الفصل الثالث والعشرون.. 1

267 23 0
                                    

-...يوسف هل يمكنني أن أسألكَ عن أمرٍ ما؟  حرك الثاني رأسه نحوه وكأنه للتوِ قد نهضَ من سباتٍ طويلٍ، يتابع مراد بينما تركَ الحاسب المحمولَ على الطاولةِ أمامه: مابكَ هل كنتَ نائمَا؟
..كنتَ ترسمُ قبلَ لحظاتٍ.
-لا أدري يا مراد، يبدو أنني شردتُ مجددًا.  رفع رأسه عن ظهر الأريكةِ ثم بدأ يمسح على وجهه بكفيه، عقله مزدحمٌ بالكثيرِ والكثيرِ.
قاطعه مراد مجددًا بقوله: هل أعدُ لكَ شيئًا تشربه؟
هز رأسه نافيًا، يجيب بنوعٍ من الاهتمامِ: كنتَ ستسألني عن شيءٍ ما.
-أتعلمُ؟ أفكرُ منذ ما يزيد عن الساعةِ كيفَ أفتحُ معكَ الموضوع، حتى قررتُ في النهايةِ أن أسألكَ مباشرةً دون لفٍ ودوران.. تابع بينما ضاقت عيناه: ما عملكَ مع تحليل الحامضِ النووي؟
-يا إلهي، ألا يمكنُ لامرأةٍ أن تحافظَ على سرٍ لأكثر من أربعِ وعشرين ساعةً؟  ضربَ كفيه ببعضهما بقلةِ حيلةٍ، ليبتسمَ مراد على كلامه، إنه محقٌ في الواقعِ..
..على الأقلِ أخبرتكَ أنتَ وليسَ أحدًا آخر. 
أومأ مراد موافقًا ثم أكمل بتلقائيةٍ: تخيلْ لو أنها أخبرتْ فريدة مثلًا؟ عندها كانت عزيزتي الثرثارةُ ستقولُ لمريم وبالتالي يصبح لديها سببٌ منطقيٌّ أكثر كي تتخلى عنكَ.
وهنا تمتعضُ ملامح يوسف بعدم فهمٍ ويجيبه بسؤالٍ: من أينَ علمتَ أن التحليل من أجلِ مريم؟
-ماذا؟ التحليلُ من أجلِ مريم!! كانت الصدمةُ باديةً على وجهه بوضوحٍ.
يسأله يوسف من جديدٍ: وما الذي سيزعجها غير هذا؟  توقفَ عن الحديثِ لحظةً.. لتتسعَ عيناه بصدمةٍ، وكأنه للتوِ فقط قد أدركَ المشكلةَ، همسَ بأحرفٍ وصلت إلى مراد: ياللغباءِ، كيفَ لم أنتبه؟
وأنا أقولُ لماذا كانت ليلى تنظرُ إليَّ بذلك الشكلِ المخيفِ، والحالُ أنني أفسدتُ منظري بنفسي.
-سنعودُ لغبائكَ فيمَ بعد، لماذا تجري التحليل لمريم؟ هل تشكُ في شيءٍ ما؟ سأله مراد بشكٍ، هزَ يوسف رأسه نافيًا بسرعةٍ –وقد أدركَ في داخله أن عليه الحفاظ على السرِ لبعضِ الوقتِ-، ليعطِ مراد قسمًا من الحقيقةِ فقط..
-إنه من أجلِ جمعِ المعلوماتِ عنها ليسَ أكثر، ربما يساعدني في إيجاد أي طرفٍ عن عائلتها يومًا ما..
يومئ له بتفهمٍ، ثم يعودُ للنظرِ إلى حاسبه المحمولِ..
شرد يوسف لثانيةٍ أخرى، لا عليه حقًا أن يجد حلًا لمشكلةِ الاستيعابِ المتأخرِ التي باتت لديه في الفترة الأخيرة..، حركَ رأسه ناحية مراد وعاد يسأله ثانيةً: يصبحُ لديها سببٌ منطقيٌّ أكثر! وما هو السببُ غير المنطقي الذي تعرفه أنتَ؟.. مراد أنتَ لا تخفي عني شيئًا أليسَ كذلكَ؟
-أنا؟ ماذا سأخفي يا يوسف؟ أقصدُ الفروق الاجتماعية وهذه الأمورِ.. أليسَ الأمرُ غير منطقيٍّ في رأيكَ؟ أجابه مراد سريعًا فيما كان يحاول إخفاء ارتباكه، ما به يوسف يتذكر كل تفاصيل الحوار في غير وقتها؟
-فهمت. عاد يرخي جسده على ظهرِ الأريكةِ، الواضح أمام مراد أنه اقتنع حقًا..
تابع يوسف أثناء تحديقه بسقف الغرفةِ: أتعلمُ يا مراد؟ خطر على بالي أمرٌ سخيفٌ، ظننتُ أن مريم تركتني بسبب ميرا، تحدثت معها مثلًا وهددتها بأي شيءٍ سخيفٍ، ولأن عزيزتي غبيةٌ بعضَ الشيءِ تخلت عني.. سخيفٌ أليسَ كذلكَ؟ عاد ببصره نحو مراد وهو يضحكُ ببساطةٍ.
بالانتقالِ إلى مراد، يا إلهي ما هذا حقًا؟ لقد سردَ الموقفَ كما لو كان شاهدًا عليه.. ويضحكُ ببساطةٍ هكذا؟
بملامح مبهوتةٍ تابع مراد النظرَ إليهِ، محاولًا العثور على جوابٍ دون جدوى.
-لم أعد أفهم هل أنتَ ذكي للغايةِ أم غبي. همسَ بخفوتٍ ثم أكمل بنبرةٍ أعلى: أجل سخيفٌ، على كلٍ هيا عد إلى لوحتكَ.. غدًا موعد التسليم كما تعلمُ.
-سأفعلُ، صحيح إذا حدثَ وجاءت مريم إلى الشركةِ في أي وقتٍ افعل أي شيءٍ وأرسلها إلى مكتبي، عليَّ الحصولُ على تلكَ العينةِ بسرعةٍ.
....................................................
-مريم هل أنتِ وكريم متخاصمانِ أم ماذا؟   كانت تجمع كتبها حين وصل إلى مسامعها هذا السؤال من سلمى، استدارت للخلفِ مجيبةً: لماذا تفترضينَ هذا؟
-لأنها المرة الأولى التي لا يأتي فيها ويجلس معنا، وأنا لم أفعل له شيئًا، لذا تساءلتُ..
-أليس من الممكن أن يكون في مزاجٍ سيءٍ بلا سببٍ؟ هل يجب أن أكون أنا المسئولة عن كل شيءٍ؟
-لم أقصد، ولكن لا أحد غيركِ يكون في مزاجٍ سيءٍ بلا سببٍ يا عزيزتي.. ابتسمت سلمى بينما عادت تنظرُ في هاتفها، تتفحص صفحتها الشخصية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أوقفت إصبعها فجأةً أمام أحد الأخبارِ، ضاقت عيناها وهي تحدقُ به –وتحديدًا بتلكَ الصورة المرفقةِ مع الخبرِ-
-هل عادَ هذا إلى الساحةِ مجددًا؟  كان تتحدثُ مع نفسها ولكن صوتها ارتفع قليلًا، ليصلَ إلى مريم التي سألتها بلا اهتمامٍ: من هو؟
-يوسف ديميرهان..  أجابت سلمى بينما بدأت بقراءةِ الخبرِ على مسامع مريم: " بعد أن شاعت الكثيرُ من الأخبار عن وجودِ علاقةٍ بينه وبينَ طالبةٍ جامعيةٍ، الوسيم الثري يوسف ديميرهان يعود لليالي اسطنبول مجددًا مع إحدى جميلات الطبقةِ المخمليةِ.."
وهناكَ صورةٌ لهما أيضًا..
-يوسف..؟ همست بخفوتٍ، بالكاد تمكنت من الحفاظِ على ثباتها كي لا يفتضح أمرها، إلا أنها لم تستطع تمالكَ فضولها.. اقتربت من سلمى لتلقي نظرةً على الصورةِ..
تبدو حقيقيةً، ربما هو ليسَ واضحًا ولكن هذا يوسف حقًا، أجل من المستحيل أن تخطئه بعد كل هذه الفترة سويًا..
من هذه؟ لم ترها من قبل..
على الأقلِ ليست الأفعى ميرا.
تنهدت طويلًا بملامح عابسةٍ قبل أن تقول: أنا.. سأغادر، لدي الكثير من الأعمالِ، أراكِ غدًا يا سلمى..
أغلقت الباب خلفها بعنفٍ، تاركةً سلمى تنظرُ في عقبها مندهشةً وتتحدثُ مع نفسها: ما بها غضبت هكذا؟ كأنها هي الطالبةُ الجامعية حبيبته..
توقفت عن الضحكِ لحظةً ثم تابعت باستنكارٍ: هل من الممكنِ أن تكونَ هي حقًا؟؟..
***************************************
فتح باب مكتبه بهدوءٍ ودخل وهو ينزع السماعات من أذنيه، رفع كفه الأيسرَ ليلقي نظرةً سريعةً على ساعةِ يده، جيد ما زالَ لديه حوالي ساعة على بداية الاجتماعِ..
والآنَ، ماذا؟ أجل قهوة..
كاد يمسكُ هاتفَ المكتبِ ليسمع في ذات الوقت طرقاتٍ هادئةٍ على البابِ، أذن للطارقةِ التي يعلم هويتها جيدًا.
-صباح الخير يا ليلو، جئتِ في وقتكِ.. هلا تعدين لي فنجانًا من القهوةِ لو سمحتِ؟
-كما تريد، ابتلعت ريقها بترددٍ قبل أن تتابعَ: يوسف هل أنتَ بخيرٍ؟
-قد تندهشين مما سأقوله ولكن معنوياتي مرتفعةٌ اليومَ، ولا أريد أن أفسد مزاجي بأي شيءٍ، سأركزُ على الاجتماع فقط..
-جيدٌ.. ابتسمت بتكلفٍ ثم عادت تنظر أرضًا، قطب حاجبيه وهو يراقبها ثم سألها باهتمامٍ: ماذا هناكَ هل تريدين أن تقولي شيئًا؟
-أبدًا.. هزت رأسها نافيةً، سأحضر لكَ القهوةَ سريعًا ثم آتي..
أغلقت الباب خلفها سريعًا، ماذا عليها أن تفعلَ الآنَ؟
-أوف، وهذه الأخبار تنتشرُ بسرعةِ البرقِ، هذه المرةُ احترقتَ يا يوسف..
...في ذات الوقتِ كان مراد جالسًا على مكتبه يتابع العمل بتركيزٍ، تقتحم فريدة المكتبَ مغلقةً الباب خلفها بعنفٍ وهي تقولُ: أينَ زير النساءِ الحقيرُ ذاكَ؟ هل جاءَ؟
-صباح النورِ يا عزيزتي، إن كان المقصودُ بهذه الإهاناتِ هو يوسف فأعتقد أنه جاءَ، والآنَ هل لي أن أفهمَ المشكلةَ؟ تحدثَ وهو يتابع عمله مما أثار غيظها أكثرَ، لتقتربَ منه مغلقةً الحاسب المحمولَ ثم تضعَ هاتفها أمامه..
-ماذا هناكَ؟ زفر بمللٍ ثم انتقل ببصره إلى هاتفها الموضوع أمامه، لتضيقَ عيناه وهو يقرأ الخبرَ.. ، تتابع فريدة الكلامَ بانفعالٍ: حسنًا أنا أريده أن يفعل أي شيءٍ ويثير غيرتها، ولكن ليسَ إلى هذه الدرجةِ، وأمام الصحافةِ أيضًا..
-متى حدثَ هذا؟ لقد كان معي ليلة الأمسِ كاملةً؟ لا بد أنها صورةٌ قديمةٌ..
-لا تدافع عنه، يرتدي ملابسَ شتويةً، كلانا يعلمُ أنه على علاقةٍ بمريم منذ أواخر الخريف وبالتالي فهو خائنٌ وحقيرٌ بلا شكٍ..
-أنا آسفٌ ولكن.. لماذا هو خائنٌ؟ ألم تتركه صديقتكِ المحترمة؟ هل هو مجبرٌ على الإخلاص لها حتى بعد أن ينفصلا؟  عقد ذراعيه أمامه بضيقٍ ثم تابع: فريدة لا تثيري أعصابي، ولا تتشاجري معه وتفسدي مزاجه قبل الاجتماعِ، وإلا سيفسد المدير حياتنا جميعًا..
-تدافع عن ذلكَ الحقير لأنكَ خائنٌ وحقيرٌ مثله، أكرهك.  أمسكت علبة الأقلامِ الموضوعةِ بعنايةِ على المكتبِ ثم بدأت بإلقاء محتوياتها عليه واحدًا تلو الآخرِ..
-ماذا تفعلينَ؟ فريدة اختفي من أمام وجهي بسرعةٍ..  بصعوبةٍ تفادى ضرباتها وهو ينهضُ من مكانه ليدفعها خارجًا نحو البابِ ثم يغلقه خلفها، عاد نحو الداخلِ يتحدثُ مع نفسه بصوتٍ مرتفعٍ: ما هذا الآنَ؟ ما هذه المصائبُ التي تقحمُ نفسكَ فيها يا يوسف؟
.......................................................
ضغطت بقوةٍ على الملف الذي بين يديها، في داخلها تلعنُ حظها السيئ الذي جلبها إلى هنا، وفي هذا اليومِ بالذاتِ..
كأنه لا يوجد أحدٌ آخر يستطيع إرسال الملفاتِ إلى الشركةِ غيرها، هي ليست قادرةً على رؤيته الآن.
انفتح باب المصعدِ لتخرجَ منه هي وتبدأ بالسيرِ في اتجاه مكتبِ طارق.. كالعادة ليسَ موجودًا، ماذا عليها أن تفعل الآنَ؟
-أجل مراد، سأتركه مع مراد. استدارت للخلفِ مغيرةً طريقها، وقفت أمام مكتبهِ ثم طرقت البابَ بلطفٍ، لم تجد ردًا لذا فتحته وهي تطرقُ مجددًا.
-ألم أقل لا أريد أن أراكِ اليومَ؟ قالَ بغضبٍ وهو ينظر نحو البابِ ليتفاجأ بمريم تبتسم وتقولُ: من المؤكدِ أنني لستُ المقصودةَ..
-مريم، أنا آسف تعالي.. نهضَ من مكانه متابعًا: ظننتكِ فريدة، المزعجةُ تهاجمني بسببٍ ودون سببٍ.
-لا عليكَ، المهم أنا أحضرتُ هذا الملفَ لطارق بيه ولكنه ليسَ موجودًا، هل يمكنكَ أن تعطيه إياه عندما يأتي؟
-بالطبعِ، اتركيه على المكتبِ وأنا سأحضر لكِ شيئًا تشربينه، ما زال هناك بعضُ الوقتِ حتى موعدِ الاجتماع.
-لا لا داعي لتعطلَ نفسكَ، أنا مشغولةٌ أيضًا وعلي العودة إلى الجامعةِ.
-حسنًا كما تريدينَ. أومأ لها بتفهمٍ، وكأنه للتوِ قد تذكرَ شيئًا، عاد يتحدثُ ثانيةً: هل يمكنني أن أطلبَ منكِ خدمةً صغيرةً قبل مغادرتكِ؟
-بالطبعِ تفضلْ..
-هناكَ بطاقةُ ذاكرةٍ صغيرةٌ حمراء اللونِ، أعتقد أنها مع ليلى، هل يمكنكِ أن تحضريها من أجلي، فريدة لن تفعل لي أي شيءٍ الآنَ..
-لا مشكلة، في مكتبها أليسَ كذلكَ؟  أومأ لها بالإيجابِ لتبدأ هي بالسير نحو الخارجِ، في ذات الوقتِ أمسكَ هو هاتفه سريعًا وضغط على زر الاتصال بأحد الأرقامِ..
-..أسرع وخذ بطاقةَ الذاكرةِ خاصتي من ليلى، مريم قادمةٌ لتأخذها الآنَ.
أغلقَ الهاتفَ محدثًا نفسه: أتمنى ألا يتشاجرا كعادتهما.
.......................................................
ابتلعت ريقها بينما توقفت أمام الباب الزجاجي لمكتبِ ليلى، وخلفه.. ذاكَ البابُ الآخر، هناكَ قضت قسمًا جميلًا من حياتها، معه..
ليسَ وقت هذا الآن، بطاقة الذاكرة.
ليلى غير موجودةٍ، كيفَ ستجدها الآنَ، يبدو أنه لا مفر من طلب المساعدة منه..
تقدمت بخطواتٍ مثقلةٍ نحو مكتبه وطرقت الباب، سمعت صوته اللطيف يأذن لها بالدخولِ..
ثم.. –وبأناملها المرتعشةِ- حركت مقبض الباب ببطءٍ،  دخلت وهي تحاول رسم ملامح هادئةٍ على وجهها.
نجح في التظاهر بالدهشةِ لدى رؤيتها، أفلت القلمَ فوق اللوحةِ ثم نهض من مكانه وبدأ يتحدثُ: مريم، أهلًا بكِ، هل هناك شيءٌ.
-أنا.. أعني مراد، مراد كان يريد بطاقة ذاكرةٍ من ليلى ولكنها ليست هنا، هل تعرفُ أين هي؟ سألته بترددٍ، لتراه يعبثُ ببعض الأغراض على المكتبِ بعشوائيةٍ ثم يجيبُ: ها هي.. إنها معي.
-هل يمكنني أخذها؟
-تعالي وخذيها إن أردتِ. استند على حافة المكتبِ وتابع النظر إليها ببرودٍ، واقفةٌ بالقربِ من الباب، وأصابعها على ما يبدو ترتعشُ قليلًا.
ما بها هذه؟ من المستحيل أن تكون خائفةً منه.
زفر طويلًا ثم قالَ وهو يتابع النظر إليها: أظن أنني قلتُ لكِ سابقًا.. أحترمُ قراركِ، وأتقبلُ الانفصالَ أيضًا.
-وتتخطاه سريعًا أيضًا، لاحظتُ هذا.. للمرة الأولى ترفع رأسها نحوه، بنظراتٍ ساخرةٍ ولا مباليةٍ.
يمتعضُ هو قليلًا ثم يسألها بعدم فهمٍ: ماذا تقصدين؟
-لا أقصدُ شيئًا.  أجابت وهي تسير نحوه، مدت يدها على المكتبِ لتلتقط بطاقةَ الذاكرةِ إلا أنه سبقها واضعًا يده فوقها، رفعت رأسها تنظر إليه وإلى وجهه العابسِ ثم تحدثت: ما هذا الآنَ؟
-وأنا أسألُ نفس السؤالِ، ما هذا؟ هل سترمين الكلام هكذا وترحلين دونَ شرحٍ؟
-أنا من سيشرحُ أليسَ كذلكَ؟ أنا من يجبُ أن تبررَ؟ على غير إرادةٍ ارتفعت نبرة صوتها.
تنفست بعمقٍ للحظةٍ ثم تابعت: نسيتُ، لستَ مضطرًا لتبرير أي شيءٍ، نحنُ انفصلنا وانتهى، أليس كذلكَ؟
-لماذا لا أفهمُ أي شيءٍ مما تقولينه؟
-أوف ليسَ لدي الوقتُ لأستمعَ إلى سخافاتكَ هنا، أعطني هذه.. سحبت بطاقة الذاكرة من بين أصابعه ثم بدأت تسيرُ نحو البابِ، لينهض هو لاحقًا بها يقول: انتظري هنا، حسنًا أنتِ غريبة الأطوار دائمًا ولكنني لا أفهم شيئًا الآنَ، ما الذي تنتظرين أن أشرحه لكِ؟
ثم .. أجل نحنُ انفصلنا وانتهى وأنا لستُ مضطرًا لتبريرِ أي شيءٍ.
-وتقولها بصراحةٍ.. حاولت تمالك غضبها دونَ جدوى، أجل موقفها غير مبررٍ الآنَ، وليسَ من حقها أن تحاسبه ولكنها..
فقط.. تغارُ.
وقعت عيناها على لعبةٍ بلاستيكيةٍ صغيرةٍ في أحدِ أركان الغرفةِ، وبدون وعي منها التقطتها سريعًا ثم ألقتها في وجهه، لو لم تفرغ طاقتها السلبية ستنفجر الآنَ..
بصعوبةٍ تفادى ضربتها، ما بها هذه؟ وما الذي أغضبها هكذا؟..
بسرعةٍ سارَ خلفها و.. قبلَ أن تتمكنَ من الخروجِ كان هو قد ضغطَ على البابِ بكفه ليرتدَ منغلقًا.
رائحةُ عطره القويةُ تحيط بها من كلِ جانبٍ الآنَ، ترى.. هل صوتُ نبضات قلبها الذي ارتفع فجأةً.. هل يصلُ إلى مسامعه؟..
بترددٍ استدارت للخلفِ نحوه، استندت بظهرها على الجدارِ، وراحت تنظر إليه.
-لا أسمحُ بأن تهاجميني وتضعيني في خانةِ المخطئِ مع أنكِ السببُ في كلِ ما وصلنا إليه.. لذا، إذا كانت لديكِ مشكلةٌ تفضلي وقولي..، لا يعجبني رمي الكلامِ وحركاتُ البناتِ هذه..
..آه، ليسَ لأنني أهتمُ بالتبريرِ لكِ، بل لأنني لم أفعلْ شيئًا خاطئًا، لذا..
لا أنصحكِ بأن تضغطي عليَّ، تجاهلتُ كلَ تصرفاتكِ حتى الآنَ لأنني أردتُ هذا، حقًا.. لا تحاولي العبثَ معي..
لم تتكلم، لم تعطه جوابًا، لماذا توقف عقلها عن العملِ من مجرد قربه..؟
نظرةٌ مبهمةٌ يصعبُ تفسيرها ظهرت على وجهه أثناء مراقبته لها، ليهمسَ بعدها بينما ضغطَ بقوةٍ على البابِ من خلفها: أنتِ يعجبكِ هذا الوضع بيننا أليسَ كذلكَ؟
-أي وضعٍ؟ لم أفهم.. على الرغم من أنها حاولت الحفاظ على ثباتها إلا أن صوتها خرج مهزوزًا بعض الشيء.
-أنتِ فهمتِ ما أعنيه جيدًا وتراوغينَ الآنَ، ولكن هل تعلمينَ؟ أنا.. كنتُ مقتنعًا أنني سأقع في مثلِ هذه الحالةِ يومًا ما؛ لن أكذبَ فأنا فعلتُ الكثيرَ في الماضي وأستحقُ هذا ولكن..
لم أكن أنتظرُ هذه الضربةَ منكِ، أبدًا.
-يوسف، رجاءً.. هلا تبتعدُ؟ شخصت بصرها أرضًا لتتفادى النظر إلى عينيه الرماديتينِ.
-لماذا؟  سألها ببرودٍ، هل تخشينَ أن تتأثري بي مرةً أخرى؟ أو أنكِ.. ما زلتِ تتأثرينَ حتى الآنَ؟
-لماذا تتعبُ نفسكَ في توجيه سؤالٍ تعرف إجابته حقَ المعرفةِ؟  رفعت رأسها لتصبح في مواجهته، ليس في مواجهته بالمعنى الحرفي فقصر قامتها مقارنةً به واضحٌ بدرجةٍ كبيرةٍ.
ابتسامةٌ غامضةٌ سلكت طريقها إلى محياه؛ قد يبدو الأمر سخيفًا بالنسبةِ لكونهما منفصلينِ ولكن.. في كل مواجهةٍ، في كل موقفٍ لا يخرجُ بأية نتيجةٍ مختلفةٍ..
مريم ما زالت تحبه كالسابقِ، بل ربما تحبه أكثرَ، ما الذي دفعها لتركه؟
تابع التحديق بها بصمتٍ، لقد صار يجيد التعامل مع مشاعره تجاهها في الفترةِ الأخيرة، بالرغم من كونه شعورًا صعبًا..
ها هي بينَ ذراعيه الآنَ وهو.. غير قادرٍ على معانقتها.
مرر أنامله على خصلات شعرها برفقٍ، شعورٌ يتصاعد بداخله.. لقد اشتاق إلى قربه منها بهذا الشكلِ.
-يوسف.. قالت بهمسٍ وهي تغمضُ عينيها؟
-لماذا؟
-لأنَ هذا ما يجب أن يحدثَ، لم يكن من المفترضِ أن نحاول حتى، دنيانا ليست واحدةً، لا يوجد أي احتمالٍ لنجاحنا سويًا.
-دعكِ من هذا الكلامِ النظري ولا تراوغي.. زفر بمرارةٍ، على الأقلِ أريحيني وأعطيني جوابًا مقنعًا، أظنُ أن هذا أبسطَ حقوقي، لماذا يا مريم؟
.. غمامةٌ من الدموعِ غشت عينيها، لو ظلت واقفةً أمامه لعشرِ ثوانٍ أخرى ستنهار حصونها الهشةُ الني تحميها منه، حاولت استجماع كلِ ما تحمله من قوةٍ ودفعته لتحرر نفسها من حصاره، ثم سارعت بفتح الباب والفرارِ سريعًا من هذا الاستجوابِ الخانقِ.
تنهد هو الآخر وهو يراقب رحيلها، لا فائدةَ..
ولكن على الأقلِ تمكنَ من الحصولِ على ما يريده، عادَ يسير نحو الداخلِ..

........ نعود بالزمنِ بضع دقائق للخلفِ، وتحديدًا أمام الباب الزجاجي:
تدخلُ ليلى حاملةً فنجانًا من القهوةِ، أسندته على طاولتها المرتبةِ ثم أخذت نتظر إلى ما حولها من ملفاتٍ، يقتحمُ سكونَ المكانِ بصوته العنيفِ مناديًا باسمها..
-أين هو؟ أينَ مديركِ المستهترُ ذاكَ يا ليلى؟
-ف.. في مكتبه، ولكن هل أنتَ بخيرٍ يا صالح بيه؟ قالت بنبرةٍ خائفةٍ.. لا يبدو طبيعيًا.
-وكيفَ يكون الإنسان بخيرٍ إذا كان لديه ابنٌ مثلَ هذا؟ ناديه بسرعةٍ قبل أن أصابَ بسكتةٍ قلبيةٍ..
تحركت سريعًا من أمامه، لم تكن في حاجةٍ إلى أن تطرق الباب فها هي قد اصطدمت بمريم التي خرجت سريعًا من الداخلِ، تتنفسُ باضطرابٍ وتمسح على وجهها بكفيها..
حتى أتها لم تنتبه إلى صالح الذي مرت من جواره..
بأصابعها دفعت الباب الذي لم ينغلق تمامًا، ليسارع يوسف بتركَ ما بيده بينَ صفحاتِ أحدِ الملفاتِ..، التفتَ إليها متسائلًا: هل حدثَ شيءٌ؟
-و.. والدكَ يريدكَ، ولكن اهدأ لأنه غاضبٌ أصلًا..
-لماذا يتشاجر الجميع معي دون سببٍ اليومَ؟  تابع سيره نحو الخارجِ، توقف لحظةً وهو يراقبُ ملامح والده ال.. غريبة.
-لماذا جئتَ؟ لو انتظرتني كنتُ سآتي إليكَ بنفسي..
-لو انتظرتكَ كنتُ سأموتُ قبلَ أن تأتي، تابع بنبرةٍ مُنهكةٍ: حقًا أخبرني متى سترتاحُ؟ عندما أموتُ بسببكَ أليسَ كذلكَ؟
-حسنًا أنا آسفٌ، ولكن هلا تهدأ قليلًا وتشرح لي ما المشكلة؟ حاول الاقتراب منه بترددٍ، ليتابع الآخر صراخه بينما أشار له بيده أن يتوقفَ: تركتكَ تفعلُ كل ما تريد حتى الآنَ، كنتُ أقول سيكبرُ، سيعقلُ ويتوقف عن العبثِ يومًا، ولكنكَ تضربني في مقتلٍ كل مرةٍ..
..ماذا فعلتُ أنا لكَ؟
-ولكن أنا حقًا لا أفهمُ شيئًا.  هو لا يكذبُ، هو حقًا ليس مدركًا لأي شيءٍ مما يحدثُ الآنَ، فقط ما يمكنه رؤيته أن.. والده لا يبدو بخيرٍ.
-.هناكَ خبرٌ يا يوسف، منذ الصباحِ. همست ليلى الواقفة بجانبه بخفوتٍ، صورةٌ..
امتعضَ وجهه وهو ينظرُ إليها ثم عاد إلى والده، أيةُ صورةٍ؟
-ألم تجد لعبةً جديدةً لنفسكَ غير هذه؟ ابنةُ عائلةِ صارغون.. وقبلَ أن تقدمَ تصميمكَ أمام والدها؟ أهذا هو احترامكَ لي ولعائلتكَ؟
-من ابنةُ عائلةِ صارغون هذه أنا لا أعرفها؟ ثم إنني لست على علاقةٍ بأي أحد، وأمامكَ ليلى اسألها.. قولي شيئًا يا ليلى.. صاح فيها تلقائيًا..
-ألا تخجلُ من إجبار الفتاة على الكذبِ من أجلكَ في كل مرةٍ؟ تباطأت أنفاسه بينما تابع بنبرةٍ متقطعةٍ: هذه المرة... لن أسامحكَ، أنتَ.. انتهيتَ... يا يوسف ديميرهان..
قال عبارته الأخيرة هذه وهو يلامسُ صدره، وتحديدًا الجانب الأيسر، ثم بدأ جسده في التهاوي أرضًا.. 
يسارع يوسف بالركضِ نحوه ليلتقطه بين ذراعيه قبل أن يلامسَ الأرضَ، وبعدها..
سكونٌ تامٌ... لا حركة، لا صوت
ولا أي شيءٍ..
"أشعرُ بأن حياتي مثل شارعٍ في فصل الخريف.. كلما تم تنظيفه يعود مرةً أخرى ممتلئًا بالأوراقِ الجافة الذابلة.."
فرانز كافكا..
يتبع..

مريم♥️... " قيد الكتابة والتعديل اللغوي"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن