الفصل السادس
وضع ذاك الشاب حقيبة كانت بيده تحوي متطلبات الأم التي تعودت أن تطلبها من فتاتها ليقول:أنا فادي حمدي الديب
اتسعت عيني "كريمة" دهشة من سماعها لهذا الاسم ليقفز إلي خاطرها أن هذا الاسم سمعته من ابنتها "إسراء" عندما قصت لها حكاية قلبها الذي يرتشف كؤوس العذاب من حبه..
تذكرت لمعة عيني طفلتها في كل لحظة تتكلم فيها عنه..
تذكرت ذبول وجه طفلتها التي باتت يائسة من أن تنال قلب "فادي" ..
لتتحرك شفاه "كريمة" قائلة:هو أنت؟؟
ظهرت ملامح العبوس علي وجه "فادي" لتأكده من أن "إسراء" آتت بسيرته لوالدتها..لا يعلم كيف كانت الطريقة؟؟ ولكن بالتأكيد لن تقول لوالدتها أن استخدمت كل السبل الممكنة والغير ممكنة لتنال لحظة معه..
جلس "فادي" علي كرسي يقابل فراش "كريمة" ليقول:حسنا يا عمتي مهما كانت الطريقة التي تحدثت ابنتك بها عني أن هنا لأن الشركة الآن في حالة جرد وهي مشغولة لأقصي حد وفي مساء البارحة تلقت الشركة رسالة من المستشفي لأنك تطلبين زيارتها و ماشابه ذلك ..ولذلك طلبت مني "إسراء" أن آتي لكي اطمئنك عليها وبمجرد انتهاء الجرد ستكون عندك بإذن الله
تلألأت الدموع في عيني "كريمة" التي تشعر بضرر ما حدث لفتاتها وأن "فادي" ما هو إلا جرعة مهدئة لوجعها علي ابنتها ولكنها حاولت جاهدة تصديق حديثه لتحرك شفتيها قائلة:ولكن لماذا لم تستأذن من مديركم لتزورني هي تقول دائما أنه عطوف ومتفهم لتلك الأمور
فادي بنبرة مطمئنة:ما في الأمر أن المدير يحتاجها في تلك الفترة فهي مسئولة عن جزء كبير من العمل
تنهدت "كريمة" براحة إلي حد ما قائلة:ليرتاح قلبك يا بني كما أرتاح قلبي علي ابنتي
ابتسم "فادي" بهدوء وبات مع "كريمة" قرابة الساعة التي لم تكف فيها "كريمة" عن الحديث معه لتعلم أنه يحق لابنتها أن تعشق هذا الفتي الذي أصبح عملة نادرة في هذا الزمان..
لقدرته علي إثبات رأيه بكل الحجج الممكنة..أو..لاستطاعته علي أن يمسك بزمام الأمور تحت أي ظرف..أو..لرجاحة عقله..أو..للغموض الواضح في عينيه..أو..لتعجرفه حتى ولامبالاته كل تلك الأمور و أكثر جعلت "كريمة" تتأكد من أن طفلتها لن تستطيع أن تشفي من عشقها ل"فادي" وللأسف لن تستطيع الفوز به..
....
أزاح نظارته الطبية من علي عينيه ليغلق الملف الذي أمامه وينتبه ل"قمر" التي تنظر له بفضول لمعرفة رأيه في بدايتها للرسالة الماجستير ليقول الدكتور المشرف علي الرسالة:حسنا يا قمر إلي الآن أنتي علي الطريق الصحيح مقارنة بأنكي درستي في جامعة غير جامعة القاهرة المهم الآن أن تحافظي علي هذا المستوي وتتبعي التعليمات التي منحتك إيها في البداية
أكمل "الدكتور" حديثه وهو يدون بعض الكلمات قائلا:وتلك مراجع أحضريها ستساعدك كثيرا
ابتسمت "قمر" براحة قائلة:شكرا جزيلا يا دكتور ولكن هل لي بطلب؟؟!!
الدكتور:بكل تأكيد
قمر بنبرة إذن:سمعت من بعض الطالبات أن هناك زميل في الكلية سيناقش رسالة الماجستير الخاصة به في نهاية الأسبوع هل لي بإذن في الحضور كي أستفيد أكثر..
صمت "الدكتور" لثواني معدودة ليحرك شفاهه بنبرة راضية قائلا:حسنا يا قمر لا يوجد مشكلة نهائي
تنهدت "قمر" براحة لتعلو وجهها ابتسامة طفولية لما ستمنح من فرصة لإكتساب ولو قليل من الخبرة في كيفية جعل رسالتها الأفضل..
....
مر باقي اليوم بأحداث هادئة علي معظم أبطالنا..ف"محب" مشغول بصفقاته ومتابعة أخبار "قمر"..
بينما اتجه "ياسر و فادي" إلي المسجد لحضور جنازة "هند" ليعلم "فادي" صديقه بشأن الرسالة التي أتت للشركة وأن المدير طلب منه أن يبعث للمستشفي بأن "إسراء" مصابة ولكن "فادي" آبي أن يؤلم تلك السيدة التي أكتفت من الألم لمعاناتها مع "السرطان"..ليتعجب "ياسر" قليلا من تصرفات صديقه ولكن فرحته بأنه تصرف بحكمة قضي علي حيرته..
بينما "منير" بينت انشغاله بإيجاد أي حل يخرجه من أزمته بشراكة "محب" و إيجاد تفسير واحد لاختفاء "بسام" الذي بات ملحوظ وهاتفه المغلق دائما..
....
في تمام الساعة السادسة صباحا....
أغلق "فادي" باب منزله لينزع سماعة الهاند فري من أذنه متجها إلي المطبخ ليحصل علي مشروبه الرياضي..
أنزل "فادي" الزجاجة من علي شفتيه وهو ينظر إلي المنزل بتعجب من اختفاء والده!! اشتعلت شظية من القلق داخل أوصال "فادي" ليركل باب الثلاجة بسرعة متجها إلي حجرة والده ليطرق عدة طرقات متتالية..
أتي "فادي" صوت والده يأذن له بالخروج ليهدأ باله قليلا و يدخل إلي الحجرة قائلا:صباح الخير
لم يرفع "حمدي" عينيه من الصورة التي بيده..صورة من بين مئات الصور تحيط ب"حمدي" وهو علي فراشه وعينيه تتلألأ بالدموع لا يستطيع أحد تفسيرها غيره لتردد شفاهه قائلة:صباح الخير
اقترب "فادي" من والده بسرعة وعينيه تشعان تعجب ممزوج بفضولية ليحاول البحث عن إجابة لدموع والده بين تلك الصور ليقول:ماذا حدث يا أبي ؟؟ ما كل تلك الصور
وكأن "حمدي" كان في عالم آخر..عالم يجمع ذكريات ماضيه أجمع..عالم لا يوجد به غير الفتاتين اللتان تقفان علي جانبيه في تلك الصورة التي يمسكها بكل ما به من قوة ليأتي له صوت "فادي" الذي يحمل تساؤلات وفضولية واضحة وكأن صوت ابنه أفاقه من وهمه بأنه عاد للماضي..صوت ابنه ضرب جرس الإنذار في عقله بأنه لا يجوز أن يستعيد تلك الذكريات أمام أي حد مهما كان حتى لو كان ابنه..
ليرفع "حمدي" عينيه بسرعة ويبدأ في التقاط الصور من حوله وهو يقول:لا تشغل بالك يا بني لا تشغل بالك..أين كنت في تلك الساعة ؟؟
ازداد تعجب "فادي" من طريقة والده ولكنه أراد أن يتركه كما يشاء ليقول:كعادتي يا أبي..أجري قليلا
كفكف "حمدي" دموعه ورسم ابتسامة اعتاد سنين علي رسمها ليخفي ذكرياته بين طياتها ليقول:حسنا خّذ حمامك اليومي وأنا سأحضر الإفطار حتى لا تتأخر علي عملك
هًب "فادي" واقفا وهو يضع يده في سترته الرياضية قائلا:حسنا يا أبي
بعد ثواني معدودة..أغلق "فادي" باب حجرته ليخرج يده من سترته و معاها تظهر إحدى الصور التي استطاع أخذها لحظة انشغال والده ليجدها لوالده مع فتاة ملامحها لا تبدو غريبة عن عينيه ولكن نظرة والده لها ونظرتها لوالده هي الغريبة عليه..هي نظرة عشاق هي نظرة أشعلت النار علي الماضي لتبدأ الثورة في عقل "فادي" في محاولة إيجاد تفسير لتلك النظرة..
....
بعد أذان الظهر بفترة محدودة تحديدا في أحد المقاهي..
أحتسي الرشفة الأولي من فنجان قهوته وعينيه تعبث بهاتفه ليجد أن الساعة أصبحت الثانية ظهرا بالثانية أي أنه الموعد المحدد ولكن لما لم يأتي أحد بعد؟؟!!
زفر "بسام" بقوة ليرتشف الرشفة الثانية ويفتح محادثة له علي "الواتس أب " مع "قمر" وقبل أن يبعث برسالة..
شعر بظل أحدهم يقف بجوار طاولته وصوت أنوثي يقول:أستاذ بسام
رفع "بسام" عينيه ليتفحص هذا الصوت الأنوثي الذي غزا عزلته ليجد فتاة تبدو وكأنها في منتصف عقدها الثاني عينيها مختفية تحت نظارتها الشمسية وملامحها هادئة تتناسب مع بشرتها القمحية..ترتدي حجاب باللون الرصاصي يتناسب مع الفستان الأسود الذي يخفي معالم أنوثتها ليرتفع حاجب "بسام" الأيسر قائلا:نعم!!
جلست الفتاة علي الكرسي المقابل ل"بسام" لتخلع نظارتها الشمسية قائلة:أنا أسماء التي ستتابع العمل معك وسأزودك بكل المعلومات
ارتسمت ابتسامة سخرية علي وجه "بسام" الذي قال باستهزاء:حسنا سأتزود بمعلومات عن آخر صيحات الموضة أم عن أحداث المسلسل التركي الجديد
قبضت "أسماء" علي معصمها بغضب لترفع عينيها مباشر إلي "بسام" لتتحرك شفاهها التي قاربت علي الإشتعال من عصبيتها قائلة بنبرة غضب مكتوم:أستاذ محب أنا استطيع الرد عليك وعلي سخريتك تلك ولكن أظن أن العمل أهم ولذلك فلنتحدث قليلا عن العمل وفي النهاية سأزودك بمعلومات عن آخر صيحات الموضة لعلك تحتاجها
اختفت ابتسامة السخرية التي زينت وجه "بسام" لتأكده من أن تلك الفتاة ليست التي ستستلم بسهولة لمضايقته بل إنها قطة شرسة غامضة تخفي برائتها بقناع القوة والثبات..عينيها البنية تشع غضب وطفولة في نفس الوقت..
أرتشف "بسام" رشفة من فنجان قهوته ليقول بجدية:حسنا فلنبدأ
....
في تمام الساعة السادسة مساءا..تحديدا في أحد مقاهي القاهرة..
فاقت "قمر" من شرودها علي شاشة "اللاب توب" علي صوت النادل وهو يضع كوب الشيكولاتة الساخنة لترتشف "قمر" أول رشفة وتمسك بهاتفها لتفتح محادثة "الواتس أب" الخاصة بها وبأحد زميلاتها في الجامعة لتستفسر منها عن موعد قدومها لتجيب زميلتها أنها في ظرف نصف ساعة ستكون آتية لها..
زفرت "قمر" بضيق وأعاد نظرها إلي شاشة الحاسوب تستخرج بعض المعلومات من علي الشبكة العنكبوتية..
مرت عشرة دقائق و رقبة "قمر" مثنية علي الحاسوب تتنقل بين المواقع لتسجل رقم قياسي في استخلاص المعلومات من علي المواقع بدقة..
فاقت "قمر" من شرودها علي صوت النادل يقول:إذا سمحتي يا آنسة
رفعت "قمر" عينيها بانتباه قائلة:نعم!!
النادل بنبرة إحراج:عذرا يا آنسة ولكن كما ترين المقهى بأكمله يمتلأ بالزبائن
رفعت "قمر" حاجبها الأيسر بتعجب قائلة:هل سأحسدكم مثلا!!
ابتسم النادل ابتسامة هادئة قائلا:أبدا يا آنستي ولكن يوجد أحد زبائن المقاهي الدائمين موجود بالخارج وإذا علم أنه لا يوجد مكان له سيكون الوضع غير مرغوب فيه لأن صاحب المقهى صديقه
أكمل النادل حديثه بنبرة استئذان:فمن الممكن يا آنستي أن تسمحي بأن يجلس علي تلك الطاولة لربع ساعة فقط حتى تخلو إحدى الطاولات
صمتت "قمر" لثواني لتقول بنبرة ضيق:هلي سيدوم الأمر كثيرا
النادل بسرعة:لا لا ربع ساعة لا أكثر
قمر بابتسامة هادئة:حسنا لا توجد مشكلة
في الخارج المقهى..يجلس علي دراجته البخارية وصوت ضحكاته يرتفع تدريجيا من حديثه مع صديقه "مالك المقهى" لتقع عينيه علي ساعة يده ليقول:أتركني كي أدخل يا محمد ونكمل الحديث بالداخل
محمد بنبرة توتر:و ماذا هنا يا فادي ؟؟!!
فادي بنبرة مزاح ممزوجة بضحك:أتعلم يا محمد لو كنت فتاة لظننت أنك تٌعد مفاجأة لي كي تتقدم لزواجي
ارتفع صوت ضحكات "محمد" الممزوجة بضحكات "فادي" وعينيه التي دمعت من كثرة الدموع..ليقطع وصلة ضحكهم صوت "النادل" يقول:أستاذ محمد
التفت "محمد" برأسه ليقول بنبرة تساؤل:هل استطعت ؟؟
حرك "النادل" رأسه بمعني "نعم" قائلا:طاولة 20 في انتظاره يا أستاذ
اقترب "النادل" من أذن "محمد" قائلا:ومن بها فتاة ولكنها وافقت
مرر "فادي" يده بين خصلات شعره ببطء قائلا:كوب النسكافيه الخاص بى إذا سمحت يا أحمد
عاد "النادل" إلي عمله بينما قال "محمد":قبل أن تدخل يا فادي أريد أن أعلمك أنك ستجلس في طاولة مع فتاة لأن المقهى بأكمله مملوء بالزبائن لربع ساعة فقط لا غير حتى يأتي من تنتظر
تحولت ملامح "فادي" الضاحكة إلي الضجر وقال:نعم!! لو أخبرتني من البداية يا محمد لكنت ذهبت إلي أي مكان ولكن لماذا كل هذا؟؟ وفتاة أيضا !!
زفر "محمد" بهدوء قائلا:ليست هناك مشكلة يا فادي اتجه إلي الطاولة حتى يأتي مشروبك وهي ربع ساعة فقط
بينما "قمر" منشغلة بكتابة بعض الملاحظات في كتيبها الخاص حتى شعرت برائحته المعتادة تغزو الهواء المحيط بها وظله ينعكس علي طاولتها لترفع عينيها بتعجب ممزوج بضيق لتجد "النادل" يقول:تفضل يا أستاذ فادي هذا هو مشروبك
ما بين تعجب "فادي" من أن تلك الفتاة "قمر"..و شعوره بأنها باتت المفاجأة الأولي التي تلحق بروتين يومه..
وضجره من أن يجلس معها علي طاولة بمفردهم ولو بثواني..و شعوره بالإرهاق من العمل الذي وقع علي كاهله اليوم..
كانت "قمر" بين صدمتها من رؤية "فادي" مرة أخري و عزمها علي تأجيل موعدها والذهاب لمنزلها وألا تجلس معه...
قطع تفكير الإثنين صوت "النادل" وهو يقول:إذا احتاجتوا إلي شئ أخبروني
جلس "فادي" علي الكرسي المقابل ل"قمر" ليرتدي نظارته الطبية وينكب علي هاتفه المحمول يعبث بصفحته علي "الانستجرام" و"قمر" تحاول أن تلملم كتبها و أوراقها في مكان واحد بدلا ما كانت مبعثرة علي الطاولة..
ارتشف "فادي" الرشفة الأولي من المشروب الخاص به ليضع الكوب موضعه ومعها يقع عينيه علي أحد أوراق "قمر" ويجذبه الكلمات الموجودة بها..
زفرت "قمر" بضيق وهي تغلق حاسوبها قائلة بنبرة ضعيفة ولكن سمعها "فادي":يا ربي أخرجني سليمة من تلك الكلية
نظرت "قمر" إلي "فادي" وتذكرت أنه مرشد سياحي في إحدى شركات السياحة لتقول باستسلام:هل لي بخدمة!!
أغلق "فادي" هاتفه قائلا:تفضلي
وضعت "قمر" الورقة التي انتبه لها "فادي" قائلة بضيق:أنا أحضر رسالة الماجستير عن اللغة الإنجليزية
أكملت "قمر" بنبرة أوشكت علي البكاء لعجزها عن الوصول للمعلومات المدونة بالورقة لتقول:و المشرف علي الرسالة طلب مني ما بي الورقة وانا أصبحت عاجزة وتائهة بين تلك المواقع
صمت "فادي" لدقائق وحرك الورقة لتصبح موازية له تماما ليمسك بأحد الأقلام التي كانت علي الطاولة ويدون بعض الكلمات في ورقة أخري..
بعد مرور ما يقارب العشر دقائق و"قمر" صامتة تنظر إلي "فادي" تتأمل حاجبيه اللذان يتقابلان عندما يحاول "فادي" تذكر شئ..ويده التي تسير علي الورقة بسهولة تدون الكلمات دون أي عجز..
حرك "فادي" الورقة تجاه "قمر" قائلا:هذا ما استطعت تذكره من الممكن أن يساعدك
تناولت "قمر" الورقة بلهفة كأنها وجدت طوق نجاة لتمسك بالورقة وتجد أن "فادي" استطاع تحديد كتب لها بأرقام الصفحات وبعض صفحات التواصل الاجتماعي المتخصصة وبعض رسالات من سبقوها لعلها تستفيد منهم..
ارتسمت ابتسامة فرحة علي شفاه "قمر" لتتنهد براحة وتقول بامتنان:شكرا شكرا جزيلا لك
و كأن تعجرفه و بروده تحكم فيه من جديد ليعيد النظر إلي هاتفه المحمول من دون الرد علي "قمر" لتنظر له بضيق ممزوج بغضب وكأنها قاربت علي القيام من موضعها لتنزع روح هذا المتعجرف..
ولكن حمدلله..آتي "النادل" قائلا:أستاذ فادي توجد طاولة خالية لك
أحضر "فادي" مشروبه الخاص وهو مشغول بالرد علي محادثته مع "ياسر" ليجلس علي طاولة في أقصى يسار المقهى ويجد "وائل" ذاك الضابط الذي ساعده في تفكيك القنبلة يجلس أمامه قائلا:عذرا لو تأخرت
انتبه له "فادي" وقال:لا توجد مشكلة ولكن المهم أن تكون وصلت لشئ
ابتسم "وائل" بثقة وقال:أطلب لي كوب عصير بداية وستجد ما تريده
....
سطعت شمس اليوم التالي علي حجرة "منير" الذي بات ليلته يفكر مرارا وتكرارا في حل لمشكلته..بات ليلته وهو يري أمام عينيه فيلم سينمائي هو فيه الممثل الوحيد..بأمر الله استطاع وحده أن ينحت في الصخر ليبني هذا المصنع..بات ليالي يكافح من أجل بناء هذا المصنع..رفض أي مساعدة من أقرب الأقربين له ليحقق حلمه بمفرده.
ولكن الآن!! ماذا سيفعل؟؟ هل سيعطى جزء من حلمه ل"محب"!!
هل سيخضع لها الثعبان الذي بات يًدب سمومه في كل أركان القرية!!
فاق "منير" من شروده علي صوت "ناهد" تقول:حاج منير
رفع "منير" عينيه إليها في إشارة منه للتحدث لتقول "ناهد" بنبرة حزن ممزوجة بضيق:محب ينتظرك في الخارج
زفر "منير" بقوة واتجه إلي خزانته يجلب منها بعض الأوراق وعلي وجهه لا تبدو أي معالم لفرحة كانت أو حزن!!
تلألأت دمعة في عيني "ناهد" وهي تري زوجها بهذا الحال..تشعر بأوجاعه ولكن ليس بيدها حيلة سوي الدعاء له..متأكدة أنه يكتم غضبه خشية من أن تصيب سموم "محب" ابنته كانت أو زوجته..
لتتجه "ناهد" إليه وتمسح بمعصمها علي كتفه قائلة بنبرة مرتعشة:اللي ربنا عايزه هيكون
التفت لها "منير" وبدون أن يظهر أي رد فعل قال بنبرة جدية:أحضري لي قهوتي
...
نظر إلي ساعة الحائط ليجد أنها صارت التاسعة صباحا..عُقد حاجبيه بتعجب ممزوج بقلق وعينيه تتفحص باب حجرة ابنه تلك التي لم يخرج منها منذ البارحة..
ازدادت رجفة قلبه وهو يطرق علي الحجرة ولا يجد أي إجابة ليدب الخوف في أوصاله خشية أن يكون هناك مكروه قد أصابه..
زاد "حمدي" من طرقاته علي حجرة "فادي" و هو متأكد أن "فادي" كعادته يغلق باب حجرته من الداخل..ولكن وبعد ما يقارب الخمس دقائق عاش فيهم "حمدي" برعب لم يذقه إلا مرة في ماضيه..
فتح "فادي" باب الحجرة وهو يرتدي ساعته قائلا بنبرة غريبة علي أذني "حمدي":صباح الخير يا أبي
تنفس "حمدي" الصعداء لإطمئنان علي ابنه ولكن سرعان ما زاد تعجبه أضعاف مضاعفة من الجمود واللامبالاة المتمكنة من ملامح "فادي" ليقول "حمدي":صباح الخير يا فادي..ماذا بك يا بني؟؟ لماذا لم تذهب لعملك!!
أنحني "فادي"بجسده ليربط رباط "الكوتشي" قائلا:أخذت اليوم عطلة لأكون بجانب جمال من أجل مناقشة رسالته
حمدي بنبرة أمر:فادي انتبه لي وأنا أتحدث
التفت "فادي" بوجهه وعينيه تشع تساؤلات ممزوجة بعصبية مكتومة...نظرات لم يستطع الأب أن يفسرها وأن يفهم ماذا يدور بعقل ابنه ليقول "حمدي":ماذا حدث البارحة يا فادي؟؟منذ عودتك أمس وأنت لست علي طبيعتك ابتسامة لامبالاة غزت وجه "فادي" ليقول بنبرة غضب مكتوم:تلك هي طبيعتي الدائمة يا أبي..ولكن أتعلم الغريب حقا أن أمثل سنين وسنين علي الجميع وأدفن طبيعتي وحقيقتي تحت التراب
جملة نارية ارتعد لها قلب "حمدي" الذي قال بنبرة غضب عالية:فادي!!أنا لست بزميل لك تعامله ببرودك و تعجرفك هذا..فلتحدث بصراحة وكفي هذا الغموض..ماذا حدث؟؟
اتجه "فادي" إلي باب المنزل ليفتحه وقبل أن يغادر التفت بنظره إلي والده قائلا:طيلة سنين عمري يا أبي وتعاملي معك غير الجميع..نعم أنا بارد و متعجرف وغامض ولكنني لست بمن يخشي يمواجهة أي فعل قمت به سواء كنت كبير أو صغير..و إن كنت تريد أن تعلم ما بي يا أبي!! أبحث أولا فيما بك
أغلق "فادي" باب المنزل ومعها يفتح ألف باب وباب علي ماضي "حمدي" وذكرياته...ومعها يترك "حمدي" يصارع ماضيه الذي قارب علي القضاء عليه..
.....
ابتسامة خبث ممزوجة بانتصار غزت ثغر "محب" وهو ينظر إلي "منير" الذي يوقع علي عقد الشراكة بينهما ليقول "محب" بمجرد إنزال "منير" للقلم:مبروك علينا يا عماه
منير بنبرة باردة ممزوجة بغضب مكتوم:مبروك عليك أنت..لقد أصبحت شريك في مصنع لو عشت سنين عمري وعمرك ما كنت وصلت لأساسه بناءه
قهقهة خفيفة صدرت من "محب" وهو يطفئ تبغه قائلا:فلننسي الخلافات يا عماه وغدا سيدخل للمصنع 700ألف جنية مساهمة مني في تطوير الماكينات
منير بنبرة ضيق:حسنا ولكن أحذر يا محب أن تخلف باتفاقنا..أنت دخلت بنسبة 25% شريك بالمصنع ولكن الإدارة وكل شئ بيدي
ابتسم "محب" ابتسامة باردة قائلا:المهم أن تأتي أرباحي الشهرية لي وفقط
أكمل "محب" بنبرة خبث:ولكن الآن..هل ستظل رافض لزواجي من ابنتك ؟!
اشتعلت براكين الغضب داخل كيان "منير" وقاربت عروقه يده ورقبته علي الانفجار من خبث "محب" المخفي بين طيات حديثه ليقول "منير" بنبرة غضب مكتوم:لا دخل لابنتي بعملنا هذا يا محب مفهوم!! وقد بلغتك من قبل رفضها للزواج
أشعل "محب" عود تبغ آخر وهو يحادث نفسه قائلا "الأيام ستحكم بيننا وسيأتي اليوم الذي ستطلب مني زواجي بابنتك ولكن الصبر يا محب الصبر"
التقط "محب" ملفاته من علي الطاولة وقال:حسنا حسنا فلنتحدث الآن عن العمل
...
ارتفع صوت أحد دكاترة كلية "ألسن" قائلا:وبذلك يتم منح الباحث درجة الماجستير بتقدير امتياز
اشتعلت القاعة بالتصفيق وقفز بعض من أصدقاء "جمال" الباحث من موضعهم وهو يطلقون صفير معبر عن فرحتهم..
انطلق الباحث إلي هيئة الأساتذة المشرفة علي رسالته بينما هبت "قمر" من موضعها وهي تغلق كتيبها الذي دونت به بعض الملاحظات لتقع عينيها علي "فادي" الواقف بجانب "ياسر" وبعض الشباب ومن الواضح أنهم أصدقائه..
ابتسامة لاإرادية ارتسمت علي ثغر "قمر" لرؤيتها لضحكة "فادي" بل و رؤية "فادي" نفسه..
لم تستطع "قمر" التحكم نهائيا في عينيها اللتان أعلنتا رفضهما للنظر لشئ آخر غير هذا المتعجرف..
ولكن..و في أقل من الثانية التفت "قمر" بجسدها متجه إلي باب القاعة خشية من أن يلحظ أحد نظراتها ل"فادي" التي عجزت هي شخصيا عن تفسيرها..
ولكن و لأن الصديق مرآة صديقه..ولأن "فادي" كان في حالة بالكاد استطاع فيها رسم ابتسامة فرحة لزميله لم ينتبه نهائيا ل"قمر" طوال مناقشة الرسالة ولكن!!من لاحظها هو "ياسر"..لاحظ عينيها التي تسترق النظر إلي "فادي" منذ بداية المناقشة..لاحظ رعشة جفونها خوفا من أن يلحظها أحد..
لترتسم ابتسامة هادئة علي ثغر "ياسر" و يلتفت بنظره إلي "فادي" الذي استطاع ببراعة إخفاء ما بداخله عن الجميع ولكن هل استطاع إخفائه عن صديق عمره!!
الابتسامة التي اختفت من ملامح "ياسر" وعقٌد حاجبيه بالتأكيد ستمنحنا الإجابة بأن هذا التمثيل لم يقنع صداقة دامت لأكثر من 25عام..
ليهمس "ياسر" في أذني صديقه قائلا:أريد التحدث معك في أمر ما
نبرة تعجب ممزوجة بشك من أن شئ لوحظ عليه نبعت من "فادي" الذي قال:الآن!! ولكننا ذاهبين مع جمال
زفر "ياسر" بضيق قائلا:حسنا عندما نذهب إلي المطعم أريد أن نتحدث بمفردنا
أومأ "فادي" رأسه بالموافقة لينتبه الصديقين ل"جمال" الذي تقدم ناحيتهم لتبدأ المباركات تتوالي عليه واحدة تلو الأخرى ومن ثم تنطلق مجموعة الشباب إلي أحد المطاعم لتناول الغذاء سويا..
...
ألقت "قمر" بالملعقة التي كانت بيدها لترتفع نبرة صوتها وهي تتحدث في الهاتف قائلة:نعم!!هل فقدت عقلك يا بسام؟؟ أم تريد القضاء عليً بتصرفاتك تلك!!
نبرة "بسام" التي قاربت علي الوصول لجميع الأشخاص علي الطاولات حول "قمر" معلنة عن وصوله لقمة غضبه وهو يقول:قمر!!أولا أخفضي صوتك أمامي وثانيا أنا من البداية أخبرتك أنني سأقدم علي تلك الخطوة
قبضت "قمر" علي معصمها قائلة بنبرة ضجر:وأنا لم أوافقك عليها
زفر "بسام" بضيق قائلا:هذا هو الحل الوحيد أمامنا يا قمر..حسنا سنتحدث لاحقا..في أمان الله
ألقت "قمر" بهاتفها بجوارها علي الطاولة وهي تمسح بيدها علي وجهها لعلها تخفف من غضبها الواضح علي ملامحها وهي تردد بصوت خافت "مجنون"
زفرت "قمر" بقوة وانتبهت إلي الغذاء الموضوع أمامها لتبدأ في استكماله وداخل عقلها مليون سؤال وسؤال وإجابتهم جميعا عند "بسام"..
بينما في الطابق السفلي من المطعم..اقتلع "ياسر" صديقه "فادي" من بين الحضور الذين ينتظرون الطعام ليقول "ياسر" بنبرة ضيق:هل من الممكن أن أفهم ما الذي يحدث؟؟
زفر "فادي" بضجر وهو يعقد يده أمام صدره قائلا:ما الذي يحدث!!
ضغط "ياسر" علي أسنانه وقال بنبرة غضب اشتعلت لتوها:فادي!! لامبالاتك تلك لا تكون أمامي ولعلمك تمثيلك ردئ جدا ولم يخدعني ولذلك تحدث ما الذي حدث ليلة أمس؟!
زفر "فادي" بضيق ورفع يده إلي خصلات شعره يداعبها بتردد قائلا بحسم:حسنا سأخبرك لأن عقلي لا يستوعب ما حدث
انتبه "ياسر" لحديث صديقه ليبوح "فادي" بما يخفيه من ليلة البارحة والذي لم يتوقع نهائيا بأنه سيتحمل إخفائه أكثر من ذلك ولكن..الحمدلله أن لديه صديق مثل "ياسر" ليقسم أوجاعه معه ويشاركه بألم قارب علي القضاء علي عقله..
لينهي "فادي" حديثه بعد ما يقارب الثلث ساعة ليتنهد "ياسر" بقوة وهو يخفي وجهه بين كفيه قائلا بنبرة تحطم من أجل صديقه:ما الذي تنوي فعله يا فادي؟!
زفر "فادي" بقوة وقال بنبرة ضيق:سأحاول البحث في الماضي يا "ياسر"
رفع "ياسر" حاجبه الأيسر وقال بنبرة عصبية:ماضي من يا "فادي" !! أتريد أن تلقي نفسك في أعشاش الدبابير
ضرب "فادي" الطاولة بيده بعصبية مكتومة قائلا:هل تريدني أن انتظر؟؟هل تريدني أن أعلم بأن والدي...
قطع حديث الصديقين صوت "جمال" الذي اقترب منهم قائلا:حسنا حسنا حديثكم من المستحيل أن ينتهي ولكن الليلة استثناء
ابتسم "فادي" بهدوء وقال بنبرة مزاح:الليلة تصبح استثناء فقط عندما نجد وجوه حسناء نجلس معها وليس مع هؤلاء
أتاهم صوت أحد أصدقائهم يقول بنبرة ضحك:وما حال هؤلاء يا "فادي"؟!
التفت "فادي" برأسه ليكون في مواجهته ليقول بنفس نبرة المزاح:حالهم لا حول له ولا قوة منذ الزواج يا صديقي
ارتفعت أصوات ضحكات الأصدقاء بقوة حتى "ياسر" الذي ضرب كف "فادي" قائلا:ليتنى استمعت لنصيحتك
عاد الكل إلي موضعهم ليكملوا مزاحهم ويشرعوا في تناول الغذاء..أمسك "فادي" بزجاجة المياه ليسكب البعض في كوبه لتخونه عينيه وتصوب تجاه "قمر" التي تهبط من علي الدرج..
تيار هواء غادر أراد إعطاء جرعة خفيفة لكيان "فادي" انتقلت تجاه "قمر" تعبث بحجابها لتقف "قمر" موضعها وتحاول ترتيب حجابها بينما عيني "فادي" تأبي النظر إلي أي شئ آخر غير ذاك القمر..
فستان قطني باللون "التركواز" مزين بنقوش باللون "الرصاصي" يتناسب كليا مع هذا الجسد الأنوثي المخفي معالمه تحت طيات القماش وحجابها الرصاصي الذي أضاف طبيعة هادئة عليها..
نظرة عينيها الطفولية الغاضبة من تيار الهواء..رجفة رموشها الغاضبة..كل هذا تجمع أمام عيني "فادي" الذي انتبه لزجاجة المياه التي بيده وحمد ربه أن المياه لم تتخطي حاجز الكوب كما تخطي هو حدوده بالنظر إلي "قمر"..ليستغفر ربه مرارا وتكرارا وينتبه مرة أخري إلي طعامه في صمت وكأن يلقن عينيه درسا قاسيا لنظرها إلي "قمر" التي تعتبر في نظره ما هي إلا فتاة كغيرها خانت ثقة والديها بها هي وابن عمومتها بعلاقة سرية بينهما..يتبع.....
![](https://img.wattpad.com/cover/150226094-288-k754051.jpg)
أنت تقرأ
في أرض النوبة للكاتبه نورهان حسني
Mystery / Thrillerبسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته المقدمة "كرم.. شجاعة.. انتماء" صفات تلخص مشوار هذه المدينة السمراء النوبة ؛ أو كما أطلق عليها عبر التاريخ أطيب المدن وأقدمها.. "مدينة التضحيات" قيل عنها فى حكايات أخرى، وعلى الرغم من تعدد صفات...