نص قانوني محير مكون من 282 مادة، كتب قبل 4000 آلاف عام من الآن، وجد منقوشًا على صخرة بطول مترين، تماثلت مواده مع بعض أحكام التوراة اللاحقه له، وجاء من النضوج والتنظيم بحيث عده البعض عمل غير بشري!
هل تكون هي نفسها صحف إبراهيم؟! أو اقتباسًا منها؟!
إنها طبيعة الإنسان؛ يميل إلى إطراب قلبه بخرير الماء، وإغداق ذاته بما يترتب على ذلك الصوت من نماء وخير، وفي ظل جفاف قاصم وصحارى، يصعب لإنسان البدائي التعامل معها؛ اندفع الناس قبل 7000 عام من الآن بحثًا عن شريان حياة يتشبثون به، فكان السهل الرسوبي الذي احتضن كثيرين.
على مدى قرون تنامت الأعداد حول هذا السهل الخصيب بنهريه، وتبلورت عن هذه الأعداد قوة مركزية، تنظم أمورها وتحفظ على المقيمين ما يرنون إليه من استقرار، فكانت الحضارة السومرية ذائعة الصيت، التي يعتقد أنها ظهرت عام 3500 قبل الميلاد تقريبًا.
تلاقت تلك الحضارة مع استقرار كبير وتوفر تام للموارد، ما حمل منتسبيها إلى الابتكار وتطوير طرائق العيش، فجدت في عالمهم كثير من الآلات وكثير من النظم السياسية والتشريعية، واستحدثوا الكتابة على الألواح الطينية ومن خلالها سجلوا مآثرهم وبقي ذكرهم.
لا تسير الحياة دائمًا على نمط متصل، إذ تستجد كثير من العوائق التي تقطع الاتصال وتأتي على الحضارات، فبعد استمرارها بأشكالها المختلفة لما يربو على 2500 عام؛ انهارت الحضارة السومرية على يد العيلاميين، الذين أحالوها إلى الانتهاء.
تشتت بلاد الرافدين إلى مدن ودويلات يحكم كل منها ملك أو أمير، وحلت النزاعات وانتشرت الغارات، إلى أن جاء حمورابي حوالي عام 1810 قبل الميلاد ملكًا لبابل، وعبر قدرة عسكرية وحنكة سياسية فائقة استطاع أن يخضع معظم الدويلات المحيطة والتي مثلت نواة لحضارة جديدة هي البابلية.
شملت الدويلات التي أغار عليها حمورابي وضمها إلى ملكه "أيسن لارسا" و "أشنونة" ومن قبلهما أغار على عيلام الواقعة في إقليم الأهواز وضمها إليه، فضلًا عن بعض القرى في الشام، بلاد كثيرة ذات ثقافات شتى، مثّل حكمها بالنسبة لحمورابي تحديًا خصوصًا مع بدائية الحياة في ذلك الوقت.
أدرك حمورابي أن القوة وحدها لا تكفي لإحكام السيطرة، لذلك استجد في ذهنه فكرة إنشاء تشريع وقانون ينظم أمور رعيته ويفصل بين مدنه المتنوعة ثقافيًا، ليست فكرة جديدة، فقد سبقه السومريون في ذلك، لكن حمورابي تعدى الجميع في تفاصيل هذا التشريع ومدى اكتماله!
أقدم حمورابي على تدوين شريعته أو قانونه على حجر أو مسلة اسطوانية ضخمة من حجر الديورانت الأسود طولها 2.25 متر وقطرها 60 سم، احتوت المسلة على نحو 282 مادة، ومن المرجح أنها كانت تزيد عن 300، مكتوبة جميعها باللغة البابلية، لكن المفاجأة أن المسلة لم تكتشف في العراق.
اكتشفت المسلة من قبل بعثة فرنسية بقيادة (جاك دي مورغان) في مدينة السوسة عاصمة عيلام وذلك عام 1901 - 1902م، وقد تم تفسير الأمر على أن الحجر تم نقله من قبل الملك العيلامي (شتروك ناخونتي) عام 1171 ق.م، بعد غزوه لبابل ووقوعها في يده.
قام الملك العيلامي الناقل للحجر بمحو بعض من أسطر الحجر استعدادًا على ما يبدو لتدوين اسمه، لكنه لعله تراجع عن ذلك بسبب اللعنات الكثيرة التي طالعها في نهاية القانون والتي تتوعد كل من يتجرأ على القانون بتعديل نصوصه أو العبث به، يوجد هذا الحجر حاليًا في متحف اللوفر بباريس.
في الجزء العلوي من الحجر نرى بوضوح الإله شماس (إله الشمس) في معتقدات البابليين جالسًا على عرشه بينما يسلم الملك حمورابي أدوات القياس، ليتسنى للأخير استخدامها في سوس الناس وإعمار الأرض، تترجم مقدمة القانون والتي جاءت بصيغة شعرية هذا الأمر بشكل أكثر تفصيلا.
جاءت المقدمة بطابع ديني إذ ابتدأت بعبارة "بسم الله العظيم"، ثم تلاها تعريفًا بحمورابي التي أعطته الآلهة الحق في تصريف أمور الناس ملكًا مطاعًا، وأنه ما جيء به إلا ليرفع الاضطهاد عن الضعيف، ويقيم العدل ويعاقب المذنب، ويواجه الشرير والفاسد، مبينًا أهمية قانونه في ترسيخ كل ذلك.
صنفت شريعة حمورابي الناس إلى ٤ طبقات، طبقة الأحرار والكهان والأتباع والعبيد، فيما تضمنت نصوص الشريعة معظم فروع القانون التي نراها حاليًا في الوقت الحالي، قوانين للعائلة والزواج، وتنظيم الإرث والتبني، وتنظيم عقود البيع والشراء، أما العقوبات فقد اتبعت مبدأ لا يزال ساريًا حتى اليوم.
إنه مبدأ العين بالعين أو الجزاء بالمثل، حيث وردت جزءات رادعة تتعلق بالقتل والسرقة وقطع الطريق والضرب وإلحاق الضرر بالمزروعات، كما حدد القانون مسؤولية الطبيب تجاه مريضه والعامل تجاه رب عمله، وحدد الأجور والعطلات، إذ كان يمنح العامل 3 أيام شهريًا على سبيل الراحة.
