-٢٨-

9K 300 61
                                    


ظل يوسف الفترة التي بعدها يحاول كبت عنفه و غضبه و اظهار عاطفته ورقته الغير معهودة، يجلب لرفل الحلي و يأخذها معه ان استطاع، يحثها على شراء ما تريد، يحاول تدليلها لكن الامر لم يطل لأكثر من شهرين و فترت همته، كانت الارادة التي تدفعه لإظهار نفسه بغير ماهيته ارادة موقتة، اضمحلت بمرور الايام و خاصة عندما يعود للعمل و ينفصل عن زوجتيها لمدة لأيام طويلة. لم تتغير رفل و لم تهتز من معاملته، كانت تشعر بأن الامر زائف، لكنها بدأت تتقبل حياتها كأمر لا مفر منه، زوجة و ام قريبا.

كانت ايامها فاترة، لا روح فيها، احتملت الامر كل هذه الاشهر، الصمت و العزلة بهدوء الا انها بدأت تتململ، لا تريد ان تبقى حبيسه بين هذه الجدران اكثر. تريد ان تخرج تغير من الهواء المحيط بها، تريد ان تتنفس، فوق كل هذا الاختناق الذي تشعر به كان ثقل الحمل سبب اخر في سوء مزاجها. في شهرها السابع تكورت بطنها بشكل كبير وواضح و بدأ معه تمدد الجلد و الحكة المصاحبة. اما في شهرها الثامن فقد تورمت قدمها واصبحت بالكاد تتحرك. رغم فرحها بالطفل و مشاكساته المستمرة وهو يركلها او يتحرك حركاته العنيف، الا ان احتمال الامر لوقت اطول سيصيبها بالجنون كما تصيبها فكرة الولادة ايضا.

كانت تحتاج لامها و لشخص يساندها، اما امها فكانت مهمومة لا تنطق و لا تشتكي، تريد ان تعرف رفل ما بها الا ان المرأة تظل صامتة.  سعاد كانت معها، تساندها تساعدها لكن المرأة تبقى عاملة و خادمة يوسف، حتى وان كانت صديقة لها الا انها لم تكن ما تحتاجه رفل.

في شهرها التاسع حثتها الطبيبة على السير و التحرك، كانت تجوب الحديقة الامامية وان عاد يوسف تلح عليه ليأخذها في نزهة في البساتين المحيطة بمنزله.

كان يوسف الوحيد الذي استطاعت الاتكال عليه، فلا امه او عمته او اي احد من عائلته قد صادقها، بعد ان منعها يوسف من الذهاب مع عمته عادت علاقة المرأتين لبرودها المعتاد.

عندما شعرت بدنو الولادة لم تجد غير سعاد بجانبها، كان يوسف قد ذهب للعاصمة و قد اصرت عليه ان يبقى فهذا شهرها الاخير و لا تعرف ما يجب فعله، كان قد اخبرها: لا تقلقي سأعود قبل ولادتكِ لقد أكدت الطبيبة ان امامكِ اكثر من عشرة ايام و تعرفين اني لا أستطيع التغيب عن عملي سأحاول ان اعود باكرا، كما اني قد رتبت لك غرفة خاصة في المستشفى و اتفقت مع طبيبتك و ستكونين بين ايدي أمينة و امي موجودة معكِ .

لم تناقشه أكثر يومها، لم يفهم حاجتها لوجوده و لم تستطع الشرح، شعرت ان احد يمزقها كل ما زاد المخاض، اتصلت بأمها لتوافيها في المستشفى و ذهبت معها سعاد و والدة يوسف. تحول بكاءها بعد ساعات لصراخ، طالت فترة المخاض لساعات عدة، ارادت الطبيبة ان تجري لها عملية قيصرية لكن تمهلت فالمريضة كانت خائفة ما جعل ولادتها تتعسر. وبعد ان انهكت اخيرا خرجت طفلتها للحياة.

كانت الطفلة سلمية ووزنها ممتاز، بعد تنظيفها تم وضعها بين يدي رفل، نظرت لطفلتها بعيون متعبة لكن سعيدة.

بصوت منهك مبحوح همست لابنتها: حبيبتي أنيسة أمك مرحبا بك.

تم اخذ الطفلة بعدها للحضانة حتى ترتاح رفل ويتم تنظيفها و نقلها لغرفتها الخاصة، باركت لها النسوة ما ان وضعت في سريرها. نامت بعدها لساعة ثم تم إيقاظها لإرضاع ابنتها.

سألتها سعاد وهي تأخذ الطفلة من يدها و تضعها في المهد الصغير الذي كان بجانب سريرها: ما هو الاسم الذي اخترته لها؟

- بعد بحث طويل كنت قد قررت جنى للفتاة و علي للصبي .

- اسم رائع رغم اني لم اسمع مثله من قبل.

تطلعت لوالدتها التي كانت تنظر لها بفرح ثم لعمتها التي ارتسمت على محياها علامات عدم الرضا و قد قالت: لا تنسي ان يوسف له الحق ايضا باختيار اسم لطفلته.

ارادت ان تجادلها رفل لكن صمتت فطاقتها لم يبقى منها شيء. ارجعت رأسها ونامت.

كان الحال ان تستيقظ كل ساعتين لإطعام طفلتها و في كل مرة يقاطع نومها تستيقظ بثقل ورأسها يكاد ان يقع من كتفيها. الايام الثلاثة الاولى تعبت بشدة مع الصغيرة غير ان امها و سعاد كن لها نعم المساعدة، كان قد تم اخراجها في اليوم التالي من الولادة، عادت للمنزل ترافقها امها التي للمرة الاولى تخطو اقدامها في هذا المنزل الفخم. 

لم يأتي يوسف الا بعد انقضى اسبوع من عمر طفلته. كان فرح برؤية صغيرته الوردية، كانت كتلة لحم صغيرة وردية اللون صاخبة كثيرة البكاء، لكن عندما تنام كانت اميرته الحبيبة، كان الصغير شاهين رغما عن امه يقطن في غرفة رفل يحدق بهذا الكائن العجيب، لعبة صغيرة متحركة، منعه ابوه من لمسها لكن الطفل كان ماكر يغافل الكبار فيحاول قرص خدها ملاطفا او المسح على راسها قليل الشعر ضاحكا عليها لأنها تبدو صلعاء.

لم يجرؤ يوسف على حملها حتى اصبح عمرها فوق الشهر و اشتد عودها قليلاً. كان يلاحظ غيرة شاهين من الصغيرة لذلك اجلسه بجانبه ثم وضع الصغيرة بين يدي شاهين لكن لم يفلتها مثبتها بين يديه و اخبر ابنه: حبيبي، انظر انها أختك، اريدك ان تحميها و تحبها لا تدع احد يجعلها تبكي.

رد الطفل ببراءة: لكنها تبكي دائما بدون سبب بابا، صوتها مزعج و ان بكت لا تتوقف ابدا.

أبتسم يوسف له مجيبا: كل الاطفال يبكون، عندما كنت بعمرها لم تجعلنا ننام ساعتين متواصلتين في الليل لكن انظر الان لقد كبرت واصبحت بطل شجاع و ستحمي أختك و تحبها.

-لكنها صلعاء شعرها قليل و لونه ابيض.

اجاب الطفل بعشوائية وهو ينظر لأخته الصغيرة، ابتسم يوسف وهو يتأمل شعر ابنته الاشقر و كل ما كبرت يوما لونه يصبح أغمق. كما ان عينيها لونهما غريب في البدا اعتقد ان عيونها سوداء داكنة جدا لكنها يتحولون ايضا بمرور الايام للون العسل الداكن. كانت عيونها واسعه وبقية ملامحها ناعمة عرف ان ابنته ستكبر لتصبح بجمال امها وربما أكثر.

كان قد اسماها يوسف جنى كما اختارت رفل، لم يكن ينوي حرمانها من تسمية الطفلة، كما ان الاسم قد راق له.

بعد الولادة انشغلت رفل بالصغيرة و لم تعد تمتلك وقت فراغ كالسابق، تسهر مع الطفلة التي لا تنام ليلا، علمتها امها في اول اسبوع كيف تحممها و تعتني بها لأنها كانت اكثر خبرة من سعاد التي لا تمتلك اطفال.

سد وجود الطفلة كل النقص في حياتها، احبتها لدرجة لا تستطيع احتمال بكائها لثانية. لم تهتم ليوسف بشكل كلي، كان يشتاق لها خاصة بعد الولادة لمدة شهرين لم تسمح له بالاقتراب منها و اخذ يغار من الطفلة التي اخذت كل وقتها.

بعد شهرين اخذت الطفلة تنام بانتظام أكثر مما اعطى فرصة لرفل حتى ترتاح و تعوض نقص النوم الذي عانته مع طفلتها الصغيرة. من حينها اتاه يوسف مشتاقا فمكنته من نفسها بدون كلام، اعتادت ان تعطيه نفسها ثم تدير بجسدها عنه اذا نام و هو قد اعتاد ايضا على اسلوبها البارد.

ذات يوم جالسة مع الجميع بعد ان طلبت عمتها ان ترى الطفلة، فالمرأة العجوز ليست لها طاقة على صعود الدرج او نزوله كانت ترى حفيدتها فقط عندما تنزل رفل من غرفتها، اعتادت ان تنزل يوميا فالمرأة الكبيرة بدأت تتعلق بالصغيرة، خاصة ان حفيدتها طفلة شقية مشاكسة كثيرة الضحك ان داعبها احدهم.
يومها هلهلت صفية بابتهاج تعلن عن موافقة ابنها لخطبة احد الفتيات التي اختارتها.

بدون ارادة منها نظرت رفل لمريم ثم لانور الذي بدى منزعج و متضايق لدرجة واضحة، كأنه مجبور على الموافقة. لم تستشف شيء من مريم فالمرأة لا يهز هدوئها شيء لكن نظرات انور ناحيتها بدت فاضحة للجميع، انتبهت رفل  لصفية التي كانت تنظر لأبنها بنظرات مبطنة ثم نكزته بيدها حتى ينتبه و ينظر اليها و هي تقول بابتسامة صفراء: لا تستحي يا انور، و اخيرا ستتزوج لنفرح بك.

نهض انور على عجالة من مقعده وهو يصيح بأمه: نعم نعم فهمت.

ثم ترك المكان و العيون كلها مسلطة لحيث اختفى، سألت فاطمة ام يوسف: هل جبرتي انور كعادتك يا صفية، تعرفين انه سيذهب ماء وجوهنا ككل مرة تحاول خطبته لفتاة ثم يتركها، انها المرة الرابعة الان.

-لا والله، هذه المرة لن يفعلها، في المرات السابقة لم يرى الفتيات مناسبات لكن هذه المرة اعجبته الفتاة.

تدخلت ميسم : ماما هذا حديث كل مرة، من سيعطيه امرأة في المرة القادم اذا فسخ خطوبته في المنتصف.

ابتسمت صفية تطمئن الجميع: لا تقلقوا لقد اتفقت معه، ان الخطوبة و الزفاف سيكونان في اقل من شهر و هو وافق.

كانت رفل تزم شفتيها مفكرة، ثلاث مرات يفسخ خطوبته؟ الهذأ بدت مريم مطمئنة؟ ثم لما امه بدت حذرة، هل عرفت بعلاقتهما؟

-انتظري يوسف ليأتي، في المرة السابقة اقسم انه سيزوج الفتاة لانور ما ان يعقدا قرانهم و لن يتحمل ثانية اي فسخ للخطوبة.

-ننتظره، لما لا ننتظره. اصلا هذه المرة اريد ان يتأكد يوسف من ان انور لا يلعب بذيله.

عندما عاد يوسف من عمله بعد ايام، اخبرته عمته عن الموضوع و التفاصيل، ثم ذهب لانور حتى يسئله ان كان متأكدا هذه المرة، فلا تراجع ان خطب. اكد له انور انه موافق و لن يفسخ الخطوبة.

هكذا تم الاستعداد لعقد القران بعد اسبوع، اتفقت العائلتين على حفلة عائلية و يمكنهما اقامة حفلة أكبر يوم الزفاف.

حضرت رفل نفسها لهذه المناسبة، قد ذهبت مع ميسم لاختيار فستان مناسب و فخم، اختارت هي فستان طويل بلون الكرز له أكمام طويله شبه شفافة، كان محتشم لكن مغري بلونه اما ميسم فاختارت  هي الاخرى فستان طويل لكنه يلتصق على منحنياتها عكس فستان رفل الذي يناسب بحريته. لم تنس رفل ان تختار لطفلتها فستان بلون مشابه للون فستانها. 

تم الاعداد للحفلة بسلاسة فالمال يفعل العجب، كانت عائلة الفتاة ميسورة الحال، كاختيارات صفية المعتادة، فهي لا تريد ان تناسب احد غير غني. لقد عرفت رفل يوم الحفلة لم وافقت العائلة على انور، فالفتاة ايضا كانت مخطوبة وقد فسخت خطبتها قبل ايام معدودة من الزواج مما جعل نصيبها في الزواج يقل.

يوم العقد قد حضر اعمام يوسف الثلاثة مع عائلاتهم، و حضر لانور من جهة ابيه عمتين و عم واحد و كان واضح للعيان ان قدومهم لأداء واجب عليهم لا أكثر و لا اقل، كانوا يحضرون ككل مرة بهدوء يباركون لأبن اخيهم ثم ينصرفون. كانت علاقتهم باردة بسبب امه صفية، فالمرأة لا يرجى فائدة منها في مد العلاقات و ابقائها.

رغم انها كانت حفلة عائلية الا ان الحضور لم يكن قليل، عزلت رفل نفسها عنهم بعدما عرفت بقدوم والدة مرون الذي قتله اخوها. لم تعرف اي امرأة بالضبط كانت لذبك تجنبا للصدام اشغلت نفسها ببنتها قبل ان يتوجهوا للقاعة حيث ستقام حفلة عقد القران.

كانت عادتهم تختلف عن عادات عائلتها، تتذكر في خطوبتها ان حمزة احضر اقاربه لمنزلها و تم عقد قرانهما و العرس كان في قاعة صغيرة مختلطة. اما عائلة يوسف فكان الاختلاط قليل بين الرجال و النساء، حتى القاعة لم تكن مختلطة.

الظالًِم حيث تعيش القصص. اكتشف الآن