أصول التحضر في جنوب وادي الرافدين:
تأخر استيطان وادي الرافدين الأدنى، المعروف تاريخياً ببلاد سومر، عن استيطان وادي الرافدين الأعلى فبينما نجد الحضارة الزراعية تتوطد في الجزء الأعلى منذ الألف السابع قبل الميلاد بتأثيرات واضحة من سوريا الداخلية، فإن بدايات الاستقرار الزراعي في الجنوب لا تظهر إلا في نهاية الألف السادس قبل الميلاد، فمنذ حوالي عام 5300 ق.م تبدأ بالظهور هنا مواقع الثقافة المعروفة بالثقافة العُبيدية، أو ثقافة العبيد، قائمة على التربة العذراء دون مستويات أركيولوجية سابقة عليها[2].
وقد استمرت الطبقات الأثرية اللاحقة تعطينا أدوات وفخاريات ذات طابع عبيدي حتى عام 3600 ق.م عندما بدأت تحل محلها أدوات وفخاريات تنتمي إلى ثقافة أخرى دعيت ثقافة أوروك. وعلى الرغم من أن الثقافة العبيدية قد اتخذت اسمها من أول مواقعها المعروفة وهو تل العُبيد إلا أن أهم مواقعها كان بلدة إريدو التي كانت تقوم على الخليج العربي في ذلك الوقت. فقد بلغت هذه البلدة حجماً كبيراً بمقياس ذلك العصر، حيث زادت مساحتها عن عشرة هكتارات ووصل عدد سكانها إلى أربعة آلاف نسمة.
شمل تأثير ثقافة تل العبيد مدى جغرافياً واسعاً لم يبلغه غيرها من قبل، فإلى الشمال والشمال الغربي غطت تأثيراتها وادي الرافدين بكامله، ثم اكتسحت أمامها ثقافة حلف فوصلت حتى خليج إسكندرون في أقصى شمال الساحل السوري، ثم تجاوزته حتى كليليكيا على الشواطئ المتوسطية لآسيا الصغرى حيث توقفت هناك، كما اجتازت طوروس واصلةً إلى مناطق ملاطية. أما باتجاه الشرق والشمال الشرقي فقد وصلت إلى الاهواز وأذربيجان، وباتجاه الغرب والجنوب الغربي وصلت حتى منطقة حماة في أواسط سورية.
أعطت الثقافة العبيدية فنوناً متقدمة تجلت في الفخاريات والتماثيل الطينية الصغيرة والأختام، كما تجلت في فن العمارة الذي وضع الأسس الأولى للعمارة السومرية اللاحقة. يتجلى فن العمارة العبيدي في معابد إريدو التي كانت مكرسة للإله إنكي(الذكي) إله الحكمة والماء العذب، والذي استمرت عبادته قائمةً لدى السومريين ثم الأكاديين والبابليين حتى نهاية التاريخ الرافدي. كما قدمت الثقافة العبيدية عدداً من الابتكارات التكنولوجية المهمة في مجال الري والفلاحة والحرف اليدوية ومن المرجح أن يكون المحراث والدولاب قد ابتُكرا خلال هذه الفترة. وبشكل عام فإن الباحثين من دارسي هذه الحقبة يرون أن أهل الثقافة العبيدية هم الذين حققوا الخطوة الأساسية اللازمة لتأسيس المدن الأولى فيما بعد، ومهدوا لحلول الثورة الحضارية الثانية في تاريخ البشرية وهي الثورة المدينية. فهم الأسلاف المباشرون للسومريين.
ولكن ما هو أصل الثقافة العبيدية، ومن أي جاء هؤلاء العبيديون إلى جنوب وادي الرافدين؟ لا نستطيع العثور على أي مقدمات للفنون العبيدية في المناطق الشمالية من وادي الرافدين وهي المواطن التقليدية لثقافة حسونة، ولا في المناطق الشمالية السورية وهي المواطن التقليدية للثقافة الحلفية، ولا في المناطق الشرقية باتجاه الاهواز (عربستان). وفي جميع هذه المناطق تظهر الفخاريات العبيدية بشكل متأخر عن ظهورها في وادي الرافدين الجنوبي، الأمر الذي ينفي أن يكون العبيديون قد أتوا من أي من هذه المناطق الثلاثة.ولا يبقى أمامنا إلا المناطق الوسطى من وادي الرافدين وهو الموطن التقليدي للثقافة السامرائية. فهنا استطاع الباحثون تمييز مرحلة انتقالية بين ثقافة سامراء وثقافة العبيد، وذلك في عدد من المواقع السامرائية التي أعطتنا فنوناً خزفية ذات صلة بالأنماط العبيدية في مراحلها الأولى ولكنها أسبق زمنياً، مثل التزيينات الخزفية وتشكيل الدمى. وبشكل خاص تظهر الأساليب المعمارية المستخدمة في بعض المواقع السامرائية صلة مباشرة بالأساليب المعمارية في معابد بلدة إريدو العبيدية المركز الرئيسي لثقافة العبيد. من هنا وفي ضوء المعلومات الأركيولوجية المتوفرة لنا في الوقت الحاضر، يمكن القول أن ثقافة العبيد هي بشكل ما استمرار لثقافة سامراء، وقد يكون العبيديون عبارة عن جماعات سامرائية ارتحلت جنوباً وأسست لنفسها مواقع جديدة بعيداً عن مواطنها الأصلية. يدعم هذا الاستنتاج أن المواقع العبيدية قد ظهرت فجأةً في الجنوب ودون مقدمات، وأن العبيديين كانوا متمرسين بالزراعة وتقنياتها وبصناعة الفخار والحرف الراقية الأخرى، دون مرورهم بمراحل تمهيدية وسيطة.
