بعض المشاعر تضيق بها الكلمات، فتعانق الصمت
سعود السنعوسي, ساق البامبو
اصبح مجيء ذلك الشاب عادة .. حتى أنا إعتدت حضوره .. يأتي كل ليلة بعدما يفرغ المكان .. يجلس في صمت يشرب قهوته كعادته .. لا يقول شيء يكتفي بالتحديق و الشرود فقط .. و أنا أجلس في طاولة أخرى أدرس .. أعلم أن الأمر يبدو غريبا جدا .. و لكن ذلك لم يزعجني أبدا .. على العكس .. إن كان هذا يريحه فلا مانع عندي .. أشعر في بعض الأحيان بالفضول إتجاهه و لكن على الأقل لا أضطر لتزييف مشاعر الصداقة نحوه كعادتي .. فنحن لسنا أصدقاء و لكنه يؤنس وحدتي .. و هذا كل ما أحتاجه .. مر أسبوعان و نحن على تلك الحالة .. و لكن بما أن عطلة الشتاء على الأبواب قررت أن أذهب لزيارة أمي فقد مر الكثير من الوقت و إشتقت اليها كثيرا ..
..................
اليوم قمت في الصباح الباكر حتى ألحق بالطائرة .. حزمت حقائبي ودعت الخالة جيهان و إتجهت الى المطار .. أردت أن أخبر ذلك الشاب أنني لن أكون هنا لأسبوع و لكنني نسيت .. كما أنه لا يتحدث معي .. لذلك لم أجد ضرورة في إخباره ..
مدينتي باردة مملة كما عهدتها .. لم أشعر انني فارقتها أبدا .. لا أشعر بطعم الحياة هنا و أشعر ببرود مشاعري أكثر .. كانت أمي تنتظرني في المطار .. كادت تطير من الفرح عند رؤيتي ..إحتضنا بعضنا طويلا .. و تحدثنا طوال الطريق .. أخبرتها عن حياتي هناك و عن دراستي و عن كل شيء .. و أخبرتني هي عن حياتها مع زوجها .. كانت سعيدة جدا و هذا أسعدني ..
..................مر الأسبوع بسرعة .. أمضيته كله مع أمي في التسوق و صالونات التجميل و السينما و غيرها ... حضيت بالكثير من المتعة معها .. فهي في النهاية صديقتي الوحيدة و أقرب إنسان الى نفسي .. كما أنني تعرفت على زوجها .. كان إنسانا رائعا .. محترم يحبها و يقدرها .. أحسست بالراحة لما رأيت أمي بهذه السعادة معه ..
..................
وصلت الى المقهى في المساء .. كانت الخالة جيهان تعمل وحدها .. و تحاول جاهدة أن تلبي كل طلبات الزبائن .. أردت أن أساعدها و لكنني كنت متعبة جدا .. صعدت الى غرفتي أخذت حماما طويلا ثم غطيت في نوم عميق .. إستيقظت و كانت الساعة التاسعة ليلا .. لقد نمت في وقت سيء .. و أدرك الآن أنني سأظل مستيقظة طوال الليل .. إرتديت ملابسي و نزلت الى الأسفل .. كان هناك بعض الناس فقط ..
" آه .. لقد إستيقظت ! "
قالت الخالة جيهان و هي تبتسم
" أجل .. نمت طويلا .. "
"كيف وجدت أمك "
"لقد كانت بخير .. "
"يسعدني ذلك "
كانت تبدو علامات الإرهاق على وجه الخالة جيهان لذا أردت أن أساعدها
" خالة جيهان يمكنك الذهاب الآن لترتاحي .. سوف أهتم بالعمل أنا "
"أولست متعبة من السفر ؟؟"
"لا مطلقا .. لقد نلت قسطا من الراحة "
"حسنا عزيزتي .. "
نزعت المئزر و مشت خطوات ثم التفتت نحوي و هي تقول
" آه صوفيا .. قبل أن أنسى لقد سأل عنك شاب قبل أيام !"
"ماذا ؟؟ .. من هو ؟؟"
" أنا حقا لا أعلم .. لقد جاء بعد يومين من رحيلك .. لم يكن يعرف إسمك حتى .. سألني أين الفتاة التي تعمل هنا .. و عندما أخبرته بأنك مسافرة رحل دون ان يخبرني حتى بإسمه .. لقد كان غريبا بعض الشيء !!"
تفاجأت كثيرا .. و علمت أنه ذلك الشاب .. كان بجب أن أخبره بسفري .. شردت قليلا أفكر
" سوف أذهب الآن .. ليلة سعيدة "
" حسنا .. ليلة سعيدة "
صعدت الخالة جيهان و تركتني غارقة في تساؤلاتي .. أنه حقا شاب غريب .. لا يتحدث معي مطلقا و إذا غبت يسأل عني .. زاد فضولي أكثر .. و أردت أن أفهم كل شيء .. لذلك قررت أن أسأله عندما يأتي في المرة القادمةأغلقت الباب على الساعة الحادية عشر .. و جلست أنتظره على أمل أن يأتي .. و بعد مدة سمعت الباب يقرع .. قفزت من مكاني و أسرعت لفتحه .. كان يقف هناك يحدق في ..
" مرحبا .."
أومأ برأسه دون أن يقول شيء .. دخل و جلس على طاولته المعتادة .. إنتظرته أن يقول شيء و لكنه إكتفى بالصمت كعادته .. حضرت فنجاني قهوة و جلست معه في الطاولة .. ساد الصمت قليلا .. ثم فاجأني بكلامه
" أنا كرم .. "
رفعت عيناي في دهشة .. ﻻ أصدق أنه أخيرا قرر التحدث معي بعد كل تلك الفترة .. أذن هذا إسمه "كرم " .. إبتسمت و قلت
" أنا صوفيا .. "
" صوفيا ؟؟"
" ماذا ؟ ألا يعجبك إسمي ؟؟"
إبتسم و كأنه لم يتوقع أن يكون هذا إسمي أو شيء من هذا القبيل
"لا .. إنه إسم جميل و لكنه غريب بعض الشيء"كنت أشعر بالفضول .. فلما يا ترى قرر التحدث معي فجأة ..
"لما قررت فجأة التحدث معي ؟؟"
سكت قليلا
"حتى تخبرينني في المرة القدمة اذا قررت السفر .. و لا تدعيني آتي كل ليلة الى هنا و لا أجدك "
"أتيت كل ليلة ؟؟ "
"طبعا .. لقد إعتدت القدوم هنا .."
"أنا آسفة حقا .. "عم الصمت من جديد .. كل منا شارد وسط أفكاره .. إنه حقا غريب أم أنا الغريبة التي تقبلت وجود شاب لا تعرف عنه شيء بهذه البساطة ..
"أنت حقا غريب !"
إبتسم إبتسامة يملؤها الحزن
"أعلم .."
"ما هي قصتك "
"ليست لي قصة "
"مستحيل لكل منا قصة !"
"لن تفهمي .. "
"أخبرني و سأحاول أن أفهم "
" ما دفعني للمجيء الى هنا كل ليلة .. أنك أول شخص يتقبل صمتي دون أن يطرح الكثير من الأسئلة .. لا تدعيني أندم على ذلك "
قال هذه الجملة بنبرة حزم و بعض الغضب .. أدركت أنني أزعجه .. لذا نهظت و جلست بعيدا و إكتفيت بالصمت .. أكمل كوب قهوته و رحل دون أن يقول شيء ..
مع كل ليلة أمضيها معه يزداد تساولي حول هذا الشخص .. كيف لإنسان أن يعيش وسط كل هذا الغموض و لا يتحدث مع أحد .. ما الذي دفعه الى هذه الحالة يا ترى ! و لكن في نفس الوقت شعرت بالراحة لأننا لم نطل الحديث .. فأنا أعلم نفسي جيدا .. أدرك أنني بعد مدة سأشعر بالملل من صحبته أذا تقربنا و علمت عن حياته كل شيء .. و سأبعده كما أبعدت كل الناس قبله .______________________________________
💞💞
أنت تقرأ
دعني اساعدك ...
Romanceإننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية.