👈فراس سواح(باحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان)
ظهر مصطلح السامية في أواخر القرن الثامن عشر على يد اللاهوتي النمساوي شلوتزر، وسرعان ما تم تبنيه من قبل معظم الباحثين في لغات وحضارات المشرق العربي القديم. ويتضمن هذا المصطلح في صيغته الأصلية وفي تطويراته اللاحقة، أن لغات حضارات منطقة الهلال الخصيب هي فروع من لغة أم هي اللغة السامية الأصلية، وأن مهد هذه اللغة هو شبه الجزيرة العربية، وقد انتشرت اللغة السامية إلى وادي الرافدين وإلى سوريا عن طريق تحركات بشرية واسعة حملت العنصر السامي واللغة السامية خارج شبه الجزيرة العربية دعيت بالهجرات السامية الكبرى. وبعد صياغة هذه النظرية ساعد فك رموز الكتابة المسمارية على تدعيمها وتأييدها، ذلك أن دراسة ومقارنة اللغات الأكادية والكنعانية والعربية والآرامية والعبرية، قد أظهرت مدى تقاربها في صيغ الاشتقاق والصرف؛ فهذه اللغات تشترك في معظم جذور الأفعال، وتقوم على الاشتقاق من الفعل الثلاثي الأحرف، وتتشابه فيها صيغ الصرف، إضافة إلى تشابه الضمائر وعدد هائل من المفردات.
أما عن تاريخ هذه الهجرات وأسماء الجماعات التي حملتها، فإن أصحاب النظرية يرون أن النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد قد شهد خروج ثلاث موجات بشرية من الجزيرة العربية، اثنتان منها باتجاه وادي الرافدين، وهما الموجة الأكادية التي استقرت في المنطقة الجنوبية وتمازجت مع العناصر السومرية هناك، والموجة الآشورية التي استقرت في المناطق الشمالية، أما الموجة الثالثة وهي الكنعانية فقد استقرت في مناطق بلاد الشام منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. وفي أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، خرجت الهجرة الآمورية التي استقرت في بادية الشام، ومن هناك انقسمت فرعين، فرع واصل طريقه نحو وادي الرافدين وأسس الدولة البابلية القديمة، وفرع استقر في مناطق حوض الفرات والخابور ومناطق سورية الداخلية وشكّل الممالك الآمورية التي ازدهرت في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. وفي أواخر الألف الثاني قبل الميلاد انتشرت الموجة الآرامية في بلاد الشام، ورحل الفرع الكلداني منهم إلى وادي الرافدين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وأسس الدولة البابلية الحديثة هناك وأيضاً العيلامية.
على الرغم من أن مقولات نظرية الهجرات السامية قد غدت قديمة وبالية، وأن الباحثين الغربيين يستخدمونها بكل حذر علمي، إلا أن هذه النظرية بقيت مسيطرة على البحث التاريخي في مشرقنا العربي، وارتقت إلى مقام الحقيقة والواقعة التاريخية.
في هذه الدراسة المختصرة سوف أحاول فتح نافذة في هذا الطريق المسدود الذي وصل إليه البحث التاريخي العربي، من خلال فهم وتقيم مستجدات علم التاريخ وعلم الآثار، مقدماً عدداً من الأفكار التي تبقى مفتوحة على النقاش العلمي البنّاء.
إن المنهج الذي استخدمته في دراسة مسألة الهجرات السامية هو دراسة كل ثقافة من ثقافات المنطقة على حدة، والتفتيش عن أصولها وعلاقاتها مع الثقافات الأخرى، ابتداءً من أقدم نقطة في الزمن يمكن للوثائق الأركيولوجية أو الكتابية إعطاؤنا معلومات وافية عنها، وذلك من أجل رصد كل التغيرات الثقافية والديموغرافية والسياسية ذات الصلة بموضوع الهجرات السامية. ولكن بما أن الحيز الذي رسمته لهذه الدراسة لا يسمح بتقديم مثل هذا العرض الشامل، فإني سأكتفي بتقديم نموذج عن مقاربتي للموضوع، من خلال مناقشة ما يدعى بالهجرة الأكادية، وذلك بعد مقدمة لا بد منها عن مسرح الهجرات السامية، والثقافات التي تعاقبت عليه قبل التاريخ المفترض لأولى الهجرات السامية.
