة
-هذه قصيدة بدوية لا أعرف من ألفها كنت صغيرًا حينما سمعتها لكني أحببتها فورًا وحفظتها حتى اُلقيها لزوجتي.. وها هي القصيدة تقبع في مكانها الصحيح
أطربت الكلمات قلب نهاد أكثر من القصيدة وتغلغلت داخلها بقوة، لتجد نفسها ترتمي عليه تحتضنه بعدما أوقفَ السيارة هامسة في أذنه بنبرة امتنان يستحقها
-شكرًا
ربتَ على ظهرها وابتسمَ هو الأخر بعدما شعرَ بارتياحه بعد غربه بعيدًا عن وطنه وأردفَ بخفوت
-عفوًا
انتشلت نفسها من بين ذراعيه وحدثته بحماس
-أخبرني عن موهبتك في الإلقاء والحفظ أريد أن أتعلمها منك.. أرجوك؟.. أرجوك... أرجوك
قرصَ وجنتيها وقد بدت طفلة لحوحة مشاغبة
-سأخبرك عنها بالتأكيد ونحن نستمتع.. رغم أنني في وجودك لا أطيق الحديث فهو يمنعني عن تأملك وشكر الله على النعمة الذي أعطاني إياها
هل هذا هو عدي؟؟
هل هذا هو زوجها حقًا؟؟
يا إلهي لم هي الآن على وشك أن تضع يدها على رأسه وتجس حرارته، لكنها لن تفعل حتى لا تقطع سحر اللحظة، عدي الذي فقط من يومين كان يعاير جسدها بنظراتٍ غير مستحسنة وغارقًا في ملكوته.. يخرج منه هذا الكلمات وكل تلك الحروف المنمقة؟
ولأول مرة تراه من منظورٍ آخر لطالما أرادته... لأول مرة تتقدم معه دون حرجٍ من جسمها الذي كانت يمنعها من اللعب مع الأطفال والذهاب "لملاهي العيد" بسبب تنمرهم عليها وعلى شكلها قائلين بأنها ستكسر القارب ما إن تركبه أو سيفطس الحصان ما إن يراها
لقد أعادَ إليها عُدي بحديثه هذا جزءً من ثقتها المفقودة وتقبلها لنفسها بشكلٍ حسن..
-هل تعدني أن تغدقني بهذا الكلام دائمًا؟
-أعدك
نطقَ في غمره لهفته ناظرًا إلى مُقلتيها المتسعتين... يُعطيها وعد النظرات الذي لا يوفى إلا بالنظرات أيضًا ويُحنث بالتهرب منها
و يا وعدي من وعودك يا عُدي ...
**********
وعند ساعة المغرب في البدو..
يمكنك أن تتحكم في جميع مشاعرك إلا شيئين؛ الكــره والحب فملامح وجهك تفضح كلاهما..
هل هي تكره أخيها؟... هل تحاول أن ترشق الشوكة التي بيدها في رقبته؟!!.. هل يُهيئ لها أنه يبتسم بخبث الآن مظهرًا أسنانه كليث يوشك على الانقضاض على فريسته؟!
منذ أن علمَ بسرّها مع ابن الهاشمي بطريقة لا تعرفها وهو يستفزها ويستغلها أسوأ استغلال، بل ويرمقها بنظرات خبيثة كأنه يخبرها " أنا أعرف سرك الآن أريني قوتك"..
تذكرت نهاية الحديث الذي دار بينهما هذا اليوم
رفعت سبابتها أمام وجهه لتقول بعنفوان
"لا تخبر أحدًا يا تميم .. أقسم إن فعلت سأخبرهم أنا الأخرى بما تستحي أن يعرفوه"
قالَ باستهزاء
"وكأن أحدًا سيصدقك"
شمخت برأسها مُجيبة
"يكفي أن جدي سيصدقني"
تابعت طعامها بقلبٍ وجل، لطالما كانت أكثر مشاكلها مع أخيها هي الوشاية!، لم يكف وهو صغير عن نقل أفعالها الخاطئة التي لا تدركها بحكم صغر سنها لتأتي وتضربها ولا يحيل بينهما وينصر بنون إلا جدها!! كان الحامي الأوحد لها..
وعلى ذكره نظرت له نظرة مليئة بالفخر والحب، هي غارقة بأقل حركة يفعلها لها كان عائلتها وما زال كل ما هي فيه الآن بسببه، حتى عندما أنهت جامعتها كان قد اتخذَ قرارًا بأن تعمل لكنها أصرت أن تجلس بجانبه وترعاه فهي لا تريد تضييع أي لحظة لانشغالها في عملٍ أو ما شابه.. ورغم أن هذه ليست شخصيتها ولا أسلوبها لكن سليمان "جدها" يستحق أن تترك الدنيا لأجله..
سمعت صوت أخيها آمرًا
-أريد كوبًا من الشاي الثقيل مع عودين نعناع طازج يُفضل أن يكون من حديقة بنون
المستفز!!
يطلب منها وبكل تبجح أن تصنع له شايًا ومن حديقتها!!.. تلك التي تعبت في زراعتها هي وجدها وتنتظر بفارغ الصبر محصولها لتتشارك به معه فقط!
-من أي جهة فهمت الجملة التي قالتها بنون وهو أن الحديقة خاصتها فقط ولا يجب من أحدٍ أن يطلب منها شيئًا إلا إذا هي بدأت بالعطاء أولاً؟
كان هذا صوت سليمان القوي الذي يُحدث تميم وقد التفتَ له بكامل جسده مما تسببَ في اصفرار وجه الأخير ولم يجد ما ينطق به، فسارعت أمه بالحديث بدلاً عنه متمنية ألا تكذبها ابنتها
-بنون قد أخبرته قبلاً إذا أراد شيئًا فليخبرها يا حاج سليمان وهي لن تعز عودي نعناع على أخيها أليس كذلك
النظرة المحذرة التي ترمقها بها والدتها نبئتها بمعرفة والدتها هي الأخرى بالأمر، اللعنة عليك يا تميم اللعنة...
حوّلَ سليمان نظره لبنون التي كانت تخفض نظرها خشية أن تفضحها عيناها ويرى كذبها الواضح
-هل هذا صحيح يا بنون؟!
أومأت دون حديث، ففهمَ بفطنته أنها تخشى أن يسمع نبرتها فيعرف أنها تكذب، ولكنها لم تفهم.. لم تفهم أنه أدركَ وجود شيء من تهرُّب عينيها منه وبالتأكيد لتميم يدٌ في هذا وأمه تساعده كالعادة
تابعَ وهو يُنهي الحوار راميًا رسالته بين ثنايا الحروف
-لم تفعليها أبدًا يا بنون.. لم تفعليها
زمت بنون شفتيها في ضيق وقد فهمت من رسالته أنه يقصد كذبها عليه، لكن ما الذي ستخبره؟ هل تقول له أنها تحب فراس الهاشمي وتلتقي به ومصرة أيضًا على الزواج منه حتى يقطع رقبتها ويرميها لكلاب الطرق؟ والأسوأ من ذلك أنه سيحزن منها ولن يحدثها!.. ستختلق قصة وتأمل أن ينجح أمرها
انتبهت على صوت والدتها الحاد وهي تخاطب جدها
-ولما لا تفعلها يا حاج سليمان هل عيب أن تعطي شقيقها مما تتنعم فيه؟! خاصة وهو من يحق له كل هذا الدلال في المنزل.. هو الطبيب الـ...
منعها سليمان من إكمال حديثها وهو يضرب بيده على الطاولة وقد أصابه النفور من طريقتها المبتذلة كأم، حدقَ إلى عينيها المهتزتين قبل أن يهتف بصلابة ونبرة قوية
-لا تسمحي لنفسك أن تكرريها مرة أخرى وترفعي صوتك وأنا جالس يا أم بنون، كون ابنك طبيبًا هذا لا يعني أنه قد فعلَ ما لم يفعله أحد ..ولننهي هذا الجدال العقيم الذي استمرَ لسنوات ابنك يكفيه دلالك.. أليس كذلك يا ابن أمك؟!
النظرة التي شملَ بها تميم شلته، بل أحرقته وذوُبت جلده حتى كاد يتمنى لو يختفي، وبالرغم مما حدثَ غلبتها العاطفة تجاه عائلتها مرة أخرى فانطلقت تُهدئ الأوضاع قائلة وهي تمسك يد جدها
-لم يحدث شيء يا جدي أنا فعلاً أردت أن أتشارك النعناع الذي زرعته مع تميم حتى يخبرني برأيه
-اصمتي ولا تتحدثي أنتِ سبب هذه المشكلة وكل المشاكل منذ سنين... اهدأي واتركي القليل لغيرك.. لقد ابتعدَ أعمامك وعماتك عن هذا المنزل لأنهم لا يجدون مكانًا فيه بسبب أنكِ تحتكرين كل شيءٍ لنفسك.. أنتِ أنانية
وبالفعل صمتت وصمتَ الجميع استيعابًا لما قيل للتو!!.. اتسعت العيون وغابت الحروف عن الشفاه وفقط العقل يفكر.. هل هذه أم؟
تحركَ حلقها ليبتلع مرارته وارتجت شفتيها رغبةً في الحديث لكن اللغة العربية لم تسعفها هذه المرة فأثرت لغة الصمت، وبقيت العيون هي من تشتعل بحديثٍ يتوهج بفيض من العتاب وآخر من الغيظ..
رمقت والدتها بنظرات غير مفهومة هي نفسها لم تحدد شعورها في تلك اللحظة ناحيتها بل فقط كانت تضغط على أسنانها حتى تقاوم البكاء الذي داهمها فجأة وكأن لها غددًا دمعية ثم حوّلت نظرها لتميم الذي كان يُشيح بوجهه عنها .. ورحلت لغرفتها ترث حزنها وحدها تاركةً جدها يأخذ حقها وأكثر فصوته كان عاليًا حتى بعدما أغلقت باب غرفتها كانت تسمعه
-يبدو أنكِ جننتِ حقًا لتقولي لحفيدتي مثل هذا الكلام؟ بسبب دلالك لهذا الفاسد ها هو ما زال يُعيد سنته الخامسة!! أم أنكِ تظنينني غرًا ساذجًا حتى لا أعرف أن الطبيب الذي تتباهين به يتجاهل محاضراته ويخرج مع هذه وهذه ويرفه عن نفسه طالما بعيد عن أعيننا... واسمعي جيدًا إن فكرتِ مرة أخرى لتقولي هذا الكلام لبنون سأبوح بشيءٍ كنت أصمت عليه لسنوات طويلة... فاحذريني أنا لن أكتم الحقائق بعد الآن..
********
ما الذي كان يقصده جدها بكتم الحقائق؟!
هل هو يعرف شيئًا لا تعرفه أم أنه يعرف ما تعرفه؟!!
عقلها سينفجر من الأسئلة التي تطرقه بلا هوادة وتشعل داخلها فتيل القلق المصحوب بالخوف، فكله إلا جدها لن تحتمل...
أشفقت على نفسها أخيرًا وارتدت عباءتها ثم نزلت لتقابل جدها، يجب أن تعرف ما الذي قصده بقول هذا الكلام؟
أغلقت باب غرفتها وتوجهت نحو السلم لتجد تميم يقف قبالتها ووجهه محتقن من الغضب وعلى حين غرة أمسكَ ذراعها وجذبها إلى غرفته وأغلقَ الباب ليقول بنبرة خفيضة لكنها تحمل الغضب
-ما الذي أخبرتِ به جدي يا بنون؟؟ هو لن يقول هذا من تلقاء نفسه بالتأكيد أنت فعلتِ شيئًا إما أنكِ اخبرته لمحتِّ له تلميحًا غبيًا مثلك!!
دفعته بنون وأفلتت ذراعها من قبضته ثم خاطبته بشراسة وهي ترمقه بتقزز
-اترك يدي يا تميم لا أنت ولا أحد قادر هنا على إمساكي بهذه الطريقة.. ثم أنا لم أفعل شيئًا بالتأكيد جدي يعرف ألاعيبك الحقيرة أيها القذر
رفعَ يده عاليًا وقد استفزته كلماتها ليصفعها لتكون له بالمرصاد وتمسك يده وتلك كانت مرتها لتدفعه للخلف وتتقدم منه بشجاعة متأصلة داخل جزورها السليمانية دون أن تأبه لشيءٍ
-اسمع يا تميم لم يُخلق أبدًا من يرفع يديه على بنون سليمان أبدًا... والدك لم يفعلها... جدك المتربع في قلبي لم تخطر على باله.. ولن تأتي أنت أيها الفسل لتغذي ذكوريتك المذكورة في البطاقة وشبه رجوليتك وتعتقد أنك قادرًا على فعلها؟!! ... انسى سترفع عليّ اصبعًا ستجد قبضتي في وجهي .. ستفكر بصفعي سأصفعك عشرة قبل أن تفعل...
كل هذا حدثَ في لمح البصر لم يستطع تميم معرفة ما يحدث إلا أنه فاقَ فجأة ليجد نفسه متجرعًا إهانة في رجولته قاتلة، ولم تكتفِ أخته بهذا بل عادت تقول بنبرة غاضبة عالية محذرة إياها بسبابتها التي تقف شامخة أمام وجهه..
بالله عليك هذه الفتاة سبابتها شامخة فما بالك بكبريائها المحتل قلبها؟
-ثم بما أنك فتوة المنزل هكذا لم لا تذهب وتخبره أنك وضعت لي دواءً في شرابي سببَ لي عدم تركيز وجعلَ لي رغبة في النوم قبل دخولي امتحاني الكيمياء والفيزياء لأنهما أكثر مادتين يتطلبا التركيز في الثانوية وكانا كافيين لتقليل مجموعي لأنك خفت من دخولي كلية الطب؟ هااا... لم لا تخبره أنك غششت في الامتحانات ومجموعك هذا ليس ملكك؟؟... أتعرف سيكون أفضل لو أخبرته أنك كاذب وتكره الخير لشقيقتك لأن قلبك مليئًا بالأحقاد ناحيتي وأنا لم أفعل لك شيئًا سوى أنني أردت أن أحقق حلمي وأكون طبيبة.. لم استكثرت عليّ هذا يا تميم وأنا لم أفعل معك شيئًا؟!
نطقت أخر جملتها بصراخ انفلتَ متهدجًا، ليرد عليها بصراخٍ أخر وقد تحولَ الحوار العنيف إلى معركة كلامية
-لأنك انانية اخذتي كل الحب من جدي ولم تتركي لي شيئًا .. الدلال كله لبنون.. هذه الحلوى لبنون... لا تفعل هذا لأن بنون ستغضب... حديقة بنون لا أحد يلمسها... بنون .. بنون.. لقد اكتفيت
رفعَ قبضته عاليًا لكنها لم تطل شيئًا سوى الهواء فأعاد انزالها بعصبية، وبوجهٍ أحمر جرّاء غضبه أكمل بكره
-أتعلمين أنا أنتشي من نظرة الحرمان التي تطل في عينك ما إن تري معاملة أمي لي.. أشعر حينها بالانتصار عليك وأنني أيضًا لدي من يحميني ويدافع عني مثلك بالضبط لكن الفارق أن الأم حنانها غير مشروط وبدون مقابل وها أنتِ لا تطولين منه نقطة أما جدك ليس من الضروري الحصول على حبه..
ألهذه الدرجة يكرهها أخوها؟، هل كل هذا الحقد يملئ قلبه وبكل سفور يُعلنه أمامها لا مباليًا بشعورها...!!
تشعر؟!
لم أصبحَ هذا الفعل غريبًا عليها، فكل ما بداخلها هو خواء وجمود لم تجربهما من قبل، لقد ذاقت على يد أخيها ألوان شعورٍ جديدة ويا للأسف مشاعر حقيرة..
آلمها قلبها وشعرت بالنبذ حقًا هذه المرة، فرؤية الحقيقة شيء والاعتراف بها شيءٌ آخر، لا تعلم لم كلام أخيها زلزلها وأفقدها الثقة بنفسه؟، لقد جعلَ منها أضحوكة أمام ذاتها فلو نظرت للمرآة ستجد شظايا أنثى مكسورة ...
وتميم كان يقف أمامها يحدق بها بغضب وأنفاس متعالية، فهو لم يكن يريد أن تُدار دفة الحوار إلى تلك المنطقة المحظورة التي لا يحبها ولم يكن يريد البوح بما يشعر.. لكن ربما هذا أفضل حتى تعرف حجمها جيدًا وأنه هو الرجل الأحق بالاهتمام
تهدلَّ كتفيها لتقول بنبرة مقهورة تظهر عليها وعلى ملامحها لأول مرة
-هل تكرهني كل هذا القدر وأنا لا أشعر
-أنا لا أكرهك لكن أكره أنانيتك واستبدادك
قالها تميم بجمود لتهمهم بخفوت وهي تنظر في أرجاء الغرفة بتيه
-لم يكن الأمر بيدي ... ليس أنا من طلب الدلال
-لكنكِ تستمتعين به ولا ترفضينه هذه في حد ذاته إدانة
شبّكَ ذراعيه لصدره وأردفَ بنبرة قاتلة، لترفع عينيها إليه وقد تملكها الغيظ
-هل تحسدني على بعض الدلال وبكل جحود تلومني على الاستمتاع به؟؟ هل لو كنت مكاني وجدي يحبك كل هذا الحب كنت سأفعل ما تفعله؟
هتفَ بتلقائية ليُظهر شكوكه
-ربما لم لا؟ في النهاية نحنُ بشر
رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تطلق ضحكة عالية صدحت في الأرجاء على إثر كلماته الغير مُثيرة للكوميديا وبعيدة عن المرح، لتتوقف قائلة وعلى فمها بقايا ابتسامة متحسرة بينما هو وقفَ يراقب جنونها بترقب
-بشر!! هل أنت بشرًا حقًا؟؟ لا تقل هذا يا أخي فأنت ينقصك الشوكة وتصبح أميرًا من أمراء الجحيم السبعة.. "صمتت وهلة ثم عادت تقول بملامح مشدودة وصوتٍ حاد" لا تهذي وتعلق أخطاءك على مشجب ضعف النفس وأننا بشرٌ وفي النهاية نخطئ، لا تحاول حتى لأنك ستخسر
هزَّ كتفيه ببرود ليتمتم
-لا أعرف ما الذي تتحدثين عنه لكن الجميع يخطئ وأنتِ لستِ ملاكًا بجناحين وتخطئين أيضًا
-بلى أنا أخطئ لكني لا أتبجح بخطئي وأبرر له ضعف نفسي... ثم أنت فقط تعرف أن الجميع يخطئ لكن لا تعرف الغفران؟ المسامحة؟! وأن الخطأ الذي يجر آخر يمكن أن يستنفذ رصيدك منهما؟!! أم أنك لا تعرف سوى الفجور الذي تتدعيه
قالت بقوة ولم تأبه شيئًا أما هو استشاط غضبًا وهتفَ من بين أسنانه
-اخرسي ولا تتفلسفي وفري كتب القانون لأشياءٍ أخرى قد تحتاجينها لكن أنا لا تحدثيني بتلك النبرة التي تفهم كل شيء
هذا الغبي ذو العقل السميك، لا يسمع سوى صوت حبة الجوز التي هي عقله بداخل جمجمة صلبة تستحق الكسر!!
هو ليس بحاجة لصوتٍ أعلى منه، هو بحاجة إلى همسه طفيفة، مستفزة تهد عالمه الذي بناه من الورق ولم يحسب حسابًا للفحة هواء
اقتربت منه ولتستفزه أكثر عدلّت ياقة قميصه وهمست بينما تلاعب حاجبيها وقد قررت اللعب على أعصابه
-سأوفرها حينما أخرجك من قضية تشخيص خاطئ تسببَ في قتل مريض... ألا ترى تلك القصص المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي... سنكون إحداهن أنا وأنت.. وتذكر أنا دائمًا سأكون البطلة التي تسرق منك الأضواء .. يا أسود القلب يا وعاء الغل
احتدت نظرتها في أخر الجملة وهي ترمي له تلك الألقاب في وجهه عله يتعظ ويعرف أنه تمادى، ولم تكتفِ بهذا بل استدارت على عاقبيها لتخرج من غرفتها وقبل أن تفعل لوت شفتيها وتشدقت وهي تغلق الباب خلفها
-يا حلاوة على ابن أمه
**********
خرجت من غرفة أخيها بعد انتصارٍ آخر شنته على أثناء حربهما الضارية والتي لم تكن بالنظرات كالعادة بل تطور إلى كلام الذي باحَ به الاثنان لبعضهما في لحظة وقاحة بدأها تميم..
لكــن لماذا؟!
لماذا لم تشعر بالظفر خاصة وهي مُلقية أخر نرد انتهى بفوزها في لعبة القط والفأر؟
لم تظن أن الفائز في حرب الأخوة هو أكبر خاسر؟!
لم عليها أن تُعادي أخيها الوحيد، سندها، ومشاركها حياتها قبل أن تذهب وتتزوج؟!، أليس من المفترض ان يُحاجي عليها ويحميها وهي الأخرى تدعمه عند والديهما ما إن أراد شيئًا.. ولكن ليس كل هوى محتوم الحدوث
رمقت باب الغرفة المغلق بحسرة اكتنفت موضع قلبها فلم تقدر على جر قدميها نحو الأسفل، فلم يعد لديها ما يؤهلها للوقوف أمام جدها والتحدث فيما تريد فقد استنفذَ تميم كل طاقتها في البوح والنقاش..
انتفضت على صوت تكسير لشيء زجاجي أو فخاري قادم من الداخل، فهبطَ قلبها في قدميها لاعتقادها أنه قد فعلَ شيئًا بنفسه بعد مواجهتهما معًا، كادت تبرم المقبض وتدخل لكن الدفعة التي تلقتها من والدتها المندفعة نحو غرفة أخيها جعلتها متسمرة تنظر إليها بصدمة وتستمع لكلمتها التي ألقتها على مسامعها قبل ان تدخل
"ما الذي فعلتيه بابني أيتها الشيطانة!!!!"
الآن فقط جاءت والدتها بعدما سمعت صوت الكسر الذي حدث؟، بالتأكيد استمعت إلى صوتهم أثناء الشجار إن لم تكن هي من حرضت تميم!!.. يا إلهي... فقط بما حدث للتو قد قضت والدتها على كل المشاعر التي كان من الممكن خروجها بصدد أنها أحسنت معاملتها بعد ذلك...
كانت ستدخل لتطمئن على تميم فهو في النهاية أخيها، لكنها غيّرت رأيها وحوّلت وجهتها لجدها وقد شحنتها دفعة والدتها وجملتها له.. فالآن هي ستقف أمامه وستخبره بكل شيء فعله تميم وبالمقابل ستتحمل معرفة الجد بعلاقتها مع فراس.. فالآن ليس لديها ما تخسره سوى علاقتها باثنين " جدها وفراس"
ترجلت نحو مكتب جدها في الأسفل وطرقت الباب مرتين كما تعودت ثم برمت المقبض ودخلت بابتسامة مرتبكة وقد تبخرت كل الثقة التي ادخرتها أثناء نزولها!!
-تعالي يا حبيبة جدك كنت أنتظرك
استقبلها سليمان بحفاوة لتمتم هي بخجل
-أعرف
وكالعادة بعد أن تُذنب أو تفعل شيئًا يُغضب جدها يكو هو ينتظرها في مكتبه بينما هي تُلملم شتاتها وتأتي لتسرد له كل شيء
-أطلتِ هذه المرة يا بنون .. أنا متشوق لمعرفة ما حدث لتقرري الكذب علّي بل وتتجهزي لذلك
لم تجفل من معرفته بأمرها، لطالما كان هو وفراس الوحيدين المطلعين على مشاعرها دون بوحٍ أو حديث، وهي فعلاً كانت ستكذب عليه ولأول مرة في حياتها تفعلها مع جدها، فمنذ دقيقة كانت ستخبره بما فعله تميم معها أيام الثانوية بينما يعرف أنها تعشق الطب ورادت أن تكون طبيبة أطفال و لكن ما إن رأت عينيه الحنونتين اللتين دثراها داخلهما في كل مرة تصاب بالضعف .. قلقت وتراجعت، طالما هي قادرة على الرد على تميم وإيقافه عند حده فستقف هنا... والسبب الأخر هو أنها ليست متأكدة من أن جدها سيقبل بعلاقتها مع ابن الهاشمي، فالمرة الوحيدة التي تم فيها ذكر اسم هذه العائلة في البيت لمحت الامتعاض والحنق على وجه جدها لتدرك فورًا أنه يكره تلك العائلة... وهي لن تغامر الآن وستؤجل الموضوع ككل مرة تقرر إخبار جدها فيها..
علمَ سليمان من صمتها أنها تفكر وتعاتب نفسها فآثر عدم الضغط والتصرف بحكمة حتى لا تشعر بالهزيمة وهو أكثر ما يعز عليه رؤيتها مُنكسرة، فاقتربَ منها بابتسامة رزينة وأمسكَ كفها الناعم بين وضمها إلى كفه المجعد الظاهر به عروق الكدح ثم جلسَ على أريكة واسعة ومُريحة باللون البني الهادئ ، قطعَ الصمت الذي أطبقَ لمدة بقوله الخافت وهو يُشير لمكتبة كبيرة تقبع بجانب مكتبة أصغر منها تحويان على العديد من الكتب
-
هل تتذكرين يوم أن تسلقتِ رفوف هذه المكتبة لأنكِ أردتِ كتاب كليلة ودمنة لتقرئي فيه؟
ابتسمت بحنين وهي تلمس مكانٍ مميز في رأسها وتُجيب بضحكة مكتومة
-نعم أتذكر وهل يمكن أن أنسى هذا اليوم لقد وقعت وارتطم رأسي بسن المكتب ونزفت وكنت أظن أنني سأموت حالما رأيت الدم
تأمل سليمان ملامحها التي يعشقها ويقبلها كل ليلة قبل أن يخلد للنوم وأردف بحنانٍ جارف
-كنت قد دخلت توي من باب المنزل وعندها دوت صرختك عالية لتملئ أرجاء المنزل ويتردد صداها في قلبي فهرعت إلى المكتب لأجدك تجلسين على الأرض ورأسك ينزف وحينما رأيتني مددت يدك الصغيرة الممتلئة بالدم وقلتِ بنظرتك اللطيفة المتألمة " ساعدني يا جدي أنا أموت"
قالها بشجن طغى على ملامحه ليمسك يدها ويقبلها قبل أن يحتلها بين يده ويجذبها إلى صدره بينما يُكمل
-كنتِ في السابعة من عمرك وكانت جدتك توفيت قبل ذلك بسنة فأصبحتِ شغلي الشاغل إن كنت أحبك قبل ذلك قيراطًا فحينها أحببتك أربعة وعشرين قيراط... هل تعلمين أن جدتك كانت تغار منك لأنني أدللك وأخصص لكِ وقتًا من أجل اللعب معك حتى أنني كنت أبتاع إليكِ كل يوم الكثير من الحلوى أنتِ وتميم الذي لم يطمر فيه شيئًا
ضحكت بنون باستمتاع وهي تلتقط الحنق من صوت جدها لتقول مدافعة عن الوغد
-والله تميم طيب يا سليمان فقط لو لا يستمع لكلام أمي
نظرَ لها سليمان باستنكار صائحًا
-وهل خيّبه غير دلال أمك فيه اصمتي لا أريد أن أكثر في الحديث ففي النهاية هي والدتك
احتضنته أكثر لتغمغم
-تعرف أنك لو تحدثت لن أناقشك لأنك تقول الحق دائمًا لا تخشى لومة لائم كما يقولون
قبّلَ سليمان رأسها بعاطفة يختصها بها وحدها ثم همسَ
-أعرف لطالما كنتِ ذكية.. وبمناسبة ذكائك هذا أتذكرين يوم اصبعك الكبير؟!
زمجرت بنون بدلال وهي مازالت في حضنه
-جديييي... لا تسخر مني لقد كنت صغيرة حينها
ضربها على رأسها بخفه قبل أن يتمتم ضاحكًا
-كنتي في الثالثة من عمرك يا ذكية.. لا أعرف ما الذي أردتِ تجربته عندما وضعتِ يدك داخل صفيحة المربى؟؟ ووالدتك الأذكى منك بدلاً من أن تُخفض فوهة الصفيحة المفتوحة وتسحب يدك ببطء، سحبتها بسرعة فحدث تمزق واضطررنا لتخيطه
ما إن أنهى كلامه حتى ضحكَ بشدة ولم يستطع الحديث بعدها لمدة جعلَ هذا بنو تُصاب بالحنق ويحمر وجهها ما سيقوله جدها بعد ذلك فطالما انتابه هذا الضحك كله فالقادم مُحرج لها ... وبشدة
-لا زلت أتذكر وجهك الباكي حينها وأنتِ تمسكين علبة العصير بيدك الأخرى وأنا أحملك تبكين قليلاً ثم توقفي لشرب العصير وبعدها تعودي للبكاء ولم تكتفِ بهذا بل أنكِ طلبتِ علبة عصير أخرى فأعطيتك إياها وبقيت أراقبك وأنتِ تشربين ثم تبكين.. كان فمك مضموم بشكل طفولي أفقدني صوابي، كنتِ لطيفة للغاية وحينها علمت أنني لن أتخلص من سحرك يا حبيبة جدك
غلبت العاطفة نبرة صوته وكان على وشك البكاء كلما تذكر منظرها هذا اليوم واصبعها يتم خياطته من قِبل الطبيب
-كان قلبي يتقطع ألمًا عليكِ وأنتِ تنظرين لي وتبكين بشدة أثناء ما كان الطبيب يُخيط الجرح وتدفنين رأسك في عباءتي وتتمسكين بي، كل صرخة منك كانت تهوي بقلبي للأسفل كأنني أنا من يتألم وليس أنت
يا إلهي...
جدها الوحيد القادر على جلب الدموع لعينيها إما فرحًا أو تأثرًا كمثل هذا الموقف، كيف لا تحضر الدموع بتلك النبرة الهادئة القلقة، ودقات القلب الثائرة كأنه يعيش نفس الموقف ثانيةً؟... من تلك التي لا تعشق رجلاً كسليمان؟!، بقوته وحكمته وحنان قلبه الظاهر في عينيه اللتين ورثتهما عنه!
لطالما اعتقدت بنون أن جدها يُحبها لأنها تمتلك فضيتين أشبه بقمرٍ مثله، بل لأنها تُشبهه قلبًا وقالبًا، قوةً وحنوًا
طبعت قبلة خفيفة على وجنته اليمنى لتقول بصوتٍ يميل للنعاس
-دائمًا كنت أنت بطلي يا سليمان ومُنقذي في كل مرة تألمت فيها وجُرحت
ربتَ على رأسها وبادلها قبلتها لكن في منتصف شعرها
-وسأظل يا حبيبة سليمان بطلك ومُنقذك وأمانك وكنفك الحصين... فليخذلك العالم كله وتتلقفك يداي يا أغلى نفيس
أي ردٍ قد يقف أمام غيث حروفك يا سليمان؟، هذا الرجل لا يتحدث بلسانه بل يعزف بالكلمات ما يتجه مباشرة إلى القلب ويستقر بين جنباته خالقًا جوًا من السكينة والدفء
شددت بنون من احتضانه أكثر ثم أغمضت عينيها تأثرًا وقد انسلت دمعة من كل عينٍ مهابةً وإكرامًا لموسوعة الأمان التي تدثرها، لا تعرف لم جاء في مخيلتها فراس الآن؟! هل لأنها من المفترض أن تقول هذا الكلام عن البطولة والأمان له؟! أم أنها قلقة من ألا يكون كذلك!!
فبالرغم من عدم وجود خطوة صارمة منه إلا أنها تعذره فما عنده ليس بقليل، فهي تعرف عن قرارات جده المجحفة وتسلطه الدائم، لكنها أيضًا لا تستثني نفسها من العذر ففي الأول والأخير هي امرأة تنتظر من الرجل الذي أحبته اعترافًا علانيًا أنها تخصه وخطوة قويـة تقضي على كل هذا القلق المعشش داخل قلبها وأصبحَ في الآونةٍ الأخيرة يداهم عقلها وهي لا تضمن مروره هناك
تنهدت براحة شديدة لا تشعر بها إلا على صدر هذا الرجل ذو النوع القليل من الرجال، ودارَ في خلدها مرة أخرى هل يقصد بهذا الكلام أمها وأخيها وبالطبع أبيها الغير مبالي للمعاملة القاسية التي تتلقاها؟!! ...
طالَ صمت الشفاه وعلا صوت التفكير وسليمان بدوره كان يُقلّب ملامحها بعقله، تبدو تائهة، قلقة، وغير سعيدة، رغم أنها لم تنطق بأي شيءٍ يوحي بما يعتقده لكــن هو متأكد أن الخطب الذي بها جلل وإلا ما تغيرت ملامحها الجميلة التي يعشق.. فقط لو تتحدث إليه كما اعتادت لأخبرها أن "يعرف" و "لا يمانع"
وكما تولى دفة الحديث في المرة الأولى، أمسكَ زمامها في الثانية ليقول بجدية مربتًا على ظهرها باحتواء
-لن أسالك عما تمرين به.. ولن أضغط عليكِ للبوح لكن اعلمي دائمًا أنني سأدعمك ما دمتِ على صواب وتتصرفي كما تربيتي، ولكني سأنصحك نصيحة تضعيها حلقة في أذنك ولا تغيب عنك أبدًا " ليسَ كل ما يبدو حقيقة هو كذلك، وإذا أردت تبين الحقيقة فاسألي الكاذب ثلاث مراتٍ عن الكذبة وعلى فتراتٍ متباعدة فهو لن يتذكر الأمر الذي اختلقه سوى مرة واحدة.. ولا تصادقي جبانًا أبدًا فيفر في أول منعطف تاركًا إياكٍ على قارعة الطريق الباردة تجابهين أشباح الظلام وحدك"
لم تكن تستمع لكلامه بل كانت تُحلق فيه كأنها يحملها على سحابة وردية ويُلقمها من حكمة بملعقة ويُربت على رأسها قبل أن تسبح في عالمها الخالي من السوء الذي بنته من خيالها لها هي وهو فقط!
-وتذكري دائمًا وإلى الأبد أنني سأحميكِ وأقف في ظهرك فقد تدللي أنتِ
ختمَ كلامه مربتًا على كتفها بحنان بالغ لا تشبع منه أبدًا فما كان منها إلا أن انتشلت نفسها من بين أحضانه وحدقت في وجهه الأسمر المأخوذ من صحراء البدو بشمسها الدافئة وعينيه الفضيتين بلونهما الأفتح من عينيها بدتا كبدري مكتملين النضوج يُضيئان عتمة الصحراء
فكيف للشمس والقمر أن يلتقيا في وجهٍ إلا وكان هذا الوجه يجمع بين أفلاك الكون جميعها.. كأنه وحده دُنيا خُلقت تبث ملامحه دفئًا وتُنير عينيه بجمال
-أنا أرى فيك العالم بأسره يا سليمان لهذا إن جُرحت فاعلم أنني خرجت عن هذا العالم، كما أنك لو لم تكن جدي وتزوجت من جدتي لكنت تزوجتك أنا ... يا إلهي من يترك كل هذا الجمال والحب ويبحث عنه بالخارج؟
أعطاها نظرة ثاقبه ومضت لثانية قبل أن يُجيب بجملة خبيثة
-اسألي نفسك
ارتبكت بنون وهربَ الدم من وجهها إثر جملته المباغتة، ما الذي يرمي إليه؟! وما الذي يعرفه!!
تنحنحت لتجعل صوتها ثابتًا ورغم ذلك في حضرة جدها لم يظهر إلا مهتزًا
-لم سأسأل نفسي يا جدي وما الذي قصدته بقولك لن تصمت عن الحقيقة بعد الآن؟
أجابها بعد برهة من التفرس في ملامحها القلقة المرتبكة، وقولها "جدي" لا يتم إلا في الحالات التي تكون مُذنبة فيها أو غاضبة وهي ليست غاضبة!
-لم أقصد شيئًا أردت فقط بث القلق داخلهم فملامحهم تبدو وكأنها تُخفي شيئًا وأنتِ تعرفين جدك يعرف المخفي من مجرد النظر
أطلقت ضحكة لم تشعر فيها بالمرح على الإطلاق لكن كانت تغطية على حديث جدها المتواري المُثير للقلق كونها أول مرة لا يكون فيها مباشرًا..
-نعم أنت كذلك يا عارف المخفي.. يا ساحر العقول
-سأنتظرك لتحكي لي يا بنون عما تخفينه لأني لو أجبرتك الآن ستكذبين وأنا لم أعودك على الكذب.. خذي كل وقتك وأنا أنتظر
قالها سليمان بلطفٍ بالغ، ينظر لعينيها ليسبر أغوارها لكنه لم يجد سوى المشاعر المرتبكة الغير مرتبة، سينتظر إلى أن تنظمها وتأتي لتُفضي ما في جُعبتها وهي تستكين على صدره كما تعودت... سينتظر وهو مُتيقن أن الوقت لن يطل
أثناء ما كان يتحدث كانت هي تحارب لسانها بعدم التفوه بأي شيء قدم تندم عليه لاحقًا، سواء كان علاقتها بفراس أو ما فعله تميم... وكم كانت ممتنة لشفتيها المزمومتين واللتين منعاها من التحدث حتى أنهى جدها حديثه، لينطلقا بعدها في مشاغبة مُحببه إلى قلبه بينما تتمدد وتضع رأسها على فخذه، وتأخذ يده لتضعها في شعرها ليلبي الطلب وتبدأ أصابعه في التغلغل داخله باعثًا لها الشعور بالراحة والسكينة
- أنت رومانسي يا سليمان.. كم كانت محظوظة جدتي
-جدتك لم تحظَ بكل هذا الدلال الذي حظيت أنتِ به، لا أعرف لماذا لكن منذ أن حملتك بين يدي وقد توقفتِ عن البكاء رغم عدم قدرتهم على اسكاتك، لقد أثرت فيكِ كما أثرت أنتِ داخلي في أول يومٍ ابتسمتِ فيه... لقد كنتِ صغيرة لكن ابتسامتك كانت ساحرة سلبت لُبي وتخللت لقلبي حتى سكنته وعندها عرفت أنكِ أصبحتِ جزءً مني لن ينقطع إلا بموتي
كانت هائمة في كلامه تغلق عينيها باستكانة وأمان لم تتعود إلا عليهما في وجوده، وعندما لفظَ أخر جملته انتفضت وقطبت جبينها وعبست هادرة بخوف حقيقي
-لا تقل هذا يا جدي أرجوك أطال الله في عمرك وأعطاك من عمر أعداءك الحاقدين.. عدني أنك لن تقول هذا الكلام ثانيةً
ربتَ على ظهرها ليعيدها إلى ما كانت عليه ويغلل يده في فروتها مرة أخرى ويبدأ ممشيًا أصابعه عليها ليودعها الهدوء الذي فقدته في تلك الثواني وأردفَ بخفوت
-حسنًا يا حبيبة جدك لن أقولها ...
بللَ شفتيه وأدركَ أن تغيير الموضوع هو أسلم شيءٍ الآن فهو لا يحب أن يزيدها قلقًا فوق قلقها، وهو بدوره يخاف تخيُل أي لحظة بدونها، وفي الليالي التي كانت تبيت فيها معه كان يفكر وهو ينظر لوجهها " ما الذي سيحدث لها بعد موته؟"... يا الله هو لا يريد فقط في هذه الحياة سوى أن يعيش ليُسلمها لزوجها ويطمئن عليها فهي قرته وحبيبة قلبه...ولن يهدأ له بال حتى يزوجها لرجلٍ شجاع ويتسم بالحنو
-هل تريدين أن أسرد لكِ ماذا فعلتِ يوم أن شربتِ الكلور؟
اقشعر جسدها إثر ذكر هذه الحادثة فكانت أبشع ما تعرضت له في صغرها، ضحكَ سليمان على شكلها المتقزز وملامحها المشمئزة ليُكمل مثيرًا حنقها واستفزازها
-يومها كانت والدك يضع ماء بالكلور في كأس وأنتِ اعتقدته عصيرًا كعادتك الملتهمة لأي شيء وتجرعته دفعة واحدة... لا أخبرك ماذا حدث أخذتِ تتقيئي بشكل سريع وملامح احتقنت بشدة، حملك والدك وذهبنا سريعًا للمشفى وهناك أخبرونا أن نسقيكِ لبن لأن الكمية لم تكن كبيرة كان نصف كأس به ماء وبضع قطرات كلور... لا أعرف ما الذي فكرتي فيه حينها وجعلك تشربيه!!
سأل مدهوشًا لتلوي شدقها مُجيبه
-والله يا سليمان يا غالي لا أعرف ما هذا الغباء الذي كنت فيه.. هل ما زلت تعتقد أنني ذكية؟
ضحكَ سليمان ليتمتم
-لا بأس كان عندك سنتين حينها، كنتِ طفلة مشاغبة
ردت بقنوط
-كنت طفلة حوادث
تكورت على نفسها وهي لا تزال تحتل فخذ سليمان وهو يمشط شعرها بأصابعه دون كللٍ أو ملل..
فالمكان الوحيد الذي شعرت فيه بالأمان قبلاً كان رحم أمها، وما إن كبرت قليلاً ونضجت حتى عرفت أن العالم لا يُشبهه أبدًا، وعندما أرادت التكور في حضن والدتها لكنها لفظتها لذا فهي تجد رحم أمها في كنف جدها سليمان
-هل تريدين أن أروي لكِ كيف أوقعتِ ضرفة دولابك؟؟
هدرت بغيظ وهي تستمع لجلجلة ضحكته
-جديييييي
******
الرجفة التي تحتل الأبدان، النبضات المختلفة التي تختلج لها القلوب وتسلب العقول، فلا مفرَ من تقلبات الحياة التي تودي بنا لمجريات أخرى تتمثل في تغيير مشاعرنا والاقرار بتضادها، وهنا عليك أن تعلم أنه ليس عيبًا أن نتراجع عن التعنت الذي لازمنا ليتبدل حالنا قليلاً، العيب هو أن نصر على موقفنا ونحنُ نعلم أننا على خطأ
يجلس سلطان في صومعته المعتادة ومكانه المفضل يحك ذقنه بتفكير وعقله شارد في بؤرة خاصة أجبرت فمه على الصمت بينما عقله تخلَّف..
فذات المشاكل لا تكف عن العبث داخله بل أنها تخلق أحاديثًا لا إرادية تنتاب مُخيلته بين الحين والآخر وتطرق على خاطره بلا هوادة كأنها تُلزمه بضرورة النظر والانتباه، خاصة المرة الأخيرة التي كانَ في غرفتها شعرَ بشيْ غير عادي... أنه ربما يمتلك مكانة خاصة عندها!، أغلقَ جفنيه ثوانٍ معدودة وهو يتذكر رأيه فيها سابقًا عن كون هذه هي طبيعتها المغوية والمعاملة ليست خاصة له !! استقامَ في جلسته وأرجعَ ظهره للخلف وفتحَ عينيه طالبًا الرحمة من التفكير، وفي ظرف ثوانٍ قليلة اقتحمَ موضوعٌ آخر عقله ليشتت انتباهه..
جده يطلب الكثير وهو يريد التأني قليلاً ليشحذ أسلحته ويركز على أهدافه بالتبعية حتى لا يتعرج الطريق منه ويفقد إحدى ذخائره، فما هو مُقبلٌ عليه ليس سهلاً؛ أن يوقع بالرجل الذي قتل عمه والاقتصاص منه لن يكون ممهدًا، خاصة وهو رجل لعوب وطرفًا في المافيا
-أتمنى أن تموت قبل وصولي إليك لأنك ستتمنى الموت حينها يا مغفل
-هل تُحدث نفسك يا سلطان؟
انتبه على صوت فراس المندهش والذي تقدمَ ليجلس أمامه ليجيبه سلطان باعتياد
-لا أستطيع سوى التحدث إلى نفسي وإلا سأجن
قطبَ فراس حاجبيه وتحفزت ملامحه قائلاً
-حسنًا تحدث معي..
قامَ سلطان من مجلسه واتجه نحو زاوية الغرفة
-ليتني يا فراس لكن لا أستطيع فالأمر مُعقد ولا يمكن شرحه غير هذا هو سري للغاية
هزَّ الأخر رأسه ثم أردفَ بتفهم بعدما قام واتجه إليه مربتًا على كتفه بمواساة
-فهمت الآن، إن كان الأمر من جدك وهو على الأغلب كذلك لا تفكر كثيرًا ودع الأمور تسير كما هي ففي النهاية جدك سيكون هو مُحرك الخيط الرئيسي
هو لا يستطيع أن يُخبر فراس بالأمر لو كان سالم لتحدث!، لكــن فراس يحمل كافة الأحقاد بقلبه تجاه جده ولو باح بالأمر فسينتشر الخبر كالنار في الهشيم، وهذا ليس لأنه لا يأتمنه بل لأن الأمر أيضًا لا يخصه وحده .. بل يخص جده وعمه
قلّبَ سلطان عينيه وتشدقَ برزانة
-وكأنني لا أعرف يا فراس، لم أقبل بهذا إلا لشيء شخصي، "حاجة في نفس يعقوب" كما يقولون وإلا لم لأكن أداة في يد جدك.. حتى لو أحبه
كان يقصد كل كلمة تفوه بها، فالأمر الذي كُلف به لم يكن يخص العائلة فقط، بل كان يخص شخصًا أحبَ إلى قلبه من كل الناس، وهو لن يدخر جهدًا حتى يأخذ قصاصه وبأكثر الطرق إيلامًا للطرف المقصود
أسبلَ جفنيه بتعب ثم توجه نحو زجاجات المياه ليتجرع منها ما يمرر المرارة التي التصقت بحلقه إثر تذكُّر هذه الذكرى المؤلمة، ودون أن يدري كان يهتف لفراس الذي بدأت يداه بالعبث في الثقل الذي أمامه
-هل تتذكر عمك سلطان؟
ردَ فراس بشيءٍ من الاعتياد
-نعم لا زلت أتذكره في النهاية لم يمت سوى من ثلاث سنواتٍ فقط!!
تركَ سلطان الزجاجة من يده وضيّق عينه قائلاً بشيء من الحذر
-أراك لا تهتم لذكراه وكأنك تتحدث عن شخصٍ لا نعرفه وليس عمنا!
زمَّ فراس شفتيه بيأس من الواقف أمامه، لن يصدق أبدًا أن العلاقة بين سلطان والعائلة كانت مُزعزعة ولم يُكتب لها الثبات خاصةً أن موت سلطان جاء فجأة دون أن يمهله الفرصة حتى، وكعادة فراس الهادئة المتفهمة اقتربَ من سلطان وتحدثَ بابتسامة خفيفة ليخفف من حدة الأجواء
-بالتأكيد أهتم، وجميعنا حزّنا على موته وحتى لو لم نكن بهذا القرب دائمًا يبقى عمودًا من عمدان عائلة الهاشمي الذي لم يُستهن به
-هل تسخر الآن!!!
غلى الدم بعروقه ولم يستطع حجب غضبه عن ملامحه المشتعلة ليهدر، وبدوره فراس هزَّ رأسه نفيًا مبررًا
-لم أسخر يا سلطان ولم سأفعل؟ لقد كانت ميتة عمك مُشرّفة حتى لو لم يكن عمله كذلك، كان يقوم بعملٍ من فوق الجبل وزلت قدمه فسقط.. أين السخرية في هذا يا بن خالي
مرَّ به الإدراك ليأخذ نفسًا عميقًا ثم أخرجه ببطءٍ شديد وكرر هذه العملية عدة مرات حتى هدأ واستطاع الحديث في النهاية
-لا تؤاخذني يا فراس أعتذر منك ... أعصابي تالفة
رمقه فراس بنظرات تفحصيه قبل أن يشيح بوجهه ويردف بفتور
-لا عليك وفقك الله.. سأذهب أنا لقد فات ميعاد نومي تصبح على خير
ردَّ سلطان بخفوت ثم رفعَ رأسه لينتبه على استدارة فراس له وهو يشير بكفه قبل أن يقول بابتسامة عريضة
-لا تدع هذا الموضوع يستنزفك فنحن من نملك زمام الأمور وليست هي من تملكنا
رمى كلماته ورحل تاركًا خلفه جسدًا يضج بالأفكار والمشاعر المتناقضة وأعين لا تهتز حدقتيها رغم ما بداخلها من اضطراب..
لقد فهم أن جده لم يبلغ أحد بسبب الوفاة الحقيقية غيره هو سالم لأنهما من استلما جثة سلطان هذا اليوم، المنظر البشع الذي رآه كان كفيلاً بجعله يقتلع قلب من قتل عمه ومضغه، أو سلخه حيًا إن تطلبَ الأمر وليذهب تحضره للجحيم
زفرَ بضيق ثم خلعَ كنزته السوداء ورماها على الكرسي بضيق ليلتقط عباءته البيضاء ويرتديها ولن ينسى العمامة بالتأكيد، يقتله فيها جده
استغرقَ عدة دقائق بعد رحيل سالم ليلملم أشياءه ويرتب المكان؛ فأكثر ما يحرص عليه هو النظافة والتنظيم، نظرَ للمكان الهادئ الممتلئ بالأجهزة الرياضية التي يحتاجها وثلاجة صغيرة موضوع فيها بعض العصائر الخالية من السكر وزجاجات المياه، وهناك أريكة بلون أزرق غامق احتلت جانبًا من جوانبها..
كان أثاثها قليل لكنها كانت تضم راحة كبيرة بين جدرانها وهو كلما شعرَ بأن العالم يتكالب عليه جاء لصومعته الصغيرة يرى فيها اتساع كل ما يضيق خارجًا.
أغلقَ باب الغرفة الخوصي بالمفتاح والتفتَ متوجهًا للمنزل لكـن شيئًا ما سمّره مكانه، وجعل عينيه تتسعان وأصابعه تلتوي في قبضة مؤلمة حتمًا لمن سيتلقاها، هرول مسرعًا نحو الجسد الذي يتوارى في جوف الليل ويجلس دون حياء على صفحة النهر ممددًا قدمه داخله
-ما الذي تظنين نفسك تفعلينه يا رابحة في جوف الليل بإظهار قدمك وجلوسك بتلك الطريقة المقززة
قالها سلطان بنبرة حادة لكنها خفيضة حتى لا تجذب الأنظار على الرغم من عدم وجود مارين في هذا الوقت الذي تخطى الحادية عشر ببضع الدقائق
-سلطان!! ما الذي تفعله في هذا الوقت؟!!
سألت بغباء بينما لا تلاحظ أنها في منطقته وبجانب صومعته، وحقًا هذه المرة لم تكن تعرف أنه متواجد هنا فقد جاءت لتنفض عنها عبء التفكير الذي آرقها وتتخذ قرارًا أخيرًا في حياتها المبعثرة، أجابها بسخرية رغم ما يعتمل داخله من بركان غضبٍ ثائر سيفيض في أي لحظة
-هل من المفترض أن يكون أنتِ من يسأل هذا السؤال؟!.. انهضي واسحبي قدمك من المياه الآن وارحلي من أمامي حتى لا يحدث ما نخشاه نحن الإثنين
ضيقت عينيها هاتفة بنزق والغباء قد احتلها كاملاً
-ما الذي نخشاه نحن الإثنين!
-سأبرحكِ ضربًا وصدقيني ستندمين وأنا أيضًا سأفعل إن لم ينجدك أحدٌ ما من بين يدي فربما تموتين وحينها نرتاح جميعًا
-لا تستطيع لمسي ولا أتركك تفعلها، والله أيضًا الوحيد القادر على موتي فإذا جاء أجلي سأموت
لا يعلم لم امتعضَ من حديثها فهو لم يقصد ما فهمته هذه الحمقاء، كان فقط في سياق الكلام وقد قاله لم عليها أن تُعلق على كل كلمة يقولها كأنها تتحداه؟!
وقعَ نظره على قدميها المزينة بخلخال و المبللتين في الماء، تحركَ حلقه بتوتر فالشعور الذي انتابه في تلك اللحظة لم يفسره!، فهو في النهاية رجل وهي كانت أنثى جميلة خارجة عن قواعد الهدوء والرزانة، فشعارها كان الثورة.. الثورة حتى القمع ثم تعود وتعود ولا تكل أبدًا..
فعلت ما قال صاغرةً لأمره وانتشلت قدميها من المياه ثم جففتها بالشال الذي أحضرته معها ليقيها البرد وارتدت نعلها الخشبي الذي تفضله
-خلخال!! حقًا ما تقومين به؟!
سألت مرة أخرى بحزم
-ما الذي أقوم به سيد سلطان؟
-محاولة الابتعاد عن الحياء والتقاليد مثلاً؟ منذ متى وأي فتاة في القبيلة مسموحٌ لها الخروج بزينة، خلخالك المزعج هذا ستخلعينه الآن ولن تضعيه سوى في غرفته.. إن سمعته سأقطعه لكِ
لم يكن ينقصه أيضًا سوى خلخالٍ فضي يلتف حول قدمها ببراعة ويحتضنها كأنه صُنعَ خصيصًا لأجلها، ورناته الناعمة لا تنبئ سوى بأنوثة صاحبته الجبارة
و كل هذا كان ينظر لها من جانب وجهها فلم تظهر ملامحها كليًا بسبب الظلام، لكن عندما استدارت له وبرزَ وجهها من ضوء القمر الخافت وجدَ مصيبة أخرى سلبته آخر ما تبقى من أنفاسه ... وجدها ترسم عينيها بالكحل الذي أبرزَ لونهما العسلي ببراعة، لم يدرِ بنفسه إلا وهو يقول بغضب
-هل خرجتِ لتقابلين أحد؟
كانت تقوم بنفض عباءتها من الغبار حتى صدمتها جملته، اقتربت منه على حين غرة وحدقت داخل عينيه قائلة في صدمة
-ما الذي سأقابله يا هذا الآن!! هل جننت؟ أصبحت تشكك فيّ وتصدر احكامًا من عقلك لا أساس لها من الصحة.. ولكن لمن أبرر أنت لا ترى سوى نفسك والست خنساء بالطبع
دائمًا ما تحشر خنساء معه في أي حديث يدور بينهما و الذي ينتهي بشجار محتوم
اشتدت سوداوية مقابلة عسليتيها المتحدية فخرجت الحروف من فمه دون حساب من فرط التشتت الذي نتيجة سحرها المُمَارس عليه
-تأتين متزينة بخلخال يصدر أصواتًا تجعل الجميع يلتفت لك و ترفعين عباءتك حتى ركبتيك لتُري الناس جمال سيقانك، وعينيك..
قطعَ كلامه ولم يعرف كيف يتحدث بعدها، هل يخبرها ما كان بصدد قوله وهو" عينيكِ الجميلتين تجعلني كغريق أبله يريد الغوص فيهما" لكنه لن يقولها ليكون الصمت حليفه أما هي فعينيها أسفرتا عن حديثٍ طويل لم يستشفه في خضم مشاعره الهوجاء، و هنا تحدثت دقاته الثائرة تاركة عينيه تقوم بمهمة جمع الحروف وبثها لعسليتيها الكحيلة التي سجنته داخلها.. و يا ليته ما فعل!
فجملتها التالية كانت كالصفعة التي أفاقته من مشاعره المراهقة
-ماذا يا سيد سلطان؟ ما بها عيناي!! هل وقعت أسيرهما! اعترف فأنا معتادة على هذا الأمر
أسيرهما!!
معتادة!!
كلمتين فقط أشعلا النيران داخله أكثر حتى اهتاجَ وأظلمت عيناه بشدة، الأولى كانت لها وقع غريب على اذنه شعرَ بلذاذته لثانية قبل أن تلقمه الثانية وتحرر قسوته من مخبأها
اقتربَ منها وهي تتراجع للخلف عندما رأت اختلاج عضلا وجهه، سيلقنها درسًا لن تنساه، سيصفع تلك الوجنتين بقوة ثم سيقبل عينيها الآسرة..
التناقض الذي بداخله يولد لديه شعورًا يدق له ناقوس الخطر، كان يقترب أكثر منها مرددًا اسمها من بين أسنانه بملامح توحي بالشر وهي كانت خائفة وكرد فعل تلقائي أخذت تعود للخلف بظهرها ودون أن يحسب حساب للتالي كانت تسقط في المياه مُطلقة صيحة نجدة
اعترته الدهشة وتمثلت بكل خلية من جسده وهو يراها تسقط بظهرها في المياه بعد انزلاق قدميها مُطلقة صيحة نجدة باسمه، ولو لم يكن يتهيأ استطاع في تلك الثواني القليلة وقبل أن تسقط أن يلمحَ رجاءً خافتًا وذعرًا قاسيًا داخل عينيها
-يا إلهي
تمتمَ من بين أسنانه قبل أن يلحق بها هو الأخر، يراها تصارع حتى تبقى على السطح، وبرغم سرعته في القفز خلفها إلا أنها كانت تعتقد بأنه سيتركها ربما، هذا ما فكرت به دون أن تنشغل بمصيبتها التي من الممكن أن تودي بحياتها
-تشبثي بي ولا تفزعي
امتدت ذراعه تسحبها لتبقيها على السطح بجواره، وبأقدام خبيرة وذراع قوية كان يجذبها نحوه شيئًا فشيئًا حتى استطاعت التعلق برقبته وبحركة مفاجئة لفت قدمها حول خصره كأنها تقيم حصارًا حوله..
وهي على حق فهاجس يداهم عقلها بلا هوادة ويرسم حيله ببراعة في مخيلتها، سيتركها حتمًا لأنه ملَّ من أفعالها، فهو منذ دقائق تمنى موتها فلم سيقاسي سببًا في أن يمدّها عمرًا لتُكمل ازعاجها له، لن تغضب منه تلك المرة إن قالَ عنها عديمة الحياء أو تتودد إليه، هي الآن في موضع إما تُنقذ نفسها كما ترى أو تترك جسدها يرقد في القاع بإرادتها
تفاجأ من فعلتها لكنه لم يعلق، على الأقل الآن!، يدرك ذعرها من ارتجافه جسدها تحت أصابعه وشهقاتها التي بالكاد تخرج منها المياه التي ابتلعتها مُسببة ثقلاً على رئتيها غير ثقل قلبها، وكأنها كانت في حاجة للمزيد!
حملها إلى خارج المياه، ووقفَ يمرر عينيه قليلاً في الأرجاء، يخاف أن يلمحه أحد وهما بتلك الحالة، حينها لن تكف ألسنة القبيلة عن التغني بما هو باطل بينهما ويمكن أن تنشأ القصص الذي سيكون هو بطلها وهي بدورها بطلة.
اتخذَ قراره وحسمَ أمره تجاه حالتهما الشعثاء المبللة، وتوجه نحو صومعته ، وقد أسرعَ في خطواته عندما وجدها تشهق بين كل حينٍ وآخر، بالكاد أوقفها حتى أخرجَ المفتاح وفتحَ الباب ليسندها إلى الأريكة الزرقاء وقبل أن يدعها تسقط عليه مالَ قليلاً على الخزانة المجاورة للأريكة وانتشلَ قماشة كبيرة يستخدمها في تغطية آلاته لو ذهبَ في رحلة ولم يعد لفترات، ثم وضعها على الأريكة حتى لا تبتل منهما
قفزَ الصوت الساخر إلى رأسها سريعًا ليوخزها
"يخاف على أريكته أكثر مما يخاف عليكِ.. أنتِ حتى لا تساوي عنده قطعة أثاث"
زفرَ بقوة ثم وضعها ببطء وجلسَ بجانبها ثم وضعَ يده ناحية صدرها ليجدها تبعده بذعر في عينيها وبتلعثم قالت
-م م مالذي تفعله؟ ابتعد
صاحَ بسخط وهو يُعيد يدها إلى جانبها قبل أن يشرع فيما بدأه
-اصمتي قليلاً ودعيني أقوم بإسعافك حتى لا تموتين وأحمل ذنبك، واطمئني قليلاً أنتِ أخر امرأة يمكن أن تحرك شيئًا داخلي
كانت في حالة بين الوعي واليقظة لكنها فطنت لكلماته جيدًا واستمعت لها بروحٍ متألمة لكنها لم تفقد نطفة الشغب التي تحتجزها داخلها
-إذًا ابتعد عني أداوي نفسي بعيدًا عنك، وكأنك تمن عليّ بخدمتك لا تطري على نفسك فأنت من تسببَ بهذا
ضغطَ على صدرها فبدأت بإخراج المياه مرة تلو أخرى –والتي لم تكن كثيرة- وكل ما يردده هو أن تصمت، كان يعمل بهرولة ويده ترتجف، عضلات ظهره التي يستمد منها قوة ضغط يده على صدرها أصبحت تالفة مما عاشه منذ قليل، لا يعرف هل الشعور يمكن أن يتغير في لحظة كهذا!!، من كنت تبتعد عنه أصبحَ يسكن كل جوارحك وللعجب لم يحدث هذا إلا بعد أن ازداد في أفعاله التي كانت تنفرك منه قبلاً
حقًا إن القلب متقلب لا يثبت ولا يرسو على شعور، بل يهيم في بحور العشق حتى يرى فنار شاطئه يلوّح له ويدعوه للمجيء، وهو يعرف قلبه سيهرول لو رأى قبسًا من نورٍ يناديه.. أخرجَ منشفة ثم مدها لها لتقوم بتجفيف وجهها وملابسها، كان يغلق نوافذ الغرفة جيدًا حتى لا يتسرب بعض الهواء فيمرضا وعندما استدار وجدها قد غفت
استغلَ نومها الذي لا يعرف هل هو خفيف أم ثقيل، لكن امرأة هوجاء مثلها بالتأكيد يجب أن تكون متيقظة لما حولها، لكن مع ذلك قام بتبديل ملابسه في المرحاض المرفق للغرفة وعندما عاد وجدها مازالت غافية، امتلأ صدره بالضيق وتجولت عيناه في الغرفة على غير هدى، يُفكر في حل لتلك المصيبة التي حطت عليه وبعضٍ من الندم ينتابه بين فنيةٍ وأخرى، على الأقل يعترف لنفسه-فقط- أنه كان سببًا في هذا، لكن داخله كان هائجًا من استسلامه أمامه وصاحَ فجأة "هي من خرجت متزينة ولم تكتفِ بخلخالها الرنان ذات وقع النغمات الهادئ على الأذن السالب للراحة، بل وضعت كحل عينيها ليزيد من إشراقة شمس عسليتيها ويحفها بسوادٍ قاتم لم يزدها سوى جمالاً .. وحضورًا"
هزَّ رأسه يأسًا من نفسه كأنه ينقص داخله أن يفسر بدقة ما يشعر به حقًا، حسنًا لقد اكتفى سيحاول إيجاد طريقة للخروج دون أن يراهما أحد..
عادَ إلى رشده أخيرًا واقتطعَ المسافة الفاصلة بينه وبين الممددة على الأريكة غافية عما حولها من شحنات تناقضيه، لكزها في ذراعها بقوة لتتململ قليلاً ليعيد فعلته مرة أخرى قائلاً بخشونة
-انهضي لن نبقى هنا طوال الليل يا سيدة رابحة لديّ عملٌ في الصباح
فتحت عينيها بصعوبة وهي تشعر بمطارق تدق جسدها، ويبدو أن لفحة هواء أصابتها بالبرد الذي بدأ يتسلل بين خلاياه، استطاعت أخيرًا أن تستقيم في جلستها ولكن ببطء شديد، انتظرت مساعدته لكنه كان يقف يشرف عليها من علوه ولا يحرك ساكنًا بل نظرات غامضة تنضح من عينيه دون ترجمة
-أريد ماء
-وتأمرين أيضًا!!
غمغمَ بها وهو يتجه ناحية الثلاجة ويلتقط منها زجاجة مياه، ولم يُكمل صنيعه على خير بل ألقاها حتى كادت تصطدم بوجهها قبل أن تسقط بحجرها، تجرعت بضع قطراتٍ منها ثم أعطتها له ليلجمها بقوله الجامد
-أبقيها معك أنا لا أشرب وراء أحد، أشعر بالتقزز
كانت تعي أن كلمته موجهةً لشخصها هي دون الزجاجة، كيف وهي لا تغفل عن أي نظرة تسقط من عينيه نحوها، نظراته تجاهها لم تكن مقصودة أبدًا بل تسقط منه سهوًا!!
سعلت بقوة ثم التفتت له قائلة بحرجٍ يراه أول مرة يزور وجهها الحنطي
-يبدو أنني أصبت بالبرد، لا أستطيع تحريك عظمي حتى
ابتسامة ساخرة شقت جانب ثغره ليهتف بعدها بغلظة
-لن أحملكِ مرة ثانية يا رابحة إن كان هذا ما تتوقين حدوثه، لقد اكتفيت منكِ ومن ألاعيبك التي لا تنتهي، فاحترمي نفسك قليلاً واحترمي قرابتنا ولا تقتربي مني ثانية ولا تحومي حولي.. لا أريدك ما الذي لا تفهمينه هنا!!
حديثه في أي مرة شيءٍ وتلك المرة شيءٌ آخر لقد استطاع أن يكسر قلبها تلك المرة ويدحض مقاومتها، كلماته شعرت بها كسهام لم تنغرس بها بل كانت مُشبعة بالنيران فأحرقتها وبددت ما تبقى من مشاعر جميلة تدخرها بداخلها، شعورها في تلك اللحظة على النقيض تمامًا ما بين الكره والحزن!، الكره له والحزن لأنها أحبته..
قلبها يهوي من بين أضعلها ليستقر في قدمها، وكأنه يحتال على حُبه الذي يحاوطها فيستتر منه، أغمضت عينيها بشجن، وللحظة!، لحظة فقط تأخذ فيها أنفاسها وتقضي على ما تبقى من حُب له داخلها، لتفتح عينيها قائلة بصوتٍ هادئ لكنه لم يفقد قوته الأنثوية الخاصة بها
-يقولون أن الشيطان لم يسجد لأدم بسبب غروره وكبريائه ألا يسجد لبشر، ولهذا كان عقابه أن يُخلّد في الدنيا، لكنه وجدَ سلوى مؤقتة وهي غواية البشر.. فاحذر أنت الآخر أن يسحبك غرورك إلى دنيا لن تجد فيها سلواك
-ما الذي تقصدينه بتراهاتك؟ هل تشبهينني بشيطان!
-عفوًا يا سيد سلطان لقد فُقت الشيطان خبثًا، وتفوقت على مكره ببراعة..
صمتت ثم استطردت بثبات وصلابة تُحسد عليها
-أنت بالنسبة لي لا شيء، لا أحبك ولن أفعل فحتى امرأة قوية مثلي كثيرة على جبانٍ مثلك
قطبَ حاجبيه بانزعاج من كلماتها، تحولَ لغضبٍ وهو يُدرك في النهاية أنها تحاول طعن رجولته، وإضعافه نفسيًا..
-تبًا لكِ تلعبين بالنيران التي حتمًا ستحرقك وسأكون أكثر من سعيد إن أشرفت على تبخُر رمادك
ابتسمت بصمت ثم ضحكت بصوتٍ عالٍ ساخرة من كلامه، في ضحكتها هذه وجع لم يراه بل رأي فقط استهزاءها به وعزمها على القضاء عليه، وهو ليس بغرٍ ساذج ليفعل.. سيريها
-سترين جيدًا يا رابحة.. انتظري فقط وسأهدم حصونك التي تحتمين بها وتفرضينها عليّ بكل صفاقة، سأكسر غرورك وسأسحقك .. وهذا وعد وأنا لستُ برجلٍ يحنث بالوعود
وقفت قبالته رغم وهنها ونظرت لعينيه السوداء الغاضبة بعسليتيها المتحدية
-أرني وها أنا معك حتى تنقطع أنفاس أحدنا من ال...
قطعت جملتها ونظرت له بمكر ولم تكمل لفظيًا ولكن داخلها أكمل
"العشق"
******
هل تعرف شعور القهر؟
الذي يسلبك أمانًا ويمنحك خوفًا!!
يبدد نورك وينشر ظلامه في قلبك سارقًا كل أمالك ومُخبئًا إياها بين ثنايا الحزن والاكتئاب!!
هل تستطيع السيطرة عليه؟ أم يلتهمك هو داخله؟
كانت قد انتهت من تلبيس ابنتها ملابسها الوردية الرقيقة ثم قبلتها على جبينها ووجنتيها، لتبدأ فقرة الدلال واللعب والتنديه بالألقاب الظريفة التي تضحك عليها عالية بصخب
مرغت بدور وجهها في بطن طفلتها التي يصدح ضحكها في الغرفة، لتقول
-يا حبيبة أمك يا أول فرحتي ...أعشقك
تنشقت رائحتها بعدما احتضنتها عالية بطفولة وأجابت بطفولة تليق بسنواتها الخمس
-وأنا أيضًا أحبك أوسع من البحر وأطول من الجبل
شهقت بدور باصطناع لتضع يدها على صدرها واليد الأخرى تُحيط بها خصر ابنتها هامسة بأعين متسعة
-يا إلهي كل هذا الحب لي .. أنتِ تحبينني بشدة
أومأت الطفلة ومالت على والدتها وبنفس الهمس قالت في أذنها بشقاوة مُحببة لأي قلب رؤوف
-نعم لا تخبري أحدًا بذلك هذا سر
نظرت لها بدور بابتسامة مرحة قائلة وضمت شفتيها وهي تُتمتم كأنها تتذوق الكلمة
-سر؟!
هزت عالية رأسها وبدت جدية في تلك اللحظة ليبتسم قلب بدور ويطرب فرحًا من حركات ابنتها التي تُحبها، وكلامها اللطيف خاصةً حرف ال"سين" الذي تنطقه "ثاء" فتُصبح الكلمة "ثِر" وهذا ألطف شيء قد يحدث لقلب أم تمتلك ابنة..
طوت بدور أصابعها عدا البنصر-الأخير- ثم مدته ناحية عالية التي تعودت على تلك الحركة ما إن يجمعها سر-ثر- بوالدتها لتفعل مثلها وتمده حتى يتلامسان ثم تتطوق بدور إصبعها بإصبع صغيرتها في حركة مضمونها "الوعد" والشاهد عليها "اللحظات الحلوة"
قطعَ لحظة الانسجام دخول سالم المفاجئ، لتلتف الأم وابنتها نحوه إحداهما بابتسامة رائقة والأخرى بملامح عبسة لكنها غير ظاهرة للعيان، كانت بدور أول من تحدث وهي تحمل عالية وتتجه ناحية سالم تستقبله بالابتسامة والشغف المعتاد عليهما
-لقد أتى والدك يا لولو لنرى إن كان أحضر لنا حلوى أم لا
قبلها سالم على جبهتها وأتبعَ جبين عالية بنفس القبلة، ثم ناولها الكيس الذي يحمله في الخفاء لكنها لم تفهم ما يريده وفتحته أمام أعين الصغيرة -التي تهللت أساريرها لمرأى حلوى الطوفي مع كثير من الفشار- ولم تفق سوى على نظرة الزجر التي أطلت من عيني سالم نحوها ليتخطاها متوجهًا إلى الخزانة لانتقاء ثيابه، راقبته بتمعن لتعرف ما الذي أخطأت به لكنها لم تستشف شيئًا من خطواته العصبية وتشنج جسده الذي هالها ما إن استدار وحدثَ الطفلة بخشونة قبل أن يدخل الحمام
-أخذتِ حلواك .... اذهبي لغرفتك
نزلت الطفلة فورًا من على ذراع والدتها وهرولت للخارج حتى أنها تركت الحلوى التي كانت سعيدة بها للتو وهرعت للخارج تتفحص الطرقة بعينٍ طفولية يتألق فيهما الدمع لتبحث عن غرفة خالتها رابحة مسارعة للاحتماء فيها... ولكن أصابتها الخيبة وهي تجد الغرفة فارغة، فتقدمت بملامح باكية نحو الفراش لتفرش الغطاء وتدثر به حتى تأتي مُنقذتها" مُنقذة الأميرة الباكية"
حدقت بدور فيما حدث بصدمة بالغة ونظرت للكيس القابع أرضًا بخيبة أمل فالفرحة التي اطلت من عيني ابنتها خفتت في الحال لأن والدها لم يراعِ نبرته أثناء حديثه مع طفلته... والمؤسف أنه لم يفعلها قط!
جلست على الفراش منتظرة سالم ليخرج من الحمام، مُفكرة في السبب الذي يجعله يعامل ابنته بهذا الشكل؟!!، طيلة الخمس سنوات كانت تلاحظ خشونته بالذات في معاملة عالية لكنها أرجأت ذلك لصغر سنها وأنه لم يعتد على الأطفال وقد يتأقلم فيما بعد، لكن برؤيته يتعامل مع صبيان العائلة بطريقة جميلة تُدرك أن العلة ليست في سالم بل في ابنتها ولم يخطر على بالها أن العلة أصابت عقله...!
-هل هي من رمت الحلوى وهربت؟ تلك العنيدة سأكسر رأسها
وفي خضم تفكيرها انتبهت على صوت سالم الحاد الذي أبصرت عيناه كيس الحلوى الذي تركته عالية وهي بغبائها لم تلتقطه، أمسكت ذراعه قبل أن يذهب ونظرت في عينيه بنظرة راجية اخترقت حواسه لوهلة كانت كافية ليستعيد هدوءه ويرى إلى من يتحدث
-لقد خافت منك ومن صوتك وانطلقت للخارج يا سالم
عاتبته بدور بصوتها الهادئ ليلتزم الصمت وتتجهم ملامحه بينما تُكمل
-ما الذي حدث؟... لم أشعر أنك تعامل الطفلة بشيءٍ من الحدة، هذه ليست معاملة أبوية أبدًا، فأنت لا تأخذها في حضنك ولا تشتري لها الألعاب... لا تعطيها الحنان الذي تحتاجه من والدها وبالتالي ستقوم بالبحث عنه خارجـ....
في ثوانٍ كان يرمي المنشفة التي بين يديه ويمسك ذراعيها ويهزها بقوة ليقول من بين أسنانه
-والله أقتلها وأغسل هذا العار بيدي، ويوم عزائها أُقيم فرحًا وليس صوانًا إن كانَ إنجاب البنات لا يأتي إلا بالعار فلا أريده..
صُدمت بدور بما فعله للتو، فتلك أول مرة ينهرها سالم فيها بتلك الطريقة!، تجمعت الدموع داخل مُقلتيها تاركة لها الحرية في سرد ما تشعر به، وآزرها الدمع وانزلقَ على خديها لينبهه بالذي اقترفه للتو.. لقد جرحَ وردته الهشة وأخافها منه
-سالم
نطقت بخفوت ليهمهم بندم
-عيون سالم وقمره المضيء في حياته التعسة
-لم لا تعامل عالية كم تُعامل بقية الأطفال
رفعت عينيها إلى خاصته في محاولة بائسة لسبر أغواره لكنه أخفاها ببراعة فهد يترقب الفريسة وليست هي من تترقبه
-ما الذي تقصدينه .. أنا لا أستطيع أن أفعل مثلك في أمور التدليل هذه ولا أجيدها، وبالي ليس طويلاً في أمور الفتيات هذه.. لا أضمن ردة فعلي حينها
ولم يترك لها حرية الحديث فما إن أنهى كلامه حتى التقطَ يدها بين كفيه وأجلسها بجانبه على السرير مطوقًا خصرها ومريحًا رأسه في حضنها، وكأن تلك هي نبرة الحنان التي يتحدث بها ليُسكتها، كم تعجب لأجله هو أستاذ في دلال المرأة ولا يُمكنه اقتناء لقب صغير لابنته!، معها يكون طفلاً ومع طفلته لا يسعه إلا يكون وحشًا!!.. ترى نظرة صغيرتها تخافه بل وتترك المكان الذي يكون موجودًا فيه... هي لا تريد تكرار الأمر الذي حدثَ قبلاً بينا وبين رابحة والفجوة التي صنعه والدهما بالقسوة على واحدة والإفراط في تدليل الأخرى!!
لكن كل أفكارها انقشعت بمجرد أن نطقَ بنعاس
-لا تعلمين مدى شوقي لليوم الذي ستلدين فيه لأحمل صغيري بين يدي... ابني ووريثي، سأمنحه كل شيء وسأحرص على تربيته مثلما نشأت حتى يُصبح مثلي حينها سأكون فخورًا به
كان من المفترض كأي أم أن تفرح، لكن هذا لم يكن شعورها بل على النقيض تمامًا!!، كانت تشعر بالتوجس والخوف المشوب بالقلق السافر، هو لا يتوانَ عن ذكر هذا الأمر أمامها منذ فترة وكأنه متيقن أن القادم ولدًا!!... هي لا تضمن وهو لا يترك لها الفرصة في الشعور بالأمان لحظة بل يُضيّق عليها الخناق حتى يكون شعورها السائد الخوف من أن يكون الجنين في احشائها بنتًا... و يا للهول لو حدث!!
هي تعرف أن حبها لسالم قدرًا مُقدرًا اختطفها في غُمرة مراهقتها إلى أن أصبحت شابة يافعه... هي تعشق ذلك القدر لكنها تخافه وقد شعرت أن أمر حملها قد يُهدد استقرار حياتها!
********
-هل سنبقى هنا طوال الليل؟!!
تساءلت رابحة بنبرة حادة قليلاً، ليمتهن البرود دون أن يجيبها فيكفي اشتعال رأسه بالأفكار التي كانت هي محورها ودون أن يدري كان يشرد مرة أخرى ولكن تلك المرة لم يفق على صوتها بل على ملمس قبضتها التي لكزت ذراعه بقوة
احتدت عيناه بشر قبل أن يُجيبها بصوتٍ عالي
-ماذا تريدين يا رابحة أقصري الشر وعودي لمطرحك قبل أن أضربك وأنا تلك المرة لن اتوانى عن فعلها حقًا
لقد كان مغتاظًا حد الانهيار منها، لا تنفك عن اختلال عقله- بعينيها وحديثها وطريقتها-بل ونشب سحرها داخله لتأتي أيضًا أمام عينيه، يكفيها احتلالاً!!
وهي لم تجد مبررًا لعصبيته تلك ولكنها ليست ممن يتراجع حتى لو اُجهِزَ عليه بالخسارة، فردت بحنق وهي تطبق ذراعيها لصدرها
-أريد الرحيل من هنا لا أريد البقاء ثانية واحدة وأنت لن تحتجزني يا سيد سلطان
-فقط لو يصمت لسانك الذي سأقصه هذا.. لو يصمت لكانت انحلت مشاكل العالم وثقب الأوزون
-وتحررت فلسطين أليس كذلك!! إذًا المشكلة في لساني وليس في برودك واحتجازي هنا وربما لو علم والدي أنني لست في فراشي وفي هذه الساعة سيقتلني دون أن يرف له جفن وأنت وجدي ستقفان لتشجعوه بالتأكيد
نطقت أخر كلامها باختناق كأن ما ستقوله لو كان حقيقةً كانت سيحدث بحذافيره، وأتاها الرد سريعًا
-بالتأكيد
هوى قلبها لقدمها وهي تراه ينطق بها بكل سهولة، وكأنها لا تعنيه.. على الأقل يخاف عليها لأنها ابنة عمه، لكـــن سلطان لا يهمه سوى ألمها ولا يدخر جهدًا ليريها اشمئزازه منها وهذا ما يعزز تخبئه ضميرها عما تود فعله به، نظرت له بعسليتيها نظرة غير مفهومة؛ كانت خليط من مشاعر كثيرة أجادت اخفائها داخليًا لكنها تكالبت في عينيها لتصنع الضياع ..
-لم تنظرين إليّ هكذا أنا فقط أؤكد كلامي أن والدك سيقتلك إن لم يجد في فراشك هذه الساعة
بالتأكيد ما في صوته ليس ارتباكًا، ولا حدقتيه تهتزان لنظرتها، هو لا يعض شفتيه ندمًا ولا يعتذر لها صامتًا بعينيه
هو رجل فقدَ خاصية التعبير عن المشاعر فأصبحت تموج داخله داخل محيط قلبه الواسع والعميق!
هو رجل لا يعلم أن الحب قد يدخل القلب دون استئذان
هو رجل إذا فكرَّ بالزواج سيكون لأنه يريد زوجة وأولاد.. وليس لأنه أحب
هو رجل... ولم يعش سوى تلك الفترة من حياته، وبنظرة من عينيها تخرج فيه أطوارًا لم يعشها، يتذوقها لأول مرة معها وهذا يربكه كمراهق ويشعل لديه شظية التجربة كطفل.. لكن لا يُظهر
-أخرجني من هنا يا سلطان
نطقت وصوتها يكاد يظهر من شدة اختناقها وابتلاعها لمرارة حلقها والتكتم عن القهر الذي تشعر به داخلها
-أحاول إيجاد طريقة حتى لا يرانا أحد فقط لو خرجنا من هنا ليبدو الأمر أننا تقابلنا أو أخذتك لمكان ما، لكن ليس هنا
أومأت وذهبت تجلس على الأريكة صامتة لا تتحدث وهي تراه يجلس على الكرسي يُفكر ويعبث بهاتفه إلى أن تحدثَ أخيرًا
-سنضطر إلى الانتظار قليلاً حينما تهدأ حركة الناس في الخارج ونرحل وإن سأل عمي سأتنازل وأقول له أنني أخذتك لمشوار ما
ارتفعَ طرف شفتيها في ابتسامة ساخرة ولم تُعلق حينما قال "سأتنازل"، فقط كل ما فعلته هو
أنها أغلقت عينيها وأسندت رأسها على مسند الأريكة الخلفي وهي تسبه داخلها
لو رآهما أحدًا في تلك الساعة وخاصةً بعدما تهدأ الحركة وهو يخرج ويتلفت خلفه ستكون فضيحة بالتأكيد، لها قبل أن تكون له وحينها أمر قتلها لا عودة به..
ابتعدَ عن صومعته ليسير بعدها بشكل طبيعي وهي بجانبه لم تتحدث منذ طلبها بالخروج وهو لم يتحدث كثيرًا بدوره فليس من عادته الثرثرة
انتبه على دنوهما من الدار فأردفَ قاطعًا الصمت
-غيري ثوبك فور أن تدخلي الغرفة حتى لا تمرضين
أومأت برأسها ومازالت تعتكف الصمت وتتخذه درعًا فكلما تحدثت وبخها وهي رأسها الآن تضج بالأفكار السامة وإذا تحدثت بالتأكيد ستخرج كلمات لاذعة، راقبها وهي ترحل شاعرًا بان قوته تتهدم وأنه فقدَ هيبته أمام نفسه قبل أن يكون أمامها!!
أبصرَ خلخالها الذي مازالَ يصدر صوتًا رنانًا رغم أنه بدأ في الاختفاء بسبب بعدها إلا أن صداه مازال يتردد داخل قلبه!!...
"سأقتلك يومًا يا ابنة محمد وأتخلص منك ومن أفعالك التي.."
قطعَ جملته ولم يعرف ما سيقوله، وفي فورة تخبطه كانت قدمه تترجلان إليها بسرعة حتى وصلَ إليها ووقفَ أمامها قائلاً بأنفاس تشتعل من الغضب جعلَ عينيها العسليتين تبرقان
-إن رأيتك بهذا الخلخال مرة أخرى ستندمين يا رابحة، اخلعيه قبل أن أقطعه لكِ ودعي عيني تلمحه في قدمك أو تسمعه أذني .. هيّا اذهبي
هل يهددها الآن!!، كان من المفترض أن ترحل لكن نفسها الأبية وشخصيتها الثائرة حثتها أن ترفع حاجبيها وتنظر له باستخفاف قبل أن تهتف بمكر
-هل أنت أبي حتى تمنعني من ارتداءه؟ جدي الذي لا أطيق؟!
أثارت غضبه أكثر بكلامها ونظراتها وعلى حين غُرة كان حجره الأسود يُقابل نهر العسل متحديًا، هل سيطفو الحجر أم لزوجة العسل وثقله سيسحبانه لأسفل
-لم لا تصمتين وتغلقي فمك الذي لا يدر عليكِ سوى المصائب؟ هل ستموتين لو صمتِ قليلاً؟؟!.. ثم تأدبي في الحديث عن جدك الذي يهتز لكلماته أعتى الرجال وتأتي فتاة مثلك تتحدث عنه بمثل هذه الصفاقة!!.. قليلة الأدب
رفعت سبابتها أمام وجهه هادرة بحدة
-لا تشتمني يا سلطان أنت لا تعرفني بإمكاني أن أرد السبة فلا أسهل من قلة الأدب
أمسكَ اصبعها الذي تشهرها في وجهه ثم سحبها ليقربها أكثر، ولكن أكثر من بضع سنتميرات قليلة وستسقط على صدره كما حدث الآن، تخضبت وجنتيها بحمرة لخجلها المفاجئ وارتفاع الأردينالين داخلها فدوى قلبها بعنف، لقد أتت تلك اللحظة التي تنتظرها منذ زمنٍ بعيد وأتت بعد شجار كما كانت تتخيل.. مشاعرها الآن في عنان السماء ولو يقبلها فقط لعادت حاملة نجومها إليه
والنظرة هنا بألف دقة
يحاول أن يتدارك ما يحدث داخله لكن قربها المُهلك، وعينيها الأسرتين وحمرة وجهها الغير مفتعلة تستبيح قلبه وتجعله أسيرًا في حضرتها...
قرّبها إليه أكثر ثم همسَ بأذنها بصوتٍ خبيث
-صمتِ الآن!! هل أكلت القطة لسانك؟.. جيد لأنني كنت على وشك قصه
-ابتعد
همهمت وحاولت صبغ ملامحها بالجدية ليُجيب رافضًا
-لا ليس قبل أن تعتذري عن قلة أدبك ووقاحتك معي اليوم
هزت رأسها رافضة ووضعت عينيها أرضًا، وتتمنى داخلها أن يتركها لتحدث معجزة مثلاَ، وفي غُمرة انشغالها وتمنيها المُستحيل كان هو يقترب أكثر من وجهها وعقله فارغ لا يبصر سوى ملامحها الخائفة، رفعت عينيها لتجد أنفاسه قريبه جدًا من بشرتها فأدركت خطورة اقترابه، لينتقل إليها عدوى "عدم الوعي" فأصبحت تحدق فيه هي الأخرى دون حراك كأنها تنتظر شيئًا ما!!
تنفسَ بصوتٍ عالٍ وتنهدَ تنهيدة تؤازر نظرات الرغبة التي اشتعلت في عينيه باقترابه السحيق، لتنتبه هي وتكون أول من عادَ لوعيه قائلة بارتباك
-أسفة
ابتعدَ عنها منتفضًا، كمن أصابعه بدلو ماءٍ بارد وهو في غُمرة اشتعاله
"الآن!!.... تقوليها الآن يا ابنة محمد!!"
هتفَ داخله بغيظ ليجدها تفك من حصاره وتبتعد عنه وتعدل نفسها بارتباك قبل أن يسمعها تقول بينما تهرول بعيدًا عنه
-أسفة لنفسي لأني وقفت مع أمثالك..
-سأقتلك يا رابحة سأقتلك
صدمته بفظاظتها وجراءتها وقد ظنَ أنها ستعتذر حقًا!!
تركَ المكان هو الأخر متمتمًا ببعض الكلمات الحانقة فهو كان على وشك نيّل ما أراده في لحظة وليدة لمشاعره، غافلاً عن من كان يُتابعهما منذ البداية عند النهر إلى هنا ويتخفى وراء الأشجار..
*********
بعد يومين..
-إنجاب الفتيات لا يُلحق إلا العار.. خاصة وإن كانت فتاة كرابحة
كان محمد أول من كسر الصمت المطبق الذي تلى القنبلة التي فجرّتها رابحة في وجوههم للتو أثناء انعقاد المجلس...
انتهى الفصل ..
وانتهت معه لفحة الأهواء لتهب عاصفة الواقع المتحكم الوحيد في أقدارهم
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romanceأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك