أين اختفت ؟ كان هذا أول سؤال تسلل إلى ذهن الماركيز وهو يبصر غياب هيئة شارلوت من صف الخادمات، ورغم فضوله الكبير إلا أنه تجاهل ونجح في إقناع نفسه بكونها مريضة أو ربما تبادلت دورها مع واحدة أخرى .
استعد بالفعل لتناول أول لقمة، وفي نفس اللحظة شاهدها تدخل بمظهر ذابل وأكتاف مرتخية، حتى ذيول الخيبة التي تُجر خلفها بدت واضحة وبشدّة .
لاحقها بمقلتيه المتفحصة، وفي سرّه استفسر عن سبب هالتها الكئيبة التي تحاوط جسدها، وتقطيبة حاجبيه دلت كم أن الأمر جدّي ويتطلب كل هذا التركيز !
تنهد بصورة بسيطة وعاد يبتلع طعامه في هدوء متناسيا، ولكن هذا كان مستحيل وهو يواصل أحيانا قذف بصره عليها وكأنه يتفقد حالها .
بحلول هذا الوقت أزاح بصره عنها بعد أن أخذ كفايته من الحملقة بها، ولكنه سرعان ما نظر مجددا لمّا لمح دمعة متمردة انزلقت وبللت خدها، ولسبب مجهول أصبحت معنوياته تركد في القاع، وكأن تعاستها قد لامسته !
شعورٌ في داخله تفاقم بشكل مهول يحثه على التخفيف عنها وبسط كف المساعدة، ولكن المكان كان حائلا وكبريائه أيضا ساهم بعض الشيء، إلا أن هذا لم يستمر كثيرا؛ حيث أن شعوره عاد يطغى وكسب المعركة في النهاية دون عناء، والنتيجة كانت طلبه الذي هز المكان وهشم الصمت المحيط إلى مجرد فتات .. ولكن هل كانت تلك رغبة منه في انقاذها من واجباتها اليوم ؟ ربما ! فقد بدت مرهقة في ناظريه .
حين سردت الموافقة دون مقاومة؛ الشك غُرس فيه وأصبح كدليل يخبره عن مدى اختلافها وزيف ما تظهره .
لقد انتظر دقائق طويلة أمام نافذة جناحه مع يدين قبعتا خلف ظهره، والأمر كان مثل الوقوف على جمر مشتعل في انتظارها، ومجددا كان هناك شعور يدغدغ قلبه يهدّد بأنه لن يخمد إلا إذا رآها .
اللحظة التي تطرق فيها الباب أصبحت في تخيلاته بعيدة وقريبة في آنٍ واحد، ولكنها كانت مقدسة بالتأكيد .
الدقيقة جرّت الأخرى وقطر فجوة شعوره كان يكبر في فؤاده ويلتهم منه الكثير، ومهما فعل لم يستطع أن يستوعب ما يحدث معه، فعينيه ولسبب غير معلوم أصرت على رؤيتها الآن .. في هذه الثانية ! لقد كانت مثل قضية حياة أو موت، ولأنه لم يتحمل التأخير قصد الإسطبل دون أن يفكر مرتين .
أثناء سيره كان يفكر في سبب تأخرها، ولأوّل مرة لم تراوده الأفكار حيال معاقبتها كما كان يحدث في أولى الأيام .
في الواقع لقد امتلك الكثير من الأعمال ولكن عقله اللامبالي والمشغول بالتفكير في شيء آخر لم يكن يساعد ! وفي الأخير لم يستطع إلّا أن يخرج من مكتبه الذي احتوى جوا خانقا ويلقي بجسده المنهك على الأريكة، أرجع رأسه مستندا على الحافة، وكان تأمل السقف واحدا من الأفعال الممتعة في هذه اللحظات المضجرة .
أنت تقرأ
قبل ميعاد النضوج || Before The Maturity Date
Historische fictieتتراءى لي تلك الذكريات البشعة نصب عيناي، وتصبح بمثابة حطب يزيد من اشتعال النار المتأجِّجة في أعماقي . هنا أين يمنح قلبي صبغة سوداء جرّاء لون دخانها القاتم، ومشاعري الدافئة التي تقبع في داخلي تغدو رمادًا تتناقله الرياح مع ذكر اسمه . نعم هذه أنا ..! م...