والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف.. وتضلل ولا تدلل.. وتشوه ولا توضح.. وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد
مصطفى محمود, الروح والجسد
انهيت الإمتحانات قبل يومين .. لم تكن بتلك الصعوبة .. أظن أنني أبليت بلاءا حسنا .. و لكن حدثت بعض المشاكل في هذه الآونة .. فقد تشاجرت مع صاحبة الشقة .. إنفجر صنبور المياه و غرقت الشقة في المياه بينما كنت انا في الإمتحان .. و عند عودتي وجدت كل أشيائي تطفو .. شعرت بغضب شديد لأنني أخبرتها مرارا أن ترسل سمكريا ليصلحه .. كنت أصرخ في البناية من شدة الغضب .. و بما أنني تطاولت في الحديث معها .. طردتني من الشقة .. لم أجد مكانا آخر أذهب اليه غير مقهى الخالة جيهان .. المسكينة شعرت بالأسى إتجاهي .. و أخبرتني أنه يمكنها أن تأجرني غرفة في بيتها الى أن أجد مكانا آخر .. لم أتردد في الموافقة .. فأنا في فترة إمتحانات و لا أحتاج لأي شيء يشتت إنتباهي .. و منذ ذلك اليوم و انا أمكث هنا .. الغريب أنه طول فترة بقائي لم أرى ذلك الشاب من تلك الليلة أبدا ... و كأنه جني إختفى .. شغل تفكيري كثيرا في البداية .. و لكن مع تسارع الأيام و الأحداث نسيت أمره ..
....................
اليوم نهاية الأسبوع .. المقهى مملوء بالزبائن .. كانت الخالة جيهان تشعر بتوعك لذلك لم تنزل اليوم أبدا و سقط كل الشغل على رأسي .. ظللت أعمل طوال الوقت بين المطبخ و أخذ الطلبات و توزيعها .. و لما قاربت الساعة العاشرة ليلا قلت الحركة لذلك قررت إغلاق الباب مبكرا من شدة تعبي .. كنت أود النوم و لكنني علمت أن الخالة جيهان ستوبخني إن علمت أنني أغلقت المكان مبكرا ..فأبقيت الأضواء مفتوحة و جلست على احدى الطاولات أقرأ كتابا .. مر بعض الوقت .. كنت منغمصة في القراءة حين سمعت قرعا غريبا على الباب أفزعني .. نهظت من مكاني في خوف .. و رأيت خلف الزجاج ذلك الشاب من تلك الليلة .. دهشت عند رأيته .. ترددت قليلا ثم فتحت الباب ..و قلت بصوت يرتجف
" المكان مغلق ! ألا ترى ذلك ؟"" أعلم .. و لكنني أحتاج بعض القهوة ! "
تفاجأت كثيرا .. غريب حقا أمر هذا الشاب .. يأتي في الليل الحالك ليطلب قهوة ! بينما كان بإمكانه تحضيرها في منزله
" و لكن .."
قاطعني قائلا
" أرجوك .. ساعديني هذه المرة "
لم أستطع رفض طلبه .. لا أعلم لما شعرت بالأسى إتجاهه ... فتحت الباب و تركته يدخل .. جلس على الطاولة بدون أن يقول كلمة .. حضرت كوبا من القهوة و جأته به ..جلست على الطاولة المقابلة أراقبه .. لم أشعر هذه المرة بالخوف .. أحسست ان هناك أمرا غريبا يخص هذا الشاب .. ظل هو يحدق في الكوب دون أن يذوق منه و لا رشفة
" ماذا ! ألن تشربه ؟؟"
سكت و لم يجب .. يبدو من الهالات السوداء أنه لا ينام أو أنه يتعاطى المخدرات .. شعرت بالفضول إتجاهه .. لذلك تقدمت نحوهه و سألته
"أيمكنني الجلوس ؟؟"
رفع عينيه و ظل يحدق في من دون أن يقول شيء .. خلقت نظراته رجفة في قلبي .. كانت مخيفة عميقة و تحمل الكثير من الألم في نفس الوقت .. حتى أنا باردة المشاعر إستطعت أن ألاحظ هذا من نظرة عينيه ..
سحبت الكرسي دون تردد و جلست
" ماذا الا تتحدث ؟؟"
قال بإقتضاب
" أجل .. لا أحب محادثة الناس "
فاجأتني إجابته و شعرت أنه يجب أن أنهض و لكن فضولي غلبني ..
" ما الذي تقصده ؟؟"
أنزل عينيه نحو كوب القهوة و سكت .. يبدو انه حقا لا يحب محادثة الناس .. لم أشأ إطالة الحديث و شعرت أنني أزعجه ... لذا نهظت و عدت الى مكاني .. تظاهرت بقراءة الكتاب و لكن كنت أراقبه طوال الوقت .. جلس قرابة النصف ساعة يرتشف كوب القهوة دون أن يقول شيء .. ثم وضع النقود على الطاولة و خرج دون أن يقول حتى ليلة سعيدة .. أثارت تصرفاته شيئا غريبا في نفسي .. كاد فضولي أن يقتلني و لكن في نفس الوقت شعرت بالأسى إتجاهه .. لا أعلم حقا لما .. أغلقت الباب و الأضواء و صعدت الى غرفتي و انا في نفسي ألف سؤال ...
...............في اليوم التالي كانت الخالة جيهان تشعر بتحسن و قررت ان تنظم حفلة عيد ميلاد لإحدى صديقاتها .. و كالعادة قمت أنا بكل العمل .. لم نفتح المقهى طيلة اليوم ظللنا نجهزه كل الوقت .. و في الليل إمتلأ المكان بأصدقائها .. كانت حفلة رائعة جدا .. و لكن شعرت ببعض الملل لأنهم كلهم كبار في السن و لم أجد شخصا في سني أمرح معه ..
كانت الساعة تقارب الحادية عشر ليلا .. لم يرحل أصدقاؤها بعد .. و كنت أشعر بالتعب الشديد .. أسندت رأسي على الطاولة و ظللت أتأمل الشارع من زجاج المحل .. و فجأة لمحت ذلك الشاب كان يتجه نحو المقهى قفزت من مكاني لما رأيته .. وقف على الباب و لما رأى كل أولئك الناس أدار ظهره و عاد أدراجه .. نهظت من مكاني مسرعة حتى ألحقه و لكنه إختفى وسط الحشود و لم أجده .. عدت الى مكاني و أنا اشعر ببعض الخيبة .. و يبدو أنني غفوت على الكرسي من شدة تعبي ..
" صوفيا ..إنهضي لقد رحل الجميع "
أفقت على صوت الخالة جيهان .. المكان خال .. كل المعازيم رحلوا و كانت الفوضى عارمة .. نهضت من مكان و أنا أفرك عيناي في تعب ..
" دعي المكان سنقوم صباح الغد باكرا لتنظيفه "
غدا دراسة و لا يمكنني أن انظف المكان ثم أذهب للدراسة .. قلت في تعب و كلل
" لا .. لا عليك .. سوف أنظفه الآن .. "
" حسنا سأذهب أنا لأنام... ليلة سعيدة "
صعدت هي و بقيت أنا أنظف المكان .. بدأت بتنظيف المطبخ .. أولا و غسل الأواني .. ووضعت بعض الموسيقى حتى لا أشعر بالملل .. و مرة أخرى سمعت قرعا على الباب ... علمت مباشرة أنه هو .. أسرعت لأفتح الباب .. كان الجو باردا في الخارج .. لذلك كان ينفخ في يديه يحاول تدفأتهما .. دعودته للدخول .. إنه لا يتحدث أبدا .. يكتفي بهز رأسه فقط ..
" أنا آسفة لا يمكنني تحضير القهوة اليوم فكما ترى المكان في فوضى و يجب علي تنظيفه ..."
لم يقل شيء كعادته .. نزع معطفه و بدون سابق إنذار حمل الكيس و بدأ بجمع النفايات فيه . فاجأني كثيرا !
" ليس عليك فعل هذا .. كنت أمزح سأحضر لك القهوة و يمكنك الجلوس "
لم يستمع أبدا لما قلته .. لو لم يتحدث معي قبلا لقلت انه أصم .. واصل عمله بدون أن ينطق بحرف .. الغريب أنني لا أشعر بالغرابة مطلقا ! لا أشعر بعدم الأرتياح و هو حولي مطلقا .. و كأنه طفل صغير .. تأملته قليلا ثم إبتسمت لأنه أراد مساعدتي .. رفعت صوت الموسيقى و إتجهت الى المطبخ حتى أكمل الأواني ... كنت أغني بصوت مرتفع حتى أنني نسيت وجوده من شدة صمته و هدوئه .. مضى نصف ساعة تقريبا .. أكملت الأواني ثم خرجت حتى أساعده .. كان قد ناصف العمل .. و لم يشتكي أبدا .. أمسكت كيسا آخرا و باشرت التنظيف ..
" يمكنك الرحيل .. حقا .. سأكمل العمل .. "
لم يلتفت حتى
" ماذا ؟؟ أحقا لا تتكلم مع الناس ؟؟"
لم أرى أي تجاوب من طرفه .. و ذلك أشعرني بالفضول حوله
" أنت حقا غريب .. ؟؟ "
" حسنا أخبرني إسمك فقط ! "
لم يقل شيء .. حتى أنني بدأت أتوتر
" يا إلهي أشعر أنني أحادث صنما ؟؟"
وضع الكيس من يده في هدوء ثم قال
" ألا تصمتين أبدا ؟؟ "
قفزت من مكاني و أنا أصرخ و أضحك و كأنني حققت نصرا
" ها !! لقد دفعتك للكلام "
أبتسم لأول مرة .. كانت إبتسامته بريئة جدا .. إبتسمت أنا أيضا .. ثم أكملنا التنظيف في صمت .. و بعد مدة إنتهينا .. كانت الساعة تقارب الواحدة ليلا .. أردت أن أشكره على مساعدتي لذلك حضرت له بعض القهوة .. شربها ثم رحل دون أن يقول شيء ..______________________________________
اتمنى أن ينال إعجابكم الجزء 💞💞 و إدعولي أنا عندي إمتحانات مصيرية بعد أسبوعين 😭😭
أنت تقرأ
دعني اساعدك ...
Romanceإننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية.