مر يومان و لم يعد ذلك الشاب المدعو كرم الى المقهى .. كنا أنتظره حتى ساعات الليل المتأخرة و لكن دون جدوى ..
...............اليوم إستيقضت باكرا كعادتي حتى أذهب الى الكلية .. إرتديت ملابسي و خرجت .. كان الجو باردا بعض الشيء ..
جلست في المحطة أنتظر الحافلة .. و ضعت سماعات الأذن و أدرت الموسيقى و شردت قليلا .. ثم شعرت بشخص يجلس بجانبي لم أهتم في البداية الى أن شعرت به ينقر على كتفي .. إستدرت في فزع حتى أجد كرم يجلس بجانبي .. تفاجأت كثيرا فلم أتوقع رأيته خارج المقهى .. كان وجهه شاحبا أكثر و الهالات أسوأ و يبدو في حالة مزرية .. إبتسمت و ألقيت التحية
" صباح الخير .. "
كرم "صباح النور .."
" كيف حالك .."
" لست على ما يرام .."
" أجل يبدو ذلك من مظهرك .."
سكت قليلا ثم قال
" أيمكنك البقاء معي ؟؟"
سكت في حيرة من أمري لطلبه ..
" ما الذي تقصده ؟؟"
" لا أريد البقاء وحدي .."
شعرت و كأنه يعاني من شيء أكبر من أن يتحمله .. و لكنني لم أفهم كيف له أن يطلب من فتاة بالكاد يعرفها أن تبقى معه .. لما لا يطلب أحد اصدقائه أو عائلته .. شخص يفهم حالته و يستطيع مساعدته .. كما أنني لا أنكر أنني أشعر ببعض الرهبة إتجاهه .. فهو في النهاية شخص غريب و أنا لا أعرف شيئا عن حياته ..
" أتا حقا لا أستطيع يجب أن أكون في الكلية بعد ساعة .. "
"سأنتظرك حتى تعودي .. لا أريد البقاء وحدي "
ظل يعيد عبارة انه لا يريد البقاء وحده .. لم أستطع رده .. شعرت بالأسى .. أردت مساعدته بأي طريقة ..
" حسنا لنذهب الى المقهى .. سوف أبقى معك اليوم .. و لكن اليوم فقط فأنا لدي دراسة "
" لا .. لنبقى هنا .."
" ماذا ؟؟ هنا في المحطة ؟؟"
" أجل .. لا أريد الذهاب الى أي مكان .. لنجلس هنا "
غريب أمره .. إنه غريب أطوار و انا لم يسبق لي أن قابلت شخصا مثله .. و لكن أشعر بشيء غريب في داخلي يدفعني الى مجاراته ..
"حسنا سأجلس معك هنا .. و لكن بشرط !"
" ماذا ؟؟"
" تحدث معي .. أخبرني كل شيء .. فأنا أعرفك لأكثر من شهر و لا أعرف عنك شيء سوى أن إسمك كرم "
"و لكن .. لن تفهمي "
" حاول معي و إن لم أفهم سأوقفك "
قال في تذبذب
" .. حسنا .."
" حسنا .. لنلعب لعبة الأسئلة .. تسألني سؤال و أسألك آخر .. سأبدأ أنا .. موافق ؟؟"
أدركت من ملامح وجهه أنه غير مرتاح و لكنه وافق على مضض
" أولا .. كم عمرك ؟؟"
" 23 سنة ..."
تفاجأت قليلا من عمره فهو يبدو أكبر قليلا ..
" دورك الآن "
سكت قليلا ثم قال
" ما كان أكثر شيء محزن حدث لك ؟؟"
فاجأني سؤاله و خلق إضطرابا في نفسي .. توقعت سؤالا سخيفا كالذي سألته .. سؤال لا يحتاج التفكير .. و لكن سؤاله سبب ثورة في داخلي ... لأنني لا أعرف الإجابة .. لأنه دفعني الى التفكير في مشاعري مجددا بعدما نسيت الأمر كليا .. توترت بسؤال بسيط .. كيف سأجيبه و أقول أنني لم أذق طعم الحزن و لا الفرح في حياتي .. كيف أخبره أنني خلقت بمشاعر مخدرة .. شعرت بالإحراج ... فكرت في نفسي و قلت لو كانت أي فتاة عادية لأجابت أن فقدان والدها هو أسوء شيء حدث لها .. لذا أجبته حتى أبدو فتاة طبيعية ..
"فقدان والدي .."
أجبت هكذا بكل بساطة حتى أتجنب الإحراج .. لا أعلم لما أردت أن أبدو طبيعية أمام رجل خارج عن المألوف .. و لكن لم أشأ أن أبين خفايا نفسي ..
أخذتني أفكاري بعيدا حتى أنني نسيت أنه دوري و لم أعد للواقع الا على صوته
"لقد حان دورك .. "
"آه .. أجل .. "
فكرت في سؤال آخر .. لم أرد أن أبدو فتاة سخيفة .. سطحية .. لذا أردت سؤال أكثر جرأة و أكثر شخصية
"ما بك ؟؟"
تفاجأ قليلا من سؤالي
"ما الذي تعنينه ؟؟"
"أقصد لما لا تتكلم مع الناس .. و لما لم ترد البقاء وحدك .. لما أنت على هذه الحال ؟؟"
أخذ نفسا عميقا .. نفسا شعرت أنه شق طريقه الى أعماق أعماق نفسه .. الى خفايا روحه .. و أعمق و أحلك أسراره .. و كأنه يستجمع قوته حتى يستطيع البوح بما يخفيه في قلبه
" أنا أعاني .. "
"مما تعاني ؟؟"
"من الكآبة .. من الإحباط .. من كل شيء "
"كيف ذلك ؟؟"
"إنها قصة طويلة "
" لم أترك دراستي هكذا بدون سبب .. تركتها لأنني أرد أن أسمع قصتك .. "
"حسنا .. ما الذي تريدين معرفته ؟؟"
"أولا لماذا وجهك شاحب هكذ! و الهالات السوداء تغطي أسفل عينيك ؟؟"
" لم أنم ليومين .. أغفو لدقائق فقط ثم أستيقظ .. أعاني من الأرق "
" لما لا تجرب حبوب النوم "
" لا تنفع معي مطلقا "
" لما تتجنب الكلام مع الناس ؟؟"
"لأنني لا أجيد التحدث معهم .. "
" و لكنك تتحدث معي بشكل عادي !"
" لا أعلم .. الا تلاحظين أنني أتجنب غالبا النظر في عينيك مباشرة .. لأنني لا أستطيع المحافظة على هدوئي أذا تحدثت مع أحد و نظر مباشرة في عيني .. أفقد تركيزي و أشعر بتوتر كبير .. و لكن وجدت أنك حتى أنت تتفايدين النظر الى عيني الاشخاص حين تتكلمين معهم .. لذا أتحدث معك بهدوك .. "أشعرني كلامه ببعض الإرتباك ... فأنا حقا أتفادى التقاء العينين .. فالعين تفضح ما أخفاه اللسان .. أخاف أن يحدق أحدهم في عيناي و يرى حجم الفراغ داخل روحي .. أخاف أن ترعبهم نظراتي الفارغة .. أردت أن أخفي توتري بسؤال آخر ..
" ألا تملك أصدقاء ؟؟"
" لا .."
" مطلقا ؟؟"
" أبدا "
" و لكن لماذا ؟؟"
" أخبرتك لا أجيد التحدث مع الناس "
" ماذا عن عائلتك ؟"
" لم أتفق معهم مطلقا .. يرون أنني غريب .. لذا إبتعدت عنهم منذ اربعة سنوات"
" تعيش لوحدك ؟؟"
"أجل .. عائلتي ميسورة الحال .. و لم يشأ أبي أن يرى إبنه ضائعا لذا إشترى لي شقة بجانب المقهى "
" آه .. إذن تسكن بجوار المقهى !"
" أجل في البناية المجاورة "
" ولكن كيف لم أرك من قبل "
" ولكنني رأيتك منذ اليوم الأول الذي بدأت العمل هناك "
" لما قررت التحدث معي فجأة ؟؟"
" لأنني لاحظت أنك لا تملكين أصدقاءا أيضا "يبدو من كلامه أنه كان يراقبني منذ قدومي الى هنا .. رغم أنني سألته عدة أسئلة الا انني لم افهم بعد لما هو على هذه الحالة .. و لا أفهم كيف لشخص أن يصل هكذا الى القاع ..
" ما الذي تعاني منه بالضبط ؟؟"
سكت طويلا ثم قال
" لا أريد الكلام أكثر .. "
"و لكن لم أفهم بعد .."
رأيته يحكم قبضته و كأنه يحاول كتم شيء بداخله ..
" قلت لننهي الكلام هنا .. "
لم أفهم لما فجأة تغيرت ملامح وجهه .. و كأن كل الدم يضخ في وجهه ..
" و لكن .. "
لم أكمل جملتي حتى إنفجر غاضبا .. وقف من مكانه و صرخ في وجهي بأعلى صوته
" قلت لا أريد الكلام "
إنعقد لساني من شدة الدهشة .. بقيت عيناي معلقتان في وجهه الذي كان يتطاير الشرر منه .. لم أفهم ما الذي حصل له فجأة .. كان يتحدث بكل هدوء ثم جن جنونه ... مشى بسرعة مبتعدا عني .. حاولت أن ألحقه و اوقفه و لكنه لم يأبى و واصل سيره حتى إختفى وسط الناس .. عدت الى المقهى و أنا في حالة صدمة لا أفهم شيئا مما حدث للتو .._____________________________________
أنت تقرأ
دعني اساعدك ...
Roman d'amourإننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية.