"أحبك قدرًا يخطفني وقطرة ماءٍ ترويني"
لقد بدأت عواصف أمشير في الهبوب وأنا عاطلة من أساليب الأمان عاجزة عن الشعور بالدفء؛ فبقيت أنتظر عودتك لكن لم تلفحني إلا برودة غيابك وجمود خذلانك لي ... لتصبح هذه العواصف جزءً مني
*********
لا ترمي الوعود وتهرب لأنني كالحمقاء أنتظر..
ولكن عاملني برفق فأنا أنثى تُعجبها كلمة دافئة وتذوب من مجرد ضمة!
نظرت للبيت حولها بنظرات ريبة وعدم ارتياح فهي لم تطأ قدمها هذا البيت منذ شهور عديدة لا تعرف هل فقدت قدرتها على عدهم أم هي لا تريد تذكير نفسها باحتمالية عقوقها تجاه والدها..
أغمضت عينيها وأخذت نفسًا مضطربًا كان يزحم صدرها لكنها بعده لم تتخلص من الضيق إذا عاودت لها الذكريات المؤلمة في هذا المكان الموحش، والذي من المفترض أنه يكون بيتها!!
بيتها!! .. يا للسخرية حقًا!!
هذا المنزل لم يعد بيتها منذ وفاة والدتها بل منذ زواجها من عدي، وهي تعتبر هذا الزواج نعمة لأنها خلّصها من والدها القاسي، عديم الرحمة... والحياء
-ما بك نهاد؟؟ تبدين منزعجة
فتحت عينيها على يد عدي التي أمسكت كفها المتشنج، فرمقته بامتنان لإخراجها من شرودها المخزي والحزين، هزت رأسها نفيًا بينما تُتمتم بخفوت
-لا ليس هناك شيء هل يمكننا الرحيل؟
قطبَ حاجبيه وقد توصلَ لشعورها الغير مرتاح ليُجيب بقلق
-وصلنا لتونا!! ولا يصح أن نترك الرجل وهو يقوم بضيافتنا ونرحل
شدد على كلمة "رجل" لنفورها من كلمة "أب"، وهذه من المرات التي يراعي فيها عدي شعورها والأدهى أنه عرف كيف يفسره!!..
عادَ والد نهاد بينما يحمل في يده صينية يحتلها ثلاث أكواب كبار من المياه الغازية ويبتسم باتساع كأنه سعيد حقًا بتلك الزيارة التي قامت بها ابنته وزوجها بعد انقطاع دام لأشهر، وهذا ما جعلَ نهاد تبتسم بسخرية وتُحدث نفسها "منذ متى وأبيها يبتسم بل والأدهى منذ متى وهو يُقدم الضيافة بالمياه الغازية التي بالتأكيد كلفته ثمانية جنيهًا ومن طبيعته البخيلة لم يكن ليفعلها بل سيكتفي بكوب شاي لعدي لأنه هو ونهاد يعتبرا من أهل البيت"
أسبلت جفنيها وأخرجت زفيرًا خفيفًا من بين شفتيها المكتنزتين وهي تنأى بظهرها وسمعها بعيدًا عنهم، تتطلع لعدي الذي أخذَ يتباسط في الحديث من والدها المُبتسم من حينٍ لأخر ويرد عليه ببعض الحماس، بالتأكيد الموضوع به نقود، تفرست ملامح عدي الباسمة والمرتاحة وهي تتمنى لم لا يكون هكذا معها؟ .. هل تستطيع أن تسلب منه هذه النظرة الرائقة خلسة دون أن يشعر؟.. هي تتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي تُعري روحها إليه وتُخبره بأفاعيل والدها وماضيها المؤلم وطيبة والدتها المتوفاة التي كانت تُزيح عن عاتقها الكثير.. لكن كيف ستخبره وحاضرها معه حزين وغامض ومستقبلها مجهول!!
صدحت ضحكات عدي بصوتٍ عالٍ مما جعلَ عينيها تتسعان بصدمة فهو لم يضحك هكذا منذ زمن وهي لم تحظَ بشرف إضحاكه إلا قليلاً فهذه السنة الثانية لزواجهم ولا تتذكر هل شعرَ بكل تلك السعادة معها؟!!
لم تحتمل واستأذنت منهم سريعًا بأنها ستمر على غرفتها وغرفة والدتها لأنها تشتاق للجلوس فيها، كانت حجة غير منطقية جعلت عدي يقطب جبينه ووالدها ينظر لها بندم لكنها كانت الأمثل للانفراد بنفسها وتحميلها لوم حياتها التعيسة
ساور قلب عدي القلق وهو يراقب خطواتها البطيئة وكتفيها المتهدلين بقنوط كأنها تدخل معركة لم تستعد لها نفسيًا أو جسديًا، فهو يعرف طبعها الأبلة سترثي نفسها الآن وعندما يعود للمنزل ستبدأ وصلة بكاء أخرى بينما هو يقف لا يعرف ماذا يفعل لأنها كالعادة لا تخبره لم هي حزينة!!، يشعر أنها وبعد كل هذه المدة لا تزال تثق بـــــــه!
كاد يقوم من مكانه لكن يد الوالد كانت سابقه وهو يُمسك بذراعه ليجلس مرة أخرى قائلاً بمرارة لم تخف على عُدي المتحفز
-اتركها قليلاً.. هي بحاجة لوالدتها
سأل عدي بسخرية وهو لا يفهم حقًا
-هل صدّقت ما قالته؟ لقد توفيت والدتها!! ما الذي ستفعله بالداخل سوى البكاء؟
نظرَ له الرجل بخيبة بعض الشيء عندما وجدَ أن أمر بكائها عادي بالنسبة له ثم ما لبثَ أن برقَ الأمل في عينيه وهو يُحدثه محاولاً البحث عن إجابة شافية معطيًا له فرصة أخيرة
-هي تريد أن تشعر بوالدتها حتى لو لم تكن موجودة يكفيها فقط أن تنظر لملابسها وتشم رائحتها بين ثناياها... وإن كنت قادرًا على إيقاف حزنها فأنا لا أمنعك.. تفضل
تركَ يده عدي بعدما أنهى كلامه وقد انتظرَ أن يقوم صهره من مكانه ويذهب ناحيتها ليخفف عنها لكنه لم يفعل بل اضجعَ على الكرسي خلفه ليقول بنبرة غير مفهومة
-حسنًا لا بأس... المهم أنها تثق فيما تفعله
-ماذا!!
حدقَ الرجل به بالرغم من ملامح القلق التي تحتل وجه عدي إلا أنه استشفَ أن العلاقة بينهما متوترة، وهو ما كان يحاول لسانه وقلبه تصحيحه فلا يريد لعدي أن يطمس شخصية ابنته أو يقع في الفخ الذي وقعَ فيه غروره قبل سنواتٍ عدة
تلك المرة هما يحتاجان بعضهما، يحتاجان للشعور بالأمان والسكينة ولو قليلاً
الحقد والكره وجهان لعملة واحدة .. وعلى أي وجهٍ تستقر هذه العملة لن تجد ما يسرك
وفي الداخل وقفت على أعتاب باب غرفتها ولم تستطع أن تتحرك قدميها خطوة واحدة، فخلفها الباب الذي أغلقته وأمامه كانت تقبع ذكريات غرفتها الضيقة بمآسيها، هنا الركن الذي ضربها والدها فيه بالحزام، وهنا السرير الذي أحرقها فيه مرة تاركًا أثرًا سطحيًا على جلدها عميقًا في نفسها وهذا لأنها طلبت منه زيادة في النقود!!، وهذا الدولاب... ااه
انتابتها قشعريرة وهي تحدق ناحيته بخوف وقلق واضحين كأن أبيها سيخرج منه ويسحبها إلى داخله كما فعلَ كعقاب وهي في العاشرة..
-اهدأي يا نهاد.. اهدأي والدك في الخارج يجلس مع زوجك ولن يحدث شيء
كانت مغمضة العينين تُتمتم بخفوت من يراها يظن أنها تتلو تعويذة ما لكن هذا لم يكن سوى دعاءً يحميها شر أبيها، عادت لتُكمل وهي تفتح عينيها بينما تزدرد ريقها بتوجس خشية أن يحدث شيء فهي لا تثق في هذا المكان أبدًا
-عدي في الخارج وإن حدث شيء سيتصرف فقط سأصرخ
ترجمت كل ما تشعر به بكلمات متخبطة ومتعثرة تفاجأت هي منها، وسرعان ما ضبطت نفسها وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تخرج لهم وفي ذهنها جُملة واحدة " هل حقًا سيساندك عدي؟"
********
في السيارة أثناء عودتهما للمنزل بدأ عُدي الحديث قاطعًا الصمت المتوتر من جهته والمتشنج الجامد من جهتها قائلاً بنبـــرة ودودة
-لم تكن بشعة إلى الحد الذي تخيلته أليس كذلك؟
التفتت له قاطبة حاجبيها وخارجة من شرودها في أخر جملة طرقت بعقلها في منزل والدتها وتساءلت بتلقائية
-ما الذي تتحدث عنه؟
أجاب بعفوية بينما يركز على القيادة
-زيارة منزل والدك
صححت له بينما تعتدل في مقعدها وتمرر أصابعها في شعرها القصير
-أه.. منزل والدتي ... لم أكن منتبهه للحوار الدائر بينكما ومعظم الوقت كنت في غرفتي أو غرفة والدتي لذا فكانت ممتازة
قالت جملتها الأخيرة بابتسامة عصبية لمحها عُدي بطرف عينيه، لكنه لم يعلق واستمر الصمت لدقائق أخرى قبل أن يعود قاطعًا إياها بسؤال قاطع لكــنه مراعي
-ما الذي حدث بينك وبين والدك لتتضرر العلاقة بينكما هكذا؟
أراحت رأسها على المقعد وأجابت بهدوء وهي تتأمل الخارج من زجاج النافذة
-لم يكن هناك ما يُسمى بعلاقة بيننا لتقول أنها تضررت لم يحدث هذا أبدًا... الشيء الوحيد الذي يصف الرابط بيني وبين أبي هو "الاستبعاد"، "السيادية".. "الكــره" من ناحيتي غير هذا فلا ... لم تكن حياتنا طبيعية معًا ووالدتي لا تزال على قيد الحياة وتحولت لمستحيلة بعدما ماتت..
علّقت حديثها ثم صمتت لتأخذ نفسًا عميقًا ثم أفلتته ببطء مكملة كأنها تتعمد التريث فيما ستقوله
-الموضوع بيننا معقد بطريقة لن تتخيلها... فهو لم يعتبرني ابنته وأنا بدوري لا صفة للأب له في حياتي.. أنا أكرهه
تفاجأ عدي مما يسمعه لأول مرة منها، يعلم أن علاقتها بأبيها متوترة حتى أنها لا تذهب لزيارته إلا بضع مراتٍ قليلة وتحت ضغط من أعمامها وعماتها، لكــن ما الذي يجعلها تشعر بكل هذه المشاعر السلبية تجاهه ... ماذا فعل هذا الرجل ليستحق كل هذا النفور من ابنته؟!!
أجلى حلقه ثم أردف بجدية
-لكــن مهما بلغ شعورك بالاستياء منه ومن أفعاله واجبٌ عليكِ أن تبريه وتذهبي لزيارته وتُطيعيه أنتِ مُجبرة لفعل ذلك طالما هو أبيكِ .. التمرد ليس حلاً يا نهاد .. ومن رؤيتي له يبدو أنه نادم
حوّلت نظرها إليه بغتة ونظرت له بحدة حتى ظنَ عدي أنها على وشك إلقاء كلمات نابية أو ستضربه من النظرة الشريرة المتمثلة في عينيها رغم أنه يعرف طبعها الهادئ، ولكــن هي مصرة على مفاجأته اليوم بتصرفات غير مسبوقة، ففي غمرة تفكيره فيما ستفعله كانت هي تُطلق ضحكة عالية دون مرح وتحمل ألوان القهر جميعها "الأسود والرمادي " والذي لا يتخللها أبيض الأمل أبدًا
-هل أنت جاد فيما تقوله؟ هل تسمع الكلمات التي تخرج من فمك أصلاً؟؟؟ أنت لا تعرف ما الذي حدثَ بيني وبينه لأتخذ منه هذا الموقف ولا تعرف أيضًا أي شخصٍ هو لتدعي أنه نادم بحق.. شعوري هذا لم يكن إلا نتيجة لأفعاله السيئة التي طالتني أنا وأمي ، ماتت هي بحسرتها عليّ وأنا بقيت وحيدة وعانيت لسنوات حتى تزوجت...
ازدردت ريقها وقد بدأت دموعها في الهطول تباعًا وحلقها ينتابه المرارة بين كل حرفٍ وآخر
-هل تعلم أنني في بعض الأحيان كنت ألوم أمي وناقمة عليها لأنها ماتت وتركتني أعاني وحدي بعدما كنا نتقاسم الحمل سويًا؟.. ظننت أنها رحلت لأنها لم تعدل تحتمل ما يحدث لها على يده ولم تلقِ بالاً لي –استغفر الله- ... وأنت الآن تخبرني أنه يجب عليّ مسامحته وبرّه؟؟ أنت لا تعرف إلى أي درجة بلغت من عدم إيماني لدرجة أنني فكرت هذا التفكير في أمي دون أنا اعمل حسابًا لقدرة الله وتدابيره الحكيمة، وأنه رحمها منه بعدما أخذت من حسناته الكثير ووضعني في طريقك بطريقة اعتقدتها صدفة لكن ما لبثت وأن استعدت إيماني وأدركت للتو أنها قدرًا مُقدرًا حتى تعوضني عن طول سنين بؤس وجفاء
تحدثت في البادئ بحسرة وندم ثم سرعان تغيرت نبرتها لقسوة حازمة غير معتادة من نهاد الرقيقة، وهنا يبدو أنها تحولت لنهاد الطفلة التي تعرضت للتعنيف باستمرار
حدقَ في وجهها لبرهة يتفرس ملامحها الباكية ونظرة الشراسة التي التمعت في مقلتيها وهلة ثم انطفأت وهي تدخل في وصلة بكاء مُقيّمًا موقفها التي تشعر به الآن وقد توصل أنه ضعيف.. ضعيف للغاية فعندما مدَّ ذراعه لالتقاطها في كنفه ارتمت في مأمنها كأنها تنشد الراحة والأمان مُفتقدة ذلك الحضن لفترة من الزمن
لامَ عدي نفسه على انشغاله الفترة السابقة بعدم اتصال سلطان لكن الأمر ليس بيده وهو الأخر ممنوع من الاتصال حتى يفعل أخيه!!.. أي جحودِ هذا!!
قبَّلَ رأسها بحب زوجي، وحنان أبوي وتحدثَ بنبرة مواسية كما يفعل الأصدقاء
-أنت الآن ناضجة كفاية حتى لا تفكري في تلك الذكريات الأليمة، وتعرفين أنني أحبك وسأكون دائمًا معك مهما بلغ الأمر... أنا لم أتزوجك بسهولة ولن أفرطِ فيكِ أبدًا.. لكن علينا مناقشة أمر زيارتك على الأقل بإمكاننا إيجاد حلًا فانا أريدك معي في الجنة
ضحكت نهاد وتمرغت في صدره كقطة ناعمة تحتاج لحنان صاحبها ويد دافئة تربت على رأسها، ثم أردفت بصوتٍ مبحوح لا يخلو من دلال بعدما استطاع إخراجها مما هي فيه قليلاً
-اطمئن .. لا أتركك لغيري حتى لو كانت حور عين
ضحكَ عاليًا على دعابتها المرحة التي تكررت عدة مرات على مواقع التواصل الاجتماعي ثم تنهدَ ودام الصمت لدقائق...
هي.....
تتذكر كل ما عانته على يد والدها بداية من المال حتى مرضها التي لم تتخلص منه حتى الآن، أغمضت عينيها محاولة أن تفكر فقط في كلام عدي الأخير، رغم أنه كان حوارًا واحدًا بسيطًا إلا أنه فتحَ قلبها وأشعرها بمدى احتياجها إليه رغم جفاء الأيام الماضية، لكن ذكريات والدها عادت تنخر رأسها بقوة دون هوادة، تطرق عليها بمطارق من الألم وبسندان العجز
-هل يمكنني الحصول على مال؟
ردَّ والدها بغلظة بعدما التفتَ إليها بحدة أجفلتها
-ألم تأخذي مالاً البارحة لشراء حاجياتك الخاصة رغم أنه لا داعي لتلك الأشياء الباهظة فعلى أيامنا لم يكن هناك سوى قطعة قماش وانتهى الأمر
تخضبت وجنتيها بحمرة بالغة وتحوّلَ خجلها الطفيف إلى آخر عارم جعلَ الدم يتدفق بسرعة ودقات قلبها تتصارع كمن تعاني من علو في ضغط الدم، لكنها لم تستسلم هي ستموت حرجًا أكثر لو رأي بقع الدماء تزين عباءتها .. ستموت قبل أن يراها هكذا
-أبي أنا لدي وضع خاص أشعر بذلك والأمر أصبحَ زائدًا عن حده ولا أعتقد أن القماش وغيره قد ينفع معي.. لذا لزام عليّ أن أحاول منع الأمر بطريقة صحية والذهاب لطبيب
يا إلهي هل هي تخوض في هذا الحديث مع والدها حقًا؟؟، هل أمر دورتها الشهرية أصبحَ نقاشًا قد تتحدث فيه مع والدها قليل الكلام معها؟!، الأمر مُثير للسخرية فالمرة الوحيدة التي يتكلمان فيها مطولاً عن كل مرة تكون عن أكثر شيء حساس لدى أي امرأة ..!
زمَّ شفتيه بقرف واضح وتطلعَ إلى جسدها السمين من عباءتها الفضفاضة والتي لم تدارِ تقاسيمها المنبعجة عن الشكل الطبيعي، لم يقصد أن يتحرش بها نظريًا كان ممتعضًا من زيادة وزنها:
-لن تذهبي لطبيب من أمرٍ تافه كهذا فالنساء جميعهن تأتيهن الدورة ولا يفعلن مثلك ويتدللن للحصول على نقود زائدة لا أعلم فيما تصرفيها، فبالتأكيد لن تنتهي فوطك الصحية في يوم.. استعملي المناديل هي أرخص وستوقف الدماء
المناديل!!!
مرة أخرى!!!
صرخت وقد كفاها الموقف المحرج الذي هي فيه
-أنا أعاني من نزيف وقد يستمر لأسبوع وأكثر... وأعتقد أن أقل ما تقدمه لي هو شراء بعض الأشياء الأساسية لهذا الأمر بالإضافة لدواء النزيف الذي سيقضي عليّ يومًا
وذلة لسانها تلك كلفتها صفعات على وجهها ومنعًا من النقود التي كانت ستأخذها لو رضي من الأساس، وكما ينتهي بها الحال كل مرة تطلب فيها نقودًا هي تذهب لغرفتها بآلام مُميتة ووالدتها تمد يدها لجارتها طلبًا للنقود على استحياء، والأخرى مصمصمت شفتيها وأخرجت من صدرها خمسون جنيهًا لم تكفِ إلا ثمن دواء النزيف وعادت نهاد تستخدم المناديل الورقية المضرة والتي لم تكفِ سد احتياجها....
عادت من تلك الحادثة الأليمة لملامح العدي الساكنة وتساءلت لم يبقَ معها كل هذا الوقت معاديًا عائلته؟... هل لأنها كانت أول من يقابله بعدما تمرد على القبيلة فتوهم بها وتزوجها أم يُحبها حقًا؟... فمن سيصبر على امرأة دورتها الشهرية تمتد لأسبوعين ويُمكن أن تُتبع بنزيف والأدهى أن هذا هو سبب عدم وجود حملٍ إلى الآن
وهو....
كان شاردًا في أحوال أخيه المنقطعة وصوت والدته الذي لم يسمعه لمدة، إلى أي جحودٍ وصلوا حتى يجتثوا أخر أنفاسه في الحياة؟!
تزاحمت الأفكار داخل عقله تطرق عليه بلا هوادة أو شفقة، لقد تركَ المنزل والقبيلة منذ سنوات عندما أصرَ على إكمال دراسته خارجها بل أن يتخذ مسكنًا بعيدًا إذا ما صادف الوقت امتحاناته أو ظرفًا قد يضطره للمبيت بدلاً من السفر كل تلك المسافة...
كانت هذه أول تمرد يثور به وبعدها توالت سلسلة التمرد لينتهي بتحديه لجده بأنه سيتزوج من البلدة الذي يعيش بها ضاربًا بقوانين القبيلة عرض الحائط ومعترضًا على قرار جده بالمجحف بالزواج من بدور ابنة عمه...
يعرف هذا اليوم جيدًا وإلى الآن هو محفورٌ بين ثنايا ذاكرته، يومها تلقى صفعة من جده أنبئته أن القادم أسوأ بكثير مما مضى، ما زالَ يتذكر عينيه اللتين اتقدتا بشرارٍ تأزر مع حديثه ليحرقه
-إن أردت أن تتزوجها فستنسى أن لكَ عائلة قد أكرمتك في يومٍ ما.. سترحل من هذا الباب" ولن تعد ... وسأصدر أمرًا لحراس البلدة أن يطلقوا عليك النار لو ظهرت مرة أخرى ولن تُدفن هنا أيضًا"
كلمات جده آلمته لكنه لطالما كرهه لم يعتد منه الحنان على أيةً حال، ما جعلَ قلبه ينتفض بين جنبات صدره هو نشيج والدته الباكي وعيني جدته الملتمعه بالدموع.. حتى والده!
كان غاضبًا لأنه لم يوافق على الزواج من بدور... ابنة خاله محمد وأخت رابحة..!!!
حتى وإن كان سيضحي بنفسه وحبه بالتأكيد لن يُضحي بابن عمته.. سالم!!، ، لن يكون رجلاً وهو يكسر قلبه بيده ويتزوج من يُحب ... هو ليس بذلك الخائن .. وإلى الآن هو لم يندم قط على مخالفة أوامر جده وترك القبيلة بل في قرارة نفسه علمَ أنه رجلاً لا يكسر كلمته
"هل ستتزوجها؟"
التفتَ ليرى سالم يُحدثه وملامح وجهه متجهمة.. حزينة.. تبكي بصمت دون دموع
"لن يحدث هذا يا سالم... ليس أنا من يفعلها"
قطب سالم حاجبيه ليسأل
"إذًا ما الذي ستفعله"
قالَ بجمود
"سأرحل ولن أعود إل عندما يموت جدك أو تنتهي تلك القوانين البشعة من الوجود"
تسلل الإحباط لقلب سالم وهو يرى ابن خاله يضحي بنفسه من أجله، المشاعر التي تأججت داخل صدره كانت عظيمة تفوق حروف اللغة العربية بأكملها فلا جيوشًا منها تكفي ولا عبارات توازي امتنانه
"سأشتاق إليك يا عُدي .. أنا أسف.. فقط عدني أنك ستكون بخير"
احتضنه سالم ليبادله عُدي بدوره هاتفًا
"لا تتأسف هذا ما يفعله الأشقاء أنت ابني الذي لم أنجبه... كن بخير من أجلي يا سالمـ وتزوج بدور ... اطلبها من جدك سيوافق حتى يداري الإحراج الذي حدثَ برفضي للزواج منها...عش حياة هنيئة وتذكرني في صلاتك حينها سأكون ممتنًا ومن يعلم ...ربما اُدفن هنا"
لطالما كانت لسالم مكانة خاصة في قلب عدي عن الجميع بعد أخيه سلطان ، لقد راقبه وشجعه في حبه تجاه بدور المدللة من وجهة نظره، كما منعَ عنه وشاية رابحة المتكررة لجدها أثناء لقائهم
شعرَ سالم بالسخونة تجتاح جسده فجأة وهو يسمع نبرة ابن خاله المستسلمة الجالبة للشؤم ليقول بلهفة معترضًا
"لا تقل هذا .. بعيد الشر عليك أرجوك بالكاد أمسك نفسي الآن"
"لا تخف كلها أقدار مُقدرة من عند الله وليس هناك أفضل من وضع ثقتي كلها بالله"
كانت تلك أخر مرة التقى فيها سالم وحدثه، فالأخير يقطع علاقته معه بناءً على حديث جده المشدد، تنهدَ بعمق لكن التنهيدة لم تُزل شعور النبذ الذي يشعر بها الآن، لقد تعودَ على وطنه نهاد لكنــه لم ينسَ أراضي مولده وأول مكانٍ استقبله، أول ذراعٍ حملته وأول صبيٍ داعبه... هو يريد أن يخلق وطنًا مزيجًا بين اثنين أرضه وحُبه.. وأي استحاله قد تحدث إلا هذه
التفتَ فوجدها تحدق بوجهه بنظرات متخبطة لم يتبين ماهيتها كليًا سوى خيط رفيع من الاحتياج الذي ظهرَ وبإلحاح، وفي وسط كل تلك النظرات المتبادلة في ثوانٍ قليلة كان فمه يقول ما يحتاجاه الإثنين دون بوح
-هل تريدين الذهاب للملاهي؟
اتسعت عينيها شغفًا وتمتمت
-الملاهي؟؟... لم أذهب إليها أبدًا ولا أعرف كيف تبدو
تألم قلبه لحالها ثم ما لبثَ أن استعادَ روحه المرحة قائلاً بحماس
-نعم أعتقد أن الوقت مناسبًا سنذهب الآن ثم نأخذ غداءنا في مطعم قريب من الملاهي سيعجبك بالتأكيد
بدا واثقًا مما يقوله، والسعادة تنطلق من بين ثنايا أحرفه لأنه سيجرب هذا الأمر معها لأول مرة، فهو يستحق أن يتصرف برعونة أحيانًا ويعيش حياته طالما تركَ أهله بسببها فليفعل ما يُمليه عليه شغفه وقلبه ولنترك صوت العقل لاحقًا
أما هي فقطبت حاجبيها وقالت بشراسة بعدما استمعت لإجابته
-كيف عرفت يا عيوني؟ وأنت كنت تقضي كل أوقاتك معي منذ أن الدراسة .. مع من ذهبت إلى المطعم بجوار الملاهي لدرجة أنك مبهور بطعامه بهذا الشكل!!
جفلَ من تعليقها قبل أن يُجيب بمرح
-كنت أتردد عليه كل فترة والأخرى مع الفتيات بعد أن أطمئن أنني لن أراك لفترة.. لم أقدر على فراقك فجئت بأخرى تحتوي حزني إليكِ
-عدييييييي!!
صرخت نهاد عاليًا فرفع يده باستسلام عن المقود وقد بدا متمرسًا في القيادة ليفعل تلك الحركة ثم أجابَ بابتسامة عالق بها بعض الحزن
-كنا نأتي هنا أنا وسلطان وسالم وفراس.. كنا حينها بالجامعة وكنا نتردد على هذا المطعم كثيرًا حتى أدمنَاه
شعرت نهاد بحزنه، فكل أمر يتطرق إلى القبيلة لا يعود عليه إلا بالحسرة والاشتياق، أرادت أن تُزيل عنه فأطلقت دعابة جريئة على عكس طبيعتها لتنتشله من الابتسامة المتوترة ونظرة عينيه المشتاقة
-حسنًا أن تكون شاذًا خيرٌ لك من أن تخونني ...
أطلقَ ضحكة رجولية عالية اخترقت مسامع الجالسة بجانبه فأصابت قلبها بسهام العشق لينتهي أمر صمودها أمامه، فهي الآن تريد تقبيله وبشدة!!
-في الحالتين تسمى خيانة يا نهودة .. ولكن لا تقلقي ليس من طبعي الخيانة فأنا أكرهها
-أعلم
أجابت بثقة تامة، فهي على دراية شديدة بأن الأمر يتعلق بخيانة عائلته له وعدم الدفاع عنه، وهو الآن يعاني منها بشكلٍ مُطلق
صمتا قليلاً ليستعيدا أنفاسهم بعد وصلة الشجار المرح الذي كان على أعتاب بداية مشكلة جديدة، ولم يقطع هذا الصمت سوى عُدي الذي راح يُلقي شعرًا بصوتٍ جميل
-أحبك نبضًا يدق بقلبي ويُحيني
أحبك شمسًا تشرق أيامي وسنيني
أحبك ليلاً يختال سكوني ويكويني
أحبك صبحًا في أول يومي يهديني
أحبك بيتًا في برد شتائي يأويني
أحبك شعرًا بقصيدة كلماتها تغويني
أحبك عمرًا أذوب فيه.. فيجري هواك في شراييني
أحبك قدرًا يخطفني وقطرة ماءٍ ترويني
"القصيدة مجهولة المصدر"
استمعت إليه نهاد بانبهار جم ترمش بين كل حينٍ وآخر وهي ترى زوجها يطرب أذانها بالشعر، زوجها البارد مؤخرًا والذي اعتقدت أنه لم يعد يحبها يأتي حاملاً أبيات استوطنت قلبها توًا..
ردت عليه بابتهاج وملامحها يزورها الفرح الحقيقي
- أحبك قدرًا يخطفني وقطرة ماءٍ ترويني ... يا إلهي ما هذا الجمال يا عدي لم أعرف أن لديك موهبة تأليف الأشعار وإلقائها!!
أمسكَ يدها وقبلها بخفة ليسري شعورًا آخر داخلها وهو الامتنان والحب الذي فقدته مؤخرًا، وبينما هي هائمة تنظر له بعشق كان هو يُتمتم بخفوت وهو بصدد ركن السيارة
-هذه قصيدة بدوية لا أعرف من ألفها كنت صغيرًا حينما سمعتها لكني أحببتها فورًا وحفظتها حتى اُلقيها لزوجتي.. وها هي القصيدة تقبع في مكانها الصحيح
أطربت الكلمات قلب نهاد أكثر من القصيدة وتغلغلت داخلها بقوة، لتجد نفسها ترتمي عليه تحتضنه بعدما أوقفَ السيارة هامسة في أذنه بنبرة امتنان يستحقها
-شكرًا
ربتَ على ظهرها وابتسمَ هو الأخر بعدما شعرَ بارتياحه بعد غربه بعيدًا عن وطنه وأردفَ بخفوت
-عفوًا
انتشلت نفسها من بين ذراعيه وحدثته بحماس
-أخبرني عن موهبتك في الإلقاء والحفظ أريد أن أتعلمها منك.. أرجوك؟.. أرجوك... أرجوك
قرصَ وجنتيها وقد بدت طفلة لحوحة مشاغبة
-سأخبرك عنها بالتأكيد ونحن نستمتع.. رغم أنني في وجودك لا أطيق الحديث فهو يمنعني عن تأملك وشكر الله على النعمة الذي أعطاني إياها
هل هذا هو عدي؟؟
هل هذا هو زوجها حقًا؟؟
يا إلهي لم هي الآن على وشك أن تضع يدها على رأسه وتجس حرارته، لكنها لن تفعل حتى لا تقطع سحر اللحظة، عدي الذي فقط من يومين كان يعاير جسدها بنظراتٍ غير مستحسنة وغارقًا في ملكوته.. يخرج منه هذا الكلمات وكل تلك الحروف المنمقة؟
ولأول مرة تراه من منظورٍ آخر لطالما أرادته... لأول مرة تتقدم معه دون حرجٍ من جسمها الذي كانت يمنعها من اللعب مع الأطفال والذهاب "لملاهي العيد" بسبب تنمرهم عليها وعلى شكلها قائلين بأنها ستكسر القارب ما إن تركبه أو سيفطس الحصان ما إن يراها
لقد أعادَ إليها عُدي بحديثه هذا جزءً من ثقتها المفقودة وتقبلها لنفسها بشكلٍ حسن..
-هل تعدني أن تغدقني بهذا الكلام دائمًا؟
-أعدك
نطقَ في غمره لهفته ناظرًا إلى مُقلتيها المتسعتين... يُعطيها وعد النظرات الذي لا يوفى إلا بالنظرات أيضًا ويُحنث بالتهرب منها
و يا وعدي من وعودك يا عُدي ...
**********
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romanceألا تفهمين قليلاً أن هناك بعض الأشياء لا أستطيع أن أبوح بها لأنها ليست ملكي وحدي؟... ألا ترين كم أحاول إسعادك وألا نعود لنقطة الصفر مرة أخرى؟... ألا تفهمين؟ ألا ترين؟ -لا أثق... تسربت الحروف من بين شفتيها في صرخة مُلتاعة والدموع تترك حدقتيها لتؤازر...
