"الفصل الحادي و السبعون"

709 17 0
                                    

"الفصل الحادي و السبعون"
تيبّس و شعر و كأن عقارب الساعة تحجّرت، نهج صدره علوًا و هبوطًا من فرط الانفعال و هو يرخي ذراعهُ جواره فحملق "فارس" بوجه "سهير" و قد توسعت مقلتاهُ.. لم ترتخِ عضلة واحدة في وجه "يامن" المتشنج.. خطى نحوها و هو ينتوى الهجوم عليها هامسًا بصوتٍ خفيض أشبه بالفحيح:
- سمعيني كده قولتي إيـه؟
نزحت "سهير" دموعها و هي تهدر باحتدام قويّ:
- مش أمــك.. هدى الريحاني، مش أمك!
ثوانٍ من الصمت المريب عمّ و قد حطّت الصدمة على تعبيرات "فارس" تمامًا و هو يعود خطوة للخلف غير مستوعبًا، حينما كان "يامن" كما هو، و كأنهُ لم يتأثر، و لكن ما هي إلا ثوانٍ و كان كفيه يُطبقان على عنقها بشراسة مريبة، انتفض "فارس" و هو يخطو نحوه ثم حاول الفصل بينهما و هو يردد متأملًا شحوب وجهها:
- بتعمل إيه؟ هتموت في إيدك يا يامن!
و لكن نظراتهِ الملتهبة معلقة فقط بها، و هي و كأنها لم تتأثر.. تحدجه بنظراتها القويّة غير مبالية أنها من الممكن أن تفقد روحها على يديهِ، فهدر "فارس" و هو يدفعهُ للخلف:
- يامــــن
أرخى قبضته عنها فسعلت العديد من المرات و هي تتلمسهُ بأطراف أناملها مطرقة رأسها، عاد "يامن" خطوة للخلف و هو يشير بسبابتهِ:
- اطلعي بــرا.. دا آخر يوم ليكي هنا
و جأر متشنجًا و هو يشير بكفهِ للخلف:
- بـــــرا
التوى ثغر "سهير" استنكارًا.. ثم خطت نحوه مقلصة المسافة بينهما و هي تقول بصوت آمر:
- هترجعها.. هترجع بنت أختي يا يامن، غصب عنك هترجعهالي!
أطبق على أسنانهِ بعنف بالغ حتى ارتعش صدغيهِ و عينيهِ المرتكزتين عليها تطلقان شواظًا، فهدرت "سهير" بانفعال كبتتهُ في نفسها سنونًا و هي تشير بسبابتها:
- كفاية إنها اتيمت على إيدك!.. كفاية إنها اتيتمت بسببك إنت! كفاية إني خسرت أختي و جوزها عشانك.. كفايـــة!
تهدجت أنفاسها من فرط الانفعال و أخذ صدرها يعلو و يهبط و هي تغمغم رافعة ذقنها:
- معجبكش كلامي؟.. مش جاي على هواك؟ أيوة مش أمك، مش أمك و لا تقربلك من أي طرف
ففرق أسنانهِ ليجأر من بينهما و قد تشنجت عضلات وجهه و عنقهِ:
- اخرســـي
فهدرت بهِ و هي تدنو أكثر منه:
- مش هخـرس.. مش هخرس، كفاية أوي
و ضربت بعنفٍ على صدرها و هي تردد بلهجة أشد بأسًا:
- كفاية إني خرست السنين دي كلها.. كفاية 28 سنة كاتمة كل حاجة في قلبي و ساكتة، كفايـــة أوي!.. كفايـــة
و أشاحت بكفها و هي تردد باستهجان و قد اصطبغ وجهها بحمرة فاقعة:
- مش هي اللي حملتك في بطنها تسع شهور، مش هي اللي شافت المر كله عشان خاطرك، مش هي اللي شاركتك أكلها و شربها و وقتها كله، مش هي.. مش هـــي!
العبرات التي توقفت عن الانسدال شرعت تهطل بغزارة و قد اختنقت الكلمات في صدرها، خفقاتها التي تعلو حتى تكاد تصُم أذنها مما هي مقبلة عليه و هي تتطلع لوجههِ بنظراتٍ قويّة، شمخت بذقنها و هي تشير بسبابتها لنفسها مُجرة قنبلتها في الوسط:
- أنا.. أنا أمــك، أنا اللي حملتك 9 شهور في بطني، أنا اللي قضيت 9 شهور معاك، أنا اللي جبتك للدنيا.. للنور، أنا اللي شاركتك أكلي و شربي، أنا اللي شاركتك همومي و وجعي
عاد خطوة للخلف و كأن عقربًا قد لدغهُ، هز رأسهُ بعنف استنكارًا و هو يغمغم:
- انتي مجنونـة ،مجنـــونة!
و تعالى صوتهِ الشرس في الجملة الأخيرة، حينما كانت تشير إلى قدميه و هي تردف باستهجان:
- أنا اللي عيشت خدامة تحت رجليك، أنا الخدامة سهير اللي ملهاش قيمة، أنا.. أنا اللي عيشت تحت رجليه زي الكلبة عشان خاطرك، أنا اللي وافقت أعيش تحت رجليكم عشان أفضل جمبك، أنا.. أنا مش حد تاني!
فـ أطبق "يامن" بعنفٍ على عضدها و هو يجترها للخارج هادرًا بصوتهِ:
- مش عايز أشوف خلقتك دي تاني.. اطلعي بـرا، بـــــرا
و اقتادها للباب و هي تحاول التملص من قبضتهِ و هي تقول باحتدام:
- مش هخرج.. مش هخرج من هنا غير لما أخرج كل اللي جوايا!
فدفعها بعنفٍ لتكون أمامهُ في منتصف البهو و استلّ سلاحهِ من ملابسه ثم أشهرهُ نحوها و هو يردد بصوت خالي من الحياة:
- خرجي.. لكن خليكي متأكدة إنك مش هتلحقي!
توسعت عينا "فارس" و هو يخطو نحوه محاولًا ردعهِ بالقول:
- نزل السلاح يا يامن، انت.. هتعمل إيه
فوجّه "يامن" فوهة السلاح نحوه و هو يحذرهُ:
- ابعـد.. اطلع انت منها أحسن لك!
تيبس "فارس" محلهُ و هو يحاول ثنيه عما يفعل بنظراته، و لكن لم يكترث لهُ، و التفت ليصوب على رأسها تمامًا، خطت "سهير" نحوه خطوة و هي تسحب السلاح لتُلصق فوهتهِ بجبهتها آمرة إياه بـ:
- اضرب.. مستني إيـه؟ اقتل أمـك! اقتل أمك بيدك.. إضرب
- لأ.. يامن
صدح صوتها من الخلف و هي تهرع نحوهم، ثم توقف جوارهِ تمامًا و هي تقبض على ذراعه بضغطة خفيفة متوسلة إياه:
- يامن.. أرجوك لأ، أرجوك سيبها يا يامن، عشان خاطري سيبها
نقلت نظراتها بينهما ثم ارتكزت بناظريه عليه و قد توجست من تلك النظرة التي تلوح في عينيهِ، فقالت مجددًا و هي تتشبث بذراعهِ:
- أرجــوك
و بكف مرتعش حاولت أن تستل السلاح من قبضتها و هي تردد برجاء:
- سيبي السلاح يا سهير
أرخت "سهير" كفها عن السلاح و هي تقف مرفوعة الرأس أمامهِ، ثم عادت تقول:
- اضرب يا ابني.. اضرب
فجأر و قد بزغت عروق جبينه:
- متقوليـش ابني!
و سحب صمام الأمان فشهقت "يارا" شهقة عنيفة و هي تقف بجسدها أمامهُ كحائلًا بينهما و أنظارها الدامعة مسلطة على وجههِ:
- كفاية يا يامن.. أرجوك، عشان خاطري أنا.. عشاني!
أطبق أسنانهِ بعنف و هو يُطبق على ذراعها دافعًا لها بعنفٍ لينحيها عن طريقهِ:
- حاسبـــي
و أطبق أكثر على السلاح و هو يشمل وجهها، ثم تقوست شفتيه استهجانًا و هو يدنو برأسهِ منها ليهمس بلهجة محتدة:
- لو انتي و**** أوي كدا.. فأنا أبويا أشرف من إنه يمس شعرة منك!
و ابتعد و هو يشملها بنظرة محتقرة مرخيًا كفه الحامل للسلاح، و خطى من جوارها و هو يهدر بها بجفاف اختلط بالشراسة:
- لو رجعت لاقيتك هنا مش هتردد للحظة إني أخلص عليكي
- اغتصبني!
تيبّست قدماه بالأرضية رغمًا عنهُ.. ارتخى كفه عن السلاح فسقط أرضًا و هو يحدق أمامه منظراتٍ مُستعرّة، التفت "يامن" ليتناثر الشواظ من نظراتهِ الملتهبة نحوها، فالتفتت بدورها لترد بثباتٍ تحسد عليهِ، و بنبرة خاوية من الحياة:
- و انت كنت ثمرة ده!
« كان الوقت متأخرًا.. الساعة تعدّت الثانية و النصف صباحًا و لم يعد بعد، هجدت ليلتها و خاصم النوم جفنيها، خرجت "سهير" من غرفتها و عبرت الردهة المؤدية للخارج و توقف عند زاويتها، أرهفت السمع عسى أن يكون عاد، و لكنهُ لم يفعل.. تهدّل كتفيها قنوطًا و قد تلوت شفتيها بقلق بالغ..
نعم أحبت، أحبت حُبًا صادقًا من طرف واحد لن يعلمهُ حتى الطرف الآخر مطلقًا، هو يتعذب بحبهِ لـ "حبيبة".. و هي تبكيهِ ليلًا نهارًا و ترثى حالها، لم تطق الوقوف هكذا مُكتّفة الأيدي، لربما حتى يكون قد عاد و لكنها لم تنتبه، على الرغم من أنها كانت تقبع خلف النافذة بحجرتها تنتظر تواجده، و لكنها استمعت لنداء قلبها المتلهف عليهِ.
خرجت من الردهة البعيدة و خطت نحو غرفته بحرصٍ شديد، أدارت المقبض و ولجت للداخل، فأطبقت جفونها و هي توصد الباب من خلفها مستقبلة عبقهِ المُضوّع العالق بها، و كأن روحها الملتاعة انتعشت للحظات، عادت تفتح عينيها و هي تبحث عنه هنا و هناك فلم تجده، و لكنها لم تكن لتضيع تلك الفرصة طالما أنها هنا، قطعت المسافة الفاصلة بينها و بين منضدة الزينة، و التقطت إحدى قنينات العطور أعلاها، و راحت تنثر منهُ بغزارة في الجو و أطبقت جفنيها مستمتعة بتلك اللحظة النادرة التي تعيشها.
حتى انتفض جسدها هلعًا حين انفتح الباب على حين غرّة و ارتخى كفها عن القنينة لتسقط أرضًا متهشمة و يتناثر محتواها، طلّ هو من خلفهِ و هو يترنح في وقفتهِ، تغضن جبينه حين رآها أمامه فغمغمت "سهير" هلعًا و هي تخطو نحوه متأملة حالتهِ المريبة:
- يوسف بيه
فسألها بفتور واضح و هو يتلفت حوله:
- بتعملي إيه هنا؟
ارتبكت و قد فغرت شفتيها حينما كان يخطو للداخل و قد أوصد الباب من خلفهِ، فاعتذرت منهُ و هي تحاول الفرار:
- أنا.. آسفة يا يوسف بيه، هطلع حالًا
و كادت تمر من جوارهِ و لكنهُ استوقفها و هو يُطبق على ساعدها مجتذبًا لها إليه و قد تلاعب المشروب الذي ارتشفهُ للمرة الأولى بشراهة في محاولة منهُ لنسيان معشوقتهِ الأولى بخلايا رأسهِ، شهقت "سهير" بهلع بالغ و هي تحاول التملص من قبضته و قد ألصق جسدها به تقريبًا:
- يـ..يوسف بيه!
افترّت شفتيهِ عن ابتسامة عابثة و هو يهمّ بها:
- و تطلعي ليه؟ طالما جيتي برجليكي!
توسعت عيناها و قد شحب وجهها من فرط ذعرها، و قبل أن يلتقم شفتيها نجحت بصعوبة في التملُّص منه، و أوفضت نحو الباب و لكنهُ كان الأسرع حيث استدار ليجتذبها من خصلاتها، و قبل أن تهمّ بالصراخ استنجادًا كان يُكمم فاهها و هو ينطق بوقاحة و تلك الابتسامة الشيطانية ترتسم على ثغرهِ:
- تـؤ.. خليكي هادية أومال، بدل ما تحصل حاجة مش هتعجبك
ترقرقت العبرات في مقلتيها و هي تحاول تخليص نفسها منه متلوية بجسدها بأكملهِ، و لكن قوتها لم تكن تكفى أمام إصرارهِ، أزاح "يوسف" كفهُ عن ثغرها ليلتقطهُ بين شفتيه بعنفٍ بالغ مبتلعًا صراخها في جوفهِ، و أنامله تزداد إطباقاً على خصلاتها فشعرت بهِ يقتلع من محلهِ، و كأنهُ يكوي روحها بقبلتهِ الحارقة لها، ليس هذا من أحبت مطلقًا.. و ليس ذلك اللبق الذي عهدتهُ دومًا و سقطت كالطير في شرك عشقهِ، و حالما ابتعد عنها ليلتقط أنفاسهِ كانت تلك فرصتها، حيث سحبت كفهِ الآخر و غرست أسنانها بهِ فأرخى قبضته عن خصلاتها و هو يسبّها بأقذع الألفاظ، استغلت "سهير" الفرصة و دفعتهُ بعنفٍ فارتد للخلف.. و تعثّر بالبساط من أسفله فسقط أرضًا.
و ما إن كادت تتحرك لتفر من هنا و الدموع لا تكفّ عن الانسياب من جفنيها، حتى كان يسحب قدمها بعنفٍ فانكفئت على وجهها، أدارها "يوسف" و هو يجتذبها من قدمها إليهِ ليجثو فوقها معيقًا حركتها، فتململت من أسفلهِ و هي تهز رأسها محاولة تفادي قبلاتهِ العنيفة التي أغرق وجهها و عنقها بها ، تلفتت "سهير حولها محاولة البحث عما ينجدها من براثنهِ حتى تلمّست أناملها قطعة زجاجيّة من قنينة عطره التي أسقطتها، فأطبقت عليها لترفعها إلى وجههِ فجرحت جانب صدغهِ جرحًا شبه سطحيّ، انتفض "يوسف" مستشعرًا ذلك الألم فنهض عن جلستهِ و هو يتلمس جانب وجنتهِ و لسانهِ لا يكفّ عن سبهِ لها.
تنفست "سهير" محاولة التقاط أنفاسها، و استجمعت بصعوبة رباطة جأشها لتنهض عن الأرضية الصلبة حتى تمكنت من الوقوف على قدميها الرخوتين، شحذت قواها الخائرة لتفرّ من أمامهِ فمضت نحو الباب و ما إن كادت تدير المقبض حتى اجتذبها مجددًا من خصلاتها، صرخت متألمة و هي تحاول تخليصها من بين كفيه حتى أدارها إليه فتوسلتهُ بحُرقة:
- الله يخليك يا بيه سيبني، سيبني أنا معملتش حاجة
و لكنهُ كان كالأعمي و الأصم لا يستمع حتى إلى كلماتها.. لا يتبع سوى غريزتهِ، بل و أنه ازداد لإصرارًا مع جرحها لهُ و تجرئها عليه بتلك الطريقة و:
- ارحمني يا بيـه، ارحمني أنا معمتلش حاجة، معملتش حاجــة!
صرخت بكلمتها الأخيرة بكل ما أُوتيت من قوة حين انقضّ عليها ، حدجها بنظرات لن تنساها ما حييت قبل أن يهمّ بها و قد فشلت كليّا في أن تنجو من مخالبه التي تنهش جسدها، كانت واعية لما يحدث لها، لم تشفع لها توسلاتها و رجائها، لم تشفع دموعها و صرخاتها المكتومة، و هو كالذئب المتلهف.. طاب لهُ التهامها، طاب لهُ جسدها و استباحه و كأنهُ محلَّل له، طاب لهُ سلب روحها و هي قيد حياتها.
استشعر ألمًا عنيفًا يغزو رأسهِ ففتح جفنيهِ و هو يتأوه متألمًا، رمش عدة مرات بعينيهِ ليتبين لهُ سقفية غرفتهِ، حاول أن يتذكّر ما حدث قبل السويعات الأخيرة، و كان آخرهم تلك اللحظة التي عرض عليهِ أخيه "كمال" أن يصحبهُ لإحدى الملاهي الليلية، و آخر ما اقتحم ذهنه و هو اقبالهِ على المشروبات المُسكرة للمرة الأولى في حياتهِ برفقة أخيه، و ما لم يعلمهُ تحديدًا أنه قد وضع لديه مادة أخرى مزج مشروبهِ بها.
زفر "يوسف" بحنق و هو يلتفت يمينًا ليُبصر ضوء الشروق الباهت قد بدأ يحتلّ الغرفة، فمسح على وجههِ و هو ينهض، و لكن تغضن جبينه و هو يرى حالتهِ، رمش عدة مرات و هو يشمل الأرضية من حولهِ ليجد ثيابهِ ملقاة أرضًا و بجوارها ثيابًا أخرى شبه ممزقة، و كأن دقاتهِ الصادحة تكاد تصُم أذنيه، ازدرد ريقه متخوفًا و هو يهمس نافيًا ما قد خطر ببالهِ:
- لأ.. لأ.. مستحيل
و نهض عن جلستهِ، سحب بنطالهِ و ارتداه من فورهِ، ثم دار حول الفراش ليتحرك و لكن تيبّس جسده بأكملهِ بمحلهِ و نظراته تتبع ذلك الخيط من الدماء القاتمة حتى وصل لباب مرحاض غرفته المفتوح، حملقت عيناه و قد شعر بجفاف حلقهِ، ثم خطى يقدم خطوة و يؤخر الأخرى، حتى توقف على باب المرحاض فصرخ صرخة اهتزت لها جدران الغرفة:
- سهيــــــر!
و خطى نحوها و هو يتأمل جسدها شبه العاري و المُكتظ بالكدمات بلمحة خاطفة، حتى بلغ رسغها الملقى جوارها و الدماء تتفجّر منه بغزارة، فهدر و هو يجثو جوارها:
- سهيــر!
مرر ذراعه خلف عنقها ليرفع جسدها إليهِ و هو يطبق بكفه بحذر على ساعدها متأملًا جرحها الغائر:
- قومي يا سهير، قومي الله يخليكي، قومي قولي اني معملتش كده!
و ضرب عدة مرات على وجنتها الشاحبة برفقٍ:
- قومي يا سهير.. سهيـر!
......................................................
تلك الآلام الطاحنة بكامل جسدها استشعرتها حالما رمشت بعينيها و قد اخترقت الإضاءة الصادحة عينيها عقب ظُلمة مطولة لم تحطهما فقط.. بل و أحاطت كامل حياتها، شعرت بالدماء تفر من عروقها تمامًا و تلك اللحظات تعاد أمام عينيها كشريط سنيمائيّ مريب، تلاحقت أنفاسها و قد تضاعفت ضربات قلبها الصادرة عن الجهاز.. حتى تنبّهت لها الممرضة ، فأردفت برفقٍ و هي تمسح على كفها:
- سمعاني يا مدام.. مدام؟
انحرفت نظراتها نحوها ثم غمغمت بتحشرج هلِع:
- ابعديه عني.. الحقيني منه، هيـ..هيدبحني! الحقيني
أحنت الممرضة ناظريها عنها و هي تغمغم أسفًا:
- ربنا معاكي
و همّت بالمغادرة و هي تقول:
- جوزك هيموت من القلق عليكي برا!.. أنا هبلغه إنك صحيتي
نهضت "سهير" مستقيمة بظهرها من فورها و هي تنفي برأسها عدة مرات مستوقفة إيّاها:
- لأ.. لأ، أرجوكي لأ، متعمليش كده
توقفت الممرضة و التفتت نحوها، ثم دنت منها مجددًا لتقول محاولة تهدئتها:
- اهدي بس.. صدقيني هو خايف عليكي جدًا، مش هيعمل لك حاجة
سحبت "سهير" كفها إليها و قد غزت الدموع صفحة وجهها و هي تتوسلها:
- هربيني من هنا.. هربيني من هنا، هو اللي عمل فيا كده، هو اللي دبحني!
توسعت عينا الممرضة و هي تحملق بوجهها و قد بُهتت، رمشت عدة مرات و هي تغمغم بعدم استيعاب:
- هو دا؟
أومأت "سهير" بقهر مرير و هي تكاد تقبل كفها:
- أرجوكي تساعديني.. أرجوكي تخليني أمشي من هنا
سحبت الأخيرة كفها على الفور مغمغمة بحزم:
- انتي لازم ترفعي عليه قضيّة
و ربتت على كفها برفقٍ و هي تتابع مؤكدة:
- و أنا معاكي.. هقف جمبك و أشهد معاكي، صدقيني
هزت "سهير" رأسها مستنكرة ثم نطقت بتحسر:
- انتي متعرفيش حاجة، أنا مش عايزة غير أهرب من هنا.. الله يخليكي!
..........................................................
و باءت محاولاتهِ الجمّة للوصول إليها بالفشل، كان مستعدًا حتى لتقبيل قدميها لتصفح عنه و تريحه من عذاب الندم و أسواطهِ التي يُجلد بها، و لكنها غير موجودة.
رفع "يوسف" رأسهِ الملتصقة بالأرض منذ ما يقارب العشر دقائق عن المصلاة و قد دفن بها دموعه و توسلاتهِ الهامسة و استغفارهِ عن ذنبهِ الذي لا يُغتفر، و فور أن أنهى صلاتهِ انفجر باكيًا دفن وجهه بين كفيه و هو يميل بجذعهِ و قد أحنى كاهلهِ، غلطة واحدة منهُ بسبب توأمهِ أودت بحياتها و هي على قيدها، ترى كيف هي؟ و أين هي؟ و ما حالها؟.. و كيف يتمنى أن تكون عقب ما فعلهُ بها؟
فجأة نهض عن الأرضيّة.. نزح دموعهِ بعنف و برح غرفتهِ التي صارت تُطبق على أنفاسهِ بأكملها، و راح يخطو نحو غرفة أخيه، اقتحمها دون أن يبالي بالطرق عليهِ، فكان قد أنهى حمامهِ لتو و يُغلق أزرار قميصه، تعجّب "كمال" من ملامح أخيه المريبة فسألهُ ببرود و هو يمسح على خصلاتهِ المبتلة:
- مالك يا يويو؟ حاسس إن بقالك كام يوم مش على بعضك
فـ إذ بهِ يُطبق على تلابيبهِ و هو يهدر مستهجنًا:
- انت السبب!.. انت السبب يا كمال، انت السبب في كل حاجة
حملق "كمال" بعيني "يوسف" التي برزت الشعيرات الدموية القاتمة فيهما، تغضن جبينهُ و هي يحاول تخليص نفسه من قبضته أثناء قوله:
- انت اتجننت يا يوسف؟
فـ دفعهُ "يوسف" بعنفٍ ليحشر جسده بينه و بين الجدار و هو يحدجه بنظراتٍ لائمة قاتمة بينما الأخير يحدجه بحنق واضح، و كأنهُ يقف أمام المرآة.. نفس الوجه، نفس انحناءة الأنف، نفس تقويس الحاجبين، نفس تجعيد الجبين، نفس الصدغين، نفس الشفتين، نفس الطول، توأمًا متماثلًا، نفس لون العينين.. لم يختلفا.
قطع "كمال" لحظات الصمت السائدة و هو يردد مستوضحًا بامتعاض:
- في إيه يا يوسف؟ أنا أول مرة أشوفك بالشكل ده!
أرخى "يوسف" قبضته عنه و هو يلكم الجدار بجوار رأسهِ براحتهِ، ثم استدار و هو يجأر:
- بسببك عملت حاجة عمري اتخيلت إني أعملها، بسبب إني مشيت وراك زي الغبي!
ضاقت عينا "كمال" و هو يخطو نحوهُ، ثم احتوى كتفهِ بضغطة خفيفة و هو يقول مستفسرًا بفضول:
- و إيه هي؟
التفت "يوسف" ليحدجه بنظرات مُسعّرة، فأومأ "كمال" بحركة خفيفة و هو يحثّه على الحديث:
- اشكي لي يا يوسف.. قولي، ده أنا توأمك، محدش هيفهمك غيري!
فرّت تلك العبرة الحارة عن عينه و قد تقوست شفتيه قهرًا، تراخت ملامحه المتشنجة و هو يُفضى القول باختناق:
- قتلتها و هي عايشة يا كمال، خلصت عليها بدم بارد!.. دبحتها
حملقت عيناهُ و هو يسألهُ دون أن يرمش:
- مين؟ انت بتقول إيـه؟
فأجابهُ بشجنٍ و تلك النظرة المتحسرة تلوح في عينيهِ:
- سُهير
................................................................
احتواها الفراش، و ابتلعت الوسادة الظمأة دموعها و لم تكتفِ.. بل طالبتها بالمزيد و هي لم تكن بالبخيلة، تعبيراتها جامدة شاحبة كشحوب الموتى، و هي تحدّق بنقطة في الفراغ، لم تكن تتخيل يومًا أن من خفق قلبها من أجلهِ سيكون جلّادها، أن من كانت تود لو تهبهُ الحياة كان قاتلها، أن من سقطت في شباك عشقهِ البرئ كان ذئبًا بربريّا نهش منها ما أراد.
أدركت معنى الإذلال النفسي، معنى أن تخسر روحها فتظلّ معلقة بين السماء و الأرض رافضة الصعود بارئها، و كأنها بقايا أُنثى.. مجرد بقايا لا قيمة لها، فقدت ما لم تكن تملك غيرهُ، فقدت كل شئ بين ليلة و ضحاها لمجرد إرضاء شهوتهِ الحيوانيّة، و ها هي اليوم تقف على الأطلال.
تلمّست "سهير" أسفل بطنها.. أو منطقة الرحم تحديدًا و هي تطبق جفنيها شجنًا، ها هو قد ترك لها طفلًا ينمو بين أحشائها، طفلهُ الذي زرعه جبرًا داخلها، طفلهُ الذي سيظل يُذكرها ببلائها إن كتبت لهُ الحياة و أبصرت وجههُ، و لكنها لم تكن لتفعل.. ستتخلص من تلك الذكرى القاسية، ستسلب طفلهُ حق حياتهِ، ستسلبهُ حتى حق أن يرى النور بعينيهِ.
تنبّهت إلى تلك اللمسة الحانية أعلى كتفها، ففرقت جفنيها لتبصر خالتها الأرملة و التي لم يكتب اللهُ لها الإنجاب فكانت تعيش وحيدة بين أحضان منزلها حتى أتتها "سهير" لتحملها مصيبتها، كانت تحمل صحنًا من الحساء تتصاعد منهُ الأبخرة، التوت شفتيها ببسم هادئة و هي تمسح على وجنتها الباردة مغمغمة برفق:
- قومي يا حبيبتي، قومي اشربي الشوربة
نظرت نحوها بنظراتٍ خاوية من الحياة، ثم حادت ببصرها عنها و هي تقول بجفاف:
- مش عايزة
تركت الصحن أعلى الكومود الصغير ثم قالت مؤنبة إياها:
- يا بنتي حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده، بقالك كام يوم محطتيش لقمة في بوقك
و ربتت برفقٍ على كفها و هي تقول بعتاب:
- ذنبه ايه يا بنتي اللي في بطنك تعذبيه معاكي كده، قومي يا حبيبتي.. قومي و فوضي أمرك لربك، ده ربنا مبينساش عباده يا حبيبتي
نظرت "سهير" نحوها نظرة غريبة أتبعتها بقولها الحازم:
- مش عايزاه.. أنا هنزله!
توسعت عيناها و قد دوّت نبضاتها في أذنيها، حملقت بها بصدمة شديدة و هي تنطق بـ:
- يا لهوي! هتقتلي ابك في بطنك يا سهير، حرام عليكي يا بنتي
فهبّت مستقيمة في جلستها أعلى الفراش و هي تهدر بها و قد توهج وجهها:
- و هو مش حرام عليه، مش حرام عليه اللي عمله فيا؟
و أشارت بسبابتها و هي تصيح باهتياج:
- مش حرام عليه يعمل كده و يعيش حياته عادي و لا كأنه دبحني!
تهدل كتفيها قنوطًا و هي تنكس رأسها بتخاذل، ثم غمغمت معربة عن قلة حيلتها:
- يا ريت كان بإيدي أرجعلك حقك يا بنتي، لكن انتي شايفة.. العين بصيرة و الإيد قصيرة
فارتفع جانب ثغرها ببسمة هازئة و هي تغمغم بتهكمٍ مرير:
- حقي!.. من ده! حق إيه اللي هاخده منه؟
و أحنت نظراتها المكلومة و هي تستطرد بغلّ:
- مش عايزة القانون يجيب لي حقي، أنا هستنى أما أشوف ربنا و هو بيرجعلي حقي منه!
و عادت تستلقى بظهرها و هي تتقلب على جانبها لتوليها ظهرها، و قد عقدت العزم تمامًا على التخلص من ذلك الجنيـن.
.........................................................
تلك الحبوب نصب عينيها و هي تجلس على مقعد أمام المائدة، كلما تبسط كفيها لتخرج قرصًا منها تعود و تسحبهما إليها، حتى و أخيرًا رفعت ذقنها و هي تطبق جفنيها بجفاء، و راحت تخرج القرص الضئيل من الشريط، سحبت كوب المياهُ، القرص بكف و الكوب بالكف الآخر، و ما إن كادت تدس القرص في فاهها، حتى تركتهُ و تركت الكوب جانبًا و هي تستند بساعدها على الطاولة مرخية جبينها عليه و قد انسابت دموعها و هي تحيط بذراعها الآخر بطنها:
- مش قادرة يا خالتي.. مش قادرة أفرّط فيه، مش قادرة أقتله بدم بارد يا خالتي
حررت الأخيرة زفيرًا حارًا من صدرها و هي تنهض عن الأريكة القريبة لتخطو نحوها، ربتت عدة مرات على كتفها محاولة التخفيف عنها، فرفعت "سهير" أنظارها إليها و هي تردد مُتشبثة ببطنها:
- مش هيعرف حاجة عنه يا خالتي.. ده ابني أنا لوحدي، أنا اللي هربيه و أكبره و أعلمه، أنا اللي هاخده في حضني أول ما يشوف النور، أنا اللي هعيش سنيني اللي باقية عشانه و عشان يعيش، أنا اللي هحافظ عليه، مش هسيبه ياخده مني يا خالتي، مش هسيبه.. ده ابني أنا لوحـدي، ابني لوحــدي
و نهضت عن جلستها دافعة المقعد بانفعال، و راحت توفض نحو حجرتها، و لكنها قبل أن تفعل تسمّرت بمحلها حين دوّى صوت انخلاع الباب من مفاصلهِ ليهوى أرضًا، صرخت الخالة بارتعاد و خطت نحوها لتضمها إليها تلقائيّا حتى طلّ أخيهِا من خلفه، حملقت به خالتها غير مستوعبة سبب تواجده، و لكنها تكهنت أنه استمع إلى حديثها مع والدتهِ صباح اليوم، حينما احتمت "سهير" بنفسها في أحضان خالتها حينما مضى نحوها و هو يسبّها:
- جيبتيلنا العار يا سهير، جيبتلينا العار و راجعة بابنك في بطنك يا *******
و اجتذبها بعنفٍ من خصلاتها ليخلصها من بين ذراعيّ خالتها فهدرت بهِ الأخيرة متدراكة:
- استني يا محمد يا ابني، استنى انت مش فاهم حاجة
فهدر مهتاجًا:
- عايزاني أفهم ايه يا خالتي، البت دي حطت راسنا في الأرض
و نظر نحوها باحتدام و هو يشدد من قبضتهِ على خصلاتها:
- أبوكي بيموت يا سهير، أبومي بيموت بعد ما عرف بعملتك الو****، بيموت بسببك يا*****، و ديني لاكون غاسل عاري بإيدي
دفعها بعنفٍ للأمام دون أن يحررها و هو يأمرها:
- قدامي!
تلوت بين ذراعيه محاولة الخلاص منه و هي تحمى بإحدى ذراعيها بطنها من بطشهِ، ثم قالت من بين بكائها الحار:
- ارحمني يا محمد.. ارحم ابني يا محمد، و الله ما عملت حاجة، أنا معمعلتش حاجة يا محمد
و صوت خالتهِ من خلفهِ و هي تهدر به محاولة الوصول إليها:
- و الله يا ابني هي مظلومة، استنى يا محمد.. محمـــــد
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و قد شعرت بارتفع ضغط دمها بشكلٍ مفاجئ، تشوشت رؤيتها و شعرت بالظلام الدامس يلتهم ما حولها، فسقطت أرضًا حينما كان "محمد" قد خرج من الشقة غير مباليًا باحتجاجاتها، و ارتطمت رأسها بالأرضيّة ارتطامًا عنيفًا، فانطبق جفنيها و قد كان آخر ما همست بهِ:
- محـ..محمد، استني يا محمد
................................................................
ترجل عن السيّارة البالية التي استعارها لليوم فقط من أحد رفاقهِ بذلك المكان النائي للغاية و البعيد عن العيون أجمع.. و كأنهُ غابة أو ما شابه، دار حول مقدمة السيارة و و فتح بابها، اجتذبها بعنفٍ من ساعدها ليجبرها على الترجل أمامه و هو يخطو مبتعدًا عن السيارة وسط غمغمتها الممشوجة، حتى توقف عند نقطة ما و دفعها بعنفٍ أمامهُ لتخرّ على ركبتيها، وجهها المُصطبغ بالحمرة و أنفها المحمر المنتفخ و دموعها التي فاض وجهها بها تبيّنت له و لكنها لم تشفع لهُ..
حتى تحجرت ملامحها و هي تراهُ يستلّ سلاحهِ من ملابسه ليُسلط فوهتهِ على رأسها، فغرت شفتيها و قد شعرت بصعوبة في التنفس حين رأتهُ يرتكز بنظراته على بطنها، ثم أخفض السلاح قليلًا ليُصوبها نحوها، فأحاطتها بذراعيها و هي تهمس متوسلة:
- أرجوك يا محمد.. سيبني لغاية ما أولده بس، سيبني لغاية ما يشوف النور، الله يخليك يا محمد
فجأر بها مستهجنًا:
- عايزاني أسيب ابن الحرام ده يشوف النور، أنا هخلص عليكي و عليه، انطقي قبل ما أقتلك.. انطقي مين الـ**** اللي بعتي نفسك عشانه، انطقي
نكّست رأسها و هي تحنى نظراتها عنه، حينما كان يجأر راعدًا:
- انطقــي!
هزت رأسها نفيًا و الدموع تنحدر على وجنتيها، فزمجر "محمد" غيظًا و هو يسحب صمام الأمان، أطبقت "سهير" جفونها بعنفٍ و هي تحيط بطنها أكثر بذراعيها و كأنها ستحمى بذلك طفلها..
حتى استمعت إلى صوت الطلقة الصادح في الأرجاء فجعل سرب من الطيور تفرّ هلعًا، و لكنها لم تكن طلقة واحدة، بل طلقات عِدة أُطلقت و صدح الصوت المدوّي، فتحت "سهير" عينيها.. في البداية لم تشعر بأي ألم فتجعّد جبينها و هي ترفع نظراتها نحو "مُحمد"، حتى التفتت برأسها نحو مصدر صوت الطلقة التالية فشعرت بقلبها يهوي بين قدميها، تعلّقت أنظار "يوسف" بها و هو يقبل نحوها و قد سلّط فوهة السلاح نحو "مُحمّد"، ثم انحرفت نظراتهِ نحوه و هو يتوقف عن السير هادرًا بصوتهِ:
- نزل سلاحك يا محمد
فردد "مُحمد" محاولًا الدافع عن نفسهِ:
- انت متعرفش هي عملت إيه يا يوسف بيه، سيبني أخلص عليها و أغسل عاري بإيدي
اصطبغ وجههُ بحمرة قاتمة و هو يجأر و قد تشنجت عضلات عنقهِ:
- نـزل السلاح يا محمد
و هددهُ بسلاحهِ و هو يقول بحزم:
- و إلا الطلقة الجاية هتبقى في دماغك
انحرفت نظرات "محمد" المغتاظة نحوها، ثم أرخى قبضته عن سلاحه ليسقط أرضًا، و ردد مهددًا إيّاها:
- أنا مش هسيبـك.. مش هسيبك تفلتي بعملتك دي!
و عاد ينظر نحو "يوسف" و هو يُطبق أسنانهِ مرددًا من بينهم:
- حطت راسنا في الوحل يا يوسف بيه، سيبني أخلص عليها
و نظر نحوها بامتعاض و هو يكاد يُطبق على عنقها مرددًا:
- انطقي يا بت و قولي غلطتي مع مين؟
فجأر "يوسف" محذرًا إياه من التقدم خطوة أخرى بسلاحهِ:
- ابعـد عن مراتي يا محمد
الصدمة جمدتهُ في محلهِ، فانعطفت نظراتهِ الغير مستوعبة نحوه و هو يقول:
- مراتك؟.. انت يا يوسف بيه؟
أومأ "يوسف" و هو يقول مؤكّدًا:
- أيوة.. و لو عايزني أتجوزها رسمي حالًا فهيحصل!
ارتفع حاجبيّ "محمد" و هو ينقل نظراتهِ نحوها.. حينًا لوجهها و حينًا لبطنها، ثم أردف مذهولًا:
- الواد اللي في بطنها ده يبقى ابنك!
شددت من ضمّها لبطنها و هي تحنى بصرها مُطبقة على أسنانها و قد شعرت و كأنها خسرت طفلها كُليّا، تشعر و كأن ثانية إضافية ستمر عليها ستتخلى فيها عن وعيها تمامًا، تخيّلت نفسها تُزف إلى جلّادها، هي تعلم عائلتها جيدًا، سيلقون بها في براثنهِ غير مباليين بها، و لن يحاول أحدهم حتى الإنصات إليها إن حاولت الحديث، في حين ارتكز "يوسف" ببصرهِ عليها و هو يردد بشدوهٍ تام:
- ابني؟
و كأن قلبهُ سيثب عن محله و يخرج من أضلعه و هو يحملق بها غير مستوعبًا، حينما كانت "سهير" أبصرت ذلك الشئ الذي يلتمع أسفل ضوء الشمس المسلطة عليهم، سارعت بالتقاطهِ و نهضت عن الأرضيّة و هي تخطو عدة خطوات للخلف مصوبة السلاح بأيديها المرتجفة نحوهُ، ثم هدرت باحتدام:
- مش هبقى مراتك لو حطيتوا السكينة على رقبتي، مش هتاخد ابني مني يا يوسف.. مش هتاخده مني
أرخى "يوسف" قبضتهِ عن سلاحهِ ليسقط أرضًا و هو يكاد يخطو نحوها متوسلًا إياها:
- سهير اسمعيني.. أنا....
فقاطعتهُ و هي تهددهُ بالسلاح:
- متقربــش.. لو قربت مني هقتلك، هقتلك زي ما قتلتني، هقتلـك!
أخفض "يوسف" سلاحه و هو يستمر في الخطو نحوها بخطى بطيئة و كأنها خالية من الحياة و هو يستعطفها بنظراتهِ المتوسلة، و لكنها هزت رأسها بالسلب معربة عن رفضها و هي تستمر في التراجع هادرة بصوتها و كفيها المرتجفان يتشبثان أكثر بالسلاح الذي تهددهُ بهِ:
- هقتلك يا يوسف.. زي ما دبحتني هقتلك.. ابعـــد، ابعد هقتلك.. هقتلك
و أيضًا يستمر في الإقبال نحوها و قد انسدلت العبرات من مقلتيه المحتقنتين بالدماء رغمًا عنه، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تصرخ صرخة مدوية:
- مش هتاخده مني.. مش هسمحلك تشوفه.. مش هسمحـ..آآآه
لم تنتبه إلى حافة الجرف أثناء تراجعها للخلف فكادت تهوي منها لولا أنهُ هدر باسمها و هو يوفض نحوها:
- سهيــر!
و كان الأسرع في الوصول إليها حيث كان على مقربة منها، أحاط جسدها بين ذراعيه ليجتذبها إليه و ضمّها لأحضانهِ بانفعال و كأنه يحاول حمايتها، فتشنج جسدها بين ذراعيه و قد عادت مشاهد اغتيال برائتها نصب عينيها، فصرخت صراخٍ مدوي متشنج:
- لأ.. لأ.. ابعـد عني، ابعــــــد
حاول "يوسف" أن يُحكم حصاره حولها ليحتوى جسدها قسرًا بين ذراعيه، و لفارق القوة الجسمانيّة لم تتمكن من الفكاك منهُ.. فشعرت بقواها تخور رويدًا رويدًا و قد تشوشت رؤيتها و حلّ الإظلام محلها معتقدة أنها ستواجه نفس المصير على يديهِ، فلم تقوَ أن تظل محتفظة ببقايا وعيها، و آثرت أن تنجو بذهنها على الأقل.. من تلك الدنيا التي أتت عليها بما لم يتحملهُ بشـري.
...................................................................
صفعة مدويّة هبطت على صدغهِ لم يتأثر بها و لم تتحرك عضلة واحدة في عضلات وجههِ و هو يقف منكس الرأس.. ظلّ ثابتًا أمامه على الرغم من عُسر الموقف، حينما كان "يعقـوب" يجأر بأعلى صوت لديه و كأنهُ شعر أنه يرى ماضيه نصب عينيهِ:
- عايز تتجوزلي خدامــة!.. خدامة بنت خدامين، عايز ابن يعقوب الصياد يتجوز خدامة يا يوســف؟
كان عاقدًا كفيه معًا و هو يردد بعتاب جاف دون أن يرفع نظراته نحوه:
- دا اللي هامك يا بابا؟.. مش هامك الجريمة اللي ابنك عملها؟ مش هامك ضميري اللي بيعذبني ليل نهار؟ مش هامك إن حياة سهير متعلقة فيا؟ مش هامك إنهم ممكن يخلصوا عليها بسبب غلطتي أنا!
ضرب "يعقوب" براحتهِ على سطح مكتبه بعنفٍ بالغ و قد اتقد وجههُ بالدماء المحتقنة و هو يرد:
- اسمع يا يوسف.. البت دي عيلتها شوية *****، ارميلهم قرشين هما و البت كل شهر يعيشوهم و الموضوع خلص.. ما هيصدقوا
ارتفعت أنظار "يوسف" نحوهُ و قد شعر بدمائه تفور في عروقهِ و هو يهدر:
- و ابني يا بابا؟ ابني اللي بطنها عايزني أرميه هو كمان
حاد "يعقوب" ببصره عنه و هو يحرر رابطة عنقه و قد أصابه الاختناق، ثم أجابهُ بجفاف و هو يلوى شدقي بقسوة:
- دا اللي هيحصل.. مش هيبقى يوسف الصياد عنده ابن من حتة خدامة و لا تسوى
تراجع "يوسف" خطوة و كأن عقربًا لدغهُ.. أطبق أسنانه قليلًا ثم فرقهما ليردد من بينهما بتشكك مرتاب:
- قصدك إيه يا بابا؟
فنظر "يعقوب" نحوهُ نظرة معبرة أتبعها بقولهِ الغير مبالي:
- قصدي إن مينفعش ابن الحرام دا يشوف النور!.. هنخلي البت تنزله، و خلاص، الموضوع خلص!
و كأن بركانه الثائر انفجر فجأة في وجههِ فتطايرت الحمم من عينيه و هو يزأر بـ:
- مش هيحصل يا بابا.. مش هيحصـــل، دا ابني.. عايزني أفرط فيه بالسهولة دي؟
فجأر "يعقوب" في وجهه باستهجان:
- أومال عايزنا نتفضح؟ يوسف الصياد يبقى عنده عيل من حتة خدامة؟ الواد دا لو شاف النور أهلها مش هيسكتوا.. هيفضحونا في كل حتة لو متجوزتش البت دي، و ساعتها كل اللي بنيته في حياتي هينهار بسبب غلطة عيل طايش زيك
فضرب "يوسف" براحتهِ و قد تشنجت عضلات جسده بأكملهِ هادرًا:
- و الغلطة دي هصلحها يعني هصلحها.. هتجوزها و ابني هيتربى في حضني، و إن حكمت إني أسيب البيت و آخدها و نمشي من هنا هعملها يا بابا، أنا مش هسيب البت بعد اللي عملته فيها عشان حضرتك.. مش مهتم غير بسمعتك و منظرك وسط الناس، انما ابنك و لا حتى حفيدك يولعوا مش هامك
- انت عايز تتجوز خدامة و ابنها يتربى كمان معاك.. عايز يبقى عندك ابن من حتة شغالة عندنا؟
برزت عروق جبين "يوسف" و هو يشير بسبابتهِ مناطحًا إياهُ بالرأس:
- و هي الخدامة دي مش بشر زينا؟.. معندهاش روح زيي و زيك؟ معندهاش كرامة؟
ثم رفع ذقنه في وجهه و هو يردد مقوسًا شفتيه بازدراء:
- لأ.. انت عندك حق يا بابا، مينفعش الخدامة دي تتشبه بينا.. أو حتى بيا، عارف ليه؟ لأني أ*** من إنها تتحط في مقارنة معايا!
و سحب هاتفهِ عن مكتب والدهِ متهيّأً للرحيل غير مباليًا بصدمة والده و هو يلقى كلماتهِ الأخيرة في وجههِ:
- اعمل حسابك يا بابا، برضاك أو لأ.. أنا هتجوز سهير، اللي عايزه اعمله فيا.. لو عايز تطردني من الشركة اطردني.. و لو عايز تحرمني من الميراث احرمني
و أتبع قولهِ بكلماتهِ المشددة قاصدًا تأكيد قولهِ:
- لو عايز حتى تقتلني اقتلني.. أنا.. هتجوز.. سهير.. و ابني هيعيش و هيتربى في حضني.. في حضني يا بابا، و دا آخر كلام عندي
و شملهُ بنظرة قاتمة و هو يهمّ بالمغادرة:
- عن إذنـك
و رحل صافقًا الباب من خلفهِ، فتشنجت عضلات عنق "يعقوب" و هو يجأر:
- يوســف.. أنا مكملتش كلامي، استنى هنا
تهالك جسده على مقعده الجلدي الضخم خلف مكتبهِ و هو يمسح على وجهه، ثم غمغم:
- الماضي بيتعاد قدام عينيا.. لكن لأ، مش هسمح.. مش هسمح للماضي يتعاد تاني، مش هسمحلك تعمل كدا يا يوسف!
و راح يجرى اتصالًا عبر هاتفه بأحدهم و هو يدمدم سخطًا:
- خيبت ظني فيك يا يوسف، كنت فاكرك غير أخوك، انتو الاتنين طلعتولي.. كنت فاكر إنك خدت من أمك يا يوسف، لكن الواضح إنكم ورثتوني أكتر!
و ارتفع صوتهُ قليلًا و هو يتحدث بصرامة عبر الهاتف:
- ألو.. عايزك تشوفلي عروسة لابني يوسف، لأ.. مش عايزها غنية، مش هتوافق، أقصد يعني أنا عايز بنت تكون فقيرة لكن متعلمة، أيوة.. في ظرف يومين، بسرعة بـس
و صفق سماعة الهاتف الأرضيّ و هو يفرك ذقنهِ مرددًا بازدراء:
- كان نفسي في واحدة تليق بمقامك.. لكن مين اللي هتقبل تتحمل مصيبتك دي!
و خفتت نبرتهِ قليلًا و هو يتابع:
- زي ما بيقولوا.. نص العمى و لا العمى كلهُ، على الأقل هتكون متعلمة هعرف أنضفها و أخليها تليق بيك.. مش حتة خدامة!
....................................................................
.....................................
...........................................
...................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن