الفصل الرابع
قراءة ممتعة
"أجيد قراءة ما تُخفيه في عيناك"
اثنان لا تسألهما عن الأسباب؛ المُحب إذا أحب، والمُنتقم إذا عزم... فكلاهما سيحترق في النهاية
فالأول ستجذبه شظايا الحُب ولهيب العشق حتى يحترق بكامل إرادته
والثاني لن يسمح للزمن أن يداوي الجروح فتلسعه نيران الانتقام...
كانت مُغيبة وغارقة في تلك المشاعر التي تداهمها أول مرة ودون هوادة، لطالما اعتادت على حبه وتقول ذلك بينها وبين نفسها كأنها الأجحية التي تمدها بالقوة، لكـــن ما حدث في الأسفل كان خارجًا عن قوانين عقلها ومشاعرها...
لقد كان على وشك تقبيلها!!
و يا للهول.. كانت هي الأخرى تنتظر هذا منه لولا صراخ مبادئها في أخر لحظة، والجرم هنا سيكون عظيم، بالإضافة لأنها ستخسر مبادئها دُفعة واحدها غير أنها لن تستطيع رفع بصرها في عينه بعد ذلك سيأخذ أمرها باستخفاف ولن تعد لتفزعه وتقتحم حصونه كما اعتادت في فترتها الأخيرة، هذا الرجل يستحق فرصة أخيرة، فرصة لم تمنحها لأحد ولن تفعل ... ستتركه يُلملم مشاعره بعيدًا عن طوفان احساسها الذي غمره ليقرر هو هل سيعود أم لا، وهي ستبقى لتنتظره بأمل أن يعود ليقتحمها هو تلك المرة
كان الأمر أشبه باقتحام غير مسبوق داهمها لوهلة شعرت فيها بامتلاك العالم بأسره، وبرجوعها لأرض الواقع انتهت اللذة.
كانت هائمة فيما تشعر به ولم تنتبه للطفلة التي تدثرت بلحافها دون اظهار شيء حتى اختفى أي شيء يدل على وجودها، ارتمت على الفراش مغمضة العين بحالميه مستمتعة بشعور السعادة المؤقت لتفيق على أنين مكتوم تحتها، التفتت بحدة لتجد عالية تنظر لها بصدمة وبراءة شديدين، عينيها الواسعتين ترمقانها بتساؤل أربكَ رابحة لتشعر أنها اُمسكت بجرم مشهود، وأنَّ تلك الصغيرة مدركة لما تُفكر فيه لتحمر خجلاً عندما وصلَ الأمر في عقلها للقبلة
-ما الذي تفعلينه هنا يا لولو؟ أليس الوقت متأخرًا لاستيقاظك؟؟
قالتها باضطراب محاولة مع الحروف على شفتيها لكن الصغيرة اضجعت على ظهرها لتقول بنبرة متخاذلة
-لقد صرخ أبي في وجهي ولم أعلم ما الذي عليّ فعله فجئت إليكِ ككل مرة لأنام معك.. هل ستطردينني أنتِ الأخرى؟
-سالم الحقير!!!
تمتمت بها رابحة من بين أسنانها والغضب داخل يتقد في مراجله، سالم يجعل تلك الصغيرة تعاني كما كانت هي لهذا هي تعرف تمامًا الشعور الذي تمر به الصغيرة وتفهمه جيدًا وهذا ما جعلَ العلاقة بينهما قائمة على التفاهم أكثر من أي شيء، وبإثبات أن عقل رابحة يُقارب عقل تلك الطفلة..!!
التمعت عينيها بقتامة ولم تفقد الاحساس الساري بشرايينها بعد أن كللها الحب لفترة مؤقتة جاءت موجة من الغضب لتنتشله وتتربع على عرشه
-أخبريني ماذا فعل بالضبط يا لولو .. احكي لي بالتفصيل ولا تنسي سرد أي شيء
قالتها بابتسامة تُخفي خلفها الكثير والكثير من التوعد للوغد زوج أختها البلهاء..
******
وعلى ضفته القفراء التي بدأت الحشائش الصغيرة تزورها من حينٍ لأخر
كان انتهى بينهما اللقاء الغير مفهوم ماهيته أو ما يحويه، فما حدثَ قد غشى عقله وشوشَ تفكيره وطرقَ على منطقة حساسة ليستجلب شعورًا جديدًا وهو ... الاعجاب!
توجه نحو غرفته بتيه ومشاعر جديدة تجثم على صدره ولكن للعجب هو يشعر بالراحة بل ويريد أيضًا تكرار ما حدث، خلعَ عمامته وأتبعَ ذلك جلبابه الندي من قفزه في الماء خلفها بكل رعونة، وعندما وصلَ إلى هذا الاستنتاج ألقى الجلباب أرضًا بعصبية وراحَ يتنفس بصوتٍ عالٍ دليلاً على غضبه!، لكنه لا يُنكر الإحساس الخفي الذي تسلل داخله باعثًا فيه القشعريرة والرغبة باستكشاف تلك الأنثى الجامعة التي سلبت جزءً من تفكيره، وبدلاً من ان يبتعد حتى لا تستولي على كامل لُبه كان على النقيض يُفكر فيها وفيما حدث جالبًا ابتسامة لم يشعر بها على شفتيه..!
هل تستطيع هذه الشفاه أن تبتسم من ذكريات شخصٍ لم توجه إليه سوى اللعنات؟، انتابه في تلك اللحظة الاضطراب ولأول مرة في حياته لا يعرف كيفية تحديد اتجاهه، يقف في مفترق طرقٍ يتبعه ألف طريق جميعهم عتم إلا من واحد أوله نور وبقيته مجهول...
-تبًا لكِ يا رابحة تبًا
تمتمَ بجملته حانقًا على بعثرة تفكيره وإرهاق عقله، هي قادرة على استباحة حصونه ومرة بعد مرة أصبحَ صوته الداخلي يلوذ بالصمت في حضرتها، ليتحول من "الجاني" إلى "الضحية" والوقوع تحت تأثيرها صار ملاذه
لقد كان على وشك تقبيلها!!، لو لم تتحدث تلك الحمقاء لما كان هذا حاله يتخبط بين ثنايا
أثناء انشغاله في التفكير كان هناك صوتٌ في الخارج يتعالى شيئًا فشيئًا بعد أن كان بهمهمة عصبية تحولَّ لنقاش حاد تدعمه العصبية، ارتدى عباءته مرة أخرى لا مباليًا برطوبتها وقل أن يستحم فالصوت الذي في الخارج يعرفه جيدًا ويعرف إلى أي درجة قد يُسبب المشاكل
-رابحة ...سالم ما الذي يحدث
قوبل نداءه لكليهما بالتجاهل، واستمرا فيما يقولانه ويفعلانه بكل ثقة، تحدثت رابحة بعنفوان وهي تمسك يد الصغيرة التي كانت تنكمش خلفها تداري ارتجاف جسدها فيها بأعين مذعورة
-لم طردتها من الغرفة وعاملتها بهذا الشكل الفتاة كانت تجلس مع والدتها لم جئت لتعكر صفوهم؟؟
-لا يخصك يا رابحة عودي لغرفتك واتركي ابنتي فأنا لدي معها حديثٌ طويل يخص تربيتها
زجرَ سالم عالية بنظراته وهو يتحدث لتعود رابحة جاذبة انتباهه بكلامها الحاد
-هل تدرك كم عمرها؟؟ خمس سنوات يا سالم.. خمس سنوات أنت لم تعرف فيهم يومًا ولم تهتم لذا إن لم تكن قادرًا على تربية فتاتك فاتركها ليّ فحالها أفضل عندي من عندك لأني لن أسمح لك بالتعامل معها وفقًا لأفكارك العقيمة وعُقدك النفسية الظالمة... ستندم قبل أن تتسبب لها بعقدة ستبقى معها طوال الوقت
كانت تتحدث بانفعال ووجهه أحمر إزاء غضبها الضاري، كانت ابنة صحراء حقًا فهي تقف بكل قوة في وجه رجلٍ وتطالبه بحسن التعامل مع ابنته فيما لم يفعلها أحدٌ من قبل، ولوهله شعرَ سلطان أنها ربما يأخذها الحديث وتتحدث عن نفسها... وهذا ما أراده!
ردَّ عليها سالم بنفس النبرة الغاضبة والعالية وكفه يمتد ليقبض على رسغ عالية التي صرخت لتتدخل خالتها
-ابتعدي عن ابنتي ولا تبثي أفكارك السامة في عقلها، إن كنتِ تريدين جعلها نسخة متمردة ووقحة منكِ فاسمعي ما سأقوله جيدًا لأني أنا من لا يسمح لكِ بالتعامل معها ثانية، لا فتيات لدينا تفعل مثل تلك الأفاعيل هي ليست ولدًا وأنتِ لستِ رجلاً
رأت رابحة الذعر الذي اكتنفَ الفتاة فور وصول يد أبيها إليها فطمأنتها بعينها قبل أن تسحبها مرة أخرى وبقوة من قبضته مما جعلَ الفتاة تبدأ في البكاء فورًا، صدحت نبرة رابحة العالية وهي تنهر سالم كطفل صغير أوقعَ حلواه-ليتسخ المكان- بعدما نبهته أمه عدة مرات أن يُمسكها جيدًا وليس وكأنه أب لطفلة ولديه طفل قادم، ناهيك عن هيبته في المجالس وصمت الرجال في حضرته كونه أحد أحفاد "كامل الهاشمي"
-لا تمسكها هكذا.. ألا ترى أن الفتاة مذعورة منك؟؟! ... خائفة يا هذا خائفة تكاد تبلل نفسها من صوتك الجهوري ونظرة عينك المتقدة بالشرار، افهم يا سالم قبل فوات الأوان أن الفتيات هن نفَس البيت وبهجته وأن إنجاب الصبية لن يُزيدك شيئًا فبدلاً من تعنيفها والتفكير بذكورية بحتة قم باحتوائها لأن هذا لن يجعلك رجلاً أكثر لأنك لست كذلك في نظري
شهقَ جميع الواقفين، سالم وبدور ولكن الشهقة الكبرى كانت من نصيب سالم الذي استعرَ الجحيم داخله وتفشى الحقد والغل في عينيه وتكورت قبضته بقوة استعدادًا للكمها، هي ببساطة لم تُهينه فقط بل داست على رجولته بقدميها بلا مبالاة ولا ذرة ندم على وجهها بل تقف كجبل شامخ استعدادًا لمناطحته..
رفعَ سالم يده لصفح رابحة التي كانت ستستقبل الصفعة بكل آنفة لكن يد منعته من الوصول لملس وجنتيها الناعم، وقفَ أمامه وبسوداويه حدة ممزوجة بالنخوة
-سالم!! ما الذي كنت تظن نفسك فاعله؟؟ هل تمد يدك على امرأة؟؟ ومن من أهل بيتك؟؟.. استفق مما أنت فيه يا رجل
احتدَ سالم عليه مُشيرًا لرابحة التي وقفت خلف سلطان تبتسم ابتسامة نصر وتُخبره بعينيها "حُلفائي كُثر"
-هل تدافع عن تلك؟ حقًا هل هذا هو الأمر؟!!.. راحة أس المشاكل وجلابة المصائب على رؤوسنا، لقد وقف الهانم تناطحني ندًا بند وتُخبرني على الطريقة المثلى التي يجب أن أعامل بها ابنتي ... وفي النهاية تطعنني في رجولتي أمام زوجتي وابنتي وأنت تأتي هنا وتدافع عنها؟؟ ..
قالها ثم وجه كلامه تجاه رابحة بتشفي خالص
-تعلمي أولاً أن تكوني أنثى فأنتِ لا تعرفين ما يُقال عنكِ في مجالس الرجال ...
قطعَ جملته قاصدًا بث الترقب داخلها، ثم لعق شفتيه في تلذذ لما سيقوله
- يقولون عنكِ "رابح" لأنكِ لا تنتمين للأنوثة بصلة
ارتسمت على شفتيه ابتسامة شامتة ونظرة عينيه تُخبرها أنه انتصر هذه الجولة وليرى إن كانت قادرة على رده، صاحَ سلطان مرة أخرى ممسكًا بيده
-سالم!!
وعلى العكس تمامًا المتوقع من رابحة بدلاً من أن تلقمه حجارة قد يخرس بعدها ضحكت... وباستمتاع!!
كانت وصلة استمرت لدقيقة وهي تضحك عاليًا ودون قيود، جعلَ سلطان يلتفت إليها باستغراب لا يقل صدمة عن بدور وسالم بينما عالية كانت تبتسم من بكائها على ضحك خالتها، كانت تلك أول مرة يرى فيها ضحكتها الحقيقة، دون سخرية، دون سماجة، دون تصنع!!..وكم تمنى تلك اللحظة ألا تنتهي ضحكتها أبدًا، لتستمر حتى نهاية العالم وليكن هو المتفرج الوحيد
وعندما رأت العيون التي تنظر لها في فضول وغضب قطعت ضحكتها وأخبرته ببقاياها على شفتيها
-هل أنت متأكد أنه مجلس رجال؟، فمجالس الرجال الحقيقة لا تأتي فيها سيرة النساء..
تراجعت للوراء بعدما رمت أحجارها في وجهه، لتتركه غير قادرًا على استيعاب ما قالته وللمرة الثانية تُهينه ولكن تلك المرة ضُرب في مقتل ليس هو فقط بل سلطان الذي كان يداري عينيه عنها، ليس لأنه شاركَ في حديثهم بل لأنه صمت!!... وهي استشفت ذلك من هروب عينه واختلاج عضلات فكه من جانب وجهه
كانت رابحة من قطعت الصمت المهيب الذي انتشرَ فجأة إثر صدمة سالم وعدم قدرته على الحديث لتقول بمهادنة الشخص المُنتصر
-عامل ابنتك برفق يا سالم فقد يأتي عليك وقتٌ تطلب فيه مغفرتها وهي لن تفعل...
لم تدخل هذه الجملة أذنه بل اقتحمت قلبه ناشرة قتامتها داخله فقط لوهله ارتخت ملامحه بيأس ثم عادت تنضح بالشر من جديد
انسحبت من أمامه ترفل بثوب انتصارها، وأثناء ما كانت تفعل بعدما ألقت جملتها ليفهمها جيدًا قالَ بكره شديد ناحيتها
-أنتِ تغارين من أختك لأنها تملك حياة مستقرة وأنتِ لا، تضعين تلك الأفكار الفاجرة في عقل ابنتها حتى لا تكوني وحدك الفاسدة لكن لا يا رابحة طالما أنا على قيد الحياة لن أسمح لكِ بهدم بيت أختك
استدارت ببطء شديد ناحيته لترى وجهه المبتهج بحديثٍ لا أساس من الصحة ولتُلقي على مسامعه عدة كلمات سيخرس بعدها لكن ولسوء حظها لم تقع عينيها على سالم بل وقعت عينيها على بدور أختها المشتتة!!
هالها مرأى ما يموج داخل مُقلتي شقيقتها، هي مضطربة ما بين تصديق لكلام زوجها وتكذيب هذه الأفعال على أختها رابحة، لم تتألم منذ بداية الحوار حتى الآن، نظرة أختها من جعلتها تتألم وتشعر بالدونية، هي تفعل هذا من أجلها وابنتها وهي كل ما في جُعبتها هو أن تُلقي لها بنظرات التيه والاتهام، هي تعرف شقيقتها جيدًا مادام فكرت في الأمر فهي على الأغلب تُصدقه
ألم تكن بدور من تشعر بالغيرة دائمًا منها؟!، فعدم قدرتها على التنفس أحيانًا هو خير دليل على الحجر الذي خبطَ ظهرها من سنواتٍ عدة..
ألم تكسر لعبها القليلة منذ الطفولة بحجة أن رابحة تؤذيها بها؟! وكان والدها يؤازرها في كل مرة تختلق حجة شكل؟!!
أليست شقيقتها!!..
وجهت حديثها تلك المرة سالم لكن النظرات التي وجهتها اخترقت أختها بدلاً منه، فاقتربت منها بأعين تفيض بالألم وقلب يقول الكثير لكن الشفاه لم تتُرجم إلا ما هو قاسي
-الذي أشعر به تجاه شقيقتي يا سالم هو الأسف وليس الغيرة.. لا تعرف أن انقيادها هذا هو من سيهدم بيتها وليس أنا كما تقول..
ابتسمت ابتسامة مؤلمة زيّلت حديثها وهذه المرة اختفت من أمامهم نهائيًا إلى غرفتها آخذة معها عالية التي توقفت عن البكاء في حضنها، التمعت عيني بدور بالدموع وشعرت أنها مكشوفة ومقروءة من قِبل أختها وقد فهمت ما يتماوج داخلها من مشاعر متفاوتة كلها نقيضة لبعضها، هرولت للداخل تبكي عدم قدرتها على الرد أو المدافعة عن نفسها وشقيقتها رغم أن جزءً منها أخبرها أن رابحة لا تكن مشاعر الغيرة لها أبدًا لكــن لسانها انعقد، في حضرته كل شيءٍ يندثر إلا هو ولهذا تترك له زمام الأمور
-ما الذي يحدث في الخارج ولم صوت رابحة عاليًا؟؟
كان هذا محمد الذي خرج من غرفته للتو بعد سماع المشاجرة الدائرة بينهم، سارعَ سالم في الحديث ليُدين رابحة شامتًا فيها لكـــن سلطان سبقه وهو يقول بجمود
-لا شيء يا عمي هناك بعض الأعمال العالقة بيني وبين سالم كنا نناقشها وارتفع صوتنا قليلاً.. اعذرنا
لم يستسغ محمد الحديث وعادَ بقوله المتشكك
-كان هناك صوت امرأة
هنا ضحكَ سالم مزيفًا المرح قائلاً بنبرة قاطعة يعلم أن محمد سيصدقها ويؤمم عليها عكس سلطان الذي لا عمارَ بينهما
-لقد خرجت بدور وكانت تخبرنا أن نخفض أصواتنا فهي لا تستطيع النوم... النساء!!
-سر كل تعاسة تذكر هذا كما علمتك، والرجال عود صلب لا حياة إلا باستنادك عليه
أضاف إليه محمد وهو يبتسم مشيرًا له بسبابته، وسلطان يقف بينهما ينظر لعمه بعدم استحسان وتقزز من تفكيره، وبغتة قطعَ التناغم بينه وبين سالم بقوله البارد
-ولكن ما إن كان هذا العود معطوب يا عمي ما الذي ستفعله؟
رفعَ محمد حاجبيه وأدارَ وجهه نصف دورة ليرمقه من جانب عينيه باستخفاف
-نعيد تشكيله يا حبيب عمك ولو اضطررنا لكسره وإعادة تكوينه من جديد
أصدرَ سلطان بشفتيه استحسان لم يكن كذلك كما فهمه محمد، وآثر الصمت لينظر له باستخفاف لا ينضب كلما جاءت عينه على عمه، استأذن محمد قبل أن ينظر لسالم نظرة ذات مغزى بأنه لا يصدق ما حدث وأن سلطان يُخفي شيئًا ما لكن سالم ولأول مرة يكون له نصيبًا من اسمه أومأ له بعدم وجود شيء وأن ما تفوه به سلطان هو الحقيقة
-عن اذنكم
ردَ سالم واكتفى سلطان بالصمت يُشيع بنظراته عمه الذي لا يحبه أبدًا، قطعَ وصلة نظرة عندما سمعَ تنهد سالم ليلتفت له قائلاً بحدة
-ما الذي دهاك يا سالم هاا؟؟ هل هذا ما نفعل مع النساء؟ وتخبرها أيضًا بما يُقال عليها أنت جاحد
رفعَ سالم وجهه بأنفه ولم يرد كأنه يستكبر ليتابع سلطان بعصبية
-وتريد أيضًا رفع يدك عليها ما الذي حدث لك؟
-أولم تستمع لما قالته؟ والله لو لم تكن موجودًا لكنت ضربتها ضربًا مبرحًا وأخبرت عمي عما قالته وليحدث ما يحدث
قالها سالم بغضب ليرد سلطان
-هل هكذا ستشبع حقدك عليها وتُثبت رجولتك؟ هل تصرفك مثل الصغار سيُجدي بالأمر ويرتفع قدرك عند عمك؟؟! لا يا سالم تحسبها خطئًا يا ابن عمتي فأخذ حقك بالضرب لن يُصغر إلا من قيمتك ولن تشعر بالنصر أبدًا فالفوز في حضرة النساء أمر صعب
كان كلامه غير مفهومًا مغزاه، في البادئ كان يتحدث على العموم وبكل جدية، لكن أخر جملة كانت غريبة وعلى وجهٍ خاص تُشبه رابحة في غرابتها، وصعوبة تركيبها، وفي اليد الأخرى كانت إقرار شفوي وحسي منه على أنها تملك سُلطة عليه، سلطة أنثوية هو ليس بقادر على محوها فلا يجد إلا على الانسياق نحوها
-هل ما زلنا نتكلم عني؟
قالها سالم بخبث ليحدجه سلطان بنظرة شرسة قبل أن يدور على عاقبيه ويغادر الممر، ولم يكد يخطو عدة خطوات حتى صدحَ صوت سالم من خلفه قائلاً بنفس الخبث
-أمر الهوى ليس بين يديك، فالهوى لا يسكن إلا يد السلاطين
أشارَ إليه في جملة مفادها أن الحب سيدق بابه بغتة، وانتظرَ رده لكن سلطان لم يستدر ولم يتفوه بشيءٍ لثانية حتى ظن سالم أنه لن يجيبه فكاد يستدر بدوره عائدًا للغرفة ليُسمره صوت سلطان
-ما أنا إلا سلطان يا سالم، على راحتي يرتكز الحب أحركه كيفما أشاء...
كانت تلك إشارة منه على تأكيد جُملته ونفيها في ذلك الوقت، هو سُلطان لا يؤمن بالحب لكن إذا استباحَ منطقته بإمكانه أن يتحكم فيه كما يشاء، وإن كان يُشير إلى رابحة فهو مخطئ لأنه في تلك الثانية لام نفسه على انكشافه وتلاشت كل مشاعره تجاهها، أو هكذا ظن
-تُصبح على خير يا سالم ولا تدع أوهامًا أخرى تُحيط بعقلك تكفي خاصتك
ضحكَ سالمَ عاليًا بقصد ليُسمعه ضحكاته وكأنه يُخبره في تحدي "سنرى!!"، لكن سلطان لم يُعره اهتمامًا واتجه نحو غرفته يبدل ملابسه قبل أن يشعر بالبرد، وعندما وصلَ لتلك النقطة تذكر رابحة في صومعته وقطرات المياه تنساب من وجهها وتلتصق بشعرها الخارج من طرحتها، فبعض الخصل تمسكت بالمياه ولم تتركها لتلصق على جبينها في مشهد... مُثير!!
ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيه حينما طافَ صوتها المخنوق إثر انسداد أنقها وحلقها أثناء سجالها مع سالم، كانت تبدو كلبؤة شرسة لا تترك فريستها لأحد، تُقاتل حتى تفوز ولو كان الثمن بعض الجراح الخفيفة
لكـــن
اللبؤات قد يفقدن أعينهن في قتالٍ على فريسة.... وقد يخسرهن قلوبهن أيضًا
بدّلَ ملابسه سريعًا وبعد أن اضجعَ على الفراش أتته رسالة من رقم غير مُسجل اسمه، لكنه من الكلمة المكتوبة "privet number" "رقم خاص" وقد عرف من الذي خلفه في التو، كانت فحوى الرسالة متوقعة لكنه لم يعرف أن الموعد اقترب بتلك السرعة، وعليـــه أن يُحضر نفسه جيدًا لتلك المقابلة..... فهي التي ستحدد مكانته عند هذا الرجل "عبد العزيز" قاتل عمه "سلطان"، وصديق عمره، ولن يهدأ باله حتى يرى نظرة الذعر والخوف تحف عينه عندما يجعله يتمنى الموت
لمحات من الماضي
"تعالى يا سلطان لا تقترب من تلك المنطقة أبدًا ولا تقف عندها قد يختل توازنك وتقع، وغير هذا هي مليئة بالسباع والذئاب وأنت لن تحب أن تكون فريسة أحدهم"
قالها سلطان الكبير وهو يُمسك بيد ابن أخيه المُسمى على اسمه، كان حينها سلطان يمتلك ستة عشر ربيعًا من عمره، شبيهًا بعمه ذو ملامح سمراء تحمل أشعة شمس صحراء البادية فيها، نورها وليس دفئها ويحف وجهه دائمًا تعابير جامدة توحي بشراسة صاحبها ذو النظرات الحادة، ما ورثه سلطان عنه لم يكن فقط حاجبين كثيفين وجسدًا مشدودًا من القتال، وشعرًا كثيفًا بلون الفحم ولا حتى جوف عينه الذي يحمل مُقل سوداء كحجر أسود مُلقى في بئر عميق، كان يُشبه عمه سلطان أكثر من أبيه، ليس شكله الجذاب فقط، بل طبيعته الخشنة وفراسته القوية، حتى طريقه غضبه و تقطيبة حاجبيه ومخارج الحروف من شفتيه، سيطرته المفروضة واجبار الناس على احترامه... كلها تابعة لعمه مما جعلَ الناس يقولون أنه "ابن عمه" وكم كان لقبًا يفتخر به منذ صباه حتى الآن، فطبيعة والده الهادئة ونبرته التي بالكاد تُسمع من حوله، وطريقة التفكير في الأمور بسلمية دومًا لا تعجبه بل تستفزه في بعض الأحيان، لهذا أن يُنسب إلى عمه في كل مجلس خيرٌ له من أن يُنسب لأبيه الخانع كما يصوره
"لستُ صغيرًا يا سلطان بإمكاني تدبر أمر نفسي جيدًا لا تقلق وتتحدث بنبرة الأم الحنون التي تخاف على أولادها من تسلق الربوات الصغيرة فأنا سأبدأ بالشك فورًا أن قلبك رقَّ قليلاً"
ضحكَ عمه بملء فاهه ووضعَ كفيه على منكبي سلطان العريضين، وعند رؤيتهم قد يُخيّل لك أنه الأب وابنه لكن هذا ابن غانم وهذا ابن كامل!!
ربتَ سلطان الكبير على كتف ابن أخيه ثم قالَ بنبرة متفاهمة دائمًا يُحدثه بها
"أنا فقط أنبهك لشيءٍ ربما لم تكن لتنتبه له، هذه المنطقة لجبالها لها قمم عالية لم يرتقِ صعودها شخص إلا وسمعنا حكاية موته بعد فترة، كما في الليل تصدح أصوات صراخ مستنجدة مختلطة بعواء الذئاب كأنها تُنبه عن خطرٍ جديد، كثرت الأقاويل عن لعنة موجودة لكبير قبيلة كان يُعذب أفراد قبيلته في هذا الجبل وعندما ينتهي يُلقيه لهذا تُسمع هذه الأصوات "
كان سلطان يحدق في وجه عمه ويتفرس فيه يرى صدقه من كذبه، ودائمًا الأمر ينحصر في الأولى ولا يؤل للثانية، أردفَ سلطان بسخرية
"هل تصدق هذه الخرافات يا عمي؟؟ أنت تفاجئني اليوم حقًا"
ابتسمَ سلطان الكبير وعينيه مُعلقة في الطريق الخالي من المارة وظلام الليل يحاوط الجبال الشاهقة ويصنع سُحبًا بيضاء على قمتها ليُودع الرهبة في قلوب المارين، وكل فترة يظهر ذئبًا شرسًا يقود قطيعًا لا بأس به يحمون تلك لمنطقة
هتفَ بنبرة رزينة لا تفتأ تتركه في حديثه مع ابن أخيه
"بالطبع لا فنحن أبناء هذا الجبل، ولدنا من صخوره وتمرغنا في قفر أرضه، ملامحنا وريثة صحراءه وقلوبنا ذئابه الشرسة لا نترك من يقتحم أرضنا إلا أشلاءً"
جفلَ سلطان لوهلة من وصف عمه الدقيق للبيئة من حوله وانعكاسها على ملامحهم البدوية الجذابة، لا يفهم ما الذي قصده وقتها لكن بعد ذلك فعل!!
في يومٍ كان سلطان مع أصدقاءه في تلك المنطقة مرة أخرى وحدثت مشكلة بينه وبين أحد أفراد القبيلة الأخرى وكان أكبر منه سنًا في العشرين من عمره، كانت قوة الجسد متقاربة إلى حدٍ ما مما جعلَ النزال بينهما يكون قويًا ومليء بالخطورة، وبغتة كان الفتى الأخر يستل عصا خشبية غليظة في سهوٍ من سلطان المترنح -إثر الضربة التي تلقاها في أنفه- ضربة على جبينه بقوة جعلته ينزف بغزارة، يومها فقدَ الوعي في مكانه وأصدقاءه يحاوطونه وعندما أفاقَ وجدَ رأسه ملفوفة بشاش وبعض الرضوض والسحجات تحتل جسده عمه بجانبه على فراشه يُخبره ألا يقلق بعد ذلك لأنه أخذَ حقه
تركت تلك الضربة ندبة على جبينه بشق طولي مائل وقصير قرب حاجبه، أعطته مظهرًا جذابًا ورجوليًا أكثر، هو لا يتذكر الفتى لأن عمه هشمَ عظم جمجمته وأفقدَ أبيه الوعي عندما تدخل للمدافعة عن ابنه.. هو يتذكر عمه وما فعله لأجله في موقفٍ أبيه لم يكن إلا ليخبره أنهما الاثنان أخطئا ... لهذا هذه الندبة غالية على قلبه
كيف لندباتٍ غائرة أن تمنح شعورًا بالامتنان لشخص؟!، بدلاً من أن يُصيبك الكره تجاهها تحب وجودها، تبحث لك ذكرى سعيدة حتى لو سبقها ألمًا!!
رفعَ يده ليتلمس الندبة بحنين جارف لهذا اليوم وابتسامة شجية خاصة بذكريات عمه فقط، تقلَّب على فراشه وأغمضَ عينه في إرادة منه لاستجلاب النوم لكن عادت الذكريات تطرق على رأسه دون شفقة، وتظهر أمام عينه لمحات من الماضي، الماضي الأليم جدًا
جُثة عمه الراقدة على الأرض حولها الكثير من الدماء توحي بقوة ارتطامها من ارتفاعٍ شاهق كالجبل التي تقبع عند سفحه، أعينه مغلقة ولا يتنفس.. هل مات؟
يُشرف عليه من علوه وينادي على اسمه بصوتٍ خفيض جدًا فلا يرد.. هل مات؟؟
جلسَ على ركبتيه وهزه برفق لكنه لم يستجب... هل مات؟؟؟
هزه بقوة أعنف وهو يردد اسمه بين شفتيه وبنفس الهدوء لكن لا رد... هل مات؟؟؟؟
صرخَ تلك المرة بصوتٍ أعلى وهو يضع رأسه المُدرجة بالدماء على فخذه ويُمسك صدره الساكن -دون وجود أي دليل لنبض- بيده الأخرى
"لاااا ... سلطان.... لاااا قم يا سلطان.... أنت لم تمت "
رفعَ بصره المغشى بالدموع عاليًا ليرى ظلاً على قمه الجبل الذي يحمل على سفحه جثة عمه، ظلاً وقفَ قليلاً كأنه يتأكد من موت سلطان ثم غادر ... وهنا قسى قلب سلطان لوهلة قبل أن يُقسم على أن يُذيقه نفس الأمر
كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي يبكي بها سلطان، بعد أن غلّفَ قلبه الجمود وأصابه عطب المشاعر...
فتحَ عينيه عندما تناهي إلى مسامعه صوت طرقًا خافت على الباب، انتفضَ من على الفراش ومسحَ وجهه بكفيه مزيلاً أثار التعب والحزن من عليه، ولو يعلم أن الحُزن والتعب لا تمحيهم مسحة كف غليظة بل تربيته هادئة على الوجنتين حتى يُغلق عينيه بوداعة
اعتقدَ أنها رابحة جاءت لترغي وتزبد ففتحَ الباب بقوة وعلى فجأة ليرمش عدة مرات قبل أن يُهلل ويتنحى لجدته بالدخول
-"الوالدة باشا" هنا؟ لقد زادني شرف مجيئك
ضحكت فاطمة على اللقب الذي يُخصصه لها، ونظرت له بامتنان قبل أن تجلس على الفراش وبدوره جلسَ سلطان بجانبها
-أريد طلبًا منك يا سلطان
-مُريني يا روح سلطان إن طلبتِ القمر أحضرته إليكِ
عادت ضحكة فاطمة تُجلجل مرة أخرى ولكزته في كتفه مُضيفه
-متى تعلمت الكلام المعسول يا ابن غانم؟؟ هل أحببت من وراء ظهري
رسمَ سلطان معالم الصدمة المزيفة باحتراف على وجهه ثم رفع كفيه لأعلى ليُنفي من عليه التهمة
-حاشا لله يا جدتي أنا لا امرأة سواكِ أنتِ وأمي.. لن تدخل امرأة قلبي غيركما لذا كفاكِ عبثًا لأن بإمكاني إثارة غيرتك
رمقته جدته بخبث لكنه كان ثابتًا ينظر لها بعبث رافعًا حاجبه حتى قطعت هي الصمت قائلة بمشاعر طاغية على نبرتها وعينيها
-أريدك أن تكتب لي جوابًا وتبتاع لي هاتفًا
******
كانت على وشك النوم على الفراش قبل أن يسحبها سالم بعنف على الفراش ويوقفها أمامه هادرًا بنبرة لا تحتمل النقاش
-أبعدي أختك عن ابنتك يا بدور لأني لا أضمن ردة فعلي المرة القادمة .. أبعديها وإلا لن يحدث طيبًا
-سالم
نطقت بدور بخفوت وهي على وشك البكاء، ليُجيبها سالم بحدة وعينيه يتقد فيها الشرار
-لن أكرر كلامي يا بدور.. ابنتك تبقى بجانبك لا بجانب أختك وإلا سأخبر أبيكِ عما حدث الليلة وهو يتصرف
بهتت بدور من هجومه المباغت ولم تعرف ما الذي يجب أن تقوله، فلازت بالصمت كالعادة وهي تنظر له بأعين دامعة كأنها تستسمحه أن يسحب كلامه، فلو عرف أبيها بما فعلته رابحة سيضربها ضربًا مبرحًا ويكون هذا بسببها مرة أخرى لأنها لم تدافع عنها وتنطق بأي شيء من فمها الذي يُجيد كلام الغزل لا المواساة، يكفي أنها خذلتها في الخارج أمام ندها سالم وابن عمها سلطان، لقد شعرت بخفوت لمعان الجموح في عينيها... لقد بهتت جراء خذلانها لها
استطاعت أن تُخرج بعض الكلمات المتلعثمة من شفتيها بينما عينيها تجول حوله وهو يُبدل ملابسه بعصبية
-سالم ما حدث في الخارج..
-اصمتي ونامي
زجرها سالم ولم يلتفت حتى ليري الدمع الذي أغرق وجنتيها وملامح وجهها البائسة، كانت نبرتها بمثابة رسالة واضحة ليستدر ويُطيّب خاطرها، لكنه لم يفعل لتسحب إشارتها بقلبٍ متألم وتتحرك نحو الفراش تجر أذيال الخيبة
********
في اليوم التالي
"هذا الهاتف من أجلك يا حبيبة جدتك أعلم أنكِ أردتِ واحدًا منذ مدة، إنه ملكك يا نور عيني ونبض فؤادي... رابحة كل التحديات وصانعتها"
أمسكت الرسالة وفضتها بأصابع مرتعشة وعادت قراءتها أكثر من مرة، وكلما وقعَ عينيها على حرفٍ من حروفها كان قلبها ينتفض فرحًا وتأثرًا بالمقابل، ويقولون ما سبب حُبها لجدتها؟!!... هذا هو سبب عشقها لجدتها
جدتها هي اليد الحانية التي تربت على كتفها في حالات بؤسها، قُبلة دافئة على جبينها إذا ما انتابها حُزن أو تعرضت للضرب... جدتها هي ابتسامة هادئة، ووجهٍ سمح في نهاية يوم مُتعب
ترقرقت العبرات في عسليتيها، واحتضنت الرسالة لصدرها بعد أن قبلتها عدة مرات، التقطت الهاتف الذي ألقته فور أن رأت الرسالة وفضت غلافه لتجده هاتف ذو علامة مميزة ذهبية اللون تحمل شكل تفاحة مقضوم طرفها لمحته البارحة مع سلطان!!!، تعتقد أنه نفس الإصدار لكن بلون أخر فالخاص بسلطان أسود أما خاصتها وردي
لكن مهلاً!!..
جدتها لا تستطيع الكتابة ولا القراءة؟!.. وبالكاد تعرف كيفية استعمال هاتفها ذو الأزرار؟!! كيف ستأتي بهاتف بمواصفات رائعة كهذا؟ ومن كتبَ لها الجواب بهذا الخط الفارسي الجميل كأن خطاط هو من كتبه؟!!
ارتمت على الفراش تُفكر من الذي ستأتمنه جدتها على ابتياع هاتف حديث وكتابة جواب بشكلٍ أنيق وذو رائحة تسلب اللب، من الـ..... جحظت عينيها وارتجت شفتيها قبل أن تنفرجا عن بعضهما بمسافة قليلة عندما زارها خاطر أن هذا الشخص قد يكون... سلطان!!
ازدردت ريقها بتوجس خشية أن يكون هو المقصود من تفكيرها!!، وضعت الرسالة جانبًا وهي تنأى ببصرها عن حروفها المنمقة وخطها الجميل ثم فتحت الهاتف لتجده يُضيء بشاشة بيضاء يقع في منتصفها رمز التفاحة المقضوم طرفها وبعدها خُيرت بين اللغة العربية والإنجليزية لتختار العربية سريعًا لكن ما حدثَ بعد ذلك لم تفهمه، فهو يطلب منها بريد إلكتروني ثم يبحث عن شبكة انترنت وهي ليست مُلمة بكل تلك الأشياء، فلأول مرة في حياتها تُمسك هاتفًا يخصها، ملمسه الناعم الزجاجي وشاشته العريضة ولونه المميز وكاميراته الأربعة جعلتها تشعر بالغبطة الشديدة ليس لأنه هاتفًا حديثًا بمزايا عديدة ورائعة لكن لأنه ملكها، خاص بها هي، لن يتحكم في أحدٌ غيرها.. شعرت في تلك اللحظة أنها كطفل صغير تسلَّمَ أول لعبة في حياته جعلته يبتعد عن الجميع طيلة النهار ليلعب بها..
افتر ثغرها عن ابتسامة وهي تستعيد حروف الرسالة ذات المعنى الجميل والمميز، لينتابها إحساس أخر يزاحم مشاعرها بأنها تمتلك هاتفًا مثلما يملكه سلطان، وهو من كتبَ الرسالة فهي تمتلك أيضًا حروفه وملمس يده على ورقه، وتلك الرائحة كيف غفلتها؟ هي رائحته المحببة لها.. كيف لم تعلم ... هي محظوظة اليوم وبشدة
حسمت أمرها بعدما وجدت أنها لن تستطيع مواكبة الهاتف فستعطيه لمن يُمكنه مساعدتها، استغلت عدم وجود والدها المشغول في أعمال الأرض هو وجدها، وغياب والدته التي تقوم بالتحضير للغداء مع والدتها واتجهت لغرفته قبل أن تذهب لجدتها
طرقت الباب عدة طرقات قبل أن يسمح لها بالدخول ظنًا منه أنها والدته، دخلت وجدته يرتدي عمامته أمام المرآة ولم ينتبه لها فواربت الباب ثم تقدمت عدة خطوات حتى وقفت خلفه وعلى وجهها ابتسامة متلهفة وعسليتين تشعان بغبطة عارمة، التفتَ بغتة ليصطدم بها وهي تنظر له بكل تلك السعادة والبراءة، جفلَ قليلاً لكنه استعاد توازنه ليهتف بنبرة خشنة قاطبًا حاجبيه
-ما الذي تفعلينه هنا ألم أحذرك من التواجد حولي؟
لم تأبه لكلامه فالسعادة التي تشعر بها غطت على كل مشاعرها السلبية الأخرى، أردفت بأعين لامعة ولهفة مترقبة
-أنت من أحضر الهاتف وكتب الجواب لجدتي صحيح؟؟
باغتته بالسؤال فصمت مُجبرًا لا يعرف ما سيقوله، بالتأكيد لن يخبرها أنه جلسَ طوال الليل يبحث لها عن هاتف مثل خاصته بلون مميز، لا يعرف هل تحب رابحة الأزرق؟ فمزاجها دائمًا ملكي ولا تعبأ لأحد!!، أم يبتاع الأحمر ؟!! فهو يُماثل لون ثورتها وكلماتها الهادرة في مشاجرة ما، أم يبتاع الذهبي كلون عينيها؟! يبدو اختيارًا صائبًا خاصةً وهو في الأونه الأخيرة يُحب التقاط الصور من أعين عسلية... أم الأسود كسواد خصلاتها المتحررة من طرحتها؟ يبدو جامحًا بقدرها!!
وفي النهاية وقعت عينه على اللون الذي يشمئز منه ولا يناسب شخصية رابحة على الإطلاق وهو اللون "الوردي"، الهدوء والوداعة التي يبعثها هذا الهاتف لا تمت لرابحة ابنة عمه بصلة لكن لا يعلم لم أرادَ أن يراه في يديها، علّه يحد من جموحها!!
-نعم أنا من فعل ماذا تريدين؟
حسنًا يا رابحة سيعلمك استخدام الهاتف وبعدها ارميه بسهام كلماتك حتى ترشق في قلبه وتُميته، لكن الآن حافظي على ابتسامتك فهو عملَ معروفًا معكِ ومع جدتك، أردفت من بين أسنانها وابتسامتها مازالت تُزين شفتيها
-هل يمكنك تعليمي كيفية استخدامه؟ أرى أنك تمتلك واحدًا مثله فلمَ لا تُخبرني ماذا أفعل معه، فنحنُ الاثنان متشابهان
قالت جملتها الأخيرة بشغف وهي تستشعرها ولا تعلم لمَ قالتها من الأساس وهي لا تناسب الجملة، لكن هي فرحة بشدة لدرجة أنها لا تحسب الكلام الذي يتفوه فيه قلبها وتُخرجه شفتيها
مدت يدها بالهاتف بنفس الابتسامة ثم انتظرته قليلاً ليلتقط الهاتف من يدها بتأفف، وانشغلَ فيه قليلاً وهو ينقر بأصابعه على شاشته وهي تقف تتأمله
عينه الثاقبة المغرية، جبينه المُقطب إثر التركيز، شفتيه المزمومتين، تفاحة أدم التي تتحرك مع كل ازدراده لريقه، رمشت بعينيها عدة مرات وفي كل مرة يبتلع ريقه كانت العدوى تنتقل إليها وتفعل مثله، لاحظها فرفعَ عين بغتة لتهرب بنظرها بعيدًا عنه ليعود مكملاً عمله في الهاتف.. كان يقوم بعمله في صمت، لا ينبس ببنت شفه وهي لا تجرؤ على قطع تركيزه، تقف أمامه كقطة وديعة وتراقب خلجاته، لم يدم الأمر طويلاً حتى أعطاها الهاتف واستدار للمرآة يُثبت عمامتهم، قائلاً بسخرية
-لقد فتحته لكِ حسنًا اذهبي ولا تلوحي به لكل أحد ترينه حتى لا يمنعكِ أبيكِ عنه
رابحة أرجوكِ تمالكِ نفسك، يبدو أنه غاضبٌ من شيء يظهر هذا على تقاسيم ملامحه، لكن ما الذي سيعكر مزاجه وهو استيقظَ للتو كما يظهر على وجهه الجميل؟ هكذا فكرت داخلها، لمحته يخرج من الغرفة فباغتته بسؤال
-هل سجلّت رقمك؟؟
حافظَ على بروده ليقول
-لا لم أفعل؟
-خذ وسجله
-لا واخرجي لأنني لا أحب أن يأتي أحد لغرفتي .. هيّا
رابحة.. رابحة .. أرجوكِ .. انتـ... يا إلهي
في لمحة بصر كانت تُلقي الهاتف على الفراش وتتقدم لتجذبه من جلبابه للخلف وتغلق الباب وتقف أمامه متخصرة وبملامح غاضبة، جعلته يتوقع صراخًا وبالفعل حدثَ توقعه
-أنت لا تمن عليّ يا سيد سلطان، لا أعلم ما الذي دها جدتي لتطلب منك أنت ابتياع هاتفي وكتابة الجواب بخطك البليد هذا؟!!، إن لم تُرد تسجيل رقمك فلا أريده وهذا أفضل على أية حيال لا أريد لهاتفي أن يتلوث، لكن إن كنت ستحدثني فتحدث معي بطريقة مناسبة وتليق بي لستُ فتاةً من الشارع
فاجأته بثورتها العارمة، هو لم يفيض بغضبه الكامن داخله منذ البارحة عليها، كل ما فعله هو أنه أجاب بهدوء على أسئلتها!!، لم هي غاضبة؟؟!
لم يكن مزاجه يسمح بأن يرد عليها لأنه لو فعل سيُبكيها وهو لديه أمرًا أهم من وصلات رابحة للردح الشيق، قابلَ ثورتها بإيماءة باردة من رأسه جعلته يلحظ خلخالها الفضي -المُزدانة به قدمها- ثم سؤال وئيد جعلها تستشيط غضبًا أكثر
-لم أنتِ غاضبة؟
لم هي غاضبة؟... هل يمزح؟!!
كادت ترد عليه وتُعطيه ما فيه النصيب من لسانها الطويل، لكنها تراجعت عندما رأت ملامحه الجامدة، ولوهله انتقلَ لها شعورًا غامضًا لم تستطيع تفسيره فوجدت نفسها تقول له بوداعة وهي تقترب منه تُطبق ذراعيه لصدرها
-ما الذي يشغل تفكيرك ويحزنك إلى هذا الحد؟
نظرَ حوله بسخرية ليهز رأسه قائلاً
-وكيف تعرفين يا شيخة رابحة أن هناك أمرًا يشغلني؟؟
نظرت في عينيه بقوة تُخبره أنها العرافة التي تستطيع سبر أغواره ومعرفة الكامن داخله، لتتحرك شفتيها فيما يُشبه الهامس لكن بعاطفة هوجاء تلبد بين ثنايا الحروف
-أنا أجيد قراءة ما تُخفيه في عينيك
أصابه الإجفال لحظة، لحظة كانت فارقة في نظر رابحة لتعرف أن كلامها صحيح، وأن هناك ما يأكل عقله ويمنعه عن المشاجرة معها واستفزازها
وهو..
انتابه الضعف بعد جملتها حتى لو لم يظهر على ملامحه، الإحساس الذي داهمه خطير، يشعر بسخونته في أوردته وتأثيره على دقات قلبه التي ثارت فجأة، وعقله؟؟ أين عقله!! لم توقفَ الآن عن العمل والتفكير؟
كانت عينيه المُشتتة الغامضة تُقابل عينيها القوية المُصرة، و لقد كان على مقربة من تفتت الحجر الأسود في غُمرة غرقه في العسل
دفنَ كل مشاعره المضطربة داخله وهتفَ ساخرًا بينما يحوّل عينيه عنها
-كل ما أريده الآن هو أن أختفي من وجهك يا رابحة، والمرة القادمة تعلمي أن الدخول لغرفة رجل عازب مثلي قد يجلب لكِ الشُبهة وأنتِ لا تنقصينها
آلمها الكلام وبشدة، لقد غرسَ سكين ثلم بقلبها ولم يسحبه إلا ببطء شديد، يتفنن أن يُشعرها بالدونية وأن يجعلها صغيرة في عين نفسها، يخفض من قدرها ويشعرها بالعجز، وتلك المرة لا ترد عليه رابحة بل التقمت أحجاره في جوفها وصمتت قليلاً ثم نظرت في عينيه نظرة متألمة وخرجت من الغرفة تاركةً إياه يلسعه سوط الندم وليد اللحظة
********
-ما الذي كنتِ تفعلينه في غرفة سلطان؟؟؟؟
قابلتها خنساء في الممر المقابل للسلم وهي تحمل صينية خلطة المحشي وقد استوقفتها عندما لمحتها خارجة من عنده، قالت رابحة وهي تحاول استعادة طبيعتها
-لا دخلَ لكِ
لمحت خنساء الهاتف لتقول بنبرة يغلب عليها الحقد
-وتمتلكين هاتفًا أيضًا
لوّحت به رابحة لتقول بصوتٍ لم يزل منه الاختناق
-نعم ابتاعته جدتي لأني فتاة حسنة التصرف، إن أحسنتِ التصرف مثلي ربما تعطيكِ هاتفها القديم
-أيتها الحقيــ...
قطعت خنساء حديثها عندما لمحت سلطان خارجًا من غرفته ويتقدم نحوهما، ألقى السلام بصوتٍ خافت، ليمر من جانبهما لتوقفه خنساء
-وعليكم السلام يا سلطان وفقك الله وأعانك على أعداءك
نظرت لرابحة وقالتها بنبرة ذات مغزى جعلته يحوّل نظره في نفس الاتجاه ليتفاجأ برابحة وقد أسبلت اهدابها برقة بالغة و في حركة غير محسوبة له جعلته يتصنم أمام ردة فعلها الغير مناسبة؟!، لكن ما إن استدار وأبصرَ ملامح خنساء المشتعلة حتى عرف السبب، فتلك الماكرة لم تفعل هذا إلا لإثارة غيرة الواقفة خلفه بأن تُشعرها أن بينهما شيئًا
حمحمَ ثم نزلَ لأسفل تاركًا نيران مشتعلة بين الفتاتين، خنساء تنظر لرابحة بغل ورابحة تبادلها بتحدي، وفجأة هدأت نظرات خنساء وانفرجت شفتيها لتقول شيئًا مقيتًا يجرح الواقفة أمامها
-هل تعرفين بقاءك في غرفته لن يفيدك فهو عندما يمل منك سيبحث عن المرأة التي يستطيع أن يثق بها ويتزوجها، امرأة ليست جاهلة لم تُكمل تعليمها
يمكنها أن تتقبل أي شيء، إلا سيرة تعليمها، المساس بتلك النقطة يؤذيها داخليًا ويزرع فيها رغبة عارمة للبكاء، حسدت نفسها بصبر على سكوتها لكن الدماء كانت على موقد من الغل والكره، لن تمنحها فوز رؤية تأثير كلامها فيها، ستحافظ على كرامتها ظاهريًا حتى لو كانت معطوبة من الداخل
أجابت رابحة بلا مبالاة ظاهرية
-وهل تعتقدين أن هذه المرأة أنتِ
أومأت خنساء إيجابًا وابتسامتها الواثقة ترتسم على شفتيها، لتجد أنها وعلى حين غفلةٍ منها الصينية التي كانت في يدها أصبحت في يد رابحة وتضعها فوق رأسها وتغرقها بها، وتقف تنظر بتشفي حتى أنها التقطت لها صورًا بالهاتف وهي تضحك
-رااااابحة!!
صرخت خنساء بينما رابحة تنظر لها بتشفي ثم ابتعدت عنها متوجهة نحو غرفتها
**********
-لقد مرَّ الكثير يا فاطمة وقد حان وقتك..
نظرت إلى أوراق التحاليل التي بيدها بشجن وعينيها تغيمان بالدموع وتهدد بالانفراط في أي لحطة، لقد أكلَ السرطان جسدها كما أخبرها الطبيب، في البداية كان في الدم ثم انتقلَ بعد ذلك لرئتيها وعظامها ومعدتها إلى أن استقرَ مقامه في الكبـــد.. وهنا النهاية خاصةً وأنه لم يكن جزءً بسيطًا بل سطح الكبد وفصوصه بأكملها، لم يعرف أحدٌ بذلك إلا هي وسلطان فقط من ائتمنته ولأنه هو من يصطحبها للطبيب
لربما هي سترتاح..
ستترك الحياة وهي تعرف أنها لم تؤذي أحدًا وكانت على قدرٍ من المسؤولية لتربيه خمسة أبناء، أربعة منهم رجالاً أشداء، وابنة كانت قطعة من قلبها ولا زالت، تبسمت بحنين جارف وهي تتذكر طفولتهم؛ أول مرة ضحكوا، أول كلمة "أمي"، أول حبو، أول خطوة، وأول سقطة يتبعها بكاء حتى تتلقفهم وتحملهم إلى حضنها وتربت على ظهورهم..
شقاوة صبيانها ورقة بنتها الوحيدة، مراهقتهم الهادئة فالفتية كانوا مع والدهم دائمًا في العمل والفتاة تقبع بجانبها تدرس أو تقوم بأعمال المنزل
يوم تزوجوا..
كان ابنها غانم أول من تزوج بثريا وأنجبَ منها سلطان وبعدها عُدي –الهارب- وكم بكته وبكت فراقه ودخلته البشوشة عليه، كان عادل حبيب قلبها هو واخوته ولكنه كان الكبير صاحب الأسرار ورفيق سنواتٍ من الصمت بجانب والده
وكلما تزوجَ أحدٍ منهم كانت تفقد قطعة من قلبها، فحتى لو بقوا في المنزل كانت تشعر باختلاف، فأبناءها أضحوا رجالاً بشكلٍ آخر يعولهم أن يقيموا أسرة تعتمد عليهم.. وكم نظرة الفخر التي كانت تلحق بظهورهم ودعاء في غيبتهم لأمٍ تعشق أولادها عشقًا
حدثت نفسها وهي تسترجع ذكرياتها الثمينة بينما تمسك صندوقًا تتطلع لصورهم وهم صغار حتى كبروا
"كم أشبه اليوم بالبارحة يا فاطمة، صرتِ تبكين ذكريات لا تعوض وتستجدين النسيان حتى لا تتألمي ويتألمون بعد فراقك.. لقد ربيتِ وكبرّتِ حان الآن الوقت لتودعي الأمانة وترحلي"
أغلقت عينيها وعندما عاودت فتحهما وجدت صورة لابنها "سلطان" يحتضنها بذراعيه ويخبرها أن تنظر للمصور بينما ينظر لها بطريقة جعلت جسدها ينتفض..
وبيدٍ مضطربة امتدت يدها لتأخذ الصورة وتضعها على قلبها وتبكي، تبكي بشدة ابنها الذي فقدته منذ ثلاث سنوات، ومازال طيفه لا يغيب عنها
عجيب منطق الأمهات، لا ينسين أبدًا!!؛ لا ينسين الألم ولا ينسين السعادة ويبقين يتذكرن فاجعة موت الأبناء، فالناس ينشغلون بالحياة إلا أنها لا تفعل، بل تبقى تتذكر حتى إذا ما صلّت كان دعائها لابنها يسبق دعائها لنفسها..
شعرت يومها أنها لن تعش كثيرًا ويجب أن تموت وراءه لكن القدر أمهلها عشرات السنين حتى تصنع عائلة أخرى يملئها صخب الأحفاد..
-لقد اشتقت إليك يا ولدي ما عدت تزورني في المنام ، سأحل عندكم قريبًا.. سنتجمع مرة أخرى لكن في الجنة
تحدثت من بين نحيبها وجسدها يهتز من فرط البكاء، دموعها أغرقت وجهها حتى عباءتها ابتلت ببعض القطرات التي سقطت سهوًا وبسرعة، كأن عينيها لا تجد وقتًا لإيقاف الدموع، فالوقت ضيّق والألم كبير..
-جدتي افتحي لي الباب ؟؟ لماذا تغلقين بالمفتاح؟ .. يا الله
وها قد أتت المصيبة الكبيرة وحبيبة قلبها، ابتسمت بحنو قبل أن تزيل دموعها وتغسل وجهها وتخفي صندوق الذكريات في الخزانة، فتحت الباب بأيدي مرتعشة مخافة أن تلاحظ رابحة أنها تبكي
-أي ريحٍ أتت بكِ يا رابحة .. خيرًا!
تحدثت أولاً وهي تترجل نحو الأريكة حتى تجلس مُشتتة انتباه رابحة عن بكاءها والتي اندفعت لتقول بلهفة بينما تجلس تحت قدم جدتها وتضع يديها في حجرها لتستند عليهم
-جدتي هل يمكنني الزواج بسلطان؟؟
ردت عليها فاطمة باستعجاب زاجرة
-تأدبي قليلاً يا رابحة في الحديث ما هذا الانفلات؟؟؟
قلّبت رابحة شفتيها لتقول بضيق متجاهلة حديث جدتها
-بدور تزوجت سالم بعدما كانت ستتزوج عدي الذي هرب فتزوجها ابن عمته سالم الذي يحبها، إذًا فمعجزتي أيضًا قد تكون قادمة لكنها تأخرت قليلاً... هيا يا معجزة أناأنتظر
قرصتها فاطمة من أذنها وهي تكز على أسنانها قائلة
-مصيبة لسانك هذا مصيبة وسيجلب لكِ العديد من المشاكل
تأوهت رابحة ووضعت يدها على يد جدتها التي تمسك أذنها لتقول برجاء
-ااه جدتي مابك؟ أنا أدردش معكِ بما أشعر لا تجعليني أندم أنني أخبرتك
-اصمتي
-هل يعجبك حال عمتي ابتهال والدة فراس وسالم عندما تزوجت من شخصٍ لا تحبه؟!! لأن العادات تقول ألا تتزوج من خارج القبيلة؟ هل أنتِ مرتاحة برؤية ابنتك تتقلب على جمرٍ مشتعل وتصمت حتى تسير حياتها كما خططها أبوها؟
تجهمت تقاسيم وجه فاطمة وجمدت إثر الحديث الذي لا يجلب لها سوى المشقة والعناء، فابتهال ابنتها عانت الأمرين بهذا الزواج، فسعيد زوجها لم يراعيها ويحتوي ما تشعر به بل كان أول كل شيءٍ وأخره هي نفسه
لاحظت رابحة امتقاع وجه جدتها فأردفت بما يُشبه مصالحة
-جدتي أنا أسفة لم أقصد أن أحزنك
تركتها فاطمة لتقول بحدة
- لا تتحدثي بما يُسيء للناس أنتِ لا تعرفين ما حالهم وما يفكرون
-أسفة
أطرقت برأسها للأسفل ثم تلبستها الشجاعة فجأة لتهتف بانفعال
-لكن سلطان وجدي يستحقون الاساءة يا جدتي، الأول يجرحني دومًا ولا يفعل حسابًا للقرابة حتى والثاني... أنتِ لا تريدينني أن أبدأ بسرد ما فعله بي صحيح؟؟
دُهشت فاطمة لتهتف
-ألم يكن سلطان جميلاً منذ قليل حتى أنكِ استعجلتِ معجزة من السماء لتأتي وتجمعكما سويًا؟؟
مطت رابحة شفتيها بضيق وهي تقاوم رغبة في البكاء قائلة
-لا نجتمع سويًا إلا ويؤلمني بحديثه، أو يرميني بنظرات دونية، أنا أستحق بعضها لا أنكر لأن أسلوبي حاد بعض الشيء لكنه لا ينظر لعيناي حتى، أشعر أن هذا العشق يا جدتي الذي أكنه ما هو إلا سراب أركض خلفه حتى نصل إلى جرف، فالرجوع هنا مؤلم مُتقد بالذكريات والتقدم فيه مميت
تألمت لها فاطمة، فحفيدتها تكبح بداخلها الكثير وفور أن تبوح ستغرقهم من فيض قهرها، زفرت الهواء الذي لا يسعه داخلها ثم أمسكت رأسها بين كفيها وبيد كانت تزيح طرحتها وتعبث بشعرها المموج والأخرى كانت تُربت على ظهرها بحنو بينما تقول بهدوء حاني
-نحن لا نعرف نصيبنا من تلك الحياة كيف سيكون وأين سنجده، كل ما علينا فعله هو أن نجتهد لنحصل على ما نريد وفي النهاية لن تتحقق سوى إرادة الله التي تفوق كل شيء، لو كان سلطان مكتوبًا لكِ سيتزوجك ولن يقف بينكم حائل ولا حتى جدك.. وإن لم يكن لك فاعلمي أن هذا الخير وأن الله ادخرَّ لكِ نصيبًا في زوجٍ أو شيءٍ آخر فلا تجزعي وارضِ بنصيبك فيكرمك الرحمن بعطائه
دومًا ما كانت تلجأ لجدتها في مواقفها الصعبة، تشعر أن قلقها المستولي عليها قد انزاح ولم يعد له أثر، فقد تبقى شعورًا آخرَ لا تفهمه، ربما بسبب ما خططته وهي مُقبله عليه، وللأسف لن تستطيع إخبار جدتها به، ستعنفها وستمنعها وهي تريد تجربة حظها.. ستجتهد كما تقول وتنتظر إن كان من نصيبها أو لا وهي لن تقبل بالخسارة!
شعرت فاطمة بصمتها فأمالت رأسها لتجدها شاردة فقالت بنبرة عالية بعض الشيء بها بعضٍ من الجدية
-من الأفضل ألا تشغلي تفكيرك عما سيحدث وأن تنتبهي لتصرفاتك جيدًا فقد وصلتني عدة شكاوي منكِ هذا الأسبوع ولستُ في حاجة لتكذيبهم أنا أعرف أفعالك جيدًا
قلّبت رابحة شفتيها لتقول بجدية
-هل لحقت خنساء تشتكي؟؟ والله إن الفتاة قليلة الحياء وتمتلك من الوقاحة ما يكفي العالم كله
أجابت فاطمة في استنكار خاصةً وهي ترى ملامح رابحة المُصدقة لنفسها!
-تأدبي يا رابحة قليلاً ماذا فعلت لكِ حتى تكرهيها لهذا الحد؟
رفعت رابحة رأسها وأخذت تُشير بيدها وهي تتحدث بنزق
-ألا ترين يا جدتي أنها بالكاد تمكث في بيتها بحجة أنها تأتي لخالتها هنا؟؟ أليس هذا بيت كامل الهاشمي وليس بيتها
أخبرتها فاطمة بجمود
-هي من العائلة أيضًا جدها يكون أخ جدك، وجدها من والدتها ابن عمهم لذا جميعنا أقرباء أنتِ تعرفين أننا لا نتزوج من خارج العائلة
ثم قطبت حاجبيها وضيّقت عينيها وهي تستطرد
-ثم ما الذي يحزنكِ أنها هنا؟ هذا ليس السبب الرئيسي
أجابت رابحة بينما تخفي عينيها عن جدتها فالحديث في هذا الأمر معها يُصيبها قليلاً بالحرج
-هي تحب سلطان يا جدتي، أشعر أنها تبقى لأخر الليل حتى يوصلها لمنزلها وأكد لي شكوكي أنها لا ترضى المبيت رغم أن الغرف تتسع، وأيضًا تريد إظهار نفسها أكثر أمامه فعندما يأتي تكون إما بالمطبخ أو تقوم بالتنظيف... هل هكذا سيحبها؟؟
ضحكت فاطمة على كلام رابحة النابع من غيرتها والأخيرة تنظر لها بحنق وتبرطم بخفوت، حتى قطعَ صوت الضحكات هدير رابحة المختنق
-جدتييي
-ألم أقل لكِ أنه إن كان نصيبك لن يقف أمامكما شيء؟
-ولكن كما قلتِ اجتهد وأنا أحاول أن أزيل العقبات التي تقابلنا، ومن ضمن هذه العقبات خنساء تلك الحيّة
تجهمت ملامح فاطمة لتزجرها قائلة
-لا تسبي أحدًا غائبًا ألم أعلمك؟؟
أردفت رابحة بقهر
-والله يا جدتي أنتِ لا تعرفيها هي تُمثل وسترين
أشاحت فاطمة بيدها أمام وجهها، بينما رابحة مازالت تجلس في الأسفل وتعابير وجهها حانقة
-اذهبي من أمامي لقد رفعتي لي ضغطي .. هيّا هيّا
استقامت رابحة مرة واحدة وقالت باصرار بينما تلف طرحتها السوداء المنقوشة بالرسومات البدوية على شعرها
-سأثبت لك "قالتها واستدارت لترحل ثم عادت مرة أخرى قائلة بنفس الإصرار" وسلطان سيكون لي شاء أم أبى هذا الملعون الوسيم سيكون لي وسأخرج كل ما بي عليه ..
وضعت فاطمة يدها على رأسها بقلة حيلة من حفيدتها، بينما رابحة ترغي وتزبد بكل ثقة أنها ستتزوج من سلطان
تقدمت رابحة عدة خطوات وتلك المرة من جعلها تستدير كان نداء جدتها المتسائل كأنما تذكرت للتو
-رابحة... ما الذي فعلته مع خنساء
-ألم تخبرك؟
-لا
عضت رابحة شفتيها وقالت بينما تفتح الباب وقبل أن تهرب وتلحقها عصا جدتها
-جعلتها تستحم بخلطة " المحشي"
-رااااابحة
انطلقت خارجة من الغرفة قبل أن تلحق بها براثن جدتها والتي ستدك جسدها بالأرض وتساويه بها، لقد استفزتها خنساء بقولها أنها لم تكمل تعليمها، ولا تفقه شيئًا وزيّلت حديثها بقولها "جاهلة"، فلم لا تريها أنها حقًا جاهلة وتريها ماذا يفعل الجاهلون!!
*********
البوح يا عزيزتي..
البوح هو أساس كل شيء ونهايته، إن في البوح راحة وفي عدمه ألم
ستعرفين شعور أنكِ ملكتِ الدنيا بأسرها عندما تجدِ من تبوحين له... من تبكين على صدره فيربت على رأسك بوداعة
تثرثرين بجانبه وهو يستمع دون إبداء أي تجهم، حتى لو لم يعطكِ الحلول... يكفي أن في البوح راحة تنهار عندها كل الحصون
السعادة التي تعيشها، والشعور الطاغي بالحب في كل ساعة بعدما فقدته لمدة أعادَ إليها روحها وقليلاً من الأمل للعيش في حياة خالية من التعرجات التي كانت تُحيد بهم عن حياة رغيدة
تعلم أن الحياة ليست أبيضا أو أسود بل مزيجًا بين اللونين مع تخلل بعض الألوان الأخرى التي تُضيف بعض الشغب، فالحياة الروتينية مملة وتقتل الحب، وهي كانت تنتظره دائمًا أن يلون حياتها يُعطيها من أصفر البهجة وأخضر الهدوء ونقاء الأزرق، بينما هي لا تُعطي سوى الرمادي وتبقى على الحياد، وربما تضيف بعض البني على أنه أسود فاتح قليلاً
لكن تلك السعادة أصبحت لا تُمهلها الكثير من الوقت لتنجلي سريعًا مُحدثة صخبًا مدويًا أثره في سماء قلبها، ما إن فتحَ عُدي باب غرفة الفندق حتى تراجع خطوتين إلى الوراء في صدمة، وعندما رأت عين عرفت أن القادم يحمل خطبًا جللاً، وما أن أبصرت من يقف على الباب حتى انسلت شهقة من بين شفتيها لتقف دون حراك هي الأخرى
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romantikأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك