التعذيب في أبهى صوره

581 28 10
                                    

منطقة بيبك/ إسطنبول

لم يكن لدى هازان فكرة عن سبب قدومها إلى هذه الأماكن مرة بعد مرة، كانت كل الزوايا وحتى أحجار الطريق بالوعة نتنة من الذكريات السيئة، ومحفزاً مؤلماً للحنين إلى الماضي، وجودها هنا جعلها تشعر بألم فظيع في بطنها، لقد عزت هذا الألم عادة إلى الجوع، لكن هذا كان كذباً.

خلال خمس سنوات لم يتغير المكان أبداً، لقد بدت المحال تماماً كما تركتها، خرجت من مقهاها المفضل في أيام الجامعة وتركت نسيم الصيف يلفح وجهها ويبعثر شعرها.

إنه منتصف شهر آب (أغسطس) وكانت هازان تعرف معنى هذا: اقترب وقت العودة إلى المدرسة، وهذا يعني الكثير من الأهل بصحبة أولادهم ينتقلون من متجر إلى آخر بحثاً عن الأفضل، فكرت أن عليها تجنب المكان الأسبوع المقبل لأنها لا تدري إن كان بإمكانها تحمل الكم الهائل من الحنين الذي سيثيره فيها مظهر الطلاب، وبينما كانت تنظر حولها، سارت في ممر الذاكرة، عائدة إلى الوقت الذي كانت تنتظر فيه بفارغ الصبر أن يحين موعد بدء المدارس في الأول من أيلول (سبتمبر).

لم تكن هازان من عائلة غنية أبداً، لقد كانت فقيرة جداً، وتذكر أول خمس سنين من حياتها كطفلة معدمة، لكن الحظ ابتسم لهم حين عملت أمها فضيلة في قصر عائلة إيجيمان كخادمة في البداية، ثم كمدبرة منزل، كانت هازان صغيرة، ولم يكن هناك أقارب يمكن لأمها أن تتركها عندهم، ولهذا استقبلها القصر الكبير كما استقبل أمها تماماً، وقضت أيامها تجري وتلعب في حدائقه، وتقطف زهوره.

لقد اعتبرها السيد حازم ابنته، واعتبرها أبناؤه جوكهان وسنان أختاً لهم، كان جوكهان يكبرها بسنتين، وسنان بمثل عمرها تماماً، كانت الأيام بصحبتهم جميلةً جداً.

ولأنها كانت طفلة ذكية، فما إن بلغت سنواتها الستة وأصبحت في عمر الدخول إلى المدرسة حتى عرض السيد حازم على أمها أن يسجلها على نفقته الخاصة في المدرسة نفسها التي سيسجل فيها أبناءه.

وشيئاً فشيئاً تحولت حياة هازان من الفقر المدقع إلى الرفاهية، وعلى الرغم من أن مرور السنوات ونضجها جعلها قادرة على أن تبقى في منزلها بمفردها إلا أنها كانت لا تخرج من القصر، واعتبرته بيتها الأول، ولولا معارضة أمها لحازت غرفة فيه تنام فيها..

هكذا عاشت هازان حياة النعيم، حياة الطبقة المخملية من المجتمع، لكن هذا رغم جماله لم يشعرها بالأمان يوماً، لقد خافت دائماً أن يعيرها الآخرون بفقرها، وهو شيء لم يقم به أي من جوكهان أو سنان.

خافت ألا تنتمي لهم يوماً، ولهذا اجتهدت كثيراً في دراستها ساعيةً دوماً لتثبت للآخرين، وللسيد حازم، ولأمها، ولنفسها أنها تستحق الفرصة التي حصلت عليها.

وفي كل سنة تفوقت فيها هازان كانت جائزة السيد حازم لها رحلة إلى (بيبك)، حيث أجمل المتاجر التي تبيع أجمل البضائع، ومن هناك كانت تشتري ثيابها وأدواتها المدرسية.

حُطام | BROKENحيث تعيش القصص. اكتشف الآن