38- هدنة

470 28 4
                                    

الجميع يحتاج لهدنة من وقت لآخر
------------------

" مر الوقت طويلاً أبي، مرت أربعة أشهر على غيابك عن عالمنا لكنك لم تغب عنا و لو للحظة، أنك تسكن أرواحنا بكلماتك و قيمك التي حفرتها داخل نفوسنا "

أخذت براءة نفساً عميقاً من أعماق روحها ليخرج زفيرها تنهيدة تحمل الألم بها، جلست أرضاً أمام القبر، ضمت ركبتيها إلي صدرها و عقدتهم بيديها كما كانت تفعل حينما كانت صغيرة، حينما كانت تفقد الأمان و تشعر بالوحدة تضم جسدها لنفسها محاولة منها لتلصيم الكسور بداخلها مخافة الإنكسار التام.

دمعة حارة سبقت صوتها الذي خرج مهتزاً مرتعشاً

" كنت عند الطبيبة اليوم أخبرتني أنه صبي، أردت أن تكون أنت أول من يعلم بعد مُريد، لم أجد أحد غيرك ببالي أخبره بهذا الأمر، نشب شجار بيني و بين مريد بسبب اسم الطفل، علمتني أن لكل منا نصيب من اسمه، هو يريد أن يسميه عمار و أنا أريده يامن، اسم غريب جديد لتلك العائلة غريبة الأطوار، كما اسميتني براءة لأكون بريئة من ذنوب البشر، نقية كما نهر لم يمسسه بشر، أريد لولدي اسم يامن ليأخذ كل شيء بيمينه في تلك الحياة، أرغب به نقياً أيضاً لكن ليس ساذجاً كأمه "

سكتت هنيهه ابتلعت ريقها و حاولت المحافظة على رباط جأشها لتكمل

" لا أعلم تحديداً لمَ ذلك الاسم لكنني شعرت به يحوم بداخلي، استشعر به يرغبني فيه كما لو أن ولدي الصغير هو من يريده لنفسه. يعجبني الاسم ما رأيك به؟! أظنه يعجبك أيضاً. أتمني لو كنت هنا الآن، أرغب في أن تضمني إلي صدرك كما كنت تفعل حين يكون يومي سيئاً، لكن الأمر الغريب أن يومي ليس سيئاً لكن حياتي أصبحت رمادية بدونك ليس لها لون ولا أشعر بأي شيء، لا شيء من المشاعر البشرية من قبيل السعادة و الغضب، الشعور الوحيد الذي يخالجني أحياناً هو الضعف، و كأن بي شيئاً قد كُسر "

بدأت حديثها بدمعة و الآن صارت عيناها كشلالات غزيرة لا تجف، تبكي في صمت و كأن الأموات إن استمعوا إليها سيخرجون من قبورهم للومها على إقلاق منامهم. دفنت رأسها بين ركبتيها و حاولت خفض صوت بكائها.

" اشتاق لك حقاً، اشتاق لك عمار "
صوت تألفه يخرج من امرأة تقف خلفها تحجب الشمس عن رأسها، رفعت رأسها لترى هل هي تلك التي توقعت أنها هي أم غيرها..
و كانت محقة كانت هي..

-----------------------------

" اتصل بك منذ يومين ولا تجيبيني، اذهب لشقتك أدق بابك ولا تجيبي، انتظر أمامه بالساعات ولا تأتي أو لا تخرجي، لا أعلم أين و القلق يأكل قلبي و الآن أجدك صدفة مع رجل أخر هنا في المقهي الذي اعتدنا اللقاء به!!! "

الغضب الذي بدى على وجهه أوضح من القلق، إنه غاضب لا يغار، لا يمكن أن نطلق مصطلح الغيرة علي هذا النوع من الغضب، إنه تملك غاضب لأن ما يريده سيأخذه غيره، مره آخرى..
لحظات الصمت الشائكة بين الثلاثي، جود، سمر و رجل آخر وقف حينما شعر بتوتر الموقف و قرب جود بطريقة هجومية من سمر التي تسمرت مكانها ما إن رأته.

" إذاً؟!! "
سأل جود بغضب حاول ترويضه، بعدما نقل نظره بين سمر و ذلك الكائن أمامه لا يفصل بينهما سوى طاولة.
مد الآخر يديه لجود يعرف نفسه بإقتضاب
" أنا أمجد الأخ الغير شقيق لسمر، لم أتشرف بك بعد؟ "

أحمر وجه جود من التوتر و الإحراج، لام نفسه على اندفاعه الغبي، ماذا يفعل الآن؟ كيف يخرج من هذه الورطة؟
الموقف فوضوي إلى أبعد الحدود، سمر مرتبكة و خائفة ولا تدري ماذا يجب أن تفعل، جود لا يعرف بماذا سيعرف نفسه أمام أخيها بعد ما تفوهه به، و أمجد مازال يمد يده لجود ينتظر الجواب الجلي أمامه لتأكيد التهمة علي المتهم كما تعلم من خلال عمله في مجال المحاماة الذي هو رائد به.

-----------------------------

" أصبح الأمر يؤلم عمتي، إنها تنهار ولا أملك أي شيء بيدي لفعله لها، أصبحت كالتائه في عالم غريب عنه، تضيع مني و هي بجانبي، تستيقظ كثيراً و قليلاً ما تذوق طعم النوم، اليوم قررت تركي بعد أن خرجنا من عند الطبيب لرغبتها في الإختلاء بذاتها بعض الوقت، و ما أعرفه أنها مختلية مختبئة عني جُل الوقت، أشعر أنها تضيع مني، الطبيب أخبرني أن حالتها تسوء ولا تهتم بأدويتها ولا تأكل كما يجب أن تأكل، إنها غير أبهه بأي شيء حتي طفلنا، أعلم أنني كطفل صغير يأتيك كثيراً لينوح لكن هذا يهدأ من روعي قليلاً و يرتب أفكاري"

أرسل تسجيله الصوتي لعمته حوراء على أحد وسائل التواصل و اغلق هاتفه و ألقاه بالمقعد المجاور له داخل سيارته، أغمض عيناه و أسند رأسه للخلف في محاولة منه للإسترخاء، لعل شتات أفكاره يطاوعه و ينظم نفسه داخل رأسه.

يعلم أنه مخطئ بما يفعل الآن، لكنه يرغب في الإطمئنان عليها، يعلم أيضاً أنها ستغضب منه لأنه لحقها إلى هنا، و يعرف جيداً أنها ستصرخ لأنه لم يترك لها مساحتها الخاصة كما بات يفعل مؤخراً. مرت ساعة و مازالت براءة داخل مقابر عائلتها يخشي أن يكون أصابها مكروة، و يخاف أن يدخل عليها فيشطاط غضبها منه و تصرخ و تؤذي جنينها لأنه ضعيف كما أخبرهما الطبيب أيضاً.

صوت عقله جعله يكرر بصوت مسموع ما بات يتردد داخل رأسه
" الجميع يحتاج لهدنة من وقت لآخر، و مُريد صار متعباً يرغب في هدنته "

براءةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن