فِي طرَف المدِينة:
دخَل إلى غُرفَة إبنهِ فوجَدهُ ممسِكاً بقلمهِ بينمَا كان عقله شارِد في مكانٍ آخر عبرَ النافِذة ، كانَ الدّمُ يغلِي في عرُوقِه غليَان القِدرِ في النَّار ، قاطِع شرُوده بنبرَة حادَّه : بَنذَبِح من تحِت رأسك أنا يا الخَايِس ، هاذِي جزاتِي ، أما مُب ربيِتكَ على كِذا؟ ، ليِش تروح على مدرسةِ البنَات .. وِش تبي يقُولوا النَاس علينَا .. موب ربينَاك! ، إنت ما تستحِي
خفضَ رأسهُ مدرِكاً حجم خطأه .. لم يُجِب على تساؤلات والدِه واكتفى بالإستِماع إلى شَتائِمه التِي إنهَمرت عليهِ كالسَّيل ، لم يغضب عليه والده يوماً كما حدث في هذه الليله
سعُود : بنات الناس ماهُم لعبه تضحك عليهم ، لا تنسى إنت عندك أخت وبتجيب بنات بالمستقبل .. هاذي الأمور ياخالد عقابها في الدنيا قبل الآخره ، والله أشُوفَك تحُوم قريِب من ثانوِية البنَات وترَقِمهم ليكُون عندِي معَاك حسَاب تانِي .. سمِعت
حرّك خالِد رأسهُ دلالة على الإيجَاب ، خرَج والدِه الغاضِب وأوصدَ البابَ خلفهُ بقُوه جعَلت مِن أجزَاء جسدِه تنتَفِض ، نظرَ إلى طرَف ورقَة بها رقمَ هاتِف ، قامَ بتقطِيعها ورميهَا فِي السّله ، وضَع رأسهُ بينَ يديهِ .. كانَ يفكِّر في كيفيَة إصلاحَ هذا الأمر ؛ حسبمَا رأى فإن والِد العنُود تركَ بداخِله إنطباع الشّخص المعقَّد صعبَ المرَاس ، ولا سبيِل للنقاشِ معَه ، فتاةً لا ذنبَ لها في مُشكِله بِسببه قَد تجعَل أباهَا يمنعهَا مِن الدِراسَه ، هو من إستدرجها وأقنعها بلقائه ، والآن عليه إيجاد طريقة ما لإصلاح هذا الخراب
رَنَا إلى باب الغُرفة المُغلَق لمسافَه طويلَة .. ثمَ زّفَر بألَم
ــــــ
بعدَ ساعَه:
كانت تتفَقَدُّ النافِذَة بينَ الفينَة والأخرَى فمنذُ سماعِها لصُراخ جارَهُم أبو ماجِد ، إنقبضَ قلبهِا مِن تَوقعاتِها التِي بدأت تنهشُ عقلهَا من كلِ ناحِيَه ، إرتَدِت إسدَال الصَّلاة ثم وقفت على السِجادَه بخشُوع لتُؤدِي صلاةَ العِشَاء ، وبعدَ بِضع دقائِق سمعَت طَرقاً خفِيفَاً على البَاب ، رفعت نبرَة صوتهِا : إدخُل
جاءها صوتهُ من الخارِج : ياااا مسسساء الخِير كلو
إبتسمَت بخفُوت : مسَاء النُور عليك ، أدخُل بابا
عبد الله : يدوم فضلك ، يلا جيت أقول ليك ما تشِيلي هُم للعنود صحبتِك ، إن شَاء الله بَتفاهَم مع بُوماجِد وبترجَع تمشِي معاك المدرسَة تانِي
نظرَت إليه بترجِّي : أكيد؟
هزّ رأسه : أكيدِين ما واحِد
إحتضنته : ما أتحرِم مِنَّك يَارب
ضمّها إليهِ : طيّب هاكِ السندوتشات دِي أكلِي وأواصِل ليكِ قِصتِي ، جاهزَه؟
تناولتهَا منه ثم أخذت قضمة صغِيرة : جاهزَه
صمتَ قلِيلاً مستَرجِعاً أحدَاث الليلَة الماضِية .. إلتَمعَت في عينيهِ نظرَه حُزن .. تحدَّث بنبرَه هادِئه: بعَد أمّك إتوفَت الله يرحمهَا عمرِك كان سَنتين ، كنتِي لسّه صغيرَه ، وخالتِك ساميَة الله يديِها العافيَه عشان ما عندهَا عِيال أصرَّت تربيكِ معاهَا وأنا كنتَ بجِي السُودان كلُّ 6 شهُور أطمَّن عليكِ وأجيب ليك الحَاجات المحتاجَاها ، مرَّت سنتيِن علي الحالَة دي وأنا الجَيّه مع الشُغل بِقت صعبه علَيّ ، كان وقتَها شطبتَا البيت الفِي الرِّياض وبقيت مُحتَار أعمَل بيهُو شنُو! ، لغَايَة ما سعُود صاحبِي نصحنِي أتزَّوج واحدَه سعودِية وأجِيبِك الرِّياض مرّه واحدَه ، كنتَ متأكِد إنو أهلِي حيرفضُوا وحيجبرُوني أعرِّس بِت من البلَد ، بَس أنا مُستقبلِي كُلو كان مَرهُون بشركتِي في الرِياض ، كنتَ شايفهَا مُخاطرة بس قلتَ أحاول ولَو ما حصَل نصيب بعرِس من البلَد ، عَلِي كان متزَوِج وساكِن مدنِي ، وخِيلانِك كلُّ واحِد إتزَوج وبنَى بيتو في الحُوش الكبِير ، وخَلو البيت الكبِير لأمِّي والزِّبير
المُهم سعُود كلَّم لي الخَطّابة الفِي حَيّهُم وأنا وريتهَا المواصفَات المحتاجهَا ، كل الدّايرو مَرَا طيبَه أقدّر أطمَّن علي بتِي معاهَا ، كلمتنِي عَن سُعاد .. وإنو زوجهَا متوفِّي وعندهَا ولَد وبِت وحاصلَة معاها مُشكِلة في الإنجَاب والخطّابة أم راشِد قالت لي إنها ما حتجيِب لي عيَال ، أهلها كانُوا حاسِين إنها عالَه عليهُم خاصّة إنو حالتهُم المادِّيه مُتردِّيه شديد وكانوا بيعَاملُوها معاملَه قاسيَه ومهِينة ومنتظرِين أول زُول يُدق البَاب عشَان يتخلَّصُوا منَّها ، طبعاً ماف زُول كان حيتزَوّج واحدَه أرملَه وعِندها طِفلِين وما بتَلِد ، أم فهَد كانَت محتاجَه زول زَيي وأنا كنتَ مُحتاج لِي مرَا زيها ، ومنهَا قلتَ أكسَب أجُر كافِل اليَتيِم ودي فُرصه جات لغايَة عندِي؛ جمعَتنا حَوجتنَا لي بعَض ، وأنا الله كافأنِي على نيتِي ولقيت أم فهَد أطيٍّب مما تَوقعت ؛ زولَه مسكينه وعلى نياتهَا ، كانَت بتعاملَك أحسَن من أولادهَا ، وطبعاً أهلهَا مِن عَرّستها بقُوا ما بسألوا منهَا إلا لمصلحَة مادِية ، وتاني إنتيِ عارفَه تكمِلة القِّصة بعد جيتي الريَاض وعشتِي هنا
تنهّدت بإرتيَاح : يااااه ، إنتَ عانيت كتيِر في حياتَك ، وخاطرتَ أكتر ، يعني عباره عن مغامرات
ضحِكَ على جملتهَا الآخِيرَه
أكمَلَت : بَس ما قلتَ لي ردَّه فِعل ناس البِيت كانَت شنُو ..؟ طبعاً ما مَشّوا ليك موضُوع الزوَاج دا سَاي
مسَح جبينهُ بطرفِ كفِّه : فِعلاً ..كل زُول قاطعنِي بطريقتُو
عمِّك عَلِي كان زُول مُثقَّف وفاهِم وعشَان مرتُو أكبَر منو كان أكتر زُول متفهِم موقفِي لأنو قبل كدا ناس البيت وقفوا على كراع واحدة بسبب زواجو من إبتسام ؛ الخروج عن العادِه ده تحدِي يا بتِي وما حاجه هينه ، فمااا دخَل معاي في أيِّ نقَاش ، وساميَة خالتِك برضُو
بس وصتنِي أوديِك ليها كلُ ما نمشي السُودان ، بس الزّبير أخُوي وخِيلانِك وأمِّي قوموا الواطَه وقعدُّوها ، وأنا يا رُوح ما دايِر أسوق سُعاد البَلد وأدخلهَا في مشاكِل هِي في غِنَى عنها .. عشان كِدا كنتَ بسُوقِك إنتِ بس ، ومعظَم الوقت يا بتقضيهُو مع ساميه خالتِك في الخرطُوم ولا مع بنات عمّك في مدنِي
وخِيلانِك لليلَه زعلانِين منِي .. كيف أربّي بت أختهم بين يديِن مرَا غريبَه .. وبتكونِي لاحظتِي لي تعاملهُم الجاف معاي لمَا نمشِي البَلد لي رمضَان
هَزِّت رأسهَا موافقةً لِما قَد قالهُ ثُم أضافَت:
كِدا يادُوب أقول إني عِرفتَ الصُورة الكاملَة ، دمعَت عيناها ثم تحدّثت بصوتٍ متهدِّج : إنتَ عظِيم وقلبَك طيّب يا بابا ، أنا فخورَه بيك شديد
إمتَلأت عيناه بشَئٍ من الدمُوع ؛ قبِّل جبينهَا برِفق : وأنا كمَان ؛ يلا بابا حبيبِي لازم تنومي الوقت إتأخر ، تصبحِي على خير
غادر المكَان بِخطِى خفيفَه وقَلب مُرتاح كأنمَا أزاحَ حملاً ثقيلاً عَن كاهِلِه
ــــــــــ
فِي ثانوِية البنِين:
جلسَ يتنَاول إفطَاره بِبالٍ مشغُول ، يأخُذ قَضمَة ثُم يتوقَف لمسَافة وهكذا واصَل على هذه الحَاله طوال فترة جلوسه مع صديقَه ، فانتَبه إليهِ سليم الذي كان مُنهمِكاً في رَسم إحدى الخَرائِط ، رفعَ رأسه : خلوود لا تفكِّر في الموضُوع كثِير ، موقِلت إنو أبُوك راح يعتذِر لهُم .. أكِيد راح تِرجع تداوِم من جدِيد
أجابهُ بجزن : إيه أدرِي .. بس أبغَى أعتذِر لهَا شخصِياً ؛ بتساعِدنِي..؟
توّقف عَن الرَّسم : إيش قلت؟ إنتَ أكيد إتخبَلت..!!
نظر إليه بجِديّه : إللي سِمعتَه .. بتساعدنِي ولا لا؟
ـــــــــ
الثامنة صباحاً :
أمَام منزِل أبو ماجِد :
صافحهُ بحرَاره ثُم كرِّر إعتذَارَه مجدّداً ، قَاطعهُ بإبتِسَامة صفرَاء : ما عليِه طال عُمرَك ؛ وأنا بعَد أعتذِر على إسلوبِي ، بس تدرِي عدِل إن البنَات شَرف وسُمعَه
قاطعهمَا عَبد الله مستعجِلاً : يلا إحنَا بنرُوح ، وخَل البِنت تدَاوم يابُو ماجِد ، تَرا الإختبَارات النهائية قرّبت
صافحهُ بقُوه : إن شَاء الله إعتبر الموضُوع تَم ، ما قَصرتم أخوي
دلفَا إلى السَّيارَه ، بينمَا ظلّ واقِفاً بمكانِه مُلوِّحَاً
ـــــ
فِي ثانوِية البنَات:
وضَعت رأسهَا على الدُرج وعيناهَا ترنُو إلى النَافِذَة تتَلاعبُ بها أمَواجُ الأفكَار كقَارِب صغِير منتَصف المحِيط ، قَطَع شرودَها صوتٌ مَألوف : إحِم إحِم .. يتنهنَّى اللي شَاغِل بالِك
إستَدارت إلى الخَلف حيثُ مصدَر الصُوت ثم تأففت : بطِلي غشمَره .. تَرانِي مو طايقَه أمزَح مع أي أحَد الحِين .. ممكِن!
أجابتهَا حصَّه بإستدراك : أكيد تفكّرين في العنُود صَح ، إلاّ مِتى بتجِي المدّرسَة! ، الإختبَارات مرره قرّبت
تنهَدت إثرَ سماعِها لإسم صديقتَها : كلّه بسبَّة خططك وبلاوِيك ، الحِين أبُوها مبهذِلها ومانِعهَا مِن الدِراسَه ويبغى يزوجها لِولد خالتها
َتأففت حصّه بصَوت خفِيض : أنا ما جبرتهِا على شَي يا رُوح ، بس كيف يعنِي تتزوج بالعمر ذا .. والله اللي جالِس يسويه حَرام ، هِي ما غِلطَت ، كله من هذَاك البذِر .. لولاه ما كَان حصلت المشكِلة أصلاً من الأول
قاطعت حِوارَهُما مُدرِّسة اللغَة العربِية إيذَاناً ببداية الدرس
إعتدلَت في جلستهَا ثمَ إلتفت إليها هامسَه : يلا قفلي الموضوع .. موقته الحِين ؛ نِكَمِّل بعدِينيتبع.....
