وقف المحقق أنسيلمو عند باب الغرفة، عيناه تتفحصان المكان بضوء بارد لا يحمل شفقة ولا دهشة. كانت الجدران شاحبة، مليئة بخدوش باهتة كأنها آثار معارك خاضها رجل ضد ظله. لا شيء في المكان ينبض بالحياة، سوى ورقة مطوية بإهمال على الطاولة الخشبية الصغيرة بجانب السرير.
مد يده ببطء والتقطها، فتحها بعناية كأنها قطعة أثرية نادرة، وبدأ يقرأ.
كلما غاص في الكلمات، زادت ملامحه صلابة. لم تكن مجرد مذكرة عادية، لم تكن هذيان مجنون كما توقع، بل كانت اعترافًا مكتوبًا بحبر الحزن، شهادة على سقوط رجل لم يكن من المفترض أن يسقط.
أنهى القراءة ببطء، ثم طوى الورقة بعناية، وضعها في جيب معطفه، وألقى نظرة أخيرة على الغرفة. للحظة، شعر أن المكان يضيق، كأن الجدران تهمس بالحروف التي قرأها، كأن كل شيء هنا مسكون بروح لا تزال ترفض الرحيل.
زفر ببطء، ثم غادر الغرفة، تاركًا خلفه سريرًا باردًا، وجدرانًا صامتة، وذكرى لم تمحها النار بعد.
مذكرة سانتينو بوربون -مصح سانتا ماريا العاشر من فبراير
التاريخ غير مهم... كل الأيام هنا تشبه بعضها.
لم أعد أعرف إن كنت أعيش في حلم طويل أم كابوس لا ينتهي. الأشياء تتكرر، الأصوات ذاتها، الجدران ذاتها، العيون التي تراقبني من خلف الزجاج، كأنني مخلوق خرج عن قانون الطبيعة. يقولون إنني بحاجة للراحة، لكن كيف يرتاح رجل مثلي؟ كيف يهدأ قلب احترق حتى أصبح رمادًا؟
يضعون لي الحبوب في الماء، في الطعام، في الهواء الذي أتنفسه. أحيانًا أقاوم، أرفضها، لكنهم يأتون بأذرع قوية، يثبتونني كما لو كنت وحشًا هائجًا، ثم يغرسون الإبر في جلدي، وشيئًا فشيئًا... يصبح كل شيء بعيدًا.
أنا لا أنام، بل أغرق. أغرق في ظلام ثقيل، وحين أفتح عينيّ، أجد أن الليل لم ينتهِ بعد. أسمع همسات لا أعرف مصدرها، خطوات خلف الباب، صدى صرخة بعيدة لا أحد يعترف بسماعها.
قالوا لي إنني فقدت عقلي، وإن الماضي لا يمكن استعادته. لكنهم لا يعلمون أن الماضي ليس مجرد ذكريات... إنه شيء حي، يتنفس داخلي، يلتف حولي كأفعى، يضيق حتى أكاد أختنق.
هل كانت موجودة حقًا؟ أم أنها مجرد اختراع آخر لعقلي المحطم؟ أحيانًا أشك أنني أحببتها، وأحيانًا أخرى أرى عينيها في كل زوايا هذا المكان اللعين. ميريا... إذا كنتِ حقيقية، لماذا لم تأتي؟ لماذا لم تنتشليني من هذا الجحيم؟ أم أنكِ مثلي... مجرد طيف يحوم بين الجدران؟
في الليل، عندما تهدأ الأصوات، أقترب من النافذة الصغيرة في غرفتي، أنظر إلى القمر، أحيانًا أراه وجهها، وأحيانًا لا أرى شيئًا سوى الفراغ.
يقولون إنني سأتحسن، لكنني أعرف الحقيقة—لا أحد يخرج من هنا كما دخل. في النهاية، إما أن أنسى كل شيء وأصبح شخصًا آخر، أو أظل أنا... وأحترق ببطء حتى لا يبقى مني شيء.
إن وجد أحدكم هذه المذكرة، فليعلم أنني كنت هنا... كنت إنسانًا ذات يوم.
أنت تقرأ
وتين آل بوربون 🖤(مكتملة)
Romanceلا تحكموا عليَّ يا قراء... فالذي مررت به ليس بالأمر الهيّن، وما عرفته عن الحياة لا يُروى بسهولة. الكاتبة التي تخطُّ بقلمي تعرفني أكثر مما أعرف نفسي، وكأنها تسرق من داخلي كل سرٍّ أخفيته حتى عن نفسي. ينادونني... سانتينو بوربون. كنتُ يومًا ما سيدًا في...
