"الفصل السابع"
ليت الماضي عالم موازيّ لا يمتّ للحاضر بصِلة، ليتهُ ينقضي و يمضي بمرور الوقت.. ليت الحاضر لا يُلطخ بدمائهِ.
__________________________________________
استطردت ضبّ أغراضها في حقيبة السفر الصغيرة حينما كانت تُصغي لحديث ابنتها المحتجّ:
- يا ماما يا حبيبتي مش هتخسري حاجة لو استنيتي للصبح !
فـ كانت مُصرّة على رأيها و هي تقوم بطيّ إحدى ملابسها :
- مينفعش يا رهيف هموت من القلق عليها
سحبت " رهيف" الثوب من بين كفيها لتضبط طيّه بدلًا عن والدتها التى أفسدتهُ من فرط التوتر هي تردد متذمرة :
- أنا مش فاهمة خالي كلمك ليه السعادى ؟ كان لازم يقلقك في وقت زي ده؟ ده احنا داخلين على نص الليل
عقدت حاجبيها و هي تقول مستنكرة :
- يعني عايزاني أعرف ان جدتك تعبانة و مروحش جري عليها ؟
دست " رهيف" الثوب في الحقيبة و هي تجيب بتعنّد:
- خلاص خديني معاكي
ربتت الأخيرة على كتفها أثناء حديثها الحاني :
- أنا عارفة انك قلقانة عليا ، بس متخافيش ، و بعدين خالك هييجي ياخدني .
طردت " رهيف" زفيرًا حارًا من صدرها قبل أن تقول :
- بصراحة بقى أن خايفة يأثر عليكي ، خايفة نقنعك نروح البلد بحجة تعب جدتي و انها هتحتاجك جمبها
تراخى جسدها على الفراش و هي تردد متنهدة :
- متخافيش يا حبيبتي ، أنا عارفة انك مش بتحبي هناك ، محدش هيقدر يخليكي تعملي حاجة مش عايزاها ، خلاص؟
كانت متجهمة ممتقعة الوجه و هي تسحب " شمّاعة" ثوبٍ آخر خاص بوالدتها ، ثم شرعت تقوم بطيّه لتدسه في الحقيبة بصمتٍ نمّ عن نقمها على ما يحدث، حتى تجمعت الدموع في مقلتيها فلم تتمكن من كبحها ، هطلت على وجنتيها فسحبت السحاب الخاص بالحقيبة لتغلقها و استدارت محاولة مواراة دموعها عن والدتها لتمضي نحو الكومود فاتحة أدراجه تنتقي بعض الحاجيات التي قد تحتاجها أثناء سفرها لتلك المنطقة ، و لكنها لم تكن لتقتنع بما تفعله ، نهضت عن جلستها لتمضي نحوها ، فـ شعرت " رهيف" بخطواتها ، نزحت دموعها على الفور فـ استشعرت كفها يربت على كتفها ، فـ إذ بالدموع تشق طريقها مجددًا على وجنتيها ، التفتت لتلقي بجسدها في أحضانها و هي تقول بصوتٍ مختنق:
- بابا وحشني أوي يا ماما .
احتوتها ممسدة على ظهرها و هي تقول بشجن:
- أنا عارفة ، عشان كده مش هنمشي من هنا ، متخافيش يا رهيف ، مش هتخلى عن البيت اللي فيه روحه ، هطمن على جدتك و أرجع
ابتعدت عنها قليلًا متمتمة بتشكك من بين شهقاتها :
- أكيد؟
فـ ابتسمت نصف ابتسامة و هي تُمشط خصلاتها بكفها :
- أكيد
استمعت كلتاهما إلى رنين جرس الباب فـ عبست ملامحها و هي تردف بضيق :
- أوف .. لحق ييجي ، هو مستعجل على ايه ؟
نزحت والدتها دموعها بـ أطراف أناملها و هي تردد بتنهيدة مطولة :
- طب معلش بقى داري تكشيرتك دي ، مش معقول هتقابليه كده !
و بالرغم من سخطها لما يحدث إلا أنها أومأت برأسها و قد أحنت بصرها متمتمة بـ خنوع :
- حاضر ، افتحي و أنا هشوف لو في حاجة نقصاكي و آجي وراكي
تركت قبلة حانية على جبينها و هي تتمتم :
- ربنا يسعدك يا حبيبتي
فـ ابتسمت لها ابتسامة باهتة ، حتى تركتها و مضت خارج الغرفة متجهة نحو غرفة المعيشة لتفتح الباب ، فـ تلاشت ابتسامتها تمامًا ليحل الوجوم محلها ، فـ هي تعلم جيدًا كم كان ينقم خالها على والدها المتوفي ، و تلك المشكلات التي دسه بها قبل وفاته ، لذلك تحمل مشاعر الضغينة تجاههُ ، تنهدت بحرارة محاولة نفض تلك الأفكار الشائكة عن رأسها ، و شرعت تعد حقيبة يد أخرى أصغر حجمًا من أجل والدتها .
..................................................................
كان متجمدًا بمحله و قد استشعر سوء حالتهِ و ذلك الارتباك الذي يعج بـ غرفة العناية الفائقة ، لم يتمكن من رؤيتهِ إثر تجمّع الجميع حوله ، و لم يتمكن من تحليل ما حدث ، ما اعتقدهُ هو أن حالته تعدت مرحلة الخطر ، إلى أنهُ يستشعر أن ما يراه هو الخطر بـ عينهِ ، استند بكفه على الحاجز الزجاجي و لسان حاله لا يكفّ عن الدعوة من أجله ، استمع إلى صوت خطوات تدنو منهُ فـ امتقع وجههُ و هو يلتفت و قد اعتقدها هي ، و لكنهُ رفع احدى حاجبيه استنكارًا و هو يتمتم مزدريًا :
- انت!
فأجابه ساخرًا :
- أومال فاكر مين؟
فـ أشار للحاجز الزجاجي و هو يردد ساخطًا :
- الهانم اللي وصلت أخويا للحالة دي !
تغضن جبين " فارس" و هو يدنوَ من الحاجز ، تفاقم شعورهُ بالقلق فردد ناقمًا:
- إيه اللي بيحصل ده ؟
فرد عليهِ باحتدام :
- لو حصل له حاجة أنا مش هسامح حد فيكم
التفت يحدجهُ بنظراتٍ شعّت غضبًا و هو يهدر باستهجان :
- ولا ، انت هتستعبط ، أنا ذنبي إيه في اللي حصل ؟
تسللت حمرة الغضب إلى وجنتي الأخير و انتفخت أوداجه و هو يلكم بقبضتهِ المتكورة الحاجز الزجاجي :
- و هو كان ذنبه إيه ؟ عملها إيه عشان تعمل فيه كده ؟ ده جزاته بعد ما لحقها ، يا ريته كان سابها تموت مكنش ده حصل له !
قبض على ياقتهِ ليجتذبه بعنفٍ نحوه و هو يُعنفه قائلًا :
- عمل فيها ايه ؟ على اساس مش عارف ؟
افترّ ثغرهُ عن ابتسامة ساخرة و هو يردف متهكمًا :
- مش عارف عملتلك ايه خليتك في صفها كده ؟ ده انت من دقايق كان هاين عليك تقتلها و أنا اللي حوشتك عنها
فـ دفعهُ بعنفٍ ليرتد جسده للخلف مردفًا بصرامة قاتمة:
- بطل تلميحاتك الزبالة دي و احترم نفسك و انت بتتكلم معايا ! دي مرات أخويا
- ما أبوك أول ما أبويا مات مفكرش غير في مرات أخوه ، و انت زيه
غلت الدماء غليًا بداخل أوردته ، تأججت النيران بصدرهِ فلم يتمالك نفسه ، كاد ينقض عليه فـ استوقفته تلك الممرضة التي ولجت خارج الغرفة و قد كان الارتباك جليًا عليها ، شملهُ بنظراتٍ قاتمة قبل أن يشير بسبابتهِ متوعدًا :
- هنتحاسب على ده
نهج صدر الأخير علوًا و هبوطًا اثر انفعاله و هو يتابعه بعينيه حيث خطى نحوها و هو يناديها مستوقفًا لها :
- استني
توقفت بمحلها و التفتت و هي تردد بتوتر :
- أفندم ؟
- ايه اللي حصل بالظبط ؟
زمّت شفتيها قبل أن تُجيبه متعجلة :
- مش عارفين .. الحالة كانت طبيعية لحد ما فجأة اضطربت و ...
قدحت عينيهِ شررًا و هو يزأر مستهجنًا و قد أثارت كلمتها استفزازهُ إلى أقصى حد :
- مش عار فين يعني إيه ؟ هي دي مستشفي و لا زريبة عشان تبقو مش عارفين ؟
تغضن جبينها و هي تردد مستنكرة أسلوبه :
- مينفعش كده يا حضرت ، احنا ..
فـ استكمل حديثها المُنتقص :
-مستشفى محترم ، خلاص حفظتها
ثم انفجر سخطهِ كـ البُركان في وجهها و هو يجأر بـ صوتهِ :
- غــــوري من وشي
انتفض جسدها من صوتهِ الذي تردد صداه في الأرجاء ، ازدردت ريقها و قد شحب لون بشرتها ، خشت أن يتطاول عليها باليد و قد أدركت ذلك الفارق الجسماني الرهيب بينهما ، فـ استحسنت الانسحاب من تلك المواجهة غير العادلة بالمرة ، تابعها " فارس" بنظراتٍ حامية ، ثم زفر حانقًا و هو يُطلق سبة لاعنًا المشفى بأكملهِ ، مضى عائدًا للحاجز الزجاجي فـ وجدهُ بنظر نحوه شزرًا ، تجاهله تمامًا متفاديًا مواجهة أخرى عقب احتدام الأجواء تمامًا بينهما ، طرد زفيرًا من بين شفتيهِ فـ بدا و كأنهُ ينفث نيرانًا ، دس كفه بجيبه مخرجًا هاتفه و نقر على شاشتهِ ثم رفعه إلى أذنهِ و هو متسمرًا أمام الحاجز الزجاجي يُتابع ما يجري بالداخل بأعين مقتنصة ، حتى أتاه الرد فـ قال بنبرة حازمة :
- انتو فين ؟
- ربع ساعة بالتمام و هنكون عندك يا فارس بيه
فردد بنبرةٍ جادة :
- يا ريت تستعجل أي ثانية بتضيع بتزيد احتمالية اني أخسره
فـ حاول أن يُطمأنه بقولهِ :
- متقتقلش يا فارس بيه ، احنا هنـ..
فلم يكن بمزاجٍ جيد للاستمتاع لما سيُلقيهِ على مسامعهِ ، قاطع حديثه بقولهِ الحاد :
- سلام
و أغلق المكالمة في وجهه ، ثم دس الهاتف في جيبهِ ، فرك وجهه بعنفٍ باحدى كفيهِ حتى احمرّت بشرتهِ ، ثم زحف بأناملهِ غارسًا لها في خصلاتهِ ، و بقيت نظراتهُ معلقة بالداخل ، استمع إلى صوت " عمر" المحتقن من خلفهِ و قد أثارهُ الفضول عما يُفكر بهِ :
- هتعمل ايه ؟
فـ التفت نصف إلتفاتة نحوه و هو يشملهُ بازدراء عاقدًا ساعديهِ أمام صدره ثم تمتم بتهكم :
- أكيد مش هسيبه مرمي وسط المتخلفين اللي هنا ، أصلي عايزه يموت عشان أسرق مراته!
......................................................................
سحبت الحقيبة خلفها و هي تغمغم بكلماتٍ ساخطة حتى دلفت خارج الغرفة ، لتجد خالها أمامها و هو يردد مهللًا بحفاوةٍ زائفة :
- يا مراحب ببنت الغالي
حاولت أن ترسم ابتسامة مصطنعة على شفتيها و لكنها فشلت في ذلك ، فتركت الحقيبة و هي تردد بوجوم :
- الله يرحمه ، ازيك يا خالي ؟
فأجابها بلكنة صعيدية:
- بخير يا بتي ، كيف حالك عاد؟
فردت " رهيف" عليه بضجر:
- الحمد لله
مشط المنزل بعينيهِ ثم قال متعجبًا :
- أومال فين أختك؟
فرددت بنبرة فاترة :
- نايمة يا خالي ، معلش مش هعرف أصحيها دلوقتي .
التفتت لتخطو نحو والدتها و هي تبسط كفها لها بحقيبة اليد الصغيرة و قد سئمت نفاقهِ:
- شنطتك أهي يا ماما ، شوفي لو في حاجة تانية هتحتاجيها و أنا أ...
قـ قاطعها متدخلًا و قد عقد حاجبيهِ :
- وه ، لساتك مخلِصتيش يا سعاد ، جدامنا طريج سفر ، عچّلي !
طردت " سعاد" زفيرًا مطولًا و هي تسحب الحقيبة من " رهيف" ثم ردت بحنو:
- خلاص يا حبيبتي ، أنا هبقى كويسة متشغليش بالك
نظرت " رهيف" نحوه شزرًا ، ثم ارتمت في أحضان والدتها و هي تقول :
- متتأخريش يا ماما ، خلي بالك من نفسك
مسدت " سعاد" على ظهرها و هي تردد:
- حاضر يا حبيبتي ، خدي بالك انتي من روحك و من أختك
حمل " متولي" الحقيبة و هو يردد بملل :
- يالا يا سعاد مش وجت سالامات
فـ انسلت " رهيف" من أحضانها و هي تزفر بحنقٍ تجلى على ملامحها ، بينما نظرت" سعاد" نحوه و هي تقول بتنهيدة مطولة :
- حاضر يا متولى
ثم ربتت على كتفها برفقٍ قائلة:
- مع السلامة يا بنتي
كانت مسلطة نظراتها التي شعّت سخطًا عليه حتى انتبهت لوالدتها ، فزمت شفتيها بضيق و هي تقول بنبرة باهتة :
- ترجعي بالسلامة يا ماما
سارت " سعاد" و هي تعلق حقيبة اليد على كتفها ، فـ أشار أخيها لها بالولوج للخارج ، ولجت أولًا فـ ظلّ أمام الباب يوصده و قبل أن يفعل كان يقول :
- مش كنتي چيتي معانا يا بتي ، هتجعدي لوحدك كيف؟
عقدت ساعديها أمام صدرها و قد امتقع وجهها مرددة بفتور :
- لا يا خالي ما أنا مش لوحدي ، "رهف "معايا
فتهكم من قولها :
- و هي أختك اللي ...
فـ قاطعتهُ " سعاد" بضيق:
- يالا يا متولي ، مش " جدامنا طريج سفر " بردو ، خدي بالك من نفسك يا رهيف
أمسكت بالمقبض بدلًا عنه ثم أوصدت الباب ، فعقد حاجبيه و هو يردد متظاهرًا بعدم الفهم :
- مال بتك يا سعاد مش طايجة مني كلمة ليه ؟
فـ زفرت و هي تسير بجواره نحو السيارة التي ستقلّهما ، ثم تمتمت:
- لا أبدًا .. هي بس كانت نايمة و أنا صحيتها ، فتلاقيها كده مش في المود
فضيق عينيهِ قائلًا بعدم فهم :
- وه؟
زمت شفتيها متمتمة بضجر:
- قصدي يعني مش على بعضها ، خلاص بقى يا متولي ، خلينا نركب
فور رؤيته تقدم منهُ ابنهِ ناحيته و هو يسحب الحقيبة عنه قائلًا بخشونة :
- عنك يا حاج متولي
- فيك الخير يا ولدي
فسألت "سُعاد" و قد أشرق وجهها لرؤيتهِ:
- ازيك يا ابني
لوى "راشد" ثغره ببسمة شبه متصلبة و هو يجيب:
- بخير يا عمتي، انتي أخبارك إيه؟
- الحمد لله يا حبيبي
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
