"اعترافات"
انجديني من نيـــران شوقي إليك... فأنا عاشق كبلته الظروف*******
-أعطني المفتاح يا محمد.. الآن!!
نطقت فاطمة بصرامة وهي تمد يدها لمحمد المتجهم وعلى وجهه تعبير رفضٍ قاطع ترجمه قائلاً
-أستمحيكِ عذرًا يا أمي لكني لن أعطيك المفتاح لتخرجيها، سوف تبقى في غرفتها حتى يوم زفافها على ابن عمها وهذا أخر القول
ضيّقت فاطمة عينيها وأردفت بشيءٍ من القهر
-هل جننت لتفعل هذا؟؟ .. هل حقًا تفكر في حبسها حتى يوم زفافها؟.. يجب على العروس أن تسترخي وتحظى بالراحة الكافية حتى لا يُصيبها التوتر وأنت تقول لي ستبقى في غرفتها إلى هذا اليوم؟؟ يكفي أنها لم تختر زوجها كباقي الفتيات في القبيلة وفُرض عليها فرضًا.. هيّا لا تُماطل وأعطني المفتاح
انتفخت أوداجه من الغضب، فهو الآن يتعرض للإهانة على يد والدته من أجل ابنته التي من وجهه نظره؛ مقصوفة رقبة لا تستحق أي شيء سعيد طالما تُسبب المشاكل دائمًا، قالَ بشيءٍ من التجهم بعد رؤيته لتحفز والدته
-نفسية !! واختيار زوجًا مستقبليًا؟!! تلك الألفاظ أول مرة نسمعها يا أمي.. من أين أتت؟!.. منذ متى وكان للفتيات رأيًا في اختيار أزواجهن؟، لقد تزوجت أمها وعمتها وبنات عمومتها بهذا الشكل؟! من هي لتتمرد على العادات بدلاً من وقوفك في صفها ضدي أخبريها أن تتعقل وتشكر الله أننا اخترنا لها زوجًا سيصونها ويحافظ عليها وهي بالمثل وحماد سيد الرجال وسيراعها جيدًا، هي محظوظة في أنها ستحظى به دونًا عن باقي الفتيات وهي لا تستحقه
أردفت فاطمة في صدمة بالغة واستهجان عارم
-تتحدث عن ابنتك كما أنها لا تسوى شيئًا، رفقًا بابنتك يا محمد، ليس لأن الجميع يسير على عادة خاطئة تتبعها أنت.. كنت أعتقد أنك أكثر رزانة من الانسياق وراء التخلف الذي حولك، وها أنت تسير وفقًا لإرادة أبيك دون تفكير
عقدت ذراعيها لصدرها في رفضٍ واضح وصارم لما يحدث مع حفيدتها، ولولا أنها أضعف من الوقوف أمامهم جميعًا بكونها امرأة كلمتها لا تمر إلا تحت كلمة زوجها "كامل" لفاضَ سخطها عليهم جميعًا وألغت تلك القوانين المتخلفة
وهو بدوره كان يستمع وكل خلية فيه تنتفض غيظًا ونفورًا من الحديث الدائر عن ابنته وحقوقها التي تتبجح بها كأنها ملكة الكون.. سيقتلها إن حاولت الهرب أو فعلت شيئًا يُهينه يوم زفافها من حماد، يكره كونه يخاف خطوتها التالية المُبهمة ... يشتعل من حسابه لتفكيرها الغير مألوف والذي يفاجئه كل مرة
سحقًا لقد جرّب كل شيءٍ معها.. كل شيء ولم تستسلم!!؛ ضربها، حبسها، حرمها من الأشياء التي تحبها ولكنها لم تزدد إلا تمردًا
هدرَ من بين أسنانه بعنف وقد فاضَ به
-اسمعيني جيدًا يا أمي، أنا لست صغيرًا حتى تذكري موضوع كلما تحدثنا لأني مللت كلما، وأخيرًا أنا أعرف جيدًا كيف أربي ابنتي العاقة التي كادت تهين كرامتي وتخفض هامتي وأنتِ كنتِ شاهدة على ذلك
-ألهذه الدرجة ترى ابنتك مُذنبة؟ حسنًا من كان السبب في اذنابها يا محمد؟ من أحكم عليها الخيارات وجعلها هكذا؟؟.. أنت السبب في شخصية ابنتك فلا تشتكي لأنها تفعل ما تراه يُنقذ كرامتها صحيح أنها متهورة بعض الشيء لكن هذا لا يمنع ما تفعله بها..
هزَّ رأسه يُمنه ويُسره في قلة حيلة ليعاود القول بثبات وجدية أكثر ومُقلتيه تستعران من الغضب للأمر الذي أخذَ أكبر من حجمه
-هل يصح أن تقف أمام الجميع بكل وقاحة وتطلب الزواج من سلطان؟؟... يا إلهي لقد شعرت في تلك اللحظة أني قليلٌ جدًا ولم أربي ابنتي جيدًا.. بل لم تُربى من الأساس
استشعرت فاطمة غضبه من الأمر، فقالت بحنو أموي مُنحية موقفها جانبًا، وقالت تنصحه
-يا حبيب قلبي أعرف أنها أخطأت خطئًا فادحًا ولا يصح ما فعلته في المجلس وأمام الرجال، لكن كنا لنتفادى هذا الأمر لو كنت قريبًا من ابنتك وتنصحها وهي بدورها تتقبل النصيحة... رابحة مُجرد فتاة طائشة، تلوح بيديها في الهواء بلا هدف... وترد على أذيتها، لكن لم ترَّ فقط سلبياتها؟ .. افتح عينيك وانظر إلى من أوصلها لهذا الحال
رأته يقف بنفاذ صبر لكنها لم تتمهل عليه وأخذ تستطرد بكل عنفوان مُدافعة عن حق حفيدتها للمرة التي لا تكل ولا تمل من عددها
-يا محمد، ابنتك طفلة في ثوب امرأة ناضجة، لم تعش طفولتها وبالتي حُرمت من صباها فلم تحرمها من شبابها أيضًا؟ ... لقد أذعنت لكل شيءٍ فرضتموه عليها يا محمد فلم يا حبيبي .. لم المكابرة بتدمير حياتها!! ابنتك لم تعد صغيرة أصبحت شابة، وعروس لا يجب أن تعاملها هكذا
ضحكَ بسخرية واستغلَ كلام والدته ضدها
-ألم تقولي هي طفلة بثوب امرأة؟؟ اذًا لنعاملها كأنها طفلة حتى تتأدب
نظرت له فاطمة ببوادر اشفاق ممزوج بحدة وقالت متجاهلة كلامه
-لا فائدة منك أبدًا ستظل هكذا إلى أن تندم.. هيّا أعطني المفتاح وإلا لن أكلمك مدى حياتي...
أردفَ محمد بذهول
-هل ستغضبين عليّ يا أمي من أجلها؟؟؟ هل أهون عليكِ لهذا الدرجة
صبغت ملامحها بالجمود قبل أن تقول وقلبها يُقطر ألمًا، رغم أنها لم تقصد ما فهمه
-أنا أفعل هذا لمصلحتكما معًا
ألمه قلبه بشدة، ودون أن يعي هتفَ بشراسة
-لن أعطيكِ المفتاح إلا بموافقة أبي
نظرت في عينيه نظرة ذات مغزى
-إذًا أنت لا يهمك رضاي؟
حادَ ببصره عنها والتفتَ بوجهه صامتًا يكز على أسنانه في إجابة واضحة للرفض، لتهز رأسها في اشفاق ثم رحلت من أمامه مُتمتمه له بالهداية
وقفَ هو بالممر ينظر للغرفة القابعة داخلها ابنته وقد قرر أنه سيربيها على التقريع لذي تناوله علقمًا من والدته للتو بسببها، هرول مسرعًا والشرار يتقد من مُقلتيه، جسده يرتج من فرط الغضب الجاري مجرى دمائه يكاد يبرم المقبض حتى يدخل غرفتها ويُحقق رجوليته بضربها مرة أخرى أو إلقاء بعض السباب واللعنات لكن صوت عالي في الأسفل لفتَ انتباهه و أبطأ حركته، جعله يتراجع عن الدخول وتحويل مساره إلى المصدر القادم من الأسفل.
وفي طريقه التقى ببدور التي خرجت هي الأخرى بدورها من غرفتها على إثر الصوت العالي، قطبَ حاجبيه وسألها بقلق
-ما الذي يحدث في الأسفل؟؟
هزت رأسها نفيًا بتشوش قائلة
-لا أعرف يا أبي لا أعرف، لقد كنت جالسة أنا وعالية في الغرفة وتفاجأنا بالصوت القادم من الأسفل
بقيت هي في الأعلى بينما نزلَ محمد مسرعًا وقد لمحَ غريبًا يقف في بهو المنزل ويزعق بالجميع، وفي طريقه قابلَ سالم الذي جاء من الخارج لتوه
-من أنت يا هذا وكيف تجرؤ على اقتحام منزل الشيخ كامل بهذا الشكل الهمجي بل تقف وتصرخ أيضًا؟؟
اسودت عينا تميم غضبًا وهدرَ أمامه بصوتٍ أعلى كأنه يستفزه
-أين ذلك المدعو فراس الهاشمي.. أين هو ذلك الجبان الخسيس
رفعَ سالم سبابته أمامه وأردفَ من بين أسنانه في لغة تحذير واضحة
-لا ترفع صوتك أمام الكبار يا هذا واخفض صوتك أن في منزل الشيخ كامل الهاشمي وعليك احترام ذاتك فيه إن كنت لا تحترمها في الخارج ثم كيف دخلت إلى هنا بهذه الهمجية؟؟
اندلعت شرارات الغضب بينهما، واستطاع الجميع حولهما الشعور بالذبذبة التي غيّمت الأجواء فجأة، فسالم ينظر لتميم بتعالي وحدة بالغة، أما الأخر فينظر بنفور وقسوة وحقد وليد أزمة شقيقته
-أنا أحترم المكان الذي يستحق الاحترام أما أنتم فليس لكم عندي إلا كلمتين أتيت لقولهما ثم سأذهب مرة أخرى، أما بالنسبة لكيف دخلت.. لا تتعب نفسك فحراسك مُكبلين في الخارج
قالها تميم باستفزاز كأنه يُثبت قدرته في أي وقت على اقتحام منزلهم بل والعبث بجوارهم!!، اقترب منه سالم في انشغاله بالإنجاز الذي حققه وأمسكَ بتلابيبه وهدرَ أمام وجهه بشراسة
-اسحب أتباعك وارحل من هنا ولا تأتي مرة أخرى بإرادتك .. ولا سأجعله غصبًا
ردَ تميم بتصميم يوازي قوة الواقف أمامه بعدما أنزلَ يده من على ملابسة بحدة واضحة
-افعل ما تشاء فانا لن أرحل من هنا إلا عندما ألقن أخيك الطفل درسًا
دارَ تميم حوله وهدرَ بصوتٍ جهوري مناديًا على تميم
-أين هو ابن والدته .. طالما هو ليس رجلاً كفيلاً بالوعد ما شأنه ببنات الناس؟
ضحكَ سالمَ بخشونة ضحكة بعيدة تمامًا عن المرح ثم قالَ بقسوة غير مباليًا بالرجل المتقد من النيران أمامه حزنًا وغيرة على شقيقته
-ولم لا تخبر أختك أولاً أنها لو لم تخرج من بيتها وحفظت كرامتها ما كان حدث كل هذا؟!... أختك هي المذنبة الأولى لأنها لم تخف على سمعتها وقبلت على نفسها أن تخرج مع شاب، ونحنُ لا نعرف إلى أي مدى قد تطور الأمر
-اخرس!!
انتفضَ تميم في مكانه بعنف وقبضته كادت تحتك بفك سالم لولا محمد الذي حالَ بينهما هاتفًا باهتياج
-كفى كفى.... اذهب إلى بيتك يا بني ولا تأتي إلى هنا مرة أخرى، ليس ذنبنا ما حدث لأختك فالجميع هنا يعرف العادات فليس لدينا زواج من خارج القبيلة
ردَ تميم صارخًا
-لم لم تُخبر قريبك بهذا؟ قبل أن يُدنس قلب أختي
تشبعت نبرته علقمًا لكنه لم يُظهر ذلك، لم يود أن يكون فريسة ضعيفة بجبهة الأسود، ابتلعَ ريقه وهو يناظر سالم بنظراتٍ شرسة ثم هتفَ قائلاً
-سأعود مرة أخرى... ولكن سأكون منتصرًا وأنتما ستندمان أشد الندم على اخفائكما لهذا الطفل
قالها ثم تركهم وغادر دون أن يلتفت حتى... قلبه يحترق على شقيقته ولن يهدأ قبل أن يأخذ ثأرها مُضاعفًا
********
صامتة أغلب الوقت
واجمة لدرجة تجعلك تحسب وجهها جامدًا لم تزره أي تعابير من قبل!!
ولكن مع من تتحدث؟ وأمام من ستتفاعل؟ وهي محبوسة بين أربعة جدران تخنقها وتطبق على روحها بقيدٍ من شظايا الظلم القابع على أنفاسها يكاد يُهلكها..
حتى الشرفة التي كانت مخرجها الوحيد لاستنشاق الهواء أغلقها والدها بوضع أخشاب تمنعها من فتحها، يُكبلها من كل الجوانب حتى لا تجد مخرجًا فتموت مختنقة، تشعر أنها في مشفى؛ فالجدران ليست بيضاء لكنها كئيبة، لا وجود لرائحة الأدوية لكن رائحة الذُل تُخزيها، على الأقل في المشفى لكان سيتردد عليها الممرضات والأطباء، لكن هنا!!.. لا يتردد سوى الهواء الذي يُبقيها على قيد الحياة...
اكتشفت أنها لن تموت من قلة الحب؛ فقلبها يضخ فقط لأن يمتلك دمًا كافيًا وليس حبًا كما يقولون
بقاءها مع ذاتها أشعلَ داخلها الكثير من الأسئلة التي ما ان تصمت فترة حتى تعود وتنخر بقوة كسوسة تتجرع على الأحزان القاتمة، تعالى وجيب قلبها وهي تتذكر نظرات سلطان لها بينما هي تتعرض للضرب، استطاعت في تلك اللحظات البسيطة التي التقت عينيها بهيكله المهيب -كما كانت تعتقد- أنه لم يهتم، بل بقى صامتًا وعلى وجهه تعابير غامضة لم توحي بأي شيء
لكنها قرأتها، وحللتها ولن يهمها إن كان تحليلها صحيحًا أم لا، شعرت في تلك اللحظة التي تتذكر فيها أنها ما زالت أسيرته، حتى بأسوأ حالتها تُفكر به بل هي التي اجتذبته إلى عقلها ليرافقها في سجنها المفروض بإحكام
سمعت صوتًا في الخارج لضحكات عالية عرفتها على الفور كما تعرفت على صاحبتها، هذه الضحكات غرضها الشماتة ليس إلا، وكم كان التوقيت مناسبًا لضرب إحداهن الآن فهي تشعر بالغيظ الشديد مما هي فيه...
أرهفت السمع لصوت المفتاح الذي يتحرك باستمتاع شديد، ثم تبعَ ذلك طلة خنساء عليها وهي تحمل صينية طعام بيدٍ واحدة، كانت هذه دلالة أن الصينية صغيرة ولا تحمل فوقها إلا أشياءً قليلة وخفيفة ما الذي ستأكله؟؛ خبزًا وجُبن؟؟ .. الحية الرقطاء !!
أزاحت وجهها عنها وشمخت برأسها في رفضٍ واضح، وبنبـــرة آجشة أردفت بنفور
-أي ريحٍ أتت بك إلى هنا، كنت مرتاحة قبل أن تطلي بوجهك السمج هذا علىّ
أطلقت خنساء ضحكة عالية ألهبت أذن رابحة وجعلت الغيظ يتملك منها لكنها لم تظهر بل بقت بملامح ساكنة تُحدق في نقطة لا تجعل بدور و خنساء في مرمى بصرها بينما تسمع الأخيرة تقول
-ما به وجهي يا رابحة ... جميل يا عزيزتي وليس هناك ما أجمل منه .... والحق عليّ أنني فكرت بك وأحضرت الطعام، قلبي الطيب هذا لا يأتي لي سوى بالمصائب كنت تركتك جائعة حتى يوم الزفاف لتموتي أفضل ونرتاح جميعًا
حوّلت رابحة بصرها إليها ورسمت ابتسامة مستفزة على شفتيها تعرف كيف تستجلبها جيدًا، ثم تحدثت بنبـــرة ناعمة لا تتماشى مع قسوة الحروف
-وأنا من اعتقدت أنكِ جئتِ شامتة وأنتِ خائفة عليّ يا خنفساء حبيبة قلبي، لا تقلقي لن أموت إلا بعد أن أطمئن أنكِ تواريتِ تحت التراب وتُحاسبين على آثامك
ها قد بدأت رابحة إحدى جولاتها الكلامية
فإما أن تنتصر أو تنتصر ... لا مجالَ لفائزٍ أخر يحتل مكانها
شعرت خنساء في تلك اللحظة برغبة عارمة لضرب رابحة، الغيظ الذي يكتنفها في تلك اللحظة يؤهلها لأن تمسك رأسها وتضربها في الحائط عشر مرات ولن تكتفي قبل أن تخمش وجهها بأظافرها، وتصفعها بقوة ثم في النهاية تكتم فمها وأنفها لتمنعها من الهواء لتموت..
لم تنتبه لنفسها وهي تنظر تجاه رابحة بشــر دفين ينضح من عينيها، فاقت من شرودها على يد بدور التي كانت تحاول أخذ الصينية من يدها، لكنها مسكتها جيدًا وتقدمت من
طاولة صغيرة مقابلة للفراش ثم وضعت الصينية بشيءٍ من العنف والتفتت لرابحة بغتة بأعين ينضحَ بها الشر
-أولاَ لا تدعيني بهذا اللقب حتى لا أنتف لكِ شعرك ... وثانيًا سأجعلكِ تندمين يا رابحة على كل ما تفوهتِ به لا تقلقي، سأزفك لأخي أولاً وحينها سترين ما تفعله العمة لزوجة أخيها
لا تزال تلك الابتسامة المستفزة الخبيثة تتراقص على ثغرها ذو البقعة الحمراء إثر الدماء المتجلطة من صفعة أبيها، بدت كامرأة مجذوبة تسعى للانتقام وليس لديها ما تخسره
اشرأبت بعنقها نحو خنساء ذات الغضب المكتوم حتى وصلت لأذنها، ثم همست بنبــرة تُشبه فحيح الأفعى، تبث السم دون الشعور باللدغة
-هل علمتِ أن أخيكِ كان عندي البارحة؟؟.. لم يتحمل إهانتي في الأسفل فجاء يتوعد لأبي وجدي وسلطان، لم تريه ... يغار بشكلٍ غير طبيعي أقسمَ أنه سيأخذ حقي
لعقت شفتيها بلسانها وزينتهما بابتسامة جانبية، وأردفت مصطنعة التفكير
-هاااااه... يا إلهي من ناحية حماد وناحية أخرى سلطان أيهما سأختار؟
صمتت قليلاً وأعطت لنفسها فرصة الابتعاد عن خنساء المشدوهة مما سمعت، ثم أجابت بضحكة مرحة لم تكن في موضعها وهي تُصفق بيديها
-بالتأكيد سلطان
كزت خنساء على أسنانها بقوة، فهي الآن ترى أخيها لُعبة تُحركها رابحة كيفما تشاء وهو لا يشعر، بل يترك نفسه للخيوط التي تُضيق الخناق حول رقبته، ومن الناحية الأخرى تبدو واثقة من ارتباطها بسلطان، رغم زواجها الوشيك من أخيها... هي لا تفهم.. لا تفهم!
لكن الشيء الوحيد الذي يستفحل بضراوة داخلها هو الضيق والغيظ والبُغض تجاه رابحة
وأخيرًا انفجرَ بركان انفعالاتها الخامد بفعل سدادة الهدوء الظاهري، كانت لحظة فاصلة عندما أزاحت خنساء الطاولة بقوة ليتناثر ما عليها من قطعة -جبن وخبز متحجر- على الأرض واقتربت منها هادرة بعنف
-هل سيتزوجك سلطان ؟؟ هل تحلمين؟؟ لا إشارة واحدة توحي بذلك يا رابحة .. أفيقي عزيزتي هو لا يراكِ من الأساس بافي بالكاد يعرف وجهك، لو قابلكِ في مكان لن يتعرف عليكِ.. فوفري جهودك ستحتاجينها في أعمال المنزل تحت قدم والدتي
رمت أخر كلمتين في وجه رابحة ورفعت رأسها كالمنتصر في غزو، لكنها ما لبثت أن بهتت ملامحها حينما نطقت رابحة ويدها اليمنى تتخلل خصلات شعرها وتعيدها للخلف بحركة خيلاء واضحة كانت كفيلة بقلب كل الموازين
-مشكلتك يا خنفساء رغم أنكِ مُتعلمة عني قليلاً وأخذتِ شهادة الثانوية إلا أنكِ ضيقة الأفق، ومحدودة الفِكر... لم تدركِ أنني وسلطان مقدران لبعضنا، كالشجرة والغصن، الصحراء والرمال، الحب والكره، نحن مرتبطان بشكلٍ غريب أحيانًا نكون الكلمة ومعناها، وأحايين أخرى يكون التضاد نقطة التقائنا ... فلا تحاولي، و نصيحة مني أنا لا تحاولي لن تستطيعي اجتذابه حتى لو كان عقله معكِ فقلبه سيظل مع رابحة... رابحة فقط
لم تصمت عند هذا الحد، بل أرادت أن تضرب الكرة الأخيرة في مرمى فريقها الخصم مُحرزة أخر هدف لتضمن الفوز في مباراة لم تكن ودية على الإطلاق، بل كانت شرسة حكمها غائب
-سلطان جاء لغرفتي العديد من المرات كما فعلت أنا بالمثل، وذهب لغرفته.. وتقابلنا في الحديقة في ساعة تهور كادت تكشفنا... كل هذا ولازلتِ تنكرين علاقتي بسلطان؟؟
رفعت حاجبيها في عدم تصديق، بالتأكيد هي مجنونة تعيش في عالم الأحلام الذي صنعته، بل هي غارقة حد الثمالة وسيسعدها للغاية أن تراها تموت من عُمق ما تصبو إليه
هتفت خنساء باشمئزاز تلون به وجهها بأكمله
-لن تأخذي كل شيءٍ يا رابحة ... ثقتك هذه ستكون سببًا في انتهائك يومًا ما .. ولا تقلقي سأكون أول حاقدة عليك
بينما رابحة ردت ضاحكة دون مرح
-الحاسد والحاقد في النار... لذا اشمتي بعيدًا عني يا حبيبة أمك لستُ في مزاجٍ يخولني لسماع تراهاتك، فأنا بالكاد أجهز نفسي لعرسي أنا وسلطان
تمتمت خنساء بينما تُلملم ما تبقى لها من كرامه وترحل
-مخبولة
أطلقت رابحة زفيرًا يختنق داخل رئتيها وردت عليها بضيق بعدما رحلت
-خنفساء ضيقة الأفق
وفي الخارج كانت خنساء تسير مسرعة غير منتبهة لفاطمة التي أوقفتها وسألتها عن مكانها لتُجيب بأدب رغم كرهها لها
-لقد أخبرني سيد محمد أن أضع لها الطعام؟
علمت فاطمة أنها تكذب فلسانها قد جف من التوسل لابنها حتى يعطيها المفتاح، إذًا من أين أت به؟!!... بالتأكيد ثريا لأن زوجها يمتلك نسخة من المفاتيح كحال الرجال الموجودين إذا ما ضاع مفتاح يكون له بديل
رفعت فاطمة حاجبيها وعدلت من طرف حجابها على كتفيها ورأسها ثم مدت يدها لخنساء دون أن تنبس ببنت شفه جاعلة الأخرى تهتف بتساؤل أحمق
-ماذا؟
نطقت فاطمة بجمود
-أعطني المفتاح
ابتلعت خنساء ريقها في توجس ثم خبأتها في قبضتها لتقول بتلعثم
-عمي محمد أخبرني ألا أعطيه لأحد وأسلمه له بنفسه
قرّبت فاطمة وجهها منها وهمست بصوتٍ خطير
-لو لم تعطيني مفتاح غرفة حفيدتي سأخبر والدك أنكِ لا تأتي لهنا حتى تساعدي خالتك بل لتتأمري معها حتى توقعي ابنها!!...
رأت شحوب وجهها فعلمت أنها أصابت الهدف جيدًا، وبعصبية كررت طلبها مرة أخرى وهي تمد يدها
-أعطني المفتاح الآن!!
مدت لها خنساء يدها بالمفتاح ثم انطلقت سريعًا لتغيب عن أنظارها في ثوانٍ معدودة مما جعل فاطمة تبتسم بمكر وهي تتوجه نحو غرفة حفيدتها، تُثني على نفسها المُخادعة الهرمة، فهي لم تكن لتقول هذا لوالد خنساء... ليست هي من تتصرف بتلك الطريقة الطفولية، لكنها ستحاول لفت نظره في القريب العاجل إذا تم ما تُفكر به وتخطط له!
وبالداخل
سمعت صوت المفتاح مرة أخرى فاستعدت جيدًا وهي تقف تشمر عن ساعديها، فتلك المرة ستضربها ضربًا مبرحًا حتى لا تأتي لغرفتها مرة أخرى
-جئت لقضاكِ يا خنفساء الـ...
قطعت كلامها شاهقةً بلهفة وهي ترتمي بين ذراعي جدتها هاتفة بسعادة
-جدتي... اشتقتِ إليكِ يا فاطمة
*********
لا يكمن الشر والحقد في قلبٍ إلا وكان الحزن ثالثهما...
-فراس!!
نطقت خنساء وهي ترى فراس قادمًا من الخارج وعلى وجهه علامات التجهم، بما أن مزاجها مُعكر ستُفسد مزاج الأخرين
حصلت على انتباهه فتشدقت بلؤم
-هل علمت ما حدثَ اليوم؟.. لقد جاء هذا الشاب أخ الفتاة التي تريد الزواج منها
-ماذا؟؟
أردفَ بصدمة بالغة لتقول له بينما تلوى شدقها بشفقة ظاهرية واستطردت -نعم ... وقالَ سالم كلامًا في حقها يا إلهي.. انا فتاة لا أرضاها على نفسي
تجعدت قسمات وجهه وهتفَ مُنهكَ الأعصاب
-ما الذي حدث اخبريني يا خنساء ولا تدعيني ألتقط الحروف منكِ
حدقت فيه بخبث دفين ثم سردت عليه ما حدثَ في غيابه، ليشعر بالسخونة تندلع في أوردته وشرايينه مجرى الدم
وبداخل المطبخ
تلفتت يمينًا ويسارًا قبل أن تقترب من إحدى الخادمات وتسألها بلامُبالاة ظاهرية حتت لا تُفتضح
-هل جاء عُدي وسلطان من الخارج
-لا يا خالة ثريا لم يأتيا
هزت رأسها في صمت ثم تناولت الكوب الذي حضرته قبلاً وتوجهت نحو غرفة ابنها وزوجته!!
كلما اقتربت من الغرفة كانت تعاود التلفُت وتستحضر عينيها بجميع الاتجاهات، خشية أن يأتي أحد ويراها وهي تدخل الغرفة أو يراها برفقة نهاد، وقفت أمام الباب وطرقته ليأتيها صوت نهاد بالسؤال عمن بالخارج لتهتف بنزق
-إنها أنا ثريا .. حماتك افتحي الباب
وبعد دقيقة قضتها نهاد في جلب مئزرها ولفه حول جسدها جيدًا، وبين الارتباك والتشتت في الاستجابة لطلب أم زوجها وفتح الباب أم تنتظر لتخبر عدي أولاً!!، لكنها امتهنت القرار سريعًا ونهرت نفسها على ضعفها وتفكيرها في عدي، فهي لن تُدخله في أي شيء قد يحدث بينها وبين والدته.. فالجولة لن تكون في صالحها هكذا تعرف.. أو هكذا ظنت
فتحت الباب بأصابع مرتعشة رغم محاولتها أن تبدو ثابتة، وهي تغتصب ابتسامة على شفتيها وتدعو ثريا للدخول
-كل هذا حتى تفتحين الباب؟ ماذا كنتِ تفعلين كل هذا الوقت
كانت تعلم أن المقابلة لن تكون سلسة لذا استجلبت بعضًا من البرود ليكون درعها الواقي بعضًا من الوقت
-لا شيء يا خالة كنت أضع مئزري فأنتِ تعلمين أنا أجلس في الغرفة براحة قليلاً
رمقتها ثريا بامتعاض ثم تمتمت بنزق وهي تلوي شدقها
-عجبًا فتيات أخر زمن، صرن يتبجحن هكذا أمام الكبار
-عفوًا
نطقت نهاد رافعة حاجبها الأيمن وكل كلمة تصل لأذنها تجعلها تبني حاجزًا داخليًا بينها وبين تلك المرأة
-لم أقل شيئًا.. ولم أتِ للحديث جئت لهذا
تشدقت ثريا بينما تمد لها الكوب والذي يحتوي على سائل مائل للصفار، يذوب داخله بعض الأشياء تُشبه الغبار في تكوينها ورائحته مثل الزنجبيل إذا لم يكن هو
سألت نهاد باستنكار وهي تستنشقه
-ما هذا؟؟
دفعت ثريا الكوب نحو فمها بالإجبار وهي تقول بشرٍ انعكسَ على ملامح وجهها ونبرتها
-هذا مشروب الزنجبيل والقرفة مخلوط ببعض المكونات الأخرى التي لا فائدة من معرفتها، ستساعدك على خسران الوزن
كانت نهاد تتجرع المشروب الحارق مُجبرة ويد ثريا تدفع بالكوب على فمها، لكن عند أخر كلمة، ضربها الإدراك لاذعًا ليجعلها تبصق ما تشرب وتُبعد يد ثريا بالكوب حتى وقعَ وتناثرت باقي محتوياته لتمسحه بقرف واضح بينما تصرخ بوجهها
-ماذا تريدين مني؟؟ اتركيني بحالي أنا وزوجي لنهنأ قليلاً، أنتِ لا تعرفي أي فترة تجاوزناها للتو!!... أرجوكِ ابتعدي عني ولا تتدخلي بوزني أو بجسدي لأنه يعجبني أنا وعُدي ... أنا أحبه فلا تقفي بيننا
كانت الدموع في ماراثون على وجنتيها، تتسابق واحدةً تلو الأخرى كما لو أنه سباق الأخرة ومن لا يلحق لا يدخل الجنة، كانت متألمة تشعر برغبة عارمة في قتل نفسها، إحساس أنها قليلة أمام نفسها وأمام الناس إحساسٌ بشع، في تلك اللحظة تمنت لو أنها ماتت مع والدتها واندثرَ اسمها، فلم تكن لتعاني مع والدها ولم تتعرف على عُدي وتذوق مرارة الشعور على يد والدته
تبًا الحياة ليست عادلة بتاتًا... لقد استنفزتها كليًا وهي لم تعد بقادرة على المواجهة... قوتها خمدت
أمسكتها ثريا من ذراعها وهزتها بقوة قائلة بقسوة
-تحبينه؟ وهل عندما يأتي ويراكِ بهذا الشكل ألن يتحسر على حاله؟ ألن يكتم في نفسه حتى لا يجرح!! .. أنتِ أنانية لا تفكرين سوى بنفسك
نطقت نهاد بقهر انبجسَ من حدقتيها، الموضوعتين أرضًا
-أنا لست أنانية نحن نحب بعضنا وهو يتقبلني هكذا
ألقت ذراعها بعيدًا عن قبضتها المُحكمة، ثم قالت بشفقة ما لبثت أن تحولت لإصرارٍ صارم
-قلب أمه لا يريد جرحك وتذكيرك بما يجب عليكِ فعله،أنا لم أتِ لهنا إلا لمصلحة ابني وحقه عليك أن يأتي ويراكي في ابهى صورة والا لا تلومي سوى نفسك
جحظت عينا نهاد بشدة، تشعر بالبرودة ونخزات من شظايا حارقة في نفس الوقت، لا تعرف مصدرهما ولا لأيهما تستجيب، صرخت بقهر وقد فاض بها الكيل، لم تعد قادرة على تحمل المزيد من تلك القسوة
-أولست في أبهى صورة؟ ماذا تعرفين عن حياتنا حتى تتحدثي بهذا الشكل!!.. ما الذي أعطاكِ الحق في الحكم؟!! من .. من؟!!
رمقتها ثريا بنظرات جامدة وردت
-أنا والدته ولي الحق في رؤية ابني سعيدًا ومرتاح البال ولدية عزوة من الأبناء.. لم لا تخبريني لم لم تنجبا حتى الأن!! هااا؟!! أوليس بسبب سمنتك؟!
لقد فقدت قدرتها على الحديث، كل ما تريده الآن هو حضن عدي لتستكين داخله، تريد العودة لشقتهم الصغيرة وتجلس بجانبه بينما هو يُمسك يدها ولا يفعلا شيئًا سوى أن يُخبرها هو كم يحبها
فقط لو كانت تعرف!!
لو علمت أنها ستتعرض لكل هذا الذل لما جاءت إلى هنا، لبقيت في القاهرة برفقة أحزانها وظنونها داخلها لا أن تراها تتفشى خارجًا بتلك الطريقة المُذلة!
رفعت عينيها لأم زوجها وهي تتحدث بنبــرة مُهادنة قضت على ما تبقى لها من كرامتها
-اسمعيني جيدًا إن لم تسمعي كلامي وتقومي بما أمليه عليكِ فصدقيني ستندمين أشد الندم وسأجعلكِ تتمنين لو يعود الزمن بكِ ولا تلتقي بعدي... فمصلحه ابني أولاً وإلا سأجعله يتزوج عليكِ وهو ابني وسيطيعني بكل تأكيد
خرجت وتركت لها طعم المشروب الصدئ الحارق يتمرمغ في حلقها يذكرها بين كل هنيةٍ وأخرى بمشهد الذل الذي حضرته على يد ام زوجها الخبيثة
رفعت عيونها الملتمعة بالدموع، ووجنتيها المحتقنتين بالدماء وناجت ربها في نفسها قبل أن تنهار في بكاءٍ مرير.. متى الخلاص ؟!!
......
كانت شهقاتها تملأ المكان، تتعالى بشكلٍ مُقلق ولا تستكين، تنتحب وجسدها ينتفض مع كل انتحابه وشهقة تنسل من بين شفتيها، تضم ركبتيها لصدرها وتقبع في ركنٍ خالٍ في الغرفة وتخفي وجهها في حجرها كأنها تخجل منه ومن امتلائه
أقبح شيء قد تشعر به الفتاة أو المرأة هو العار من جسدها، وبوجوب الخلاص منه، أن تكره نفسها وتصبح على شفا حُفرة من الانهيار نتيجة لحديث الناس الصريح أو المتواري خلف كلمات سامة وخبيثة
ونهاد لم تكن ضعيفة الشخصية قط، بل تفتقر للثقة في نفسها حتى أصبحت تخشى نظرات الناس أو تجتمع في مكانٍ يكون الحديث فيه حول جسدها...
تشعر في تلك اللحظة أنها تكره جسدها، تبغضه، طالما يجلب لها الإهانة!..
لم تتعلم أن تُحب نفسها بل أكثر ما اعتصرته خبرةً هو الهروب دون المواجهة، ففضلت الاختباء دون المواجهة بحُب الذات..
وكأن الجميع تكالبَ عليها فها هي الذكريات تدق دقاتها على عقلها بلا هوادة، ولم تُتح لها فرصة الشفاء من كلام حماتها بل هاجمتها بقوة
-يكفي يا نهاد لهذا الحد
اهتزت المعلقة على إثر اهتزاز أصابعها المُمسكة بها وارتجت شفتيها بعنف بينما تبلع طعامها بصعوبة، ربتت والدتها على فخذها من تحت الطاولة الأرضية وأردفت بصوت عاتب
-ليس هكذا يا أبا نهاد دع الفتاة تُكمل طعامها لن يحدث شيئًا من ملعقتين إضافيتين
هتفَ والدها بصوتٍ جهوري غير مباليًا بدواخلها التي ثارت حزنها، والصدمة التي كبلتها
-ألا ترين وزنها كم أصبح؟ كيف تتزوج طالما هي بهذا الوزن.. من سيقبل بها؟؟
تراجعت شهيتها، بل فقدتها نهائيًا ولم تدرٍ بنفسها إلا وهي تترك الملعقة تصدم بالصحن -مُصدرة صوتًا عاليًا، غاضبًا فيه شيءٌ من الثورة- وتهرب نحو غرفتها...
أغلقت الباب خلفها لتسمع والدتها في الخارج تبدو كمن تُهدئ والدها
-هي لم تقصد. أرجوك لا تدخل لها وأنت في هذه الحالة.. لن تكررها ثانيةً سأخبرها بنفسي
ارتجفَ جسدها لا إراديًا، فتلك الهمهمات الصادرة عن والدتها ليست إلا استجداء حتى لا يأتي ويضربها، وكالعادة لم تُفلح جَبهة والدتها في التصدي لوالدها ومنعه، وفي ثوانٍ معدودة كان يفتح بابها بعنف وبيده حزامًا جلديًا اهترئ جلده ولكنه لن يغلب، فلو لم يؤلمها جلد الحزام ألمتها القطعة الحديدة التي تطول جزءً من جسدها
انتحبت أكثر وهي تتذكر ومضات مُعتمة من هذا اليوم، صراخها عاليًا، دفاع والدتها عنها ودعائها عليه بعدما خرج
-حسبي الله ونعم الوكيل... لا وفقك الله... سينتقم الله أشد الانتقام منك
سيل أدعية متكرر كلما امتدت يده على ابنته بتلك القسوة الشديدة، جاعلاً إياها تتمنى لو أنها لم تولد!
جذبتها والدتها لأحضانها وهمست بجانب أذنها وهي تربت على شعرها وجسدها المجروح من ضربات الحزام
-لا تستمعي لكلامه يا حبيبتي ستتزوجين من أحسن الرجال، وستكونين أمًا رائعًا حنونة على أولادها، لكن نصيحة مني اختاري زوجك بعناية وادرسي أخلاقة جيدًا في أول الأمر ... فالحب يا ابنتي بدون أخلاق معطوب لا سعادةً فيه ولا هناء
انتهت الومضة لتحل أخرى لوالدتها وهي على فراش الموت وكم كان وقع الموقف مؤلمًا وثقيلاً على قلبها
ضمت والدتها يدها بين كفها المجعد وابتسمت بوهن شديد بينما تُناظر نهاد الباكية لتُخبرها بنفسٍ راضية
-قل لن يصيبنا إلا ما كتبَ الله لنا يا حبيبتي، فلا تحزني على والدتك، لقد مررت بالكثير والموت راحة لي من شر الدنيا وما فيها
-ستتركينني لمن؟ ليس لدي أحدٌ غيرك.. إلى أين سأذهب؟؟
ربت والدتها على ظهر كفها وظلت تفركه بإبهامها كما كانت تفعل في طفولتها، جالبةً الدموع لعيني نهاد فتصعب عليها الرؤية
-ستمكثين هنا في منزلك، وستحتملين قليلاً حتى يأتيكِ شابًا ترضينه وتذهبي معه إلى منزله.. لكن تذكري كما أخبرتك اختاري زوجك بعناية حتى لا يكون حالك كحالي ولا حال أولادك كحالك..
طفرت من عينيها دمعة بينما تُضيف
-وسأوصيكِ بشيءٍ قد تجدينه غريبًا وثقيلاً على قلبك لكن لا بدَ منه.... بري أبيكِ يا نهاد فمهما حدث يبقى أبيكِ وطاعته واجبة، وإن تزوجت صلي رحمه حتى يُسهل الله لكِ أمورك ويفتح لكِ أبوابَ رزقه الكثيرة... وليشهد الله أنني أحببتك وربيتك كما يجب ولم أزرع فيكِ سوى بذرة الخير فارويها بالرضا واحصديها بالقناعة يا نهاد
رفعت عينيها لأعلى كأنها ترى شيئًا لا تراه نهاد قبل أن تهمس بصوتٍ واهن وحشرجة
-أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولٌ الله
شهقة تبعها سكون الجسد وشخوص بصرها في الفراغ، شفتيها منفرجتين ويدها باردة كالثلج، تحسست نهاد نبضها فوجدت أنه توقف لم تستشعره تحت يديها المرتعشتين، تركت كفها فانسدلَ على الفراش استجابةَ لرخو جسدها في تلك الحالة
تخشبت في مكانها وهلة وهي ترى كل تلك التغيرات تحدث أمامها، هل كانت والدتها في سكرات الموت وهي تُحدثها؟؟... هل كانت تلك الكلمات القليلة هي بمثابة وصية يجب عليها تنفيذها؟؟... ألن ترى والدتها مرة أخرى؟... لن تستمتع بدفء ضمتها وقُبلتها على جبينها كلما تحزن أو عندما تتعرض للاضطهاد من والدها؟...
-أمي..
هزت نهاد برفق مُنتظرة منها إجابة رغم أنها تعلم في قرارة نفسها تمام العلم أنها لن تُجيب، عادت تهزها بقوة أكبر نسبيًا وقد استعدت دموعها لفقرة هطولٍ أخرى
-أمي؟؟ لم لا تريدين؟؟
انتقلت يدها لوجهها الجامد، الشاحب وثغرها المفتوح وملست عليه بقهر لأخر مرة، انتقلت بجانب وضمت نفسها عليها كما كانت تفعل والدتها، ارتكزت على صدرها خالي النبض، جسدها يرتجف من فرط الصدمة وعينيها جامدتين تلتمعان لكن لا تأذن لنفسها بالحزن، كانت لحظة فاصلة حتى صرخت بأعلى صوتها تزامنًا مع غزارة الأمطار التي هطلت من عينيها
-أمييييي ... لاااااا
انتفضت في مكانها عندما شعرت بيد تجذبها من مرفقها وتضمها نحو صدر صلب، أدركت من الرائحة التي احتلت أنفها أنه عُدي، أمانها وركنها الحامي، ضمت نفسها إليه وتمسحت فيه كقطة منزلية نزلت إلى الشارع فتنمروا عليها وضربوها، كانت خائفة وتحتاج لمن يُطمئنها وهو...
-لا تقلقي أنا هنا جانبك... أنا هنا... حسنًا لا تبكي... أنا أحبك.... اششش اهدأي يا قلب عُدي ودوائه
كلما استشعرت مرارة اليأس في قلبها جاءت رائحته، وهمسته تُطمئنها، تُخبرها أنه هنا بجانبها، يحتضنها وهي ليست بحاجة لكل هذا القلق
-ما الذي حدث؟؟ أخبريني فقط!!
هزت رأسها نفيًا ولم تكن بحاجة للكلام ليعرف أن الأمر جلل، لكن التفاصيل غائبة عنه، لا يبصر منها سوى حزنًا عارمًا وبكاء يُقطع القلب
-اهدأي وأخبريني هل تعرض لكِ أحدٌ ما هنا؟؟ .. هل قال لكِ أحدهما شيئًا لم يعجبك
لم تهز رأسها وبقيت في موضعها تلازمها الشهقات وتتمسك بقميصه بقوة، زفرَ بضيق وهو يرى حالتها تلك، فهي لم تُنفِ شكوكه ولم تأكدها لكن بالتأكيد أحدٌ ما قالَ شيئًا لم يعجبها وهو يعرف إلى أي موضوعٍ قد يتطرقوا للحديث معها، قبلَ رأسها قبلة طويلة قوية، ثم أبعدها عن حُضنه ونظرَ لوجهها الممتلئ بالدموع، أخذَ يُقبل وجنتيها واحدةً تلو الأخرى يرتشف دموعها كما لو أنه يرتشف حُزنها ويخلصها منه دون أي تردد
لثمَ عينيها وهمسَ بينما يضع جبينه على جبينها في حبٍ جارف
-أعطني حزنك أبكيه لكِ
ثم انتقلَ إلى ثغرها ووقفَ عنده وهلة قبل أن يقول بعاطفة جمةً لا تقل عن سابقتها
-أحبك يا نهاد بكل حالاتك، سواء كنتِ قوية، ضعيفة، حزينة، سعيدة.. أحبك لأنكِ أنتِ ولن يفرقنا أحد.. أعدك بذلك
ثم ملسَ على شفتيها بشفتيه برقة شديد كأنه يعتذر لها عن كل شعورٍ سيء شعرت به، يعذر لها بالنيابة عن العالم أجمع، أمسكَ يدها وقربها أكثر منه ثم عمقَ قبلته كانت تلك بنكهة تلبية لنداء الاحتياج الصادر منها... وهو ليس بضرير حتى لا يُلبي الطلب!
أنهى وصلة حُبه وأنهضها من الأرض إلى الفراش، وفي طريقه لمحض الكوب المُلقى أرضًا ومن حظه أنقذه بساط الأرض الثقيل فلم يتهشم، التقطه بين يديه وكاد يسأل عن الاصفرار المحيط بزجاجه من الداخل لكن رائحة القرفة والزنجبيل داهمت أنفه بقوة، فأبعده عنه بنفور وتقزز
-ما الذي كنتِ تشربينه في هذا الكوب يا نهاد؟؟ منذ متى وأنتِ تحبين القرفة؟! أنا أجبرك على شربها بالغصب أيام دورتك الشهرية
احمرَ وجهها إثر ذكره لتلك الذكريات التي كانَ يُجبرها فيها على شرب القرفة حتى تساعدها في التخلص من دورتها بأسرع وقت لكنها لم تكن تستمع له وترفض بدلال... فيبدلها بكوبٍ من النعناع أو الكاكاو الساخن بحنقٍ مصطنع
نطقَ باستغراب عندما لم ترد
-هل أنتِ من طلبَ شربه؟؟ عجيب؟!! هل هذا زنجبيل أيضًا... ما هذه الخلطة أنتِ لا تحبين رائحة تلك الأشياء بالتأكيد لستِ أنتِ من طلبه!
وعند هذا الاستنتاج انتبهت حواسه جيدًا ليلتفت لها وهي قابعة على الفراش تطرق برأسها لأسفل دون أن تلفظ شيئًا بل بقت على جمودها وروحها المحترقة
-هل هذه وصفة ما أحضرها لكِ أحد لتشربيه؟!
لم يتلقَ ردًا لوهلة ثم قابله صوت بكائها مرة أخرى فانحنى جالسًا على ركبتيه أمامها، ثم أبعدَ خصلاتها التي تغطي وجهها ورفعه ثم احتواه بين أصابعه السمراء ماسحًا لألئها المتدفقة من عينيها، وعينيه تمشيان على صفحاته باستكشاف
-أنا بجانبك لا تخافي.. أخبريني فقط ما الذي حدث وأنا سأجلب لكِ حقك حتى لو من فم الأسد.. أخبريني فقط لأنني أشعر أنني لستُ جديرًا بكِ طالما لا أستطيع حمايتك
نظرت له مليَا قبل أن تشعر برغبة عارمة في احتضانه مرة أخرى وبالفعل لبت رغبتها دون أي مقاومة منه أو استئذانٍ منها
لفَّ ذراعه حول ظهرها بحماية وهمسَ في أذنها مطمئنًا
-لن يمسك أي شيء طالما أنا على قيد الحياة...
جاءه الرد صادمًا وهي تهتف من بين بكائها فقدَ فاقَ الكتمان قدرتها على الاحتمال
-والدتك هي من أحضرته يا عُدي..
قالتها ثم صمتت مما جعله يتساءل بتوجس وهو يُفلت وجهها من بين يديه
-ولم تحضر لكِ والدتي مشروبًا كهذا؟
ابتلعت ريقها خوفًا من أنه لن يصدقها، لكنها اختارت أن تخبره فيجب أن تُكمل
-هذه الوصفة لفقدان الوزن ..
قالتها ثم عادت تطرق برأسها لأسفل دون أن تُكمل فمرَ به الإدراك لاذعًا من المغزى الذي أرادت والدته إيصاله لزوجته، استقامَ في وقفته لترفع رأسها بغتة لتجد عيناه تشربت قتامةً وملامح وجهه جامدة لا تُنبئ بأي شيء ... انسلت دمعة خائنة من عينها اليُمنى وهي تراه لم يصدقها، بالتأكيد كانت تتوقع هذا.. عقلها عند تلك النقطة لا يكف عن صُنع هاجس وحشي يتغذى عليها... بأنها هي من ظهرت أمامه أثناء تمرده على القبيلة فكانت اختياره الأول للزواج.. ليس لأنه أحبها
أغمضت عينيها لتستمع لصوت الباب يُغلق بقوة، فهمست بضعف وهي تتكور على نفسها نائمة
-لن أسامح والدتك ما حييت ، لقد جرعتني الذكريات كما المشروب الذي أحضره كلاهما سيء
*********
تزامنًا مع ما يحدث في الأسفل
دلفَ سلطان على مقربة من فراس الذي يقف مع حماد وسالم ويبدو أن شجارًا سينشب بين الأخوين، كان قد وصلَ إلى الجمع عندما سمعَ فراس يتحدث بعنفوان غير معتاد من شخصيته الهادئة
-ما الذي خوّلك لتقول هذا الكلام عنها؟؟ هل تعرفها؟ هل تخصك؟ .. هل ترضى أن أقول هذا عن بدور زوجتك
استشرست عينا سالم وهدرَ بصوتٍ جهوري بينما جسده يختض وقد كان على وشك ضرب فراس
-ما الذي تهذي به يا فراس احفظ لسانك عن زوجة أخيك، أنت تعرف أخلاق بدور جيدًا فهي ليست كتلك التي كنت تسير معها في الطرقات وهي تبيح ذلك
هدأه سلطان وأمسكه قبل أن يصل لأخيه ثم التفتَ لفراس وعنّفه قائلاً
-انتبه لكلامك يا فراس أنت تتحدث عن ابنة خالك وزوجة أخيك
-لم أقصد ما فهمتموه لكــن هو ليس لديه الحق في التحدث عن التي كانت من المفترض أن تكون زوجتي بهذا الشكل.. طالما لا يرضاها على نفسه لا يرضاها عليّ أليس هذا هو العدل يا ابن خالي؟؟
تدخل حماد قائلاً بخشونة
-وحدا الله أنتما أخوان والدم لا يكون ماءً بسبب امرأة
وجهَ فراس بصره نحو حماد قائلاً بقهر ينشب في عينيه ويحتل أطرافه فيكبلها
-وأي امرأة يا حماد تلك كانت لتكون زوجتي لولا القدر الذي فرّقنا وتدخل من كنت أظنه أخي ويحبني
كان كمن يبصق جملته الأخيرة، فالنظرة التي وجهها إلى أخيه كانت بمثابة إشعال نيران الاتهام وتوجيه شظاياها نحوه، تملكَ من سالم الجنون فور أن سمعَ جملة أخيه، هل يتهمه الآن بالخراب عليه وهو أكثر من يريد مصلحته؟؟ هل أصبحَ الشاه السوداء الآن؟!
كل هذا لأنه قامَ بما يجب فعله لإنقاذ أخيه من وحل أبدي لن يستطيع الخروج منه؟!!
أردفَ سالم بعنف
-هل أصبحت أنا المُلام الآن؟ بدلاً من شكري تأتي وتعاتبني لأنني أحميك من شر نفسك وشرٍ سيجلب عليك السواد طيلة حياتك؟!!... أنا هو المذنب سيد فراس
انبجسَ الشر من قدحتي فراس وتقدمَ من أخيه، عروقه بارزة وعينيه متسعتان من العصبية تكاد تخرج من محجريهما، وبشراسة ردَّ عليه بصوتٍ عالٍ يُماثله قوة
-من سمحَ لك بذلك؟ من أعطاك السلطة لتتحكم بحياتي.. من أخبرك لتتكلم بلساني؟؟!.. هل أنت سعيد الآن لأن حياة أخيك تدمرت وكنت أنت سببًا فيها؟
-فر اس... سالم اهدئا بالله عليكما لا نريد أن نُسمع من حولنا،؟ هيا للداخل لنتحدث كالرجال
قالها سلطان برفق وهو يجذب يد فراس ويقوده نحو غرفة المجلس الواسعة، بينما ينظر نحو حماد ويرشقه بنظرة قاتمة استشفَ الأخير مغزاها جيدًا فبادله النظرة بابتسامة مُستفزة على جانب شفته ثم سارَ بجانب سالم وبدا له أنه همسَ بشيء لكن سلطان لم يتبين ماهيته بدقة، لكن ما الذي سيخرج من فم حماد سوى شعلة تُشعل أفواج النيران!!
جلسَ الجميع على الوسائد الكبيرة التي تقبع على الأرض؛ كانت وسائد عريضة مُربعة الشكل مصنوعة من قماشٍ ثقيل لونها أحمر ولها مساند رفيعة تفصل بين كل وسادة وأخرى، تُشبه الجلسات العربية في تكوينها، خاصةً مع الطاولة الصغيرة في المنتصف والتي كان يقبع عليها إبريق لونه ذهبي وبجانبه العديد من الأكواب الصغيرة المخصصة للقهوة
تحدثَ سلطان متوليًا هو دفة الحديث بما أنه الكبير بينهم، فقال
-ما بك يا فراس أنت وسالم؟...هذا شيطان دخلَ بينكما وبإذن الله سنصلح الموقف قبل أن يتطور أنتما أخوان هل تعرفا ما معنى هذا؟؟.. دمكما ولحمكما واحد لا ينبغي أن تقفا وتتناطحا هكذا من أجل أي شيء حتى لو كانت امرأة، ولو كانت تلك المرأة بدور.. وحدا الله هكذا وأخبرني يا فراس ما الذي يزعجك من أخيك وتحدث بأدب فمهما حدث هو أخوك الكبير
حكَ فراس رقبته ثم تكلم بنبرة تكاد تكون هادئة بعد الشيء لكنها لم تخلُ من علوٍ
-هل يرضيك أن يتدخل في حديثنا مع جدي وأبي ويُخرّب عليّ طلبي للفتاة التي أحب، ولم يكتفِ بهذا بل قالَ لأخيها كلامًا لا ينبغي أن يُقال على فتاة.. لقد خاض في عرضي يا سلطان هل يرضيك؟
أجابَ سالم بعند وهو يرفع رأسه بأنفه
-نعم يرضيني
-اصمت أنت
زجره سلطان بنظرة من عينه ثم عاود الحديث مع فراس قالاً بنبرة مُتفهمة وفطنة
-أولاً يا فراس هي لم تكن عرضك بعد وأنت أكثر من يعلم كم صعوبة إن لم تكن استحالة تحقيق ما تريد، تعلم رأي جدك في هذا الزواج قبل أن تعرض عليه الموضوع .. صحيح!!
هزَّ فراس رأسه إيجابًا ليتدخل سالم في الحديث قائلاً بضحكة سخرية
-أخبره يا سلطان أخبره.. فالعاشق الأعمى يتجنى على أخيه بلا سبب
التفتَ سلطان نحوه بحدة وقد أصابه الغيظ منه، فهدرَ من بين أسنانه بينما يُشير إليه بسبابته
-أقسم بالله العظيم يا سالم لو تحدث مرة أخرى سأطردك للخارج ولن تدخل حتى لو جئت لي بولي من أولياء الله... اصمت قليلاً حتى نحل المشكلة التي بينكما وانتظر دورك
كانت تلك فرصة حماد ليصطاد في الماء العكر فأردفَ بينما يرفع حاجبيه باستفزاز
-وهل نحن في مدرسة حتى تمنعه من الكلام ؟ ... سالم هو أخيه الكبير ومن المفترض لفراس أن يسمع كلامه فهو أدرى بمصلحه
-لم أطلب منك التدخل يا حماد وإن كان سالم يقبل حديثك هذا ولا يريد مني التدخل بما أنني الكبير بينكم فليخبرني وأنا أفض مجلس الرجال هذا وآخذ فراس وأرحل... القرار في يدك يا سالم
كان يتحدث بتحدٍ غير مباليًا بالنيران التي اندلعت حرائقها الآن بينه وبين حماد، وبالفعل كان سيقوم من مجلسه لولا يد سالم التي أعادته مرة أخرى لمجلسه هاتفًا بتراضٍ
-لا يا سلطان اجلس حماد لم يقصد ما فهمته هو مقدرًا لاستيائي من فراس فقط، أنت أخينا والكبير بيننا ولا يتم أمرٌ إلا بمشورتك
جُل ما يشعر به هو الانتصار.. انتصار أول على خصمة الذي افتتحَ معركة جانبية كان هو أكثر من مُرحبٍ بها..
ربتَ سلطان على فخذ سالم وأعطاه نظرة راضية ليتمتم
-باركَ الله فيك يا سالم وأنت أخي ورأيك مهم لكن هذا لا يمنع أنك إن تحدثت مرة أخرى سأطردك
-لا تجعله يستفزني فقط
تدخلَ فراس بحمائية
-أنا من يستفزك أم أنك تُلقي كلامًا في وجهي ولا تعرف هل سيجرحني أم لا
النبرة التي كانَ يتحدثَ بها فراس بها شيءٌ من القهر والألم، لقد ترددَ صداها داخل صدر سالم لتلامس قلبه، وبين كل تلك الأحاديث كانت تلك الجُملة الوئيدة هي من قلبت نظراته وجعلتها تلين لهتف بعدها بهدوء واستجداء
-لم تقول هذا يا فراس؟ هل تراني سيئًا إلى هذا الحد الذي يجعلني أراكَ تتألم ولا أبالي؟!.. هل لأنني أردت مصلحتك بينما أنت لا تعرفها أكون أخًا أنانيًا؟!!..
نحا فراس وجهه جانبًا بعيدًا عن أخيه ليسترسل سالم بتلقائية
-والله يا فراس لو عرفت قدرك عندي لما فعلت هذا، أنت لم تكن أخي الصغير فقط أنت كنت ظلي، كنت تتبعني في كل مكانٍ أذهب إليه... لن أبالغ عندما أقول أنك ابني البكري وبالتأكيد أنت تشعر بهذا أليس كذلك؟... لكن منذ متى يا فراس؟!.. منذ متى ولنا سلطة على العادات والقدرة على الوقوف في وجهها؟ كانت والدتنا ربحت الجولة لكن أنت تعرف الحال الذي آلت إليه
تنهدَ فراس عاليًا وحديث سالم يضرب وترًا حساسًا جاهدَ سابقًا على كتم نزيف، فعندما يتطرق الأمر لوالدته يبدو كمن يفقد روحه رويدًا رويدًا، وضعَ عينيه بعين أخيه وأردفَ بروحٍ تزأر باستجداء
-أنا أحبها يا سالم، لا بل أعشقها وأنت خيرُ من تفهمني.. عشقك لبدور كل تلك السنوات حتى هذه اللحظة يجعلك قريبًا من شعوري.. لقد تعلّقت بها لدرجة أن فراقها أصبحَ كمن يسحب مني الروح وأنا حي بالجسد فقط، الأمر أشبه بفقدان وعيك في حُضن أمك وعندما تستيقظ تجد نفسك في القبر...
ازدردَ ريقه قاطعًا حديثه ثم أضاف بعاطفة انسلت من عينيه سهوة، وتمكنت من حروفه
-ليس ذنبها أنها من قبيلة أخرى، وليس ذنبي أنني أحببت وأنا فردٌ في أكثر القبائل تعقيدًا وتطبيقًا للعادات الجاهلية.. لا أعرف إلى متى ستكبلنا هذه القوانين وتُجبرنا على الانصياع لها
ردَ سالم بدبلوماسية
-طالما أصبحت رجلاً من تلك العائلة التي تتبع العادات ستطبقها لو على رقبتك، ستدهس قلبك بيدك وتمر عليه، ستضعه في كفن وتحمله في النعش وفي طريقك أنت لا تحيد عن الدائرة التي رسمتها لك العادات.. ستنساها وسترى غيرها وستحبها لكن لا تُعذب حالك هكذا
هزَّ فراس رأسه نفيًا وقالَ باستياء
-لقد فات الأوان على التراجع في حُبها.. ليتني لم أرها قط... وليتها لم تتعلق بي... كل ذرة حزنٍ تعصف بها الآن أنا سببها ولن أسامح نفسي
-هون عليك يا أخي أنت أيضًا تتألم لكن عليك بالصبر ربما يحدث شيء ينوّلك مرادك وقد تجد ما تختطف قلبك وتجعلك أسيرًا لها.... اصبر وادعِ ربك أن ينزع حبها من قلبك
لم يبدُ على فراس الاقتناع بكلام أخيه لكنه هزَّ رأسه بالإيجاب، فلديه محطة أخيرة يجب أن ينزل بها أولاً، وثأرًا لن يهدأ حتى يحصل عليه
-أرى أن المُشكلة قد حُلت وليس لي فائدة الآن
هتفَ سلطان في وسط الوصلة الشجية بين الأخوين، فجذبَ انتباههما إليه جاعلاً سالم ذو الملامح المتجهمة والشرسة دائمًا يقول بمرح
-البركة فيك يا سلطان كل ما فعلته هو أنك تهددني كل وهلة وأخرى أنك ستطردني
زمَّ سلطان شفتيه وأردفَ بانفعالٍ مصطنع
-معك حقًا لم يكن علي التدخل بين البصلة وقشرتها
-بصلة!!
-قشرتها؟؟!!
بالتتابع كان فراس وسالم يهتفان باستنكار لابن خالهما الذي سخرَ منهما للتو، نظرَ لهما سلطان في شيءٍ من الجدية وقالَ لسالم
-سالم اعتذر لأخيك عما بدرَ منك في حق الفتاة التي يُحبها لم يكن عليك قول هذا الكلام
ثم وجه بصره ناحية فراس وأردفَ بنفس النبرة
-وأنت يا فراس اعتذر لأخيك على علو صوتك، ففي النهاية هو الكبير... وإلى هنا ينتهي المجلس وأنتما بالذات لا أريد رؤيتكما ثانية
قام الأخوان بالاعتذار لبعضهما، أحدهما تصافى مع نفسه وتركَ الضغائن وآخر لم تخلو نفسه نهائيًا..!
-هذا إذن بما أننا انتهينا سأذهب أنا للخارج فهناك مشكلة تخص عمي محمد سأرى ما يمكن فعله
-مشكلة ؟ لا إله إلا الله ما هي؟
تشدقَ سلطان باهتمام ليُجيبه سالم بتنهيدة ثقيلة
-ما عرفته أن تاجر الأعلاف الذي يتعامل معه قد وعده بشحنة ضخمة لكنه الآن لا يرد عليه، بل قامَ بحظر جميع التجار التابعين له من التعامل معه... لا أعلم لم انقلبَ عليه فجأة
قطبَ سلطان حاجبيه وقالَ بينما يهز رأسه نفيًا
-يا إلهي كيف حدث هذا... عمك سيقع في مشكلة كبيرة مع تجار المواشي هذا العام
-نعم وأنا سأذهب لأرى ما يمكنني فعله حيال الأمر
أخبره سلطان بقلق
-طمأنني يا سالم إذا حدثَ شيء.. وأنا سأخلص أمرًا عندي و سآتي لأرى ما يمكنني فعله أيضًا
ربتَ سالم على كتفه باستحسان
-لا حرمنا الله منك يا سلطان
قالها سالم بينما يستقيم ليلاحقه فراس بدوره-وأنا أيضًا سأذهب للمنزل سأبيت هناك اليوم...
نظرَ إليه حماد متعجبًا
-منزلك؟ لم؟!!
-أمي تريدني اليوم وأنت تعرف لا أستطيع رفض لخالتك إبتهال طلبًا
أجابَ فراس وهو يحك رأسه بينما يعرف ما الذي سيتم التعليق به سلفًا، وها هو يتلاقاه من فم سلطان الضاحك
-حدث يا ابن أمك
هتفَ فراس بضيقٍ مصطنع
-أنا فقط أحترمها ولا أستطيع رفض طلبًا لها، وأنت وحماد وسالم تفعلان نفس الشيء
ردَّ سالم وحماد بنفس الوقت، يهزانِ رأسيهما لأسفل
-حدث!!
-يا إلهي الإنسان لا يستطيع الاستفادة من حنان أمه إلا ويُقال عليه ابن والدته.. تبًا لكم
تمتمَ بها فراس بينما يتوجه نحو باب الخروج، لينتاب الباقي قهقهة عالية على تذمره الواضح، بعد لحظات قليلة ألقى سالم السلام وخرجَ هو الأخر تاركًا المكان مشتعلاً بالتوتر ولو كانت النظرات لوقعا الاثنان صريعا الهوى ...
-أهلاً بالعريس
بدأ سلطان الحديث ليبتسم حماد ويُعدل من ياقة جلبابه الأبيض قائلاً بسعادة لم يُخفها
-أهلاً بك يا سلطان، أنت لا تحتاج لعزيمة ستكون أول من يحضر بصفتك ابن عم العروس وبمقام أخيها
استطاعَ حماد أن يلمح اختلاجًا في عضلته الفكية فور أن أتم كلمته الأخير، فاستطرد بابتسامة باردة وهو يضجع على المسند الخلفي بأريحية
-اااه يا سلطان لو تعلم كما كبلني حُب رابحة كل هذه السنوات، كنت قابَ قوسين أو أدنى من السير في الطرقات كالمجذوب واخبار الجميع أنني أحبها.. لكن أحمد الله أنني من سيتزوجها وها هي إرادة الله تُربت على قلب عاشقٍ مثلي
كان يتحدث بقلبه وعينيه، الجزآن اللذان لا ينضب الشعور فيهما، فالقلب يتحدث والعينُ تترجم والعقل بينهما في تشارس مُستمر
لقد جثمَ الحجر على قلبه ولم يجد مفرًا من الصمود أمام سيل العاطفة المُنبعثة من الجالس أمامه، لا يعلم لم تحرقه تلك الحروف وهي لا تخصه؟، توجعه الكلمات وهو ليس بآهلٍ لها... تستبيحه الجُمل وهو صامد، مُشتت لا يعلم أيغضب ويلكمه أم يحتضنه ويهنئه؟!!...
وفي خضم أفكاره المشتعلة تهادى إليه صوتها بنبرة القوة ذلك اليوم وهي تقف أمام العائلة وبكل شجاعة تطلب الزواج منه!!... ورغم غضبه العارم آنذاك إلا أن شعور الانتصار الخامد ثورانه في تلك اللحظة لا يُضاهيه شعور، فما باله لو ثار؟!!
نطقَ في النهاية بنبرة متوارية خلف تهنئته الباردة
-مبارك ما عندك، لكن هل تأكدت جيدًا أنها تريدك أنت؟!
رمى الصياد الماهر شبكته وانتظرَ بصبرٍ صيده، ولأنه ماهر وضعَ طعمًا يُغري طريدته، فالسمك الغاشم سيلتقطه بسهولة أما الأخر فسيرصد الحركة الهوجاء عند الشبكة فلن يقترب، وحماد لم يكن سوى رجلاً غاشمًا، لم يختبر فضيلة الصبر من قبل فالتقطَ الطُعمَ بسهولة
-ما الذي تقصده بحديثك؟ بالتأكيد ستريدني كما رأيت ذلك اليوم لقد أعلن الشيخ كامل بأمر زواجنا وأنت أكثر من يعلم أن أمره نافذ، ونصيحة مني إن أردت شيئًا فلا تختبئ هكذا تعالى وواجه
الانفعال الظاهر في ملامحه، والجاثم فوق صوته فجعله مكتومًا كان خيرَ دليل على قلة ثقته في نفسه، وكصياد ماهر التقطَ الغيرة في عينيه فارتفعَ طرف شفتيه في ابتسامة غير مفهومة تلاها كلامًا لم يقل غموضًا عنها
-وأنت سمعت بأذنك جيدًا رأي رابحة في ذلك الموضوع، لو رأيت وجها أيضًا لعلمت أنها لم ترضَ بهذا الوضع.. وأنت رجل وتفهم أنك لن تستطيع استمالة قلب امرأة يتعلق بغيرك!
استفزه حديث سلطان وقد بدأ الغضب يتملك منه، وفي غُمرة غيظه كان يهتف بنفور
-وأنت ماذا فعلت يا سيد الرجال؟ تركتها تتلقى عقابها على يد والدها، ولم تفعل شيئًا حيال زواجها مني... لذا إلى هذا الحد ستتركها لمن يستحقها ويكون زوجًا حنونًا عليها أكثر منك، وكفى حديثًا عن هذا الموضوع لأنها الآن بمثابة زوجتي وأنا رجل لا أقبل الحديث عن نسائي
لقد أصابه حديث حماد في مقتل، لا يُنكر ذنبه المُعتم هذا اليوم لكنه كان بحاجة للوقت!، بحاجة لحديثٍ طويل مع نفسه حتى يفهم مشاعرها ويقرر هل يستطيع أن يكون مع رابحة أم لا!... لو كان المجلس تأخر عدة أيام، وصمتت هي ذلك اليوم لكان الوضع تغيّر تمامًا، على الأقل لو لم يستطع الزواج بها وخانته مشاعره وهذا أملٌ ضعيف، لكان منعَ زواجها من حماد على الأقل أو أقنعها!!.
لكنها بذلك التصريح لم تُزد مشاعره إلا تبعثرًا، وضالته قد اشتدت عليه حتى فقدَ الأمل في الحصول عليها
استقامَ من مجلسه بهدوء وقالَ بينما يحاول إخفاء الحرب الشعواء الدائرة داخله بلا هوادة
-يُمكنك أن تتزوجها لكنك لا يمكنك أن تحظى بقلبها طالما يملكه رجلاً آخر... لو ظننت أنكَ بتوسلك لجدي حتى يعقد المجلس ويزوجك رابحة هذا سيجعلك رجلاً في نظرها عندما تعرف فيؤسفني أن أقول ما دمت تعرف أنها تُحب رجلاً آخر فأنت لا تهوى إلا تعذيب نفسك، وإذلالها أكثر مما هي فيه.... فاسمع نصيحتي أنا وخذها من أخٍ كبير... لو علمت أنها مُجبرة، لا .. لو أحسست فقط! سأتدخل ولن يسرك أن أكون طرفًا في المعادلة تُدرك جيدًا أنك ستكون خاسرًا وبفداحة!
صمت وهلة واستطردَ
-البيت بيتك يا حماد اعذرني فأنا لدي أمور أهم أنشغل بها
ألقى كلماته التي وقعت كوقع الحجر على حماد ورحل تاركًا إياه يحترق من فرط الغيرة....
رافعًا رأسه بشموخ يليق بسلطانٍ مثله، وتلك كانت بدايته ليُنحي شعور الخيبة الذي التفَ حوله الليالي الماضية
كان يراها في كل خطوة وهي تنظر له بعتابٍ صامت، عينيها العسليتين لا تفيضان بالشراسة المشوبة بالحنان، بل حدقتيها راكدتين كأنهما فقدا الأمل في الحياة فثبتا
*******
زفرَ بضيق ومسحَ بوجهه مستغفرًا ثم صعدَ السلالم نحو غرفته، وقبل أن يلتف يسارًا نحو الطرقة الطويلة التي تحتوي على غرف الرجال اصطدمَ بخنساء القادمة من الطُرقة اليمنى الخاصة بغرف النساء، كانت تحمل بيدها أكياسًا من القرفة والزنجبيل أزكمت أنفه
-انتبهي لطريقك
قالها بخشونة وكاد يتحرك لكنها أوقفته هاتفة على حين غُرة بنبرة بريئة تُخفي الخباثة في طياتها بينما تُسبل أهدابها بخجل
-أسفة حسبتك أخي حماد
قطبَ سلطان حاجبيه وسأل بتجهم بينما يلتفت لها
-وحماد ما الذي سيأتي به ناحية غُرف النساء؟؟
هزت كتفيها في عدم معرفة، واصطنعت التفكه وهي تُجيبه بينما تتخطاه وتنزل
-ربما أتى من أجل رابحة فهو اعتادَ على هذا منذ أن صرح الجد بزواجهما
رحلت بعد تلك الجملة بقصد، تاركةً إياه يحارب الأشباح التي تتقافز أمامه في تلك اللحظة، بغبائها لم تعلم أنها أشعلت فتيلاً لن تتوقف حرائقه، وفيض الغيرة لن يزيده إلا اشتعالاً، كانت تظن أنه سيخبر الجد ليغضب من رابحة وليتحمل حماد التقريع هذه المرة من أجلها، حتى تلفت انتباه سلطان.... لكنها لم تحسبها... فالاتساع في عينيه ليس كرهًا بل غيرة!
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romantizmأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك