دلف لذلك المطعم حتى يستريح من عناء اليوم الذي عاشه للآن، جلس على كرسيًا بعيدًا عن الأعين كعادته، يجلس فى مكان غير مرئي، حتى يتسنى له مراقبة الناس براحة، فهم لا يروه و لكنه يراهم و نظراته تتخلل فى جنبات صدروهم و قلوبهم، يدرس ردات أفعالهم و متطلبات حياتهم و يحللهم بمجرد نظرة واحدة من عينيه.
هكذا هو راغب السرجاني، طبيب نفسي يحلل تصرفات الذين أمامه بسرعة و إتقان يحسد عليه، يأمل أن يحضر الماجستير و لكنه عاد للتو من الجامعة و رسالته ممزقة و أصوات الأطباء ساخرين منه قائلين:
"هى دي رسالتك ياكتور، محضر رسالة فى مرض بيلجئ ليه الدكاترة علشان يخلصوا نفسهم!، رسالتك مرفوضة من غير حتى ما أعرف إيه هى، و متجيش هنا تاني من غير ما تكون رسالتك فريدة و مختلفة".
خرج هو يجر أذيال خيبته، بعدما سمع كلام هذا الطبيب الخانق، ليتوجه لذلك المطعم، يتأمل الناس، أو بمعنى أصح يتأملهم لعله يجد مرضًا لعنوان رسالته، ليلفت نظره تلك الفتاة التى تؤدي تلك الحركات الغريبة كتحريك رأسها و عينها و يديها بشكل متقطع و لكنه بقوة، ليراها تحاول التحكم و لكن بدون فائدة، لينتهي بها الأمر و هى تسكب القهوة على رأس ذلك الرجل الذي وقف يهدر بها و يقول:
"إنتِ غبية؟، إزاى تعملي كدا؟".
لتحاول هى التمتمة بكلمات إعتذار و لكن أحالت حركات رأسها من فعل هذا، لينظر لها الناس بخوف و إضطراب، ليقول أحد الزبائن:
"دي باين عليها ملبوسة".
لتتعالى الهمهمات و أصوات الإستغفار و الذعر قد دخل قلوبهم بقوة، فهم لأول مرة يروا شخص ممسوس من الأرواح الشريرة، يتعايش و بعيش بوسطهم بكل هذه الأرياحية و لكن حركاتها ما فقد فضح أمرها _من وجهة نظرهم_ ليبدأوا بالإبتعاد و الرحيل من المكان ماعداه هو، فهو يعلم ما السبب، يعلم بأنها ليست ممسوسة أو ما شابه، فهى مجرد مريضة بتلك المتلازمة المسماة بمتلازمة توريت.
أما هى فكانت واقفة تنظر للأرض و هى تمسك يدها و رأسها تتحرك يمينًا و يسارًا بقوة، و بؤبؤ عينيها يتحرك بقوة جعلتها تشعر بدوار، يتردد بأذنها صراخهم و نفورهم منها و كلماتهم تحيطها من كل الجهات، تتذكر طفولتها التى حركت منها عندما بدأت أعراض مرضها فى الظهور.
لتتعرض هى و والدها للكلام و القيل و القال و الحديث اللاذع، لتتذكر إحدى سيدات الحى تقول لوالدها:
"طب ما تحاول تعرضها على شيخ يا أستاذ زياد".
لينظر لها زياد بقوة و قال:
"اللي فى بنتي يا أم ونيس مش عمل ولا شيطان، بنتي مريضة بمرض عضوي زي الأنفلونزا كدا، يعني دا لازم ليها دكتور مش شيخ".
ليقول لها بقوة بعدها:
"و ياريت بعد كدا تخليكِ فى نفسك و ملكيش دعوة بالناس، و لو عندك كلمة طيبة أو دعوة تمام معندكيش برضو تمام و محدش سألك، و لأخر مرة بنتي نسيم مفيهاش حاجة غلط، الغلط هو عقولكم و تفكيركم".
أنت تقرأ
ندبات تظل للأبد (ترويض الماضي) الجزء الثاني من رواية أتلمس طيفك "مكتملة"
Romanceالحياة، و آه من تلك الحياة التى تعملك بطُرِقها القاسية مسببة لك جروح، و تتعدد تلك الجروح، منها التى تتعلم منها، و منها التى تُثْقِل معدنك، منها التى تُزين حياتك تذكرك بقوتك، منها التى تظهر واضحة على وجهك تذكرك بما مضى، منها من تدفنك أسفلها كاتمة على...