آمين الثاني والسبعون

712 126 37
                                    

جالسٌ على كرسي الذكريات يُفكّر: لمَ تبدو هذه الليلة قاتمة أكثر من المعتاد؟

لطالما كانت الستائر مغلقة، ولم يدفع فاتورة الكهرباء منذ أشهر، يتناول الظلام فطورًا وغداءً، ويجوع حُبًا آخر الليل. ما الخطأ الذي اقترفه هذه الليلة حتّى يشعر بالظلام يبتلع أفكاره؟

تفقّد ستائره، ونوافذه المغطاة بأشرطة لاصقة سوداء، جرّب فتح زر الإضاءة لكنها لم تعمل كما توقّع ثم فتح دولابه فانهالت عليهِ مئات الثياب والمشاعر الدافئة. لمسَ مشاعره فتفاجئ من حرارتها، ألم تمت؟ كيف لها أن تظلَ دافئةً حتّى الآن! لمسَ كل شعورٍ يتحسسه رغم الغبش الذي يعمي بصيرته.

هذا الحب، وهذا الشوق، هذا البؤس، وهذه الرغبة في رؤية الضوء في حياته مجددًا.
شهَق حين استشعر النبضات تمشي في عروق مشاعره مجددًا، وهَلِع حين طعنته أفكاره التي كان يهرب منها منذ أشهر. شعرَ بكل شيءٍ حوله يدور، وأن الدموع التي تخرُج من عينيه كانت دماءً من فرطِ ألمها. بكى دماءً، وفُتِحت شفتيه اجبارًا: أريد أن أعيش، أريد أن أرى شمس هذه الليلة.

تحوّلت غرفته الواسعة إلى ثقبٍ أسود، وستائره إلى حبال متينة تخنُق عنقه المحمرّ، ذابت خصلات شعره وازداد الظلام حتّى راهن على أنه يحتضر.

من بين ثقوب الأشرطة السوداء استطاع لماح شيء غريب، أصفر، لونٌ لم يعتد على رؤيته كثيرًا، ضيّق عينيه وهو يشعر بأنفاسه تتلاشى في هذا الكون الكبير، لمحَ صفارًا لامعًا، ونقطةُ أملٍ تحاول التسلل إلى جحيمه الأسود.

بكى، تأوّه، ثم شعرَ بابتسامته تشقّ طريقها عبر ملامحه الميّتة منذ سنين. خصلات شعره الذائبة تسرّبت إلى الأرضية ثم اختفت، والحبال المتينة التي كانت تخنقه شعر بها تصير لينة حتّى تحولت إلى قماش حريري، الدماء التي تخرج من عينيه صارت شفافةً نظيفةً، وظلام هذه الغرفة تلوّن.

إنه يحتضر، هذا سبب مشاعره الدافئة، وأفكاره الحيّة الصبيانية، أخذَ نفسًا عميقًا مليئًا بالأتربة ثمَ زفرهُ. ظلّت جثته على هذا الوضع، وهو يتأمل نقطة الضوء البعيدة ويرجو أن تظلَ حتّى يُغلِق عينيه إلى الأبد.

لا صديقًا بجانبه، ولا حبيبةً تهوّن عليه الموت وحيدًا، لم يتأمل، إنه لم يفعل منذ وقتٍ طويل. غرفته الواسعة المعتمة، والأرضية القاسية عليه. البلل أغرق وجهه وآخر شيء رآه هي نقطة الضوء التي قد ظلّت مكانها ساكنةً لوقتٍ طويل.

حيث تُتلَى الخيبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن