29- فِي مَقَام الكُشَري.

5.4K 486 262
                                    

تأتي على المرء لحظاتٍ يظن فيها أنه قد تخطى، تخطى الماضي المُظلم أو حتى تخطى كلمة سلبية أثرت في نفسهِ وفي ثانيةٍ واحدة تعود تلك الذكريات مرة أخرى تثبت عكس ما نقنع بهِ أنفسنا أو ما كنا نهرب منه عُمرًا.

في تلك اللحظة التي وجدها أمامه تسيل الدماء ما حولها، ارتجفت يديه ورأي في وجهها ملامح والدته عندما كانت في بداية حياتها، عندما تركته وحيدًا للمرة الأولى صريعًا لحياةٍ قاسية.

تركته هيَّ الأخرى وتحطيها الدماء من كل جهة كما تلك المتواجهة أمامه ولا يراها سوى والدته رغم كل ما سردته قبل دقائق، بيدٍ مرتعشة حاول إفاقتها بعقلٍ مغيب يعتقدها والدتهُ.

بدأ حشدٌ من الناس يتجمعون حوله، يقفون وارتفعت الهمسات خائفة ورغم كل هذا لم يحاول أحدٍ الأقتراب منه.. نظر مستغيثًا يطلب من أحدٍ أن يتصل بالإسعاف قبل أن يغدو الوضع أسوء.

على الناحية الأخرى كانت سما في السيارة برفقة والدها الذي ترجل للخارج متعجبًا من التزاحم القريب، وجده ملقى أرضًا وتلك السيدة العجوز بجواره تنزف دمًا، بدون تردد أقترب منه محاولًا فهم ما يحدث وسرعان ما وجد عُمر الذي كان يحاول جمع أعصابه بصعوبةٍ.

"حد أتصل بالإسعاف؟" قالها الرجل بجديةٍ وهو ينظر للناس المتجمعين فأومأ أحدهم مجيبًا:-
"أيوة وقالوا مش هيتأخروا."

ربت على كتف عمر يهدئه بمواساة معتقدًا أن تلك السيدة والدته ولحظاتٍ وكانت سيارة الإسعاف قد جاءت لتحمله برفقتها وذهب الرجل لسيارته يقودها نحو المشفى.

"خد يابني موبايلك بيرن بقاله كتير." بعد ساعات كان يجلس فيها عمر في ردهة المشفى وتلك السيدة في غرفة العمليات بالداخل، جاء إليه الرجل مادًا يديه بالهاتف نحو عمر الذي أخذه ليجد يونس المتصل فأجاب:-
"أيوة يا يونس."

"أنتَ فين يابني؟ بقالي ساعة برن عليك! مش هتيجي؟"

كان هذا ما قاله يونس قلقًا فتنهد الآخر مجيبًا بإختصار:-
'أنا في المستشفى حـ.."

قبل أن يكمل عباراته قاطعه يونس بقلقٍ أكبر ظهر جليًا في نبرته:-
"مستشفى إيه؟ أنتَ كويس؟"

وقبل أن يجيب على حديثه استمع لصوت مريم:-
"مستشفى؟ عمر ماله؟"

حاول طمأنته بهدوءٍ:-
"مفيش حاجة والله أنا كويس متقلقش."

"أبعت اللوكيشن وأنا في الطريق جاي مش هتأخر." قالها يونس بجدية كأنه لم يستمع لشيء مما قاله عمر الذي تنهد بقلةِ حليةٍ ووافق مغلقًا المكالمة بعد ثوانٍ.

نظر عُمر للرجل الذي كان يرمقه بقلقٍ طفيف وبذوقٍ شكرهُ:-
"والله أنا تعبت حضرتك معايا مش عارف أقول إيه."

ربت الرجل على كتفه ببسمةٍ مجيبًا:-
"ولا تعب ولا حاجة أنتَ زي ابني."

رمقه بإمتنانٍ وعاود الجلوس على المقعد ثانيةً، جاءت سما من بعيدٍ وهيَّ تقول لوالدها مطمئنة:-
"أكرم لسة واصل السكن من شوية أهو."

يا سُكَّرِي الأَسْمَر.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن