في استقصائنا لتاريخ الحضارة في منطقة الهلال الخصيب قبل الهجرات السامية المفترضة، يمكن لنا أن نبدأ من أي نقطة في الزمن الأقدم صعوداً إلى عصر الإنسان النياندرتالي المشرقي الذي عاش هنا قبل حوالي سبعين ألف سنة، أو نتجاوزه إلى أبعد من ذلك. إلا أن نقطة البداية المنطقية بالنسبة لبحثنا لن تتجاوز أواسط الألف التاسع قبل الميلاد، وهو التاريخ التقريبي لاستهلال العصر النيولييتي، (= العصر الحجري الحديث). فمنذ ذلك التاريخ سارت الثقافة الإنسانية في اضطراد وتتابع لا فجوات فيه ولا انقطاع وصولاً إلى العصور الحديثة.
🔹يبدأ تاريخ الحضارة التي تسود العالم اليوم مع ابتداء العصر النيوليتي نحو عام 8300 ق.م في بلاد الشام التي عثر المنقبون فيها على أولى المواقع الممثلة لذلك العصر، ونموذجها موقع أريحا في منطقة فلسطين العربية، وموقع تل المريبط على الفرات الأوسط. لقد شهد الألف الثامن قبل الميلاد في هذه المنطقة عدداً من التغيرات الجذرية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، قادت إلى إحداث انقلاب كبير في حياة المجتمعات البشرية، كان من الأهمية إلى درجة دعت علماء الآثار إلى دعوته بالثورة النيوليتية (أو ثورة العصر الحجري الحديث). فبعد مئات ألوف الأعوام التي قضاها إنسان العصور الحجرية في سكن الكهوف والتجوال في الأرض بحثاً عن الغذاء، استقر ذلك الإنسان في الأرض وبنى البيوت الدائمة وأسس القرى الأولى في تاريخ الحضارة، وبعد الاستقرار مدة طويلة قرب حقول القمح البري يحصده ويتغذى عليه، انتقل إلى الخطوة الحاسمة وهي زراعة الحبوب وتدجين الماشية، أي إلى إنتاج الغذاء بدلاً من جمعه، وبذلك دخلت الحضارة الإنسانية في منعطف جديد قادنا في سلسلة غير منقطعة الحلقات إلى يومنا هذا الذي يرتبط بشكل مباشر بتاريخ عام 7700ق.م، وهو التاريخ الذي أعطانا إياه الكربون المشع 14 لأقدم حبوب مزروعة معروفة حتى الآن في العالم كله، والتي وجدت في موقع تل المريبط بسوريا.
خلال الألف السابع قبل الميلاد، انتشرت القرى الزراعية في جميع مناطق الهلال الخصيب على القوس الممتد من سفوح زاغروس إلى سفوح طوروس هبوطاً نحو سوريا الغربية وفلسطين، وتزايدت أعداد القرى الزراعية بشكل خاص في المنطقة السورية، إلى درجة يمكن القول معها بأن المنطقة المحصورة فيما بين الفرات والبحر المتوسط كانت مسكونة بكاملها.
وخلال الألف السادس قبل الميلاد بدأت معالم ثقافات متمايزة بالتوضح داخل الثقافة النيوليتية ذات الخصائص العامة. فظهرت فيما بين الألف السادس والألف الخامس قبل الميلاد ثلاث ثقافات كبرى تتابعت وتداخلت زمنياً وجغرافياً في منطقة الهلال الخصيب هي: 1 –ثقافة حسونة 2 –ثقافة سامراء 3 –ثقافة حلف. وقد ميز علماء الآثار بين هذه الثقافات اعتماداً على أنماط صناعة الفخار وأساليب التزيين المطبقة على المصنوعات الفخارية.
1⃣ ثقافة حسونة: ظهرت ثقافة حسونة منذ أواسط الألف السادس قبل الميلاد واستمرت إلى مطلع الألف الخامس، وشملت المناطق الشمالية من وادي الرافدين فيما بين جبل سنجار غرباً والمناطق المحصورة بين نهري الزاب الكبير والزاب الصغير شرقاً، وهذه هي المنطقة التي قامت عليها الدولة الآشورية خلال الفترات التاريخية. وقد استمدت هذه الثقافة اسمها من موقع حسونة قرب مدينة الموصل الحديثة.
2⃣ ثقافة سامراء: عاشت ثقافة سامراء خلال الثلث الأخير من الألف السادس قبل الميلاد، وتعاصرت مع الفترة الأخيرة لثقافة حسونة. وإضافة إلى مناطق نشأتها الأولى في أواسط وادي الرافدين فقد شملت هذه الثقافة المناطق الممتدة من الموصل شمالاً إلى بغداد جنوباً، ومن سفوح زاغروس شرقاً إلى الفرات الأوسط غرباً، وهذا يعني أنها قد تداخلت جغرافياً مع ثقافة حسونة مثلما تداخلت معها زمانياً. استمدت هذه الثقافة اسمها من موقع مدينة سامراء المعروفة.
3⃣ ثقافة حلف: عاشت ثقافة حلف خلال الفترة الممتدة من أواسط الألف السادس قبل الميلاد إلى أواسط الخامس، (5500 – 4800ق. م) وشملت منطقة جغرافية واسعة جداً امتدت من شمال وشرق بلاد الرافدين إلى البحر المتوسط، ومن الأناضول إلى أواسط سوريا، وكانت مناطق الشمال السوري بمثابة قلب هذه الثقافة. استمدت ثقافة حلف اسمها من موقع تل حلف قرب بلدة رأس العين عند منابع نهر الخابور.
وهكذا نجد أن مسرح الهجرات السامية في الهلال الخصيب لم يكن خالياً من الناحية الثقافية والديموغرافية في انتظار الهجرات السامية من جزيرة العرب، فقد اضطرمت هذه المنطقة بأول ثورة ثقافية في تاريخ البشرية، ثم حفلت بثقافات تلاقحت وتعاونت على تهيئة الأساس المادي للثورة الثقافية الثانية في تاريخ البشرية، ألا وهي الثورة المدينية التي قامت في وادي الرافدين الأدنى وأدت إلى تشكيل أولى المدن في التاريخ.
ومع إعادة النظر في فرضية الهجرة الأكادية وفي نظرية الهجرات السامية ككل، ينبغي أن تقف مسألة اللغة السامية الأم على أرض جديدة. فقد قادنا البحث الأثري واللغوي إلى تبيّن وجود اللغة السامية في المنطقة السومرية منذ أواخر الألف السادس قبل الميلاد، وأن العبيديين من أسلاف الأكاديين قد تكلموا بها في ذلك الوقت. وهذا يعني أن اللغة السامية كانت متداولة في المنطقة قبل ثلاثة آلاف عام من الهجرة الأكادية وهي أولى الهجرات السامية المفترضة من جزيرة العرب. وبما أن البحث الأركيولوجي قد استطاع عقد صلة مباشرة بين ثقافة العبيد وثقافة سامراء الأسبق منها، وسار بنا تقصي أصول العبيديين إلى المواقع السامرائية الواقعة إلى الشمال منهم، فإنني أفترض بكل ثقة قائمة على أرضية علمية، وبكل حذر علمي في الوقت نفسه، إن اللغة السامية كانت أيضاً اللغة التي تكلم بها أهل الثقافات الكبرى للعصر الحجري الحديث وهي ثقافات حسونة وحلف وسامراء، وأن هذه اللغة كانت مؤسسة ومؤصلة في الهلال الخصيب منذ مطلع الألف السادس قبل الميلاد، وأن لغة الألف السادس قبل الميلاد هذه هي اللغة السامية الأم. إلا أن مثل هذه الفرضية المبنية على استقراء تاريخي وأركيولوجي ولغوي مقارن يجب تدعيمها بدراسة ألسنية معمقة يقوم بها أهل الاختصاص في هذا المجال.
لقد قدمت في هذا الحيز الضيق فكرة عن منهجي في دراسة مسألة الهجرات السامية القديمة، من خلال نموذج واحد هو النموذج الأكادي، وهذا المنهج قادني إلى النتائج نفسها فيما يتعلق ببقية النماذج، إلا أن بسطها يتطلب كتاباً لا مقالة.
——————————————-
فراس السواح
[1] معلوماتي بخصوص هذا التاريخ مستمدة من مراجع تعود إلى مطلع ثمانينات القرن الماضي.
[2] في موقع تل العوالي في الجنوب العراقي جرى في أواخر القرن الماضي اكتشاف طبقة أثرية أقدم من الطبقة العبيدية وترجع إلى العصر النيوليتي، مطمورة تحت التربة اللحقية على عمق كبير، ولكننا لا نستطيع حتى الآن، واعتماداً على هذا الموقع المنفرد، تقييم مدى الاستيطان السابق على العبيد في هذه المنطقة.