قبل بضعة ساعات ...ميزان النهار يميل في زحفٍ متلاحق صوب المغيب، رغم هذا كان نشاطها على أشدّه، و هي تقف وسط مكانها المفضل بالمنزل كله.. في الواقع إنه مكانها المفضل في العالم _ إعتبارًا بأنها محددة الإقامة _ لا تعرف أيّ مكان أجمل منه
روضتها الخلّابة، حديقة الدوّار التي استأثرت بها منذ نعومة أظافرها، عندما كانت موحشة و بقايا أطلال، على مدار سنوات صباها و مراهقتها حوّلتها بأصابعها السحرية إلى جنّة ملؤها الخضرة و الزهور النضرة على مختلف أشكالها، و شذى الرياحين و الياسمين تعبّق الأجواء أينما حللت و ذهبت
كعهدها كانت تراعي صنع يديها و تسقي البتلات الورود الجديدة التي بعثت في طلبها فجاءت إليها صباح اليوم التالي بموجب أوامر "النشار"... أبيها الروحي !
كانت ملكته المتوّجة و به٠ة منزله، و لا زالت "نور".. هي النور الذي يضيئ عتمة حياته المظلمة من أولها لآخرها.. هي فقط، الشيء النظيف الطاهر بحياته، و لا يعلم كيف بامكانه أن يتنازل عنها بتلك البساطة
لطالما عرف بأن هذا اليوم آتِ.. لكنه عندما حلّ وجد نفسه عاجزًا... مرتعبًا من فكرة رحيلها.. كيف يمكن أن يعطيها بعد أن سارت كل شيء له و لم يصفى غيره و غيرها بهذا البيت ؟ كيف ؟!
-صباح الورد يا ورد !
أشرقت "نور" لدى تغلغل صوت "النشار" بأذنيها، إستدارت و هي لا تزال ممسكة بالمسقاة الصغيرة، تطلعت إليه عبر خصيلات شعرها المموّجة على عينيها تغطي نصف وجهها تقريبًا ...
-بابا ! .. نطقت الكلمة الأكثر قربًا لقلبه
ممّا شق عليه مهمته كثيرًا، لكنه قاوم هذه المشاعر شديدة الوطأة كلها و حافظ على ابتسامته العذبة و هو يرد عليها :
-روح بابا و قلبه. شمسي و قمري.. ماشوفتكيش إنهاردة خالص
قلبت "نور" عينيها مؤنبة :
-و لا إمبارح.. بس مش بسببي. إنت إللي شكلك مشغول عني !
تلاشت ابتسامته و هو يقترب منها خجوة ليضع كفه على وجهها، ثم يقول بجدية محافظًا على نبرة اللطف في صوته :
-أنا مافيش حاجة في الدنيا إللي خلقها ربنا دي تشغلني عنك. و لا يومي و حياتي كلها ليها طعم منغيرك.. إنتي حتة من قلبي يا نور ...
إبتسمت و لامست براحتها الطريّة ظاهر يده على وجهها، ثم قالت برقة :
-أنا عارفة.. ربنا يخليك ليا يا بابا
تنفس بعمقٍ مغمضًا عينيه، ليتكلم ببطءٍ بعد لحظة :
-حتى و أنا مشغول عنك زي ما بتقولي. الحقيقة.. كنت مشغول بيكي بردو !
-مش فاهمة !! .. تمتمت بغرابةٍ
نظر إليه مرةً أخرى و تحدّى شعور المرارة قائلًا بثبات :
أنت تقرأ
وقبل أن تبصر عيناكِ
Lãng mạnلستُ برجلٍ يُعاني من داء الكآبة.. لستُ أناني و لا سوداوي.. بل أنا في الحقيقة يا عزيزتي شيطانٌ تائب تراجع عندما لم يجد فيك مأخذا و أقبل عندما أبى في غيرك تقربًا