الجزء 02

1.1K 17 2
                                    


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


على الجانِب الآخَر مِن المدِينَة:
دخلَت إلى غرفتِه المُعتَمة ، أزاحَت الستائِر مما سمحَ لضُوءَ الشَّمس بالتسلُّل إلى أنحَاء الغُرفَة ، وضعَت يديهَا منتَصف خَصرهَا ثُم نادَته بصَوتٍ عال ٍ: سَلِيييييم!
ثَثاءب وتمدَّد فِي السَّرير ثُم غطَى وجهَهُ ليُوارِيه عَن الضُوء المتسرّب عبرَ النافِذَة ، تَمتم بصَوتٍ غيرَ مسمُوع : في شِنو يا أمِّي ، خلينِي أنوم شُويَّه عليك الله
وِداد : يا ولَد قُوم إنتَ ناسِي إنو عِندَك مدرَسة ولا شِنو؟
سلِيم : .......
وِداد : كلمتَك مليُون مرَّة ما تساهِر في القِراية لغَاية صلاة الصُبح عشَان تَنوم لَي الصبَاحية وتعذِّبني معَاك ؛ لو بتعمَل كدَا بخلِي أختَك تجي تصحِّيك ، وإنت عارفهَا كويس بتصحِّيك كيف ، ولا أذكِّرَك
أجابهَا بعدَ أن نهضَ من فراشِه كالحِصان : خلاص .. حاضِر حاضِر .. قايِم والله قايِم ، كلّووو ولا أمل يا أمي عليك الله
ضحِكَت من حركتهِ الآخِيرة ثمَ أزاحت عنه الغطَاء وأدارت ظهرهَا متجِهة إلى البَاب : أرح أشرب ليك شَاي أول
نهَض خلفهَا بخُطى متثاقِله

ـــــــــــــ


فِي المسَاء:
كالعادَه تجتَمعُ عائِلة عبدَ الله حولَ المائِدَة نهايَة كلَّ يَوم
فاتحَهم هُو بالحدِيث بعدَ أن إستندَ على المقعَد الذِي يجلِس عليهِ : أطيَّب أكِل بالدنَيا والله ، تسّلَم يَدِّك يا أم فهَد ، ثمّ إلتفتَ على يسارِه موجِّهاً حديثهُ إليهِم : هَا وإنتوا كيِف كَان يُومكُم؟
ردّت عليهِ سارّه بعدَ أن أخذَت نفسَاً عمِيقاً : الحمدُ لله بس شُوية العلُوم السياسِيه متعِبه وكِذا ..ضحكت ثم واصلت جملتها : شكلِي راح أتابِع الأخبَار ويّاك يا عمِّي من اليُوم ورايِح
قاطعهُم فهد : أنا بديت أفكِر أتخصّص أمرَاض قلب إن شَاء الله ، حاطَه ببالِي من زمَان
ضربته سارّه على كتفِه مازِحة : والله وكِبرنا يا فهُوود ، رمقهَا بنظرَه حادَّه ، ثمَ أبعَد يدهَا عَن كتفِه الأيمَن وقام بنفضِه بطرَف كفِه كأنمَا يبعِد عنهُ ذرَات من الغُبار ثمّ خاطبها بنبرَه مليئَة بالفَخر : إيش فِيك .. ترَا كلهَا سنتيِن وأتخرَّج
ضحكت على حركتِه المُصطنَعه ثمَ ردّت عليه : لا تبالِغ ، فور إنِي واي إنت لسه طالب بالجامعة
نادته روح الجالِسه بقربِه من جِهة اليسَار : فهَد ، أبغَاك تحِل معِي شويَّة مسائِل بالفيزَياء ، والله رأسِي ضرِب مِن كِثر ما فكرّت فيهم
إلتفت إليهَا مبتسِماً : حاااااضِر ، تآمُرِين بشَئ ثانِي؟
هزّت رأسها نافِيه بخجِل : ما يأمُر علِيك ظالِم ، لا مشكُور
قاطعتهُما سارّه بنبرَه غيورَه مصطنَعه : عِشتوووو
ضحكَ الجمِيع على كلمتهِا الآخيرَه ثمَ أكملُوا طعامهُم

ـــــــــــــ


بعدَ ساعَة:
صعَد السّلالِم بتأنِي ، ثمَ توقَف عندَ باب إحدِى الغُرَف
دفَع البَاب بخِفَة ثُم دخَل ، إنتبَه إلى إنشغَالهَا بتفحُّص القِلادة التِي حاوطَت عُنقها ، كسَر حاجِز الصَمت بصوتٍ دافَئ : عجبتِك!
إنتبَهت لوجودهِ ، فرفَعت رأسها إليه ثم خاطِبته بنَبرة سعِيدَه : شديييييد
جلسَ على حافّة سريرهَا ثَم إبتدَر حديثَه بتسَاؤُل : طيب .. آخر مرَّة وقفنَا وين؟
رفعت بصرِها محدّقة إلى السقف دلالَه على التعمُّق في التفكِير ثمَ أجابته : أمممم ، إتذكَرت .. كان جِيت راجِع الريَاض
إبتسمَ متدارِكاً أفكارَه : أيوااا ، علِيك نُور ،إعتدَل في جلسَته ثُم واصَل ما إنقَطع من حدِيث :
الوقِت داك مَا كان فِي جوَّالات ، كنتَ متواصِل معَ ناس البِيت بالجوابَات ولو كَان فِي خبَر عاجِل ولا إتوفَى زول فِي البلَد ؛ بيتصلُوا لي من الخرطُوم بالتلفُون الثابِت ، ولسَّه متذكِّر يُوم إتصَلت لي ساميه خالتك وقالت لَي إنو سمَا حامِل ، كان مِن أسّعد أيام حياتِي وبقِيت متابِع أخبارهَا أول بأول وكُلُّ ما يجِي زول مسافِر السُّودان برسل ليهَا معاهُو هدَايا وقرُوش لنَاس البِيت ، كنتَ ناوِي بعد ما أمِّك تلِد أجيبهَا الرِّياض عشان كدا وقتها بدِيت أبنِي في البِيت دَا ، ولمّن أمِّك بقت في الشَّهر الآخير جيت راجِع السُودان تانِي عشَان أقيف معاهَا ، وجيتِي إنتِ للدُنيَا ،طبعاً أمِّك هي السّمتِك الإسم المميّز دَا ، وعشَان بيتِي هنا ما إكتمَل قعدتَ لي شهرِين كدَا هناك ورجعتَ الرِّياض على أساس أتِموا وأجِيبك إنتِ وأمِّك تعيشُوا معاي ،ميزَانيتِي ما كَانت مكفيَاني لأنو الشَركة لسّه ناشِئة وجدِيدة والموضُوع جرَّ معاي قرِيب السَّنه ، بس ما إنقطعتَ عن تواصلِي مع أمّك وكانت طوالي بترسِّل لي صُورِك في الجوابَات ، لغايَة ما يُوم إتصَّل لي عَلِيّ أخُوي .. لسّه متذكِر اليُوم دا بالتفصِيل ، توقَّف عن الحدِيث للحظَة ليمسَح دمعَه سجِينه إستدعتهَا حرَارةُ الذِكرَى ثُم واصَل : يُوم 26 ديسمبَر ، اليُوم الماتَت فيهُو سَما ، اليُوم الفقَدتهَا فيهُو للأبَد ، كانَت أسوأ نِهايَة سنَه مرَّت عليّ فِي حياتِي كلها، كُل آمالِي بقَت زَي السرَاب ، وكُل مخططاتِي إتغيَّرت وإتقلَبت رأساً على عقَب ، كل حاجه بقت باهته وبدون لُون
شّعرت برجفَة صوتهِ بينَ كلماته فاحتضِنتهُ باكِيه بصَمت ، كان يمسَح على رأسهَا بهِدوء لوقتٍ طويل ، فانتبه أنها سُرعان ما إستَغرِقت في نَومٍ عمِيق
أسنِدُ رأسهَا على الوِسادَه ، ثم أغلِق ضُوء الأبجورة وخرَج ، لكنه إنتَبِه أثنَاء نزُولهِ إلى غُرفة فهَد المُضَاءَة ،فترَاجع بِضعَ خطوَات بعدَ أن تسلَّل إلى أذنِه مِن نافِذَة المجاورَه صوتٌ يتمتِم بمصطلحَات غرِيبه ، أدارَ مِقبضَ الباب فلمحهُ جالسِاً عندَ نهايَة الغُرفة مُنهمِكاً فِي الدراسَة
إنتبَه فهد إلى وجُوده إِثرَ دخولِه فتوقَف عَن القِراءة ثمَ رفعَ رأسه إليه : هَلا عمِي ، حيَاك
عبد الله : الله يحييِّك ، لا تسَاهِر حبيبِي ، راح تتأخَر عَن الدّوام
فهَد : إنتَ تدرِي قَد إيش الطِب مجَال صعَب ، ويَبِي إجتهَاد ومثَابَرة أكثَر مِن المجَالات الثَانية ، وطبعَاً مثِل ما يقُولون : مَن طلبَ العُلا سهِر الليَالِي
إبتسم عبد الله ثُم أجابهُ مع إيماءَة : أكيد كلامَك صَح وفي مكانه .. وعفارِم عليِك يا وِلدِي الله يوَفقَك ،والله تصدِق عَاد إذا كان عنِدي ولد من لحمِي ودمِّي ما كان بيكُون مِثلَك يا فهَد ، الله يحفظَك ويحمِيك
فهَد : تِكفَى يا عمِي لا تقُول كِذا ، إنتَ تدرِي قَد إيش أنا أعزَّك ، ترَاك مثل أبويَا وأكثَر بَعَد
عَبد الله : والله كلامَك ذَا عنِدي بالدِنيا ، يلا بَابا حبيبي ما وِدِّي أشغِلَك ، تصّبِح على خِير
فهَد : وإنتَ بخِير عمِي

ـــــــــ


العاشِرَة صبَاحاً:
فِي باحَة المَدرَسة:
كانَت جالِسة في إحدى إستراحات المدرَسة ، تتدَّلى جدِيلتها الطَوِيلة على كتفِها الأيمَن ، منهَمِكة في حَل مسألة رِياضِيه مُعقَّدة ، فاجأها صوتُ إحداهنّ : بخخخخخخخخخخ
رُوح : وجَع .. وِش فِيك إنتيِ؟
العنُود : هههههههه ، طلعتِي جبانَه
رُوح : وبعدِين معاك ، تبغِي تموتينِي من الخُوف وأنا لِسَه صغِيرَة
ضحكت العَنود بينمَا كانَت تتحدَّث : صغِيرَة .. فِين صغِيرَة ونتِي زَي البقرَة
رُوح : حسبي الله منك ، أنا موبقَرة يا الدبه
العنُود : إذا موبقَره بتكونِين خروفَه خوافَه؟
أجابتهَا رُوح بلهجَة سُودانية بحتَه : أولاً أنثَى الخروف إسمعها نعجَه ، ثانياً أنا زُوله ، زين واو لام هاء
ردّت عليها بفضُول عفوِي : أجل وِش يعنِي زولَه..!!
رُوح : زوله فِي السُودان تعادلهَا كِلمة "حُرمَه" ، ولا تقولين لي بقَرة تانِي يا الدُّبه
العنُود : دبّه ها ، من جدِك تقولينها ، فينها الدبه بوزنِي ذا ، يلا يا غلسَة ، خلهَا فلسفتِك زي .. أنا جعت وأبغَى أروح البوفِيه .. تروحين معاي!
رُوح : لأ .. عندِي واجِب أبقى أخلصه بالأول
العنُود : حياتكُم كلها واجبَات ، الحمدُ لله ريحت نفسِي من العلمِي ذَا ، وييه كيف نسِيت ؛ أبغاك في موضُوع خَاص حصَل معي أمس ، بروح أجِيب الفطُور وأرد بسرعه عشان أحكيلك ، يلااا بااي
تابعتهَا بنظراتهَا إلى أن إختفِت ، تسَأءلت إثر مغادرتها بفضُول : (موضُوع خاااص!!) شكلهَا مسوِيه مُصيبه
عادَت مجدداً إلى الإنشغَال بواجِبها المدرسِي حتَى تقوم بتسلِيمه

ـــــــ


على بُعد شارعَين مِن المدرسَة الثانوِية للبنَات:
رَنّ الجَرس مُعلِناً بدايَة إستراحَة الفطُور:
أردَف مرفقيهِ فوقَ بعضِهما البعض وتهيَأ ليأخُذ قيلولَة قصِيرَة ، قاطِعهُ صديقَه الذِي إتجهَ صوبَه متحمِّساً : هلا والله بسلوووم
أجابهُ سليِم بإستغرَاب : وِش فيك متحمِّس كِذا!
خالِد هامِساً بلُغة عربِية فُصحى : لقَد وقعتُ فِي الحُبِ يا عَزِيزِي
سلِيم ضاحِكاً: هههه ، وِش هالمزحَه ذِي بعَد ، إنتَ شكلَك طِحتَ عالآخِر ، وِش المصَايب اللي سويتهَا يا روميُو..؟
أجابهُ خالِد بنظرَه حالِمه : رَقَّمت بِنت بثانويَة البنَات أمبارِح وخَذَت رقمِي تصدِّق ، لأ وأزيدك مِن الشِعر بيتيِن .. الهَوا طَيحَّ شِيلتهَا وشُفت وجهَها ، آااااخ بدُوخ من الجمَال والدلال أنا
جاراه سلِيم بلا مُبالاة : ومِين تعِيسَة .. أقصُد سعِيدة الحَظ هاذِي !؟
خالِد : إسّمهَا العنُود
سلِيم : عاشَت الأسَامِي ، نهَض : يلا يلا .. خلّ هالخرابِيط وسَكِّر السَالفه ذِي ، ولا عاد تجيب طارِيها عالسَانك (حذرّتك يا زول)
خالِد : وِش فِيك معصِّب كِذا ، ووِش يعنِي زُول .. تعايّرني صَح .؟!
دخَل سلِيم في نوبَة ضحِك ثمَّ أجابه بإختصَار : يعني رجَّال ,man , human , بنِي آدم ..، واللي يرحَم والدِيك إبعِد عن البِت هاذِي ، والله يقبضُونَك ناس الهَيئَة ولا يشُوفَك أبُوها ليوَرِيك الحُب على أصولَه ، إنت ما شُفت وش صَار مع طلّول + إحنا في السَّنه الآخيرَة ولازم نركِز على دراستنَا
تنهَد خالِد بقلَّة صَبر بينمَا كان يقلِّب كلامَ صديقه فِي رأسِه بإضطراب
قطع سليم تفكيره : يلا خلوود قُم ، خلنَا نسلِّم الواجِب
قام بأخذ بعضاً منَ الدفاتِر ، ثم توجه معه إلى الخارِج


يتبع.....

غربة روححيث تعيش القصص. اكتشف الآن