كان ممدًا على فراشه الوثير، يود لو يهتنئ بليلة واحدة يخلد فيها للنوم مسافرًا لأرض الأحلام السعيدة التى دائمًا ما كان يسمع عنها، يدخل فيها لحياة خالية من المشاكل و ينعم بها بدفئ العائلة الواحدة بعد أن تفتت و إنتشرت شظاياها بكل مكان، و أصبحت أشلاءها متناثرة فى قلبه.
لتهاجمه ذكري ذلك اليوم الأليم الذي ود لو تخلص منه، ليبدأ جبينه بالتصبب عرقًا من عنف المشاهد التى تتوالى عليه و يراها فى أحلامه، و لكنها كانت أخف إيلامًا فهو عاشها واقع ملموس ولا يزال يفعل.
ليرى بأحلامه طفل مرتمي فى أحضان والده الهائج يبكي بقهر على الظلم الذي وقع عليه من قبل ضميره، يتلمس بفعلته ربة خفيفة مطمئنة تضم خوفه و تسكنه، و لكن عوضًا عن ذلك، وجد يد والده تنحيه جانبًا بعنف، يتحرك نحو زوجته يهدر بها بغضب:
"و إنتِ كنتِ فين لما بنتك حصلها كدا؟، إنتِ أم إنتِ، إنتِ واحدة غير مؤتمنة، والله لو حصل لبنتي حاجة أوعدك مش هتشوفي ضفرها تاني".
ظل يبكي ذلك الطفل و هو يرى صراخ أبيه يملأ الطابق من حوله، يرى كيف يعامل والدته التى كلما أراد أن يأخذها بأحضانه يسمع صراخ والده عليه ينهره عن الإقتراب من ممتلكاته الخاصة.
و الآن يرى كيف إنقلبت حياته رأسًا على عقب، ليلتفت نحو يديه الغارقة بدماء شقيقته، تلك الدماء التى صبغت حياتهم بالسواد بيديه هو، ليصير هو القاتل و الضحية، الجاني و المجني عليه، فهو الملام الوحيد و الضحية الوحيدة و إن تعددوا، ليبكي يرثي ماضيًا ود لو لم يكن موجودًا فيه، فكل ما حدث خطؤه هو، ليدفع هو تمن خطأ كانت ضمة واحدة كافية لمحوه، لكن غلاظة القلوب هى من أحالت تلك الضمة لمستحيل، لتبقى واقفة على باب قلوبهم تقرع و لكن ما من مجيب.
إستفاق بفزع من ذلك الواقع الذي تجسد فى كابوس يرافق أيامه، ظل يلتفت حوله بلهاث و لازالت تلك الأشباح الصغيرة تتواجد من حوله، وضع يده على قلبه يحاول تهدئة روعه، و مد يده الآخرى يمسح بها عرقه المتصبب منه، يرثي حاله فهو يكاد لا ينعم بأي ليلة ينام فيها، فالأرق أصبح صديق مقيت يلازمه فى لياليه.
دلف للمرحاض ينظر للمرآة التى تتوسط الحائط، يرى بها إنعكاس طفل صغير منزوي على ذاته يرفض إحتكاك أى أحد به، يطالع والده و صياحه الهادر يصم أذنيه، حتى وجده يرميه بنظراته النارية التى أكدت ظنونه، و لكنه لم يتحدث بأى كلمة فكانت نظراته كافية لتقتل جزءًا بداخل قلبه و تحيله لرماد.
ليسمع هو عدة طرقات خفيفة على الباب و صوت خافت رقيق يقول:
"ماثيو إنت لسه جوه؟".
ليبتلع ماثيو تلك الغصة التى هاجمت حلقه و يخرج من المرحاض و هو يمسك المنشفة يجفف تلك المياه التى ليس لها وجود على وجه و قال بإبتسامة براقة:
أنت تقرأ
ندبات تظل للأبد (ترويض الماضي) الجزء الثاني من رواية أتلمس طيفك "مكتملة"
Romanceالحياة، و آه من تلك الحياة التى تعملك بطُرِقها القاسية مسببة لك جروح، و تتعدد تلك الجروح، منها التى تتعلم منها، و منها التى تُثْقِل معدنك، منها التى تُزين حياتك تذكرك بقوتك، منها التى تظهر واضحة على وجهك تذكرك بما مضى، منها من تدفنك أسفلها كاتمة على...