ضفيرة شارلوت ارتطمت بظهرها مرارا وتكرارًا أثناء ركضها حازمة في الطريق الترابية، والسبب كان السعي للوصول إلى القصر بأي طريقة كانت قبل موعد استيقاظ الماركيز، وبالحكم على الكتاب الذي يختبأ في صدرها؛ محاوطا بكلا يديها فقد جاءت برواية جديدة .
منذ أمس برمجت جدولها على الخروج باكرًا، والاستيقاظ في الخامسة كان وقتا مثاليا كيفما نظرت، ولكن ماذا حدث ؟ ما بال هذا التأخر الذي تعيشه الآن !
لقد قامت بهذا كلّه بغية الذهاب إلى الكنيسة وإحياء الذكرى الخامسة عشر لموت والديها، ولكنها لم تعلم أن الأمور ستبلغ هذه المرحلة من التعقيد .
توقفت لوهلة تسترد أنفاسها المسلوبة، وفي هذه اللحظة شتمت بامتعاض وعادت تركض بقوة . كيف يمكنها أن تضع توقعات خاطئة ؟ كأن يستغرق الطريق بين القرية والقصر نصف ساعة، وهو الذي يزيد بنصف آخر أو أكثر ! أين كان عقلها يوم توقعت هذا ؟ أجل؛ لقد كان منغمسا في أحداث الرواية، ولهذا تهيّأ لها أن المسافة قريبة .
لكن المشكلة لم تكمن هنا بتاتا، فالوقت الذي أهدرته مع مسيو بيتر في مكتبته وهي تشتم الماركيز حاقدة كان هو أعظم مشكلة والسارق الحقيقي، لو تغاضينا عن هذا الأمر فمواكبتها للموعد المحدد يمكن أن يتحقق بتأخر طفيف يمكن التجاوز عنه، ويجب الإعتراف أنه في نقطة ما من أعماقها لا تشعر بالندم لهاته الدرجة الفظيعة، الجذل الذي اجتاح فؤادها آنذاك ورداء الراحة الذي تدلى فوق جسدها كان شيئا عظيما عجزت عن وصفه بمجرّد كلمات، تلك اللذة استحقت هذا التعب حقا .
في وقت سابق استغربت مصادفة العجوز خارجا من الكنيسة بينما تهم بالدخول، ولأن الفضول اتخذ خافقها مسكنا فلم تتردد في التساؤل، وبهذا حصلت على الإجابة مع ابتسامة وديعة وملامح مسالمة كالعادة؛ لقد أتيت لأحيي ذكرى صديق قديم ذو مكانة غالية على قلبي .
عادت تتوقف وتنحني مرة أخرى واضعة يدًا على ركبتها، والأخرى واصلت حمل روايتها وجعل صدرها ملاذا آمنا لها .
في هاته الأثناء كان الباب الخارجي للقصر لا يبعد عنها كثيرا، واللهاث كان الصوت الوحيد المسموع، الجفاف الذي أصاب حلقها وجعله جافا ومجروحا كان مروعا ! استقامت ورفعت رأسها لأعلى بصدد جمع أكبر قدر من الهواء وملأ رئتيها، وهذا كان من المفروض أن يخفف صخب قلبها، إلا أن العكس حدث تماما وقد لاحظت أن الشمس أصبحت قرصا واضحا وهو يشق طريقه نحو كبد السماء .
هل تأخرت لتلك الدرجة ؟ استفسرت في سرها، وبالتزامن انفجرت الذكريات المتعلقة بعقاب الماركيز لها في أول يوم، لقد تجاهل حقيقة كونها أنثى وجعلها تقضي ليلة بأكملها في الزنزانة بلا أن يبدي أي مقدار ضئيل من الرحمة .
هزت رأسها بقوة في محاولة لتشتيت فكرها ودفع ذكرياتها للاضمحلال بهدء دون الحاجة إلى معارك شرسة، وفي ما جاء عادت تركض بعدما استسلمت بأن هذه الأخيرة سوف تختفي بسهولة، من الواضح أن الأمر تطلب بالفعل حربا ضروسا، ولكن طاقتها الآن وجب أن تصرف في الركض، ويا له من مصير !
أنت تقرأ
قبل ميعاد النضوج || Before The Maturity Date
أدب تاريخيتتراءى لي تلك الذكريات البشعة نصب عيناي، وتصبح بمثابة حطب يزيد من اشتعال النار المتأجِّجة في أعماقي . هنا أين يمنح قلبي صبغة سوداء جرّاء لون دخانها القاتم، ومشاعري الدافئة التي تقبع في داخلي تغدو رمادًا تتناقله الرياح مع ذكر اسمه . نعم هذه أنا ..! م...