قوية هي كجبال البادية الشامخة
سمراء كرمال أرضها المنثورة
وقرص الشمس العسلي يلتمع في عينيها
تمتزج ملامحها بطبيعتها الخلاّبة وتخترقها صلابتها
فلا عجبَ أنها لُقبت بامرأة الصحــــراء وابنة البادية
**********
تتواتر عليها الذكريات بقسوة ودون هوادة، وجدت عينيها تذرفان الدموع دون إرادتها وجسدها يختض من عنف البكاء، لقد فقدت أخر حقٍ كانت تحارب من أجله، لم اختيار شريك الحياة في تلك العائلة بهذه الصعوبة؟!، لم عليها أن تُهان حتى تحصل على ما تريده ويُشبع رضاها؟
لقد حاربت في كل شيء، تعليمها، زواجها وحاربت على سلطان لكنه خذلها
تشهق ولا أحد يسمعها
تنتحب ولا تجد يدًا تضمها لصدرها
تشعر بثقل في أنفاسها كلما زاد عُنف بكائها فلا تجد من يُهدهدها ويهمس في أذنها حتى تصمت.. لا تجد من يخبرها أن كل شيءٍ سيكون بخير!!
وبعد وصلة من رثاء النفس، انتقلت من الأرض الباردة كبرودة قلب أبيها إلى الفراش، ارتمت عليه وظهرها للنافذة وبقيت صامتة تسترجع عدة ذكريات تجمعها بأمها وأبيها وأختها بدور، أغمضت عينيها عندما بدأت الذكريات تندفع إلى عقلها، وكانت على وشك الدخول في نوبة ذكريات أخرى لكن حركة خلفها جعلتها تفتح عينيها باتساع وتلتفت بحدة لترى الذي يقف أمامها مُلثم الوجه وكفه يمتد نحوها
انتفضت من على الفراش وابتعدت عن مرمى يده من الصدمة، تراجعت للوراء خطوات بسيطة وهي تحدجه بشراسة هاتفه بنبرة مضطربة لم تخفِ ذعرها
-من أنت؟ وما الذي تفعله هنا؟!!
ازداد خوفها وهو يتقدم نحوها غير مباليًا، وهي تتخبط داخليًا ما الذي يجب عليها فعله؟ بالتأكيد لن تصرخ وتطلب النجدة لأنهم سيعتقدون أنها تخبئ رجالاً في غرفتها وسيقتلونها... هي لا تثق في عقولهم العقيمة التي ترمي الخطأ على الفتاة حتى لو تتعرض لمداهمة كتلك
مازالت تتراجع للخلف حتى ومضت فكرة في عقلها فقط عليها أن تصل لطاولة زينتها، والأمر لم يأخذ سوى ثانية واحدة حتى التفتت بظهرها تبحث عن شيء وتُمسك به ثم تقف معتدلة ثانيةً أخرى تلك المرة لم تكن خائفة
لوّحت بمبرد أظافرها في وجهه وأخبرته بقوة
-إن اقتربت خطوة واحدة سأفقأ عينك افعلها إن كنت مستغنيًا إحدى عينيك
ابتسمَ الرجل من خلف اللثام لشجاعتها، ولُيثبت لنفسه شيئًا كان يُقدم رجله اليمنى خطوة، والابتسامة الماكرة لا تزال تزين شفتيه بينما هي لا تراها، فقط ترى عينيه الباسمة فقط!
وقد صدقت!
بغتة كانت ترفع يدها عاليًا ممسكةً بكل قوتها بالمبرد وفي نيتها أن تحط في تجويف عينه لتخرقها نهائيًا، حركة متهورة وشجاعة تخرج من امرأة تدافع عن نفسها ولا تخشى شيئًا
ولكنـــه لم يكن غرًا هو الأخر، فقبل أن تدب المبرد في عينه كان يمسك يدها بقوة حتى لا تُقدم على فعل شيء وباليد الأخرى كان يزيل اللثام عن وجهه
-حماد؟!!
قطبت حاجبيها واسمه ينسل من بين شفتيها بلا مقاومة ووعي، لكن سرعان ما تحولت ملامحها لغضب جامح عندما أبصرت الوضع الذي هما فيه، أبعدته عنها بقسوة ثم رمقته بسهام مشتعلة من قوس عينيها وأردفت بغضب وصوتٍ خفيض بعض الشيء حتى لا يسمعه من بالخارج
-ما الذي تفعله هنا يا حماد؟؟ هل جننت تريد أن يُكسر عظمي هذه المرة؟!!... اخرج ولا تريني وجهك ثانيةً
لم يأبه بطريقتها الفظة واقتربتَ أكثر يهتف بنبرته الرزينة المعهودة
-لن يستطيع أحد الاقتراب منكِ يا رابحة طالما أنا أتنفس، أما بالنسبة لما أفعله هنا؛ فلا أظن أنني بحاجة للإجابة على هذا السؤال يا زوجتي..
زوجتي؟!!
رنت الكلمة في أذنها عدة مرات قبل أن تستوعب ما قاله للتو، هل ناداها بزوجته حقًا؟ يا إلهي هذا البأس العاشق ستستغله أسوأ استغلال على هذه الكلمة الزنخة
أطلقت ضحكة أنثوية قبل أن تُشير بيدها عليه وتتحدث
-هل حقًا تصدق نفسك يا حماد؟؟.."زوجتك" ألهذه الدرجة وصلَ بك الأمر لأن تقتحم غرفتي وتأتي لنتسامر قليلاً قبل الزواج كما تدعي؟؟
صمتت قليلاً ورفعت اصبعها لرأسها كأنما تطرق في التفكير وأردفت بتساؤل ساخر
-لكن يا ترى ماذا لو دخلَ علينا أبي الآن؟؟ هل ستقف أمامه وتخبره أنني زوجتك أم أنك ستصمت كما حدث في الأسفل وتتركه ليضربني؟!
كل كلمة كانت تنطقها يكون لها أثرًا على عينيها، فتزدادان قتامة وفمها يلتوي باشمئزاز، لقد تركوها جميعًا في الأسفل ولم يدافع عنها سوى والدتها وجدتها، وستشكر لاحقًا عمها وفراس الذي تنمرَ عليها صباحًا..
الوغد سالم لم يتحرك انشًا بل أنها لمحت شبح ابتسامة شامتة على شفتيه، وبدور... شقيقها!!! لم تتحرك خطوة للدفاع عنها بل قبعت مكانها كالغريبة خذلتها كما تفعل دائمًا، لم تتغير بدور بل أصبحت أكثر أنانية مما كانت عليه في الصغر!
وسلطان!!... أه من خذلان سلطان قلبها لها..
لقد شعرت بألم الصفعات في اللحظة التي تلاقت فيها عينيها بأعين سلطان الغامضة التي يحفها الغضب..
طالَ صمتها الحزين وامتزجَ مع صمته الخجل، نظرت له ووجدته يهرب بعينيه عن مُقلتيها فارتفعَ طرف شفتيها في ابتسامة ساخرة وأطبقت ذراعيها لصدرها لتقول بنبـــرة متعالية، شامخة لم يشبها عطب المذلة بعد
-قبل أن تأتي وتتبجح بكونك زوجي.... انضج أولاً ... لا تزال صبيًا بعد يا حماد لا تعرف كيف يتصرف الرجال في المجالس ...
أشارت بيدها في لا مبالاة واضحة واتجهت بخطىً واثقة نحو الفراش لتجلس عليه وتضع قدمًا على قدم في ثقة في حين تستطرد
-وللحقيقة لم أرَ رجلاً يتصرف بشجاعة مثلي، وأعتقد أنني لن أرى طالما جميعكم تابعون لا تفكرون إلا بعقل الشيخ كامل، هل سينزل معك القبر؟ هل سيتحمل الحساب من أجلك؟؟ لا أعتقد لأن الله تعالى قال "لقد جئتمونا فرادا كما خلقناكم أول مـــرة" سورة الأنعام آية 94
أنهت كلامها مُذيّلة حديثها بآية من القرآن أفحمته وجعلته غير قادرًا على النطق لثواني معدودة، لكنه لم يستسلم فأجلى حلقه قبل أن يهتف بصدمة تشكلت على ملامحه
-ألا ترين أنه من الوقاحة أن تتمني دخولي القبر؟ وما علاقة جدك؟؟!! ... ما الذي جاءَ بهذا الآن؟
قامت من مجلسها واقتربت منه حتى أصبحت تقف وجهًا لوجه معه، كانت كالند بالند وعينيها تطلقان الشرار من القهر، بينما هو يقف بلا قوة، مُباغت من هجومها الشرس
-ألن تجبرني على الزواج منك وأنت تعلم تمام العلم أنني لا أحبك وعاشقة لغيرك؟... ألن تشعر بإهانة وأنا أعيش معك مكرهه وهذا لأنك ترضي الشيخ فقط؟؟ ... هل ترضاها على رجولتك؟
كانت تلك المرة الأولى التي تصرح أمام أحدٍ غير جدتها أنها تحب سلطان، وليتها قالت حبًا بل أقرت بالعشق الذي تحمله بين طيات فؤادها، فما إن يُذكر اسمه من بعيد يتعالى وجيب قلبها... فقط لو يعرف ما تضمره له، لخرَّ أمامها طالبًا السماح عن لياليها الفردية دونه، لا تجد سلوى إلا في مُنجاة القمر
تملكَ الغضب منه، واندفعَ بحمائية داخل شرايينه يطرق بقوة في جدرانها مرسبًا الحقد، والغيظ، أمسكَ ذراعها بقسوة بالغة ومالَ على أذنها هامسًا بأنفاسٍ مشتعلة، شعرت كأنها نفحات من شظايا نيران حارقــة
-سلطان!!... أليس كذلك؟؟؟، اليس هذا من تحبينه ووقفتي أمام الجميع وأعلنتِ برغبتك في الزواج منه بكل قلة حياء؟؟؟ ... لكن ماذا فعلَ حبيب قلبك؟
تصنعَ التفكير ثم أكمل بصوت كفحيح أفعى
-لم يفعل شيئًا ولم يحرك ساكنًا، بقى وشاهدك واستطعت أن أرى إمارات الشماتة ترتسم على وجهه، هل تعرفين لماذا؟؟ لأنكِ غبية ولا تجيدين الاختيار، تعتقدين أنكِ ستأخذين كل ما تريدينه بطول لسانك وتمردك الأهوج... لكن لن تجني يا رابحة سوى البكاء والندم
استقامَ في وقفته ليجد ملامحها تغيرت إلى التجهم والامتقاع فأدركَ تأثيره عليها والتخبط التي مارسته كلماته عليها، تركَ ذراعها بقسوة ثم هتفَ بشماتة
-جربي أن تكوني مطيعة مرة في حياتك ولن تقعي في المشاكل بل بالعكس ستتجنبك ما دمتِ لا تنبشين عنها
-أنت حقير مثل أختك تمامًا، لا سيما أنكما أشقاء
بصقت الكلمات في وجهه وارتسم على ثغرها إمارات الاشمئزاز، بينما هو زوي بين حاجبيه في غضب وهدرَ أمام وجهها
-هل تجرؤين ؟
-وهل يجرؤ أحدٌ غيري؟؟... أنا من اخترعت الجراءة وأنتم من استخدمتموها استخدامًا خاطئًا
عسليتيها مقابل سوداويه الضيقة، شموخها مقابل قسوته.. وجراءتها تكتسح المكان، تقف أمامه متخصرة وعلى وجهها نظرة انتصار .. ومن غيرها يفعل؟
رابحة ...
قوية النفس، مُلئت صراحةً وثباتًا، راسخة المقام وميّاسة القوام.. ها أنتِ تفوزين في معاركك واحدة تلو الأخرى مُخلفة غبار نصرك يعمي عين الخاسرين
********
وفي الأسفل
كان الجد يجلس بين زوج ابنته سعيد و أحفاده سلطان وفراس وسالم، الجميع في تأهب وترقب لما سيقوله فراس، أعين الجميع ترتكز عليه ولا سيما عين الجد الغامضة، في ظاهر الأمر تنتظر وفي باطنة هي مُلمة وعارفة بما سيقوله فراس..
ظلَّ فراس مترددًا لا يعرف ما الذي من المفترض أن يقوله، هل يخبره صراحةً برفضه للزواج من خنساء لأنه مرتبطًا بأخرى ليست من القبيلة أصلاً؟.. لا هذا مبتذل وبه بعضًا من البجاحة، سيدك رأسه في الأرض بعصاه قبل أن يُخبره حتى، حسنًا... هل يرفض الزواج من خنساء فقط ويهرب مع بنون؟، أم يقول صراحةً " جدي أنا لست فتاةً لتزوجني... أنا لن أتزوج خنساء وسأتزوج من بنون" وحينما يسأله جده عن كنية بنون سيخبره أنها حفيدة سليمان كبير السليمانية، وسينتظر إما أن ينتهي الأمر بعرس أو بدمائه المتناثرة أرضًا، أم....
قطعَ تفكيره وتخبطه صوت جده الصارم
-هل هي فتاة السليمانية ؟؟
تحوّلت الأبصار من فراس إلى كامل في انشداه، كان أكثرهم صدمةً فراس، الذي ما إن لمحَ نظرة جده الغير مفهومة، وبتلعثم أردف
-ك كيف عرفت يا جدي؟؟!!!
-كيف تجرؤ يا فراس
فالها سعيد بصدمة بالغة ترجمتها حواف عينه المتسعة
طرقَ كامل بعصاه أرضًا وهو يُجيب بتجهم مثبتًا نظره على بقعة ما أمامه
-كنت أحسبك ذكيًا يا فراس وأن أمر هذه الفتاة لن يتجاوز بضع مقابلات.. لكن أن تأتي لتطلب مباركتي الزواج صدمتني حقًا
تبادلَ الثلاثة النظرات في وجل، فراس في دهشة جمةً، وسالم يهز كتفيه في قلة حيلة وعلم، وسلطان يرفع حاجبيه لاويًا شفتيه كأنه يقر بقدرة الجد على معرفة الأمر
-جدي.. أنا أحبها يا جدي وأريدها، ليسَ فقط أنني أتسلى أو شيئًا من هذا القبيل، ليس أحفادك من يفعلوها .. أنا عاشق لتلك الفتاة وأريدك أن تقف بجانبي، سأ..
نطقَ فراس لكن قاطعه كامل بجمود، مُقلتيه تحركتا من النقطة الثابتة إلى وجه فراس المضطرب، يرى في حفيده خوف الصبا وعشوائية الشباب، وهو يريده رجلاً ذو بأس الصحراء وقسوة قفارها
-اخرس يا فراس، لا تُسمعني صوتك حتى يوم زفافك الأسبوع القادم ... وإلا لن ترى مني وجهًا طيبًا
حمحمَ سالم في المجلس وقد فضلَّ التدخل
-اعتذر لجدك يا فراس الآن وأخبره أنك ستنفذ كل ما يقوله هيا
-سالم!!
كان هذا صوت فراس المستجدي، فأكمل سالم دون رأفةً بأخيه
-أنت تعرف عاداتنا جيدًا نحن لا نتزوج من خارج القبيلة حتى لو صُلبت قلوبنا على الجبال.. العادات يا فراس.. العادات، فالرجل دونها بلا شرف ولا شكيمة
همهمَ كامل باستحسان لسالم
-لا فضَ فاكَ يا سالم، سلمت يا خير من أنجبَ سعيد
قالها كامل وربتَ على كتف زوج ابنته الجالس بجانبه في وقار لا يقل عن وقاره
راقبَ سلطان الوضع صامتًا، ولا يعرف لماذا كره سالم في تلك اللحظة، فالأخ يجب عليه مساندة أخيه حتى لو كان مخطئًا، فينصحه لكن هذا!!، لقد تكالبَ عليه مع الجد فقط ليظهر حُسن نواياه له، وسيره على الخطى التي رسمها أجدادهم
-سالم فلتقل خيرًا أو لتصمت
لكزه كامل بالعصا في فخذه ليهتف سعيد بغضب قد تملكَ من تقاسيمه المجعدة ذات الخبرة العريقة
-تحدث مع أخيك الكبير بأدب يا فراس.. لقد تجاوزت حدودك اليوم وكلمة أخرى من هذا القبيل وسأتصرف معك مثلما فعلت مع ذيّاب
وعلى ذكر اسم الأخير تملكَ جسد فراش رعشة دبت في أنحائه والتقمت معظم الأمل الذي كان يتشبث به ليقنع جده، التفتَ إلى أخيه وقالَ بنبرة مُدمرة، ومقهورة
-هل لو كانت بدور من قبيلة أخرى وأحببتها ألم تكن لتحارب من أجلها؟؟؟
بهتَ سالم للحظة وأصابَ التنميل جسده، واتسعت عيناه وجمدت ملامحه كل هذا حدثَ في غمضة عين قبل أن يُسبل أهدابه ويُجيب ببرود
-لا.. كنت سأتركها لصاحب نصيبها وأتزوج فتاة من قبيلتنا
-أنتَ ليس لديك نخوة
انبثقت الجملة من فم فراس دون رجوع، ولم يكد يُنهي أخرها حتى تفاجئ الجميع بصفعة تحط على صدغه الأيمن وبكل قوة من كف سعيد، الذي لم يكتفِ بالصفعة بل هدرَ أمام وجه ابنه قائلاً
-كيف لك أن تخاطب أخيك الأكبر بهذه النبرة الوقحة، بل وتشكك في رجولته وهو سيد الرجال، يكفي أنه لا يكسر كلامًا لجدك وليس مثلك يقف ويتغنى بأشعار الحب... منذ متى هااا؟؟؟.. منذ متى ونحن الرجال نحب ما ليس لنا؟!!
ورغم الألم الناشب في قلبه قبل وجهه، والذل الذي تلقاه على يد أبيه أمام جده وابن عمه الذي حالَ بينه وبين أبيه في التو، وأخيه الجالس دون فعل شيء.. تكلمَ فراس بقهر وهو ينظر في عيني والده بوجع
-أنت فعلت يا أبي.. عندما تزوجت أمي وهي لا تحبك بل تحب أحدًا آخر
رفعَ سعيد يده ليصفع ابنه مرة أخرى لكن سلطان أبعده عنه ودفعه للخلف برفق
-اهدأ يا عمي اهدأ.. وأنت يا سالم خذ فراس واخرج من هنا
التفتَ سلطان لسالم وحدثه، فقامَ الأخير على مضض والتقطَ ذراع أخيه في قبضته ثم سارَ به للخارج بعدما استأذن الجميع، بينما فراس يتبعه بصمت والكلام الذي انسابَ من فمه صنّمه وجعله غير قادر على مقاومة قبضة أخيـــه
-فراس لم يقصد يا عمي هو فقط مشتت بسبب تلك الفتاة، ولا تنسَ أن سالم هو الأخر استفزه ووضعَ رأسه ندًا بند لرأس أخيه ولم يعمل حسابًا أنه الكبيـــر وأنه عليه التصرف بحكمة مع أخيه الأصغر.. حدثه أنت فقط بروية وسيعدل عن رأيه
قالَ سلطان برزانه وهو يُهدئ زوج عمته الذي استشرست ملامحه إزاء ذكر أمر زواجه من ابتهال "زوجته"، لقد داس ابنه على وتره الحساس الذي لم ينصلح حاله ولم يندمل جرحه بعد، والكارثة أنه كان يقصد فعل ذلك
نظرَ سعيد لكامل الذي بادله النظرات بإيحاء إيجابي كأنه يخبره " أنت لم تخطئ في شيء" وبالفعل، لو عادَ الزمن بكامل سيزوج ابتهال ابنته من سعيد مرة أخرى ولن يزوجها لهذا الذي كانت عائلته مزيجًا بين الهاشمي وقبيلة أخرى، فهي كابنة الشيخ ولن يسمح بخلط دماء أولادها
-اجلس يا عمي
أشارَ سلطان لكن سعيد نفى برأسه قائلًا
-لا سأذهب عندي أمور أحلها وولدًا كنت أحسبه رجلاً سأعيد تهيئته
فركَ سلطان عينيه وأخبر نفسه في سره" جميع العائلة تحتاج للتربية من أول وجديد، يا إلهي.... أنا أتعامل مع منظومة فاسدة هنا"
عادَ للجلوس أمام جده وأخذَ نفسًا عميقًا بينما عينيه تراقبان سعيد الذي يميل على جده هامسًا بشيء والجد يرد بنفس الهمس ثم يستقيم ويُلقي السلام عليه ويتجه للخروج بعدها... تلك الحركة لم تريحه بتاتًا
التفتَ برأسه لجده الذي جذبَ انتباهه بقوله
-أخبرني ما الذي حدث في خيمة عبد العزيز... كلي شوقٍ لأسمع
********
عيناه كشيطان مغوي وأنا ضعيفة الإيمان مُنساقة خلفه
جلست ياسمين في الخيمة الواسعة على المساند الأرضية ذات ألوان الغروب الرائقة، نظرت لنقطة أمامها في الفراغ وثبتت ناظرها نحوها وطفقت تفكر وتستعيد في ذاكرتها ما حدث على يد المتطفل الذي سلبَ لُبها في الأيام الماضية ولم يعد!
أخرجت زفيرًا مثقلاً من بين شفتيها المصبوغتين بلون نحاسي أضاف على وجهها الأبيض رونقًا وجمالاً فوق جمالها الخلاّب، ونظرت للإسورة التي تحتضن معصمها بحميمية ، أم أنها هي الوحيدة التي لاحظت أنها تليق بها كأنها صُنعت خصيصًا لها
ودون أن تدري كان شبح ابتسامة هادئة وخجلة يرتسم على شفتيها، وما إن انتبهت حتى أخفتها سريعًا بين طيّات اضطرابها... لكـــن سرعان ما ارتسمت ابتسامة أعرض من سابقتها عندما تذكرت ما حدثَ ذلك اليوم، وها هي تُعيد تلك الذكرى للمرة التي لا تعرف عددها، كأنه تركَ بها بصمة صعب أن تُمحى
.....
عادت أدراجها عندما لمحت ذلك الغريب يدخل إلى خيمة والدها ويبدو عليه الأريحية التامة كأن يعرف والدها منذ سنوات وهي لأول مرة تراه؟!!
دلفت على مقربة من مدخل الخيمة وترددت في الدخول ماذا إن علم أنها تفعل هذا من أجله؟، هل سيلاحظ أم أن تلك الثواني المعدودة التي تلاقت فيها عينيهما لم تُمثل شيئًا بالنسبة له وليس كما رجتها من الداخل وأقامت حربًا شعواء؟
في النهاية اتخذت قرارها وفتحت قماش الخيمة الثقيل ودخلت تحت أنظار والدها المتسائلة والضيف الساكن دون أن ينظر نحوها أو يعطيها اهتمام لدخولها المندفع
"هل حدث شيء يا ياسمين؟؟ خرجتِ للتو!!"
بقى سلطان على ملامحه الجامدة ولم يُظهر تلذذه باسمها،" ياسمين" نطقها داخله كأنه يلوك الاسم في فمه لكنه كان أنعم من أن يقبع على فم رجلٍ خشن كسلطان
أجابته ياسمين بنبرة ناعمة وهادئة تخفي ارتباكًا بين ثناياها
"وجدت الجو حار للقيام بنزهة في المكان، ربما ليلاً"
قالت جملتها وذهبت للجلوس في أبعد نقطة مقابلة لهم، ولكنها تظل كاشفة لمرادها
"لقد عرفت سبب مجيئك يا سلطان من أول وهله لكن عذرًا لا مكان شاغر لدي لك"
ارتفعَ طرفا شفتي سلطان في ابتسامة بانت ساخرة تحمل كل مكر العالم أجمع، وهذا قبل أن يقول موضحًا
"ومن قالَ أنني أريد مكانًا شاغرًا فأخذه... أنا أريدك أن تصنع لي هذا المكان"
قطبَ عبد العزيز حاجبيه وترجمَ تساؤله علنًا مترقبًا
"لم أفهم؟"
"أنا لن أعمل لديك كما كان يفعل عمي بل أريد مشاركتك"
ألقى سلطان النرد في حجر عبد العزيز بكل دهاء ودون مواربة أو تواري لحديثه، كان واضحًا وصريحًا مما جعلَ الأخر يفغر فاهه بدهشة من جراءة الجالس أمامه
هل يعلم أنه من قتلَ عمه رميًا من جبلٍ شاهق، ويتخابث عليه مدعيًا عدم معرفته؟، أم هو شاب أهوج ساذج، أتى لجحر الثعبان بقدمه ويتضرع لله ألا يلدغه
لكــــن الاحتمال الثاني كان أقرب له من الأول، فلو كان يعرف بما حدثَ فبالتأكيد كان ليأخذ ثأر عمه ويسفك دماءه، فهو يعرف عادات البدو جيدًا في الثأر ولا يغفل عنها
ورغم أنه يرى في سلطان الذكاء والدهاء رجحَ الاحتمال الثاني وهذا ما جعله يتمتم بسخرية للجالس بترقب أمامه لا ملامح لأي مشاعر تبدو على وجهه
"ألا ترى أنك جريءٌ بعض الشيء لتأتي وتطلب العمل معي!!... وأنت تعلم تمام العلم أنني لن أكرر الخطأ مرتين"
حافظَ سلطان على برودة ملامحه بصعوبة جمّة، فالحديث قد اتخذَ منحنًا آخر ومسَّ عمه الحبيب، ولولا اتفاقه مع جده لكان ارتدى حزامًا ناسفًا وفجرَّ الخيمــة بمن فيها
رفعَ سلطان حاجبه باستنكار، ونحى كل مشاعر البغض والكراهية جانبًا قبل أن يهتف بتساؤل
"ولم لا تقل أن حظك لم يكن جيدًا في المرة الأولى؟!!.. ربما مرتك الثانية تُربحك الجولة"
"ومع نفس السلطان؟"
أشارَ عبد العزيز بحديثه لتشابه الأسماء، ليبتسم سلطان حتى ظهرت أسنانه
"نعم وحتى نفس السلطان، أنا أريد أن أفك عقدتك من الاسم"
"تثرثر كثيرًا وإلى الآن لم أرَ ما منك سببًا يجعلني أفكر في مشاركتك، إن لم يكن لديك شيئًا تقوله سوى تلك التراهات فاعذرني أنا لدي عمل"
للمرة الثانية يستفزه، ويستحث غضبه في الصعود تدريجيًا من شظية إلى مراجل، وهو يكبح نفسه بصعوبة عن دق عنقه احترامًا لوعد جده... تبًا لذلك الوعد
ألقى سلطان نظرة خاطفة على ياسمين التي ما إن بصرت مُقلتيه تنظران نحوها حتى حادت ببصرها بعيدًا عنه في ارتباكٍ واضح وتصنعت الانشغال في هاتفها، التفتَ سلطان وما زالت بقايا ابتسامة مستفزة على شفتيه ليتلقى تساؤلاً غليظًا من عبد العزيز وعلى وجهه إمارات الغضب
"ما الذي تنظر إليه؟"
"عملي!!"
أجاب سلطان بتلقائية شديدة لم يجنِ منها سوى اشتعالاً في عيني عبد العزيز فأسرعَ بالشرح
"ألم تأتي إلى هنا بابنتك هربًا من طليقتك التي مازالت على قيد الحياة، و...."
"اصمت"
قطعَ عبد العزيز حديثه بغلظة ليُكمل سلطان وهو يقترب منه هامسًا أمام وجهه
"لا تقلق أنا لن أفشي سرك"
يا إلهي ... هو يعرف سره!
يعرف أنه طلّقَ زوجته ونفاها إلى الخارج، ثم أخبر ابنته أنها ماتت في حادث سيارة مأساوي أدى إلى احتراق سيارتها وتفحم جثتها!!... لم يكن غرًا أحمقًا كما ظن
أردفَ بصوتٍ متهدج
"ما الذي تريده؟"
"أخبرتك أريد العمل معك وبمقابل مُجزي"
تلهفت مسامع عبد العزيز ليستطرد سلطان مطمئنًا
"سأتكفل بحماية ابنتك هنا في منطقتنا وتحت اسم قبيلة الهاشمي فيما أنا وأنت سنعمل سويًا... "
حاولَ عبد العزيز أن يظهر بمظهرٍ جامد لا يتأثر لكن رجفة جفنيه واضطراب حدقتيه أخبرتا سلطان أنه يسير على الطريق الصحيح
"لماذا تفعل كل هذا"
"أنا أنتقي شركائي وأنت بدوت مناسبًا لــي للعمل الذي أعمله"
أمالَ عبد العزيز رأسه في تشكك ليومئ سلطان مُجيبًا بنبرة خافتة
"نعم ... تجارة السلاح"
********
-بارك الله فيك يا سلطان... أسد يُعتمد عليه لا عجبَ أنك تشبهني
أردفَ كامل في استحسان ليُجيب سلطان
-بتوجيهك يا جدي... لكن لدي تغيير بسيط فيما سنفعله
تنبهت حواس كامل لسلطان الذي لم يطل صمته وأجاب
-أريد أن أسلبه كل شيء وبعدها أتركه هو وابنته لطليقته وأخيها الذي يعمل في المافيا، سيكون خير عبرة
طرقَ كامل بعصاه في رفضٍ واضح وأجابَ بصرامة
-الفتاة نعم، لكن عبد العزيز فلا... ستقتله بيدك يا سلطان وإلا نحي جانبك عن الأمر وسأطلب من...
قاطعه سلطان قائلاً بنبرة دبلوماسية هادئة رغم ما يعتمل داخله من غيظ لكونه يعرف ما سيقوله جده مسبقًا لاقتراح سالم للأمر
-كان مجرد اقتراحًا يا جدي.. ونحنُ هنا سنكون قد أخذنا بثأرنا وأكثر، دعني أخبرك أنه الآن يتمنى لو طلبت ابنته للزواج فهو يعرف مقدرتي جيدًا على حمياتها فلا تقلق... خطتي تسير جيدًا
- لو فقط أراه هذا الحقير الذي حرمني ابني
نطقَ كامل في قهر، ليتمتم سلطان هو الأخر بينما يتلبس ندبته التي خلفها ذلك الشجار الذي دافع فيه عنه عمه
-سنفتص منه يا جدي أعدك ولا تقلق... اترك الأمر لي
حلَّ الصمت أرجاء المكان، وبقى كلاً منهما غارقًا في ملكوته وتفكيره، كامل عقله لا يهدأ ولا يكل عن ابتكار طرق لموت قاتل ابنه، وسلطان يُفكر في العينين الحزينتين التي تلقت ضربًا مُبرحًا وخذلانًا عظيمًا
تنهدَ بثقل يجثم على صدره، وعيناها لا تفارقان مخيلته، نظرتها وهي تتلقى الضربات نحوه كانت بمثابة صرخة استجداء.. وهو كان أصم امتنعَ عن الإجابة ولا يعرف لماذا!!
نادى جده جاذبًا انتباهه من شروده قائلاً
-اترك لي أمر الأراضي المتعلقة بالعائلة يا جدي... لا تشغل بالك بتلك الأمور سأتولى أمرها
زوى كامل بين حاجبيه وأردفَ بنبرة متشككة
-أول مرة يا سلطان تطلب مني هذا الطلب، لطالما أخبرتك مراراً أن تتولى أمر الأراضي التي تخص العائلة لكنك كنت ترفض.. ما الذي تغير؟
أجاب سلطان بمواربة وسوداوتيه تغيمان بأمواجٍ متلاطمة من التوعد
-أريد ذهنك صافيًا للأيام القادمة، وهذه الأشياء الصغيرة يمكنني توليها
أطلقَ كامل ضحكة عالية علمَ سلطان مفادها أنه لم يصدقه، لكنه لم يلقِ بالاً بل اتسعت ابتسامته بقول جده
-حسنًا يا سلطان أنت أدرى بحالي
هزَّ رأسه في أخر كلمة ليشاركه سلطان الضحك بمكر والنظرة التي في أعينهما توحي بالكثيـــر..
أخرجَ سلطان هاتفه ناويًا على شيء لكــــن صرخة من الخارج وبكاء عنيف لوالدته جمده وجعله يعيد هاتفه مرة أخرى لجيبه في حين وجدَ جده يهتف
-يبدو أن ضيفنا قد حل
ضيقَ سلطان عينيه باستفهام واضح، وتبعَ جده الذي استقامَ متجهًا للخارج
خطا خطوات بسيطة للخارج ليُبصر منظرًا جعلَ قلبه ينتفض لوعة وشوق، وقلبه الذي لا ينبض إلا لضخ الدم ينبض لشيءٍ آخر وهو الحنين الجارف لرابطة لا تُكســـر
أجبرَ قدميه على التحرك والتقدم نحو والدته وأخيه الصغير "عدي"، سمعَ والدته تُتمتم من بين بكائها وهي تحتضن جسد ابنها الذي فاجئها بحضوره بعد غياب جافي
-يا حبيب أمك لقد اشتقت إليك يا عدي.. يا حبيبي ... يا قلبي كيف هانت عليك أمك يا عدي، كيف استطعت الابتعاد كل هذا الوقت
شهقت بانتحاب ودفنت وجهها أكثر في عنق ابنها، وواصلت البكاء العنيف، ثم انتقلت إلى رأسه ويده تقبلهما ثم تعود لتقبيل جبينه ووجنتيه بينما تهتف من بين كل هذا
-المكالمات الهاتفية لم تسمن ولم تغني عن رؤيتك يا غالي... لقد انفطرَ قلب أمك عليك يا حبيبي لا تفعلها مرة أخرى ... لا تقتل والدتك وهي على قيد الحياة
انتفضَ جسدها من حدة المشاعر التي داهمتها في تلك اللحظات المؤثرة، لقاء ولدها بعد سنواتٍ من الفراق بسبب حكم قبلي كرهته في كل لحظة عاشتها، ولكــن الآن ابنها قد عادَ لأحضانها مرة أخرى سالمًا غانمًا وقد استردت روحها مرة أخرى...
بدلاً من جلوسها في ساعات الليل الأخيرة قبيل الفجر تسأل نفسها، هل تناول الطعام؟، هل هو مريض؟!، هل اشترى ملابس جديدة ... هل يشاهد فلمه المفضل؟... هل وألف هل تتواتر على عقلها بلا هوادة لا ترحم عقل أم لا يهدأ وقلب مكلوم لا يتوانى عن الانتفاض حزنًا
أخرجته من حضنها كرهًا، وأمسكته من ذراعيه تنظر لملامحه التي اشتاقت لها بشدة، تتأمله بلهفة هل اكتسبَ وزنًا هل تغيــّرت ملامحه وكبر في ظل الثلاث سنوات غياب أم لا؟!
في النهاية استطاعت أن تخرج بعض الحروف من شفتيها وشكلّت جملة متقطعة من النحيب
-هل أنت بخير يا عيني؟... هل تتألم من شيء؟!!. أرجو ألا تتألم أنت ..أعطني وجعك يا عدي سأتألمه كله ولا يصيبك منه نطفة يا بني
-وحدي الله يا أم سلطان هو الآن أمامك بخيـــر ولا ينقص شيء
كان هذا صوت سلطان الذي صدحَ معلنًا تواجده في ظل الأجواء الحزينة، والبكاء الذي غشى أعين الجميع، عمته وبدور وجدته فاطمة التي انتشلت عدي من بين ذراعي والدته بشق الأنفاس واحتضنته بقوة ماسحة على رأسه بحنو مُتمته ببعض الأدعيـــة كعادتها
انتقلَ عُدي من بين ذراعي جدته إلى عناق دافئ مع والده الذي افتقده بشدة، رجال هذه العائلة بأسهم يمنعهم من البكاء، فقد اكتسبوا من الجبال قسوتها ومن الرمال دهائها، لكن غانم كان أكثرهم عاطفةً فانسلت من عينيه الدموع وارتسمَ على شفتيه ابتسامة حانية ترحيبًا واحتفاءً بقدوم ولده الصغير الذي تحدى الجميع لأجل نفسه!
-اشتقت إليك يا أبي...
-لم تمر لحظة لم يداهمني فيها طيفك أمامي يا عدي
أنهى غانم كلامه بابتسامة لا تقل دفئًا عن السابقة، وحدقَ في وجه ابنه طويلاً، ثم عادَ لاحتضانه ثانيةً في عناقٍ أطول... وأعمق بين الأب وابنه
مشاعر الآباء مُبهمة، وغير مفهومة مادامَ لم يحدث شيء تبقى أحاسيسهم في مكنوناتها لا تظهر أبدًا
لكـــنهم أعمق اشتياقًا، وبكائهم قهر...
وصلَ أخيرًا عدي لأخيه، وقفَ أمامه ونظرَ داخل عينيه بامتنان بالغ وسعادة خفية، من يراهم يظن أنه اشتياق سافر ولا أحد يعرف ما الذي يحدث بين الأخوين، ما الذي أقدمت عليه الرابطة التي لا تُكسر!!
-أنرت بيتك يا أخي..
هتفَ سلطان وفتحَ ذراعيه لأخيه الأصغر، الذي اندسَ سريعًا بينهما، فيغلق عليه سلطان بحماية كأنه ابنـــه وليس شقيقه
-شكرًا لأنك أخي وكل شيء يسير في حياتي بسببك بعد الله
ربتَ سلطان على كتفه في محبة قبل أن يبتعد عنه، ويتقدم عدي من عمه محمد ويقف أمامه يحدجه بغرابه، ومن نظرات محمد لم يشعر عُدي بالارتياح بل أحسَ أنه لم يحب وجوده، ويسأله بعينيه " لم أتيت بعد كل تلك السنوات؟"
-حمدًا لله على سلامتك يا عدي.. أنرت المنزل
سلمَ عليه يدويًا ولم يكلف نفسه عناء عناقه، بل جمود وجه أخبرَ عُدي قبلاً بعدم رغبته بوجوده... كأنه سيقتنص منه شيء!
ومعاذ الله أن يقبل عُدي على نفسه ما لا يخصه.......
سلّمَ على البقية، احتضنَ سالم بجفاء وعينه ترسل له شرارًا مدويًا ولم يقابله سوى نظرات البرود من الأخر كأنه يعلم خطأه ويُكابر في الاعتذار، رأى فراس يقف بجانب أخيه التجهم يظهر على وجهه لكن ما إن أبصره حتى تهللت أساريره واحتضنه بقوة وشوقٍ بالغين.. وعمته ابتهال أيضًا التي كانت حاضره احتضنها وهي بدورها بثت لها أشواقها تجاهه بتقبيله والدعاء له.. كذلك سلّمَ على سعيد لكن بحذر فهو يراه مثل شخصية عمه محمد وأسوأ
ثم بعدها شفهيًا ألقى التحية على بدور ودلال، وخنساء ووالدتها
وجاءت تلك اللحظة التي تخوّفَ منها عدي طوال الطريق لقدومه، اللحظة التي سيقف فيها أمام جده وجهًا لوجه بعد كل تلك السنوات..!
لا يعرف ما هي الملامح التي تغشي وجهه لكنها بالتأكيد ليست السعادة أو اللهفة، ربما رهبة!.... بغض!... قلق!...تحفــز!
هل يبادر باحتضانه؟ أم يكتفي بالسلام كما فعلَ مع عمه محمد؟... لم يسعفه عقله في تلك اللحظة وزاغت عيناه تخبطًا وشفتيه ترتجان بعنف فما سيخرج من فمه لن يكون سوى شيءٍ من اثنين... سلامًا... أو لعنة!
-أنرت منزلك يا عدي... مرحبًا بعودتك يا غالي يا ابن الغالي
تولى الشيخ دفة الحديث، وبدأ هو مُرحبًا بحفيده في منزله، مما شجعَ عُدي على التقدم وتقبيل يده ثم احتضانه بكل ترقب وحذر وحساب!!
طوقته يد كامل اليمنى بينما يُسراه تقبض على العصا، ورغم لهجة الترحيب القاتمة، إلا أن عُدي لم يشعر بالارتياح... ليس وكأن هذا منزله وهذا جده!!
كم تغيّر المنزل وتغيّر معه شعوره تجاهه، أصبحَ يرى نفسه ضيفًا وليس صاحب منزل كما يُجامله أهله في ترحيبهم
-تقدمي...
همسَ سلطان للواقفة في الخارج تنتظر زوجها الذي انغمسَ في وصلة ترحيب لم يبدُ أنها ستنتهي تقريبًا، انتبهت نهاد على صوت أخو زوجها يحثها على التقدم والدخول أكثر حتى تصبح في مرمي بصر الجميع لتنال حفنتها من الاستقبال بدورها هي الأخرى، تمعنت نهاد في وجوه الجميع لتجدهم يشبهون بعضهم، ولا سيما أنهم عائلة!!
فالرجال لديهم شعر أسود فحمي إلا الكبار منهم، يتخلل سواد شعرهم بعض الشعيرات الفضية، ... الأنف مرفوع يحمل الشموخ العربي الأصيل، والسمار اللامع الذي يحتل بشرتهم كان صفة مشتركة بينهم وبين النساء اللاتي لم ترَ شعرهن حتى الآن
-هل هذه زوجتك؟
قطعَ تفرسها في الجميع صوت غانم الذي أشارَ لها في ابتسامة بشوشة جعلتها تتقدم منه، وتندس بين ذراعيه بكل أريحيه، في عناق لم تشعر بإحساسه قبلاً مع أب متبلد الشعور
رأت ثريا والدة عدي هذا المشهد وطارَ برجٌ من عقلها، وجذبت ابنها من ذراعها وقالت بنزق
-هل هذا الحجم العائلي زوجتك يا عدي؟؟... أجبني يا بني وقل لي أنها ليست زوجتك
-أمي
نهرها عدي بنبرة لطيفة وبعينيه، لكن سبقَ السيف العزل وسمعت نهاد الإهانة الموجه لها من أم زوجها، امتقعَ وجهها إثر الجُملة التي وُصف بها وزنها " الحجم العائلي"، من أين أتت هذه السيدة البدوية بتلك الكلمة!!.. يبدو أنها ستتعب هنا، فهذه أول لحظة هنا وقد بانَ ما تضمره أم زوجها
اغتصبت نهاد ابتسامة على وجهها وتقدمت من ثريا وقالت بنبـــرة هادئة، مهذبة
-أهلاً يا أمي أنا نهاد زوجة عدي
نظرت لها ثريا بقرف وغيرة، فرغم سمانتها الملحوظة إلا أنها جميلة وشعرها القصير يليق بملامح وجهها اللطيفة..
-أهلاً
قالت ثريا ثم التفتت نحو عدي تحدثه بحماس
-هل أكلت؟؟ هل أحضر لك طعامًا لقد صنعت اليوم فطائر دسمة بالسمن البلدي وسأرفق لك معهم العسل والطحينة والقشدة يا قلب أمك لقد خسرت الكثير من الوزن... لا أعرف من يأكل طعامك
نظرت في جملتها الأخيرة نحو نهاد قاصدةً إياها بتنمر، تشنجَ وجه نهاد إثر التنمر العلني الذي تتعرض له على يد والدها وكادت ترد عليها لولا عدي الذي انتشلَ نفسه من بين ذراعي والدته وأمسكَ يدها قائلاً
-أنا أقوم بحمية يا أمي لا تقلقي وأنا لست جائعًا... أنا فقط متعب أستمحيكِ عذرًا وأريني غرفتي
جاورته ثريا من الجهة الأخرى وأمسكت يده الحرة، فأصبحَ محاصرًا من الجهتين؛ أمه من جه ونهاد من جه أخرى
-والله إنك لا تحتاج لهذا يا عدي أريدك أن تسمن فجسدك لا يعجبني، بالله عليك أنت الذي لا تحتاج لحمية غذائية تعملها والذين يحتاجون لا يقربوها
للمرة الثالثة تُشير ثريا لجسد نهاد بطريقة فجة وبلا رادع لها، تشعر الأخيرة بنظرات الجميع تخترقها وكأنهم يتفحصون امتلاء وزنها.. فقط!
-ثريا اصمتي قليلاً واتركي ابنك وزوجته
زجرها غانم، فأشاحت بيدها الحرة بلا مُبالاة وهي تتقدم مع ابنها وزوجته نحو الأعلى
-صمتت يا غانم.. صمتت من يقول الحق في هذا المنزل لا تطلع عليه شمس
ضغطَ عُدي على يدها ونظرَ لها نظرة آسفة قبل أن يُتمتم بها بخفوت بجانب أذنها، وطوال طريقهم للغرفة كان يحك ابهامه بظهر يدها شاعرًا بارتخاء جسدها تحت ملمسه
-شكرًا لكِ يا أمي... لقد أتعبتك
نطقَ بها عدي على أعتاب باب الغرفة، فقالت ثريا بابتهاج
-ولو طلبت عيني يا قلب امك لأعطيتها لك... تعبك راحة يا عدي ... أنت لا تعرف مقدار اشتياقي لك
ربتَ عدي على كتفها بمودة وقبلَ جبينها بسعادة، ثم سارَ معها نحو الرواق حتى بقيا وحدهما، وهنا أردفَ بنبـــرة جدية
-أمي أستسمحك ألا تضايقي نهاد بوزنها، لأنها زوجتي وكرامتها من كرامتي والمساس بها يعني إهانتي
اسودت معالم وجه ثريا وأردفت بخواء وهي تنظر خلف عدي للغرفة
-لم أقل شيئًا ولم أتِ بسيرتها، ثم أنت أتيت للتو هل تحاسبني؟
هزَّ عدي رأسه نفيًا وقالَ بابتسامة حاولَ أن تُشعرها بالأمان، حتى لا تعتقد أنه يُفضل زوجته عليها
-لم أقصد هذا يا أمي... لكن أنا ابنك وأشعر بما تودي قوله ... فأرجوكِ هذا طلبي
لوت ثريا شدقها وهتفت
-بأمر الله...
ثم تهللت أساريرها
-ارتح أنت يا نور عيني وأنا سأجهز لك العشاء.. لا تنم قبل أن تأكل يا عدي
-حسنًا
قالها ثم بدا كأنه تذكر شيئًا
-صحيح يا أمي أين هي رابحة؟ لم أرها!!.... هل تزوجت؟؟
التفتت ثريا وهتفت بشماتة
-لا تلك العقربة لن تتزوج بسهولة ... لقد ضربها أبيها وحبسها في غرفتها
اتسعت عيني عدي لقول والدته وشعرَ أن الأمر يحمل في جعبته الكثير، فأرهفَ سمعه وسألَ بفضول
-ما الذي حدث؟؟؟
-سأسرد لك
قالت ثم بدأت تحكي غافلة عن تلك التي تقبع خلف الباب تستمع للحديث وعينيها تتسعان شيئًا فشيئًا حتى قاربت صرخة منها على الانسلال من بين شفتيها إلا أنها سارعت بكتمها بكف يدها
**********
"يا قمري الفاتن
يا رمادية المزاج
أشكو إليكِ ضعفي وقلة حيلتي... وأشكو الظروف الحائلة بيننا
لا تحسبي صمتي هروبًا بل هو تفكيــر في وقتٍ لا يسمح إلا بمحاولة واحدة .. أصابت أم أخطأت... فلا تلوميني بل لومي رامي السهم "القدر""
قرأت الرسالة التي تلقتها من فراس عدة مرات، قبل أن يغلبها الحنين والشوق الجارف له، لم تلتقيه منذ فترة، وقد تركته يفكر في كلامها الحاد الذي رشقته به أخر مرة
رباه لم تقصد مضايقته.. تعلم أنها يعشقها مثلما تفعل لكنها تريد بجانب هذا العشق خطوة
فقط خطوة، تبدد المسافات وتُقرب الجبال الشاهقة من سطوح البحار العاتية
تعرف فراس، إما أن يفوز بكل شيء أو يخسر كل شيء... لا وسطَ عنده
أخيرًا اتخذت قرارها وضربت على الهاتف بأصابعها الطويلة، النحيلة
"قمرك الفاتن يشتهي لُقياك فأين أنت يا سمائي... أقبل لأنيرك"
بعثتها ووجدته متاحًا وقرأ رسالتها في التو وبدأ يكتب، وبعد قليل وصلها الرد الذي جعلَ ابتسامة رائقة تزور شفتيها
"أمهلي سماءك بعضًا من الوقت فهي مُقبلة لا محالة"
قرأت الرسالة، ثم أغلقت الهاتف وألقته جانبًا وأغمضت عينيها، تُناجي سمائها حتى تتوسطها في أحلامها
.....
في الصباح الباكر
نزلت بنون إلى الأسفل لتجد والدتها وأخيها يقفان عند باب الجد، ويبدو أنهم يرهفون السمع بل كان الأمر أقرب للتصنت
-ما الذي تفعلانه؟؟
انتفضا الاثنان واعتدلا في وقفتهما، في حين اتخذت والدتها موقف الهجوم
-ما الذي تفعلينه في الصباح الباكر هكذا .. أنتِ لا تستيقظين الآن... أم أنكِ تعرفين بوجود حبيب القلب هنا!!
-بالتأكيد يا أمي تعرف، من الممكن أنها هي من أخبرته
قالها تميم بتشفي ناظرًا لوجه أخته المصدوم، لكن سرعان ما انقلبَ الحال عندما لمحَ تلك الابتسامة التي زيّنت شفتيها وقد بدأت.. خجولة!!
اتجهت ناحية باب المكتب ومالت حتى تسمع ما يقال في الداخل دون أن تأبه بأمها وأخيها مُتسعي الأعين!
مرت فترة ليست قصيرة حتى فُتحَ الباب بقوة جعلَ بنون تنتفض من مكانها وتستقيم فورًا وهي ترى الماثل أمامها، ينظر لها بتألم ونظرات غير مفسرة، فتحت فمها لتقول شيئًا لكنه سارعَ بالخروج تاركًا مُقلتيه تجوبان مخيلتها باهتياج
-ودعيــه لأخر مرة ... وعودي فلنا حديثٌ طويل
كان هذا صوت سليمان الذي نطقَ من خلفها بجمود، طالعته بشيءٍ من الخجل ثم انطلقت خلف فراس الذي كمن ركّبَ عجلات في قدمه
-فراس!
-بنون..
تهدلَ كتفيه ونبرته السابقة تعكس ما يمر به من تخبط وتخاذل واضحان، يهرب بعينيه لئلا تعرف ما يدور بخلده من رثاءه لذاته
أردفَ بخواء وأعين استطاعت رؤيتهما فارغتين من المشاعر كما لم يكن قبلاً
-لقد انتهى
ردت عليه وشهقة التياع تزور شفتيها
-بهذه السهولة!!؟
هزَّ كتفيه مع رأسه في قلة حيلة وتمتمَ بخفوت
-لم يكن بيدي شيءٌ آخر!
لم تصدق ما يقوله فهدرت بصوتٍ اعلى
-أنت تهذي..
ابتلعَ مرارة حنظلية داهمت حلقه، جعلت حروفه تخرج مُضطربة مُشبعة بالكثير من الثِقل في طياتها
-لقد رفضني جدك
اتسعت فضيتيها من هول الإجابة، وما لبثت أن ضيقتهما في تساؤل واستجداء
-ماذا أخبرته؟... بالتأكيد هناك حلاً آخر
أدارَ فراس وجهه غير قادرًا على تحمل نظراتها التي تذبحه وتنخر رجولته
-اسمعي منه أولاً
عادت بنون تنادي اسمه بلهفة
-فراس!
ليرد عليها باستجداء
-بنون...
أخبرته بحماس لم يسببه مرح، بل قهر انبجسَ من مُقلتيها وحركات جسدها العشوائية، كانت تتوسله بذكريات متوارية خلف الوعود التي برموها سويًا على رمالٍ متحركة ليست مستقرة
-انتظر... ماذا عن حبنا؟ ليالينا سويًا!؟ سماءك التي لم يسدها سوى قمري؟
أخبرها كمن تاه في الفضاء الواسع دون قدرة على تحديد قمره الهادي الذي تعودَ على الدوران في مداره
-لقد أزاحَ الليل ستاره ليشرق النهار ويُبخر بأشعته الحارقة حبنا... سماءي لم تعد موجودة من أجلك
قالَ أخر كلماته بحشرجة واضحة، يتحدث بصعوبة وعينيه غائرتين بالحزن... الحزن الشديد الذي جعله يُطبق شفتيه ويقبض على أصابعه خشية أن تمتد وتمسكَ ذراعها لتجذبها في عناق مدوي بالعاطفة العشق، وتفترق شفتاه لتقول من كلمات الحب ما يفيض من الحروف..
سألت كأخر أمل لها في كرهه
-هل كنت قمرها الوحيد؟
ردَّ بخشونة
-هل تهذين؟؟
كان يستلذ بالصمت المُطبق كأنه أخر شيءٍ مشترك بينهما يتذوقه، تلك هي الوقفة الأخيرة، والكلمة الأخيرة... وعناق الأعين الأخير بينما القلوب القابعة في الصدور لا تنبض بل تنتفض ألمًا ووجعًا على ما ألمَّ بها من فراق...
همهمَ بوجل بعد فترة
-بنون!
لتطرق برأسها وهي تُجيب... وداخلها يتخذ القرار رثاءً لنفسها فقط
-فراس...
عانقَ عينيها للمرة الأخيرة وهتفَ بمشاعر مُجتاحة، مختلطة بين الحزن والقهر والعشق الدفين
-أنا أحبـــك
قست نظراتها وهي تُخبره بينما تتجاهل جُملته التي كانت تبني لها أسوارًا من الحُب
-ألن تحاول ثانيةً!!
-لقد رُفضت... وليس هذا فقط بل اُهدرت كرامتي كما لم يحدث من قبل، لقد تلقيت إهانة في بيتي من مجرد طرح الأمر... فتخيلي ما قاله لي جدك في الداخل
كانت ملامح وجهه قاتمة، واستطاعت لمح اختلاج لعضلة فكه جرّاء كزه على أسنانه من الغضب، تلك المرة لم يكن صوتها خافتًا مبهمًا... بل جعلته واضحًا مفهومًا حتى يرن صداه في أذنه طيلة حياته
-تخاف على كرامتك يا سيد فراس بينما تتركني أنا في مواجهة مع جدي بعدما ترحل، في كل مرة كنت أخرج وأخترع حجة ما حتى أقابلك... أين كانت كرامتي عندما كذبت في وجه جدي؟ ... أين كانت عندما وقفت معك عند الأشجار وأنت تتغنى بحبك لي وشجاعتك بأنك ستحاول معي!!... هل أخبرك حقًا عن الكرامة سيد فراس الهاشمي!!
تقاطرت الدموع من مُقلتيها في أسى بالغ، ثم تابعت بقهر
-لا تتحدث عن الكرامة وأنت لم تتلقى الإهانات والمذلة من شقيقك ونظرات الازدراء من والدتك ولأنك تفعل شيئًا خاطئًا لا تستطيع الوقوف ودب اصبعك في أعين المتحدثين وتدافع عن نفسك... وأنت تخبرني أنك اُهنت من جدك يا حبيب قلبي أتلقى الإهانات كل يوم ومع ذلك أقابلك ببشاشة.. لكن أنت تستسلم من اللاشيء
فرغت من كلامها وأعطته ظهرها وكانت في طريقها للدخول، لكــنه أمسكَ ذراعها وأدارها نحوه بحدة وهتفَ كشاهٍ مذبوح بعدما تكالبت عليه هي الأخرى معهم، مُخبرةً إياها بطريقة غير مباشرة أنه ضعيف
-اللاشيء!!... حقًا؟؟! .. تصدقين نفسك يا بنون؟!... أنتِ لا تعرفين ما الذي حدثَ البارحة لقد تلقيت صـ..... اااه لا تهتمي كما أنكِ لا تهتمين سوى لنفسك والإهانات التي تُصيبك دون أن تعرفي ما حدثَ لي، تطلقين الأحكام فقطَ من وجهة نظرك فهنيئًا لك هذا الفراق
صُدمت من حديثه أول وهله، ورغم الألم الذي يُقطر من حروفه لكنها لم تعرف أنه سيبيع بكل تلك السهولة!!.. شعورها الآن لا يُضاهيه وجع، الخداع أكثر شيء تمقته الخداع وغياب ثقتها في شخصٍ لأنها لن تعود بسهولة ناهيكَ أن لم تعد أبدًا
-لقد أدركت للتو يا فراس أن سماءك الباهتة لا تُناسب قمرًا بحجم ضيائي
نطقَ بجمود ناهيًا الحديث العقيم الذي تراشقا فيه بالعتاب الحارق
-مداري ليس في سمائك يا بنون... أتمنى لك كل التوفيق
غادرَ بعدها فراس وبقيت هي تنظر في أثره، هل بالغت في عتابه وعجلت بنهايتهما؟ أم الأمر برمته لم يكن ليتم طالما جدها قالَ كلمته الأخيرة؟!
كانت فقط تريده أن يُحارب من أجلها مرة أخرى، يُشعرها أنها أكبر من محاولة واحدة..
هل كانت قاسية؟... هل جرحته؟!!
هل....
وفجأة غشى الظلام عينيها وهبطَ الدم من بين شرايينها فجأة لترتمي أرضًا مُغشيةً عليها وأخر شيءٍ سمعته كانت شهقة والدتها العالية وخطوات مُتجهة نحوها
.......
-بنون!!
سمعت صوت جدها بجانب أذنها، ففتحت عينيها ببطء شديد تفرق بين جفنيها والضوء القادم من الخارج يضرب مُقلتيها ليمر بها الإدراك لاذعًا عما حدث لها والسبب في ذلك
حاولت الاعتدالَ لكن يد جدها منعتها، لم تأبه بكفه الذي حطَ على كتفها لتستلقي، فاستندت على راحتيها لتستقيم جالسة وتضجع على الوسائد التي رتبتها أمها خلفها
-بنون حبيبتي هل أنتِ بخير
إلى الآن لم تسمع سوى صوت جدها، بالتأكيد أول من هرعَ إليها وأول من يطمئن عليها ليس عليها أن تتفاجأ.. نظرت له بامتنان لا تعرف هل لأنه يطمئن عليها وبجانبها أم لأنه رفضَ فراس الضعيف؟
حاولت إخراج صوتها لكنها لم تستطع هناك حاجز يمنعها من الكلام الذي كونته في عقلها، لسانها لا يستجيب لمحاولتها فاحتمى بالصمت تأديبًا واحترامًا لجسدها المنهوك...
-أخبريني حبيبتي هل تشعري بأي شيء
سالت دموعها على وجنتيها ولم تنطق بشيء، تنظر أمامها وتبصر أخيها يقف بجانب والدتها وعلامات غير مفهومة تحتل تقاسيم وجهه، وجدته يُحدثها ببعض من الشفقة
-سلامتك يا بنون
نظرت للمحاليل التي في يديها وتعجبت من كونها لم تشعر بها في بادئ الأمر، إذًا لقد حملّها تميم جميلة بنجدتها وتعليق السائل الملحي لها..
-لقد أخبرنا تميم أن ضغطك انخفضَ فجأة فقام بتعليق المحلول لكِ لكنه نصحنا أيضًا بالاتصال بطبيب مختص حتى يُشخص حالتك النفسية التي أدت لهذا الهبوط.. ولا تقلقي لقد اتصلنا بواحدٍ بالفعل وهو قادمٌ في الطريق
المرة الوحيدة التي تحتاج فيها لشكر والدتها يخونها لسانها فيها، ولا يقدر على جمع الحروف الامتنان وإطلاقها، يبدو أن الحظ السيء سيظل يلازمها ويبني حاجزًا آخر بينها وبين أمها وأخيها
-بنون لم لا تتحدثين بُنيتي؟ هل تريدين أن تختلي بنفسك قليلاً
"كل ما أريده هو عناقك يا جدي.. أن أتدثر بذراعيك لتحميني من العالم البشع في الخارج.. تحميني من أمي وأخي وفراس الغادر... عانقني يا جدي عانقني"
هتفت بنون بقهر داخلها بعد جُملته، وكأن سليمان يشعر بحفيدته، فتركَ كرسيه وجلسَ بجانبها على الفراش وجذبها بين ذراعيه في خوف كان أكبر من العتاب الذي سيأتي لاحقًا
-ما الذي فعله بك ابن الهاشمي يا وردتي .. لقد ذبلتِ على يده
قالها سليمان بحرقة وهو يُملس على شعرها بحنو بالغٍ يخصها وحدها، بينما هي لم تتوقف عن ذرف الدموع، فكل كلمة ينطقها كانت تكوي روحها حتى شارفت على تركها رماد
شعرت بنون بلمسه ناعمة بالرغم من خشونة اليد التي تُمسك كفها، لمسة غير معتادة عليها ولم تجربها قبلاً .... كانت يد تميم
كان يُمسك أصابعها في بادئ الأمر ثم تجرأ وأمسكَ كفيها كله عندما لم يجد منها مقاومة أو ازدراء، ثم تشجعَ أكثر وامتدت أصابعه لزندها وملسَ عليه بنعومة كأنه يؤازرها بصمت ولم تنطق شفتاه أي شيء... امتهن المواساة الصامتة
لا تعلم لم شعرت أنها بحاجة ليد أخيها المربتة، لم تجربها لتفتقدها لكن أقرب شعور لها الآن هو الاحتياج...
-لقد وصلَ الطبيب
اخترقَ الصمت صوت والدتها فتنحى تميم وسليمان من جانبها بينما دخلَ طبيب مُسن الغرفة واقتربَ منها
-سأبقى هنا معها .. ارتاحوا أنتم في الخارج وأنا سأطلعكم على ما سيقوله الطبيب
قالها تميم بتصميم وقد تسمرَ مكانه غير قابلاً للتزحزح
-وأنا أيضًا
أيدَ الجد موقفه ووقفَ هو بدوره بجانب الفراش وبالمثل فعلت والدتها
فحصها الطبيب ولاحظَ عدم قدرتها على الكلام الواضحة، وعندما انتهى لملمَ أشياءه وخاطبَ تميم بعدة مصطلحات انجليزية ولاتينية لم يفهم منها الجد ولا الأم شيئًا ثم رحلَ بعدما وضعَ في يده روشتة علاج
-ما الذي قاله الطبيب لك يا تميم ؟؟
أردفَ سليمان بلهفة على حفيدته الساكنة، وكذلك والدته التي نطقت أخيرًا
-لم أفهم شيئًا يا بني هل أختك بخير؟؟!!! أم بهى شيء خطير؟
زجرها سليمان بحدة ثم جلسَ بجانب بنون الغائبة بروحها بعيدًا، وربتَ على كتفيها وجذبها لصدره مرة أخرى
-لا سمحَ الله .. إلام ترمين يا زوجة ابني
بهتت من حديثه المعاجل لتقول مدافعة
-لم أرمي لشيءٍ يا أبي أنا أيضًا أريد الاطمئنان على ابنتي
كانت بنون من ترد هذه المرة بابتسامة ساخرة لاحت على شفتيها، وهي تنظر لوالدتها بنظرات مُستنكرة غير مصدقة لما تتفوه به من باب المجاملة
عادَ سليمان يتحدث بفضول وقلق أقوى
-أخبرني يا تميم ما الذي قاله الطبيب على أختك لا تتركني قلقًا هكذا
أردف تميم بهدوء مُطمئنًا
-لا تقلق يا جدي هي مُجرد صدمة عصبية لن تطول، لكن تابعها فُقدان في النطق ستُشفى منه حالما تتخلص من سبب الصدمة
تجهمَ وجه سليمان إثر نطق حفيده لتلك الكلمات التي بدلاً من أن تُطمئنه كانت تزرع داخله شعورًا بالبغض والكره تجاه فراس، ويبدو أنه لم يحتمل أن يواري شعوره فترجمه لوعيد
-سأقتل ابن الهاشمي هذا .. بل سأجعله يتمنى الموت على جعلك في هذا الوضع
حوّلَ بصره إليها في جُملته الأخيرة، لتطرق برأسها لأسفل وتهزها بالنفي ليقول بغضبٍ أكبر عندما رأي رفضها الواضح
-هل ما زلتِ تحبينه بعد الذي فعله لكِ.. هل ستأتمنين نفسك معه إن كنت وافقت؟
لم تجد سوى أن تهز راسها نفيًا كذبًا، رغم علمها الكامل أن جدها لن يصدقها لكن لم تجد بدًا إلا غلق هذا الموضوع العقيم خاصةً أمام أخيها وأمها
صدرَ عن سليمان صوت استنكار والتفتَ بجسده بعيدًا عنها بينما يقول بجمود
-هذا الفتى غير مناسبًا لك، ولن يكون يومًا... أنتِ تحتاجين لرجلٍ حقيقي ذو شكيمة شخصيته تتفوق على شخصيتك حتى يعاملك كما يجب، لا أن يفرضها عليك ويكسرك... تحتاجين لشخصٍ يألف طباعك ويعاملك بمهارة، ترتفع هامتكما معًا لا أن يُخفضها أرضًا لترتفع خاصته أو تتوغلان في الرمال سويًا
كان حديثه مُبهم، لكنها استطاعت أن تتكهن ما يتحدث عنه... لقد أخبرها توًا بطريقة غير مباشرة أن فراس لن ينفع معها، فشخصيته أضعف من شخصيتها بمراحل... وهذا ما أطفأ نيرانها قليلاً
-هل أنتِ بخــــــير؟
فاقت على صوت والدتها الذي خرجَ هادئًا لأول مرة لا ساخرًا ولا نزقًا كعادتها، فأومأت بشرود وهي تنتبه على خروج تميم وجدها من الغرفة بعدما أتم حديثه... ولا تعلم هل ترتاح لأنه لم يعاتبها بعد رأفًةً بحالها أم تتضايق لأنه ابتعدَ فقط وهي ترتاح بجانبه.. ولكن ما يؤرقها حقًا أنها ما زالت لا تعرف ما الذي حدث بينه وبين فراس!!
في الخارج رفعَ سليمان الهاتف لأذنه وقالَ بنبــرة غامضة
-أنا في انتظارك يا برهان... أنت مرحب بك يا عزيزي في أي وقت
جاءه الرد بصوتٍ من الطرف الأخر ببحة رجولية ونبرة دبلوماسية مُرحبة
-لقد أسعدتني مكالمتك يا شيخ وسأكون في أقرب وقتٍ عندك
************
جلست خنساء بجانب ثريا وهي تقول بخبث دفيـــن يتوارى تحت طيات براءة ظاهرية
-ألم يجد عدي غير تلك يا خالتي ويتزوجها؟ إنها في حجمي أنا وبدور الحامل معًا.. لم أعرف أن ذوقه متدني هكذا
لوت ثريا شدقها بحنق سافر، وأكملت ما تفعله من تقطيف أوراق الملوخية الطازجة
-لا تحدثيني في هذا الموضوع يا خنساء فالأستاذ لا يريد جرح السيدة المُبجلة ولا التحدث عن وزنها... لا أعلم هل مارست عليه سحرًا أم ماذا ليتزوجها ويدافع عنها بهذا الشكل
أنهت ثريا كلامها بغيظ مما جعلَ الورقة في يدها تتمزق، تشعر بأن ابنها أتى لكنها يتسرب من بين يديها، لم يمضِ سوى ليلة في المنزل وها هو يُعطيها أوامر بأن تبتعد عن زوجته ولا تضايقها
إنه يتسرب من بين يديها كالماء ولكنها بالتأكيد لن تقف متفرجة
-ومن سمعك يا خالتي ألم أخبرك ما قالته البارحة بينما تمر من جانبي، " لم أرد عليها لأنها سيدة كبيرة وفي مقام أمي أما أنتِ فحاذري لأني لن أتركك تتسلطين علي" تلك السوسة لقد استطاعت تطويق عدي كخاتم في اصبعها
لكزتها ثريا في كتفها قائلة
-اخرسي يا مقصوفة الرقبة من هو الخاتم في اصبعها يا خنساء لا تجعليني أخلع نعلي وأسلم به على وجهك
تأوهت خنساء ودلكت مكان الضربة ثم عادت تقول باستياء
-أنا فقط أقوم بتوعيتك حتى لا تفقدي عدي للأبد وتصبح هي المتحكمة في ابنك .. هذه فقط نصيحة
-اذهبي من أمامي يا خنساء فكلمة أخرى ستخرج من فمك وسأضربك حقًا، ابني سيد الرجال لن يكون تابعًا لامرأة حتى لو كان يعشقها، بل هي من ستكون رهن إشارته وتحت قدميه إن أراد فلا تتفوهي بالتراهات التي لا صحةً لها
امتعضت خنساء وقامت من مكانها تضع حلة ورق العنب على النار، وأردفت بينما تقوم بتزيده بالشربة الدسمة
-هي نصيحة فقط يا خالتي الحبيبة، أنتِ تعرفين عُدي أخذَ طبع عمي غانم الحاني حتى أن ملامحه الهادئة السمحة تُشبهه هو، وليس كسلطان ابنك ذو الملامح الحادة التي تُشبهك
رفعت ثريا حاجبيها باستحسان وقالت بأسارير مُتهللة ويديها تلينان حول أوراق الملوخية
-سلطان!! وهل يوجد مثل ابني الغالي سلطان سيد الرجال وقائد المجالس بعد جده... سلطان هذا يا بنت يا خنساء منذ أن ولد عرفت أنه سيكون ذا شخصية قوية وحكمة بالغة، عندما وصلَ لسن المدرسة في السابعة كان يذهب مع والده للعمل ويأتي معه في أخر الليل يكتب واجباته ثم يكرر الكرة ثانية في اليوم التالي... حينها لم يكن هناك مدارس كان فقط بعض الكتاتيب الصغيرة، لكن عند سن العاشرة قامَ أحد المستثمرين بفتح مدرسة لا يرتادها سوى أبناء الشيوخ وعلية القوم.. كان ابني سلطان منهم
كانت تتحدث بتفاخر عن ابنها غافلةً عن الذي يسمع الحديث ويختزن في نفسه الغُصص المريرة
-يوم إجازته لم يكن يلعب مع الأطفال بل يرافق والده من الصباح حتى المساء... كان صبيًا في طفولته وشابًا في صباه ورجلاً من شبابه... حفظه الله هو وأخيه
-ونحنُ لا نسير إلا ببركة دعائك يا ست الكل، أدامك الله لنا
دلفَ عدي على حين غرةٍ ونطقَ باستمتاع بينما يُقبل يد والدته مُنحيًا ما سمعه من حديث، ولا يعرف أنه لو بادرَ قليلاً لقامَ شجار بينه وبين خنساء...
-أدامك الله لي يا حبيب قلبي وُدنيتي كلها اجلس حتى أصنع لك طعام الإفطار لتأكل بجانبي
-شكرًا لكِ يا أمي لا حرمني الله منك ومن حنانك لكن اعذريني سأخذ الطعام لي ولنهاد لأنها تشعر ببعض اللآلام ولا تستطيع النزول
جمدَ وجه ثريا وقالت بنزق واضح
-لقد تجاوزتما موعد الإفطار يا عدي هل نسيت أم ماذا، لكن لا بأس هذه المرة فقط فلم يمر سوى ساعات الليل على مجيئك
علمَ عُدي ما يدور بخلد أمه، والغيرة التي تضمرها ضد زوجته وأصابه بعض الضيق، لكنه تصرفَ بتفكه وهو يقترب من رأسها ويقبله
-لم أنسى يا حبيبتي لكـــن اعذري ابنك المُدلل الذي غابَ لثلاثة سنوات وعادَ بنفس التدلُل
طالما والدته موجودة
ضربت ثريا على صدرها لتقول بلهفة
-يا حبيب قلبي تدلل ولا تحسب حسابًا... يعني لو أنك لم تدلل من سيفعل؟؟
ثم أمرت خنساء
-جهزي الإفطار لعدي يا خنساء، ضعي الجبن والفول والبيض بالسمن وأخرجي القشدة الدسمة أيضًا وضعي بعض الحلاوة فيها، لا تنسي الجبن القريش مع الطماطم والطحينة... وأدفئي له خمسة أرغف وكوب من اللبن
انتهت من سرد أصناف الطعام تحت نظرات عدي المذهولة ثم استطردت
-اجلس حالما ينتهي يا قلب أمك فجسدك النحيل لا يعجبني
-أمي!!
-هل أزيد؟؟؟ أنا أحضر لك ورق العنب ووضعت فوقه الليمون أيضًا كما تحب
ابتسمَ عدي مقبلاً يدها
-سلمت يداك يا حبيبة قلبي
-سلمَ نبض قلبك يا حبيبي.... خنساااااء لا تنسي أن تزيدي السمن على البيض
اهتاجت معدة عُدي وشعرَ بحركة أمعاءه الدودية تعتصر من الداخل، فنادى على خنساء قائلاً بنبرة شبه متوسلة
-أحضري مع الإفطار حبة غلة يا خنساء حتى تهضم تلك القنابل الذرية
***********
وفي الأعلى كانت بدور تلاعب ابنتها وتغني لها بخفوت أغنيتها قاهرية سمعتها في المذياع وثبتت بقلبها
"أنا بنتي بكرا تكبر وتروح المدرسة
ويقولوا عليها شاطرة وتصاحب شلة كويسة"
كانت تدغدغ بطنها وصوتها الناعم يصدح بكلمات الأغنية التي لفت انتباه الصغيرة، لتقول بحيوية
-هل سأكبر يا أمي وأذهب للمدرسة كما تقولين؟
-نعم يا حبيبتي وستكونين نجيبة كوالدك ووالدتك تمامًا
ضحكت عالية طفولية مُحببة لقلب والدتها
-أريد أن أكون حنونة مثلك وقوية مثل خالتي رابحة
تراجعت الابتسامة من على وجه بدور لتُسأل ابنتها بترقب
-ألا تريدين أن تصبحي مثل والدك؟؟
هزت الطفلة رأسها بنفي مُجيبة
-لا أحب أبي حتى أصبح مثله.. لا أريد أن أكون شريرة يا أمي
بهتت بدور من حديث ابنتها عن أبيها لتهتف بصدمة
-هل خالتك رابحة من أخبرتك بهذا
أجابت عالية بهدوء
-لا خالتي لم تقل لي أي شيء هي فقط تداعبني وتعطيني الحلوى و تعلمني كيف أكون قوية وألا أخضع لأحد يُهين كرامتي
زمت بدور شفتيها في غضب من أختها التي بنظرها تبث للطفلة سمومًا قد تضرها مستقبلاً
رسمت ابتسامة على وجهها لتقول بجدية
-حبيبتي لولو لا تستمعي سوى لي أو لوالدك فنحن أدرى بمصلحتك يا عزيزتي لأن هذا الكلام لا يصح.. فأنتِ خاضعة لي ولوالدك مهما فعلنا
-هل تقصدين لو ضربني أبي مثلما فعلَ جدي محمد مع خالتي رابحة لا أخاصمه وأحدثه بشكل طبيعي؟؟؟
اتسعت عينا بدور لتهتف بدهشة
-من أخبركِ هذا الكلام؟
-سمعت خنساء وثريا يتحدثان
نهرت بدور ابنتها بلطف
-اسمها جدتي ثريا وخالتي خنساء لا ترفعي الألقاب يا لولو فأنتش صغيرة
تلوت معالم الصغيرة من الازدراء، رغم صغر سنها الذي لم يتجاوز الخمس سنوات إلى ببعض الشهور إلا أنها تستطيع التمييز بين الطيب والخبيث الذي يعاملها بحُسن والذي لا يرغب في وجودها
-أنا لا أحبهم يا أمي.. إنهم يشبهون السبانخ
-السبانخ!!!
-أجابت عالية بعدما ارتسمَ التساؤل على معالم والدتها
-نعم لا أحب طعم السبانخ كذلك لا أحب حديث ثريا وخنساء على خالتي رابحة والضيفة الجديدة
أرهفت بدور السمع لتضيق عينيها سائلة
-ما بها الضيفة الجديدة؟؟
كادت عالية تتحدث وتُخبر والدتها عما سمعته في المطبخ بين ثريا وخنساء لكن صوتًا عاليًا في الأسفل لنبرة غريبة أول مرة تسمعها، أخبرت ابنتها في عجالة أن تبقى هنا لتهرع هي للخارج وتقف عند سور السلالم في الأعلى لتُبصر رجلاً غريبًا يقف في بهو منزلهم ويسأل بصوتٍ جهوري عن فراس
-اين أنت يا فراس الهاشمي... اخرج من حضن والدتك وواجهني رجلاً لرجل!!!
انتهى الفصل
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romanceأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك