" الفصل التاسِع عشر"
مُمدّدة على فِراشها و كأنها على فِراش المـوت ، غزت التجاعيد صفحة وجهها و خط الزمن و المرض خطوطهما فوق ملامحها الجميلة فـ محت جمالها و صرامتها المعروفة بها ، أنهكها المرض و مصارعتها العنيفة معهُ في سنها هذا ، و صارت تود لو توافيها المنيّة فـ تلقى الراحة بعد حروبها الطاحنة التي خاضتها ، كانت مسالمة للغاية ، مستسلمة للمرة الأولى في حياتها منذ أن شهدت الحياة ميلادها ، و اليـوم.. ها هي تستشعر حوم ملك الموت من حولِها ، منتظرًا أن يأتيهِ الأمر النافذ من الله فيقبض روحها ، و تنتظر هي الأخرى موتها المحتوم .
سعلت عدة مرات فـ ناولتها " سُعاد" كوبًا من الماء على الفور ثم جلست أمامها على الفراش و هي تردد بعتابٍ ممزوج بالوجل:
- يا ماما الله يخليكي فكري تاني ، ايـه بس اللي بتقوليه ده؟
تناولت العجوز الكوب منها و شرعت ترتشف منه بمساعدتها ، حتى التقطتهُ " سعاد" مجددًا ما إن اكتفت والدتها ، و أسندته على الكومود العتيق بجوار الفراش ، حتى استمع لصوتها المتحشرج و هي تقول بلكنة صعيدية:
- حدتيني بلسان أصلك يا بتي.. مهتلويش لسانك علينا كيف الأجانب
ازدردت "سعاد" ريقها و هي تحني بصرها عنها ، ثم غمغمت بخفوتٍ حذر:
- دي كانت طريقة جوزي يا ماما الله يرحمه ، و أنا مش حابة أتكلم بغيرها
فـ استنكرت العجوز الصارمة ذلك تمامًا و هي تقول:
- وه!.. كيف يعني؟ بتفضلي جوزك على أهلك و ناسك؟
هزت رأسها نفيًا و هي ترفع نظراتها القلقة إليها ، ثم رددت بحذر:
- أنا مقصدش يا ماما ، بس لو سمحتي.. خلينا في المهم ، اللي بتقوليه ده يا ماما مستحيل ، اطلبي أي حاجة تانية و أنا أعملها
ردت عليها فـ استهجان و هي تقطب حاجبيها:
- ما هو دِه الموضوع يا بتي!.. رايدة بتك تتجوز من برات ناسها ؟ رايدة بتك تنسى أهلها كيف نسيتينا !
أطبقت " سعاد" جفنيها ضجرًا ثم عاودت تفريقهما لتردد بصوت ساخط:
- يا أمي.. انتي أكتر واحدة عارفة ان " رهيف" تطيق العمى.. و لا تطيقش "راشد" ازاي عايزة تجوزيهم؟
رفعت " العجوز" رأسها و هي تردد بنبرة حاسمة:
- مهتتزوجش بت بتي من برات العيلة ، مهتتزوجش راچل لا نعرف أصله و لا فصله في الزمن الأغبـر دهِ ، بتك مهتتزوجش غير ولد عمها
امتد كفها لتسحب كفها، و مررت ابهامها فوق بشرتهِ المجعدة و هي تهمس بتوسل:
- أرجوكي يا أمي ، أرجوكي متعمليش كده ، ترضي ان رهيف تعيش تعيسة؟
اجتذبت كفها بعنف من راحتها، و قست نظراتها نحوها و هي تتابع بجفاء:
- و ترضي روحي تتعذَب في جـبري "قبري"
فـ بادرت بالرد المتلهف:
- بعد الشر عنك يا ماما ، متقوليش كده عشان خاطري
تركت العجوز زفيرًا حارًا من صدرها أعقبته بكلماتها القانعة:
- أنا خلاص ، عارفة زين إن ميعادي جرّب ، الموت علينا حج "حق"
و سلطت نظراتها على وجه ابنتها التي انقبض قلبها بين أضلعها اثر كلمات والدتها:
- و نفسي أطمَن على حفيدتي جبل ما أجابل وجه كريم
رمشت " سعاد" بعينيها عدة مرات و قد تقوست شفتيها بألم بالغ ، أحنت بصرها عنها و قد أُدمي فؤادها من كلماتها ، فـ قد فقدت زوجها و قرة عينها ، هي تعلم جيدًا مرارة الفقد و لا تود تكرار تلك التجربة التي لن يُقارن ألمها بالألم المُقبل ، فـ تلك المرة الفقيدة والدتها و أقرب إليها من حبل وريدها ، تمعنت العجوز النظر لوجهها في محاولة منها سبر أغوارها ، ثم أردفت بصوتها الضعيف:
- جولك إيـه يا بتي؟
زمت "سعاد" شفتيها و هي محنية بصرها ، ثم سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهل دون أن تجيب ، فـ غمغمت العجوز معاتبة:
- و ماله راشد يا بتي؟ يعيبه إيه عاد ؟ راچل ولد راچل، ديه ولد أخوكي!.. هتلاجي لبتك أحسن منيه كيف؟
هزت رأسها نفيًا و هي ترفع نظراتها إليها ، ثم رددت بصوت حارق:
- يا أمي الحكاية مش كده ، أنا عارفة راشد كويس ، و مش ممانعة أبدًا ان يبقى جوز بنتي ، لكن رهيف هي اللي مش هترضى!
فـ قست نبرة العجوز و هي تردد بسخط واضح:
- وه وه وه ! مين ديه اللي مهترضاش يا سعاد يا بتي؟ و من ميتى و احنا بناخد رأي بناتنا، بتك دي ماعجبنيش حالها يا سعاد، لا عرفتي تربيها ، ولا هتعرِفي تزوجيها ، أنا هسلمها للي يصونها و يحميها
فـ اعترضت على قولها و قد عقدت حاجبيها بضيق:
- يا ماما ده كان زمان ، دلوقتي البنت من حقها تختار شريك حياتها و اللي هـتعـ...
فـ اقتطعت حديثها بقولها الصارم:
- هي كلمة يا بتي و مفيش بعد جـولي جول، بتك هتتجوز ولد عمها "راشـد" ، لا هتجوليلي تختار و لا موافجتش!
..................................................................
و گأنها سكبت بنزينًا فوق نيرانهِ ، احتدمت الدماء بأوردته و برزت بوضوح بجانبيّ راسه ، التهب وجهه گكتلةٍ متقدة و هو يحدجها بنظراتٍ مستشاطة ، حتى مضى نحوها هادرًا بسخط:
- انتي اتجننتي؟ جوز بنتي مين اللي هنا ؟ انتي بتقولي إيـه؟ مش مات و ارتاحنا منه و من خلقة اللي جابوه
فـ افترّ ثغرها عن ابتسامة باردة و هي تردد بارتياح متعمدة استفزازه:
- مات!.. بعد الشر عنه ، الحمد لله ربنا نجاه
فـ جأر بها محتدمًا و هو يشيح بذراعه:
- ربنا نجاه ايه!.. ربنا ياخده ، و جايباه يهبب إيه في بيتي ان شاء الله ؟
فرفعت كتفيها للأعلى بلا اكتراث و هي تغمغم:
- و هيكون ليه يا حسين؟ ما انت عارف انه تعـ..
فـ أطبق على عضدها و هو يجتذبها إليه فلفحت أنفاسه المحتقنة وجهها أثناء قوله الساخط:
- اسمعي يا حبيبة! كلمة واحدة الواد ده لو مطلعش من بيتي ، أنا بنفسي اللي طلع منه
فـ غرست نظراتها المستهجنة بين عينيه و قد تشرّبت وجهها بالحمرة:
- يعني إيـه؟ هتسيب بيتك و هتسيبنا؟.. هتسيب بنتك في ظروفها دي؟ هتتخلي عنها تاني؟ هتتخلي عن عيلتك تاني و تسيبنا نتمرمط لوحدنا؟.. و لا انت ما صدقت لاقيت سبب تطفش بيه من البيت؟
فـ ردد بصوتٍ جهوري متعمدًا الضغط على أحرف كلماتهِ:
- هي كلمة ،.. يا أنا يا الواد ده في البيت ده ، خلصانة!
كوّرت قبضتها بقوةٍ و فتركت أظافرها آثارًا في باطن كفها ، كزت على أسنانها بعنفٍ و هي تعطف نظراتها المتحدية بين عينيه ، ثم رفعت ذقنها بشموخٍ و هي تهتف بصوتٍ ناقم:
- يامن مش هيطلع من بيتي في حالته دي قبل ما يفوق ، و اللي عندك اعمله يا حسين
تأججت النيران في صدره و قد توهجت عيناه اثر قولها ، انفرجت شفتاه ليصيح باستهجان:
- يعني بتفضليه عليا؟.. بتختاري ابن يوسف يا حبيبة؟
فـ هدرت بتشنجٍ و هي تتلوى بذراعها محاولة اجتذابه من قبضته:
- أيـوة ، أيوة بختاره ، بختار ابن يوسف عشان ندمانة اني مخترتش يوسف زمان ، انت كده ارتحت؟.. خلاص ارتحت؟
دفع جسدها بعيدًا عنه و هو يجأر بصوتٍ ارتج جدران المنزل اثره:
- أنا لولا بناتي كان فاتني مطلقك على كلامك و مرتاح من قرفك
و مضى نحو باب الغرفة ليطرق عليها بعنفٍ و هو يصيح باهتياج:
- افتحي يا بت الباب ده! افتحي أحسنلك بدل ما أكسره فوق دماغك
أزاحت كفيها عن وجهها و هي تهدر بتشنجٍ من بين شهقاتها التي تركت عنانها لتعلو:
- ارحمـوني بقى ، ارحمــــوني
فـ ردد مستهجنًا و هو يسبه بأقذع الألفاظ:
- ارحمـك؟ أرحمك و انتي جايبالي الـ×××× ابن الـ×××× في نص بيتي؟
أطبقت جفنيها بعنفٍ لتنهمر الدموع من بينهما في قهر ، فـ هددها مجددًا و هو يقرع الباب بعنف:
- افتحي بدل ما أكسر الباب عليكي ، افتحي
فهدرت باستنكار من بين شهقاتها:
- و عايزني أفتح ليه؟ هتعمل ايه فيه؟.. هتقتله!
- بقولك افتحي الزفت أحسنلك
هرعت "حبيبة" نحوه و هي تحاول اجتذابه من أمام غرفتها هادرة بصوتٍ قاتم:
- كفاية بقى ، كفايــة
دفع جسدها بعنفٍ فـ ارتد جسدها و اختل توازنها ، و سقطت أرضًا ، استدار " حسين" و هو يحدجها بنظراتٍ محتقنة ، كز بعنفٍ على أسنانه مشددًا على عضلات فكيه ، ثم ركل الباب ركلة عنيفة و هو يزمجر غاضبًا ، و مضى بخطى متشنجة نحو الباب و هو يردد ناقِمًا:
- يلعن أبو اليوم اللي اتجوزتك فيه يا شيخة
و استأنف سبهِ و هو يسير نحو الباب حتى خرج صافعًا له بعنفٍ.
........................................................................
زفرت حانقة و هي تترك حقيبتها أعلى الكومود ، ثم جلست على طرف الفراش تستعيد اللقاء بذهنها و تفاصيله الدقيقة ، و لم تتمكن من أن تتغلب على ابتسامتها و هي تبسط كفها أمام عينيها متذكرة قبلتهِ عليه ، و لكن تلاشت ابتسامتها و حل التجهم محلها حين استمعت إلى صراخ زوجها الهادر ، فنهضت عن الفراش و راحت تخطو نحو الخارج و قد تغضن جبينها و لكنه كان قد استبقها و دلف صافعًا الباب خلفه بعنف فرددت مستفسرة و هي تتأمل حالته:
- إيـه يا كمال؟.. مالك بتزعق كده ليه
تفاجأت به يجتذبها من خصلاتها بشراسةٍ و هو يرد بزمجرة:
- مش عايزاني أزعق بعد عملتك يا زبالة ؟ راحة متزوقالي عشان تقابلي البيه؟
انتفض قلبها بين أضلعها و هي تحاول تخليص خصلاتها من قبضته القوية مغمغمة بعدم استيعاب:
- هاه!.. انت .. انت بتقول إيه؟
تضاعفت شراسته، فلم يشعر بنفسهِ سوى و هو يصفعها صفعة عنيفة دون أن يفلت خصلاتها من قبضتهِ، هادرًا باهتياج:
- يا *******، و رحمة أبويا لاوريكي النجوم في عزّ الضهر
توهج وجهها و قد تشرّب بحمرة قانية، فارت الدماء في عروقها و هي تتلمس بأطراف أناملها، و قد شعرت و كأن أذنها تطنّ من فرط عنفهِ، فلم تصمت حينئذ، اتقدت عيناها، فراحت تردّ لهُ صفعتهِ من فورها و هي تهدر بهِ:
- انت نسيت نفسك يا ***! بتضربني!
تحوّل وجههُ لكتلة من النيران المتقدة، و باتت عيناهُ كجمرتين مستعرتين و هو يحدجها بنظراتٍ قدحت شررًا، و ما لبث أن جأر بصوتٍ شعرت بجدران الغرفة ترتجّ إثرهِ:
- بتمدي إيدك عليا يا بنت الـ*****!
تفاقمت شراستهِ و قد شعر بدمائه تغلي غليًا في أوردتهِ، فشرع يُفرغ شحنة الغضب المختزنة بداخلهِ في جسدها، و هو يسدد لكماتٍ عنيفة لأنحاء جسدها، و صفعاتٍ عدة لوجنتيها، دون حتى أن يفلت خصلاتها فلم يمنحها فرصة الفرار، حاولت "هدى" أن تتصدى لهُ، و لكنها فشلت إثر اهتياجهِ الغير معهود، فلم تجد سوى الصراخ المتألم، حتى أفلت خصلاتها أخيرًا، فأسقطها أرضًا و هو يركل جسدها بعنفٍ غير مسبوق معها، تكوّرت "هُدى" متقوقعة على نفسها، محاولة تجنب ركلاتهِ المنفعلة، و هي تستأنف صرخاتها المتألمة، محاولة إخفاء وجهها الذي اكتظّ بالكدمات و الخدوش البارزة بساعديها، حينما كان هو يزأر بسخطٍ:
- نسيتي نفسك يا بنت الحواري!.. نسيتي نفسك و بتمدي إيدك عليا يا بنت الـ****، و عزة جلال الله لعرفك مين هو "كمال الصياد" على حق يا *****
و ركلها ركلة أشد عنفًا و هو يهتف بوحشية:
- ما الواطي بيفضل طول عمره واطي ، بس أنا مش زي أخويا يا****** ، مش عبيط شبهه و هتخونيني من وراه و أنا مش هعرف!
و أخيرًا.. ركلها ركلة أخيرة حين استمع إلى تلك الطرقات على باب الغرفة ، التقطت "هدى" أنفاسها بصعوبة و قد شعرت بطعم الدماء الدافئة تغزو شفتيها، و قد بحّ صوتها من فرط الصراخ، و آلمتها أحبالها الصوتية، فكفّت عنه، مكتفية بأنين خافت صدر عن فاهها، حينما كان يشملها بازدراء و هو يبصق فوقها مطلقًا سبة نابية، و قد نهج صدره علوًا و هبوطًا من فرط إنفعالهِ ، ثم مضى نحو باب الغرفة و أدار مقبضه و عينيهِ تقدحان شررًا ، فـ كانت احدى الخادمات أمامه بوجهها الشاحب و عينيها المتسعتين و هي تغمغم بارتباك متلعثم مشيرة بكفها:
- كـ..كمال بيه ، البـ.. البوليس برا و عايز حضرتك!
ارتخت تعبيراته المشدودة قليلًا و قد احتلتها الصدمة التامة ، حيث فغر شفتيه و قد اتسعت مقلتاه ، و سريعًا ما تجعد جبينه و هو يهدر ساخطًا:
- انتي بتقولي ايه يا مجنونة انتي؟
ازدردت ريقها بصعوبة و هي تغمغم بصدق:
- و الله يا بيه ، البوليس عايز حضرتك برا
فـ دفعها بعنفٍ من كتفها و هو يمضي من جوارها صائحًا:
- حاسبي
و أسرع في خُطاه نحو باب القصر الخشبي ، تيبس جسده و هو يمرر النظرات فيما بينهم ، فـ أردف أحدهم بتهكم:
- أهلًا كمال بيه؟
تسلطت نظراته عليه و هو يهتف بنبرة مشتدة:
- خير يا حضرة الظابط ، في إيـه؟
فغمغم ساخرًا:
- خير ان شاء الله يا كمال ، مطلوب القبض عليك
و أشار للفردين الآخرين مرددًا بلهجة آمرة:
- هاتـوه على البوكس
دنا الاثنين منه و حاولوا تكبيل حركته ، فـ انتفض محاولًا الخلاص منهم و هو يهدر مستهجنًا و قد اتقدت نظراته:
- انت بتقول إيـه؟ أنا معملتش حاجة ، انتو مجانيـن؟
فـ ردد الضابط بلهجة صارمة:
- اللي بتعمله مش هيفيدك ، تعالى معانا بالزوق أحسن ما ناخدك بالعافية
خبت مقاومته قليلًا و لكن ظلت نظراته متوهجة و هو يهتف مستنكرًا:
- تقدر تفهمني ليـه؟.. و لا دي كمان مليش حق أعرفها
فـ ردد الأخير بصوتٍ محتدم:
- متحرر محضر فيك من قِبل ابن أخـوك.. "يامن الصياد"
شعر بأطرافه تتثلج و قد شُلّت عضلات لِسانه ، اتسعت عيناه بذهولٍ غير مستوعب ، حتى استطرد الأخير و هو يشير إليهما:
- هاتـــوه
فـ تحفزت خلاياه مجددًا ، انتفض من بين أيديهما المكبلة له و هما يقتادانهِ هادرًا بنبرة قوية:
- الكلام ده كذب ، أنا معملتش حاجة ، أنا مكذبتش ، هو اللي بيداري على مراته يا حضرت الظابط
فـ أردف و هو يسير من أمامهم حتى سيارة الشرطة بنبرة صارمة:
- اللي عندك قوله قدام النيابة
أصابهُ الاشمئزاز و هم يقتادونه حتى صندوق السيارة ، فـ هتف متوسلًا الأخير:
- طب.. طب اسمحلي أركب عربيتي ، و أنا هاجي وراكم على القسم
التوى ثغر الضابط ساخرًا و هو يلتفت نحوه ليتشدق قائلًا:
- اطلع يا كمال بيه في الصندوق ، متخلينيش أحطلك الكلابشات !
ازدرد ريقه و قد شعر بقلبهِ يكاد يبلغ حنجرته ، حتى بلغوا به السيارة ، فـ رفع قدمه على مضض ليتخذ محله لفي صندوق السيارة ، و صعد الاثنين من خلفه ، ثم شقّت السيارة طريقها فوق الممر ، إلى المخفـــر .
..................................................................
استعطفتها بنظراتها قبل أن تغمغم متوسلة و هي تقدم إليها ملعقة الحساء الساخن الذي يتصاعد من الأبخرة:
- طب عشان خاطري ، عشان خاطري أنا يا حبيبتي
هزت رأسها نفيًا و الدمُوع تتسابق للفرار من عينيها:
- مش عايـزة يا ماما ، ماليش نفس لحاجة
تركت " حبيبة" الملعقة في الصحن أعلى المائدة_ اللاتى يلتففن من حولها _و قد أصابها القنوط ، ثم رددت و هي تحتضن وجهها بكفيها:
- انتي مش شايفة شكلك بقى عامل ازاي؟
عقدت حاجبيها قهرًا و قد فرت الدموع من عينيها رغمًا عنها ، ثم دفنت وجهها بين كفيها مبعدة كفي والدتها و هي تنتحب بأنين مسموع ، فـ تهدل كتفي "حبيبة" و هي تغمغم محاولة اجتذابها لأحضانها و هي تحيطها بذراعيها:
- يا بنتي حرام عليكي ، قطعتي قلبي و الله
دفعت "يارا" كفيها بعيدًا و هي ترفع عينيها الدامعتين إليها تردد متشنجة من بين شهقاتها:
- أنا مش فاهمة أنا عملت إيـه؟.. عملت إيه عشان أستاهل منه الشكوك دي؟ عملت إيه عشان أستاهل المعاملة دي منه ؟.. عملت إيه عشان أبقى أنا و بس المذنبة ! ها؟.. تقدري تقوليلي ؟
تركت "حبيبة" زفيرًا حارًا من صدرها و قد أحنت بصرها عنها فـ أردفت "ولاء" الجالسة على المقعد المترأس الطاولة و المقابل لـ "حبيبة" بنبرة محتدة:
- أنا كنت متأكدة ان ده هيحصل ، إيه يا يارا؟.. هو كل حاجة بابا الغلطان ؟.. هو بابا عمل إيه يعني؟ ما كان لازم يكون ليه رد فعل بعد اللي عملتوه انتي و ماما!
أشارت " يارا" بعينيها المحتقنتين نحو شقيقتها و هي تردف بـ فتور واضح:
- و عملت إيه عشان أرجع ألاقي أختي كارهة حتى تبص في وشي ، و مهانش عليها حتى تقولي كلمة عدلة تخفف بيها عني!
ارتفع حاجبي "ولاء" و هي تهمس باستنكار مرة النظرات بينها و بين والدتها:
- أنا!
فـ رددت "يارا" بلومٍ واضح و هي تنظر نحوها بنظرة ذات مغزى:
- بدل ما حتى تيجي تطبطب عليا، تروح توريني الكلام اللي بيتقال عني !
حملقت "حبيبة" بـ "ولاء" و هي تردد باستهجان:
- انتي عملتي كده؟
أحنت "ولاء" بصرها و هي تردد بصفو نية:
- انا مكنش قصدي ، كنت عايزة أوعيها و ..
فـ ضربت "حبيبة" براحتها فوق سطح الطاولة و قد احتدمت نظراتها نحوها مقاطعة باحتداد:
- لا يا ولاء انتي عارفة كويس انتي بتعملي ايه.. لأنك حبيبة أبوكي و حبيتي تاخدي اعتباره من اختك عشان كانت السبب في إنه يسيب البيت ، صح و لا لأ؟
فـ احتجت "ولاء" بـتجحٍ و هي تشير بكفها:
- انا مغلطتش!، أنا عملت الصح عشان تعرف كويس ان مفيش حد هيفهم حاجة ، الناس مش هتبطل تتكلم عليها و ..
فـ اقتطعت "حبيبة" قولها و قد استشاطت غيظًا:
- بردو هتقوليلي الناس!.. صدق اللي قال ان الكبيرة بتطلع لأبوها في كل حاجة
غامت عينيّ "يارا" بـ ألم بالغ و هي تنظر نحوها بمرارة ، انسالت الدموع من عينيها و هي تغمغم بعتابٍ واضح اختلطت نبرته بالتهكم المرير:
- أنا عارفة كويس انتي بتفكري ازاي يا ولاء، أختك اتطعنت في شرفها و اتفضحت و سيرتها على كل لسان ، يا ترى مين هييجي يتقدم لك؟ مش ده تفكيرك و لا أنا غلطانة!
ارتبكت على الفور و هي تحني بصرها عنهم ، و راحت تعبث بأصابعها و هي تردد بتلعثم:
- لأ طبعًا إيه اللي بتقوليه ده
- و بكده أختك نجحت تدمر حياتك ، قولتي تحاولي تنتقمي من اللي عملته فيكي بأي شكل
رفعت نظراتها نحوها و هي تردد بضيق عاقدة لحاجبيها:
- انتي فهماني غلط ، مش ده قصدي
فـ حادت "يارا" ببصرها عنها و هي تبتسم بسخرية قائلة بفتور:
- خلاص يا ولاء ، أنا فاهمة كل حاجة كويس ، مجتش عليكي يعني
و خبت نبرتها و هي تحني بصرها محاولة التغلب على دموعها و ذلك الاختناق الذي غزا صوتها:
- ده حتى الانسان الوحيد اللي وثقت فيه من العيلة دي.. طعنني في ضهري زي ناس كتيـر
شعرت برغة عارمة في البكاء الحارق.. الصراخ.. التبرير.. الحديث.. إفراغ ما بجبعتها ، و لكنها كبحت ذلك بصعوبة ، تظاهرت بالجمود و هي تنهض عن جلستها ، فـ رددت " حبيبة" تستوقفها:
- استني يا حبيبتي ، بلاش تقعدي لوحدك و انتي في حالتك دي!
فـ رددت و هي تخطو نحو غرفتها:
- متخافيش ، مش هنتحر ، خلاص حرمت!
و صمتت هنيهة، ثم تابعت بنبرة ساخرة:
- و بعدين أنا مش لوحدي!.. معايا جوزي
و صدرت عنها همهمة متهكمة معقبة كلماتها بها، و دلفت موصدة الباب من خلفها ، ثم خطت نحو فراشها حتى توقفت بجواره ، تسلطت نظراتها على المحلول الذي كاد ينفذ ، ثم أحنتها لتتسلط على قسماتهِ الصلبة ، سحبت مقعدًا من أمام مكتبها الخشبي ، و جلست بجواره ، ثم غمغمت ساخرة و هي تعقد ساعديها امام صدرها:
- كنت غلطانة!.. كان لازم أعرف إن أخوك يعني شبهك في كل حاجة ، آمنتله و وثقت فيه ، لكن كلكم خونة!
و تلاشت السخرية من نبرتها و قد تقوست شفتيها بحزن ، أحنت بصرها و قد انسدلت الدموع من بين عينيها ، ثوانٍ و راحت شهقاتها تعلو ، فـ راحت تضم ساقيها إلى صدرها لتدفن رأسها فيهما و هي تغمغم بـ حُرقة من بين أنّاتها:
- كل اللي وثقت فيهم خانوني ، كل اللي آمنتلهم اتخلو عني ، كل اللي حبيتهم و ضحيت عشانهم اتهموني بأبشع التهم، كلهم باعوني ، كلهم!
و رفعت أنظارها إليه و هي تبتسم بمرارة:
- انت كنت صح يا يامن بيه!.. انت كنت صح ، أنا مكنتش عايشة في الدنيا فعلًا ، مع اول مشكلة حقيقة قابلتها ، عرفت.. اني كنت عايشة في حلم متقدرش ليا إني أحققه ، حلم.. صحيت منه على أبشع كابوس!
.............................................................
لم يكن لها خيارًا آخر.. فقد يأست من محاولة الوصول لشقيقتها الكُبرى "ولاء" ، كما أن توجسها قد بلغ أشده، و توترها لمعرفة ما حدث بلغ ذروته .
رفعت "رهيف" قبضتها المتكورة و هي تسحب شهيقًا عميقًا لصدرها ، تزامن طردها له مع قرعتها الأولى على الباب ، ثوانٍ و أعادت الكرة حتى فتحت لها تلك السيّدة الباب ، أحكمت "حبيبة" حجابها المنزلي و تشبثت به و هي تدقق النظر في من أمامها متأملة ملامحها ، فـ مررت نظراتها على وجهها المستدير و حجاب رأسها ذو اللون الفيروزي الذي تمردت بعض خصلاتها الكستنائيّة عليه و برزت من أسفله،.. عينيها السوداوين و أنفها المعقوف ، و شفتيها المكتنزتين اللتان لا تحتاجان لطلاء الشَفاه ، ضيقت "حبيبة" عينيها و هي تتأمل ملامحها الرقيقة حتى رددت مستوضحة:
- أنا حاسة إني شايفاكي قبل كده
أجبرت "رهيف" شفتيها على الابتسام و هي تغمغم بحرج:
- ازيك يا طنط حبيبة؟.. أنا رهيف ، صاحبة يارا!
توسعت مقلتاها و هي تهمس متعجبة:
- رهيف؟
أومأ "رهيف" بحرج و هي تجيبها بتلعثم عابثة بحقيبتها:
- أنا بعتذر جدًا لحضرتك إني جيت من غير ميعاد ، لكن كنت حابة أتطمن على يارا
تغضن جبين "حبيبة" و هي تتنجى جانبًا لتردد مرحبة بحفاوة:
- متقوليش كده يا حبيبتي ، تعالى اتفضلي ، ده بيتك و مطرحك
خطت " رهيف" على استحياء للداخل ، فـ أشارت "حبيبة" للأريكة و هي تستبقها:
- تعالي يا رهيف ، اتفضلي
جلست "رهيف" تاركة حقيبتها الصغيرة بجوارها و هي تردد ممتنة:
- متشكرة يا طنط ، أنا كنت..
فـ أشارت إليها بكفها مستوقفة إياها عن الحديث:
- قبل أي حاجة قوليلي ، تشربي إيـه؟
هزت رأسها عدة مرات نفيًا و هي تبادر:
- لا لا ، حضرتك مش عايزة حاجة خالص و الله ، أنا بس كنت جاية عشان أسألك على يارا ، أنا .. أنا كنت عايزة أسأل حضرتك لو عرفتي أي حاجة عنها ، بصراحـة أنا ..
اقتطعت "حبيبة" حديثها و هي تجلس بجوارها متمعنة النظر لملامحها:
- انتي اللي يارا كانت معاكي.. مش كده يا رهيف؟
تنغض جبين "رهيف" و هي ترمقها بتساؤل ، ثم غمغمت متعجبة:
- حضرتك عرفتي ازاي؟
التفتت "حبيبة" لتنظر حيث باب غرفة ابنتها الصغرى ، ثم عاودت النظر إليها دون التفوه بحرف ، بينما كانت " رهيف" تحاول تبرير موقفها و قد حررت زفيرًا عن صدرها:
- أنا بصراحة كنت جاية أحكيلك ده أولًا.. يارا فعلًا لجأت لي ، و حكتلي كل حاجة حصلت معاها ، و عرفت إن.. إن يعني محدش يعرف بوجودها معايا ، و.. و جيت هنا عشان أطمنك عليها ، لكن.. لكن للأسف قابلت جوزها و هو نازل من هنا ، و لاقيت نفسي بقوله إني عارفة مكانها ، أنا عارفة إن اللي عملته غلط ، و حاولت كتير أتصل بولاء لكن مش بترد ، قلقت جدًا.. فـ.. فقولت أسأل حضرتك ممكن تكوني عرفتي حاجة عنها
استوقفت "حبيبة" سردها و هي ترفع حاجبيها مغمغمة:
- انتي قولتي ايـه؟.. انتي اللي قولتي لـ "يامن" على مكان "يارا"
ازدردت " رهيف" ريقها بتوتر رهيب و هي تخفض ناظريها للأسفل ، ثم تمتمت بصوتٍ متلعثم:
- ايـ..أيوة يا طنط ، أنا
ثم رفعت أنظارها إليها مجددًا و قد تقلصت عضلات وجهها بارتباك:
- انتي بتقلقيني ، عرفتي حاجة عنها ؟ أرجوكي تقوليلي انها كويسة ، أنا.. أنا حاسة بذنب رهيب و ضميري تاعبني أوي ، أنا بجد مكنتش أقصد اقول لجوزها حاجة
فـ ربتت برفقٍ على كفها و هي تحاول تهدئتها:
- لا متقلقيش يا رهيف ، هي كويسة يا حبيبتي ، خير ما عملتي
هزت "رهيف" رأسها بعدم فهم ثم رددت مستوضحة و قد بلغ قلقها ذروته:
- ها؟.. حضرتك عرفتي ازاي ؟ هي كلمتك؟
و توسلتها بلهجة متلهفة:
- طب طمنيني عليها ، قالتلك إيه؟ و حصل لها إيه ؟ جوزها عمل إيه فيها لما خدها ؟ أنا هموت من القلق يا طنط أرجوكي تقوليلي
افتر ثغر " حبيبة" عن ابتسامة باهتة و هي تلتفت لتشير إلى باب غرفة ابنتها:
- تقدري تطمني عليها بنفسك و تسأليها و هي توضح لك
........................................................................
رائحة نتنة و أصواتٍ فظة و ملامح غير واضحة من كثرة الندوب التي تملأها ، ان أخبرهُ أحدهم مسبقًا بأنهم سـ يتواجد بمكانٍ كهذا لكان قهقه ساخرًا منه ، و الآن هو يقف وسط كل ذلك بعد أن تم زجه بالحبس ريثما يُعرض على النيابة ، بملابسه و هيئته المرموقة و ملامحه الوسيمة.. كان محط الأنظار، أوصد الباب من خلفهِ بعدما أُلقي في الداخل ، فـ التفت ليتسلط بناظريه المشدوهين عليه غير مستوعبًا أنه بات داخل ذلك المكان القذر، غير مدركًا ما يجري من أحاديث جانبية ، فكان أحدهم يردد و هو يلكز الآخر في جانبه:
- شايف الراجل الكوبارة ده؟
تغضن جبينه و هو يتسلط بناظريه عليه ليشمله من رأسهِ حتى أخمص قدميه:
- أيوة شايفه ، ده شكله ابن ذوات أوي
مرق أحدهم من جوار " كمال" و تعمد الاصطدام بهِ ، فـ انتفض الأخير و هو يحملق به عائدًا للخلف ، اعتلى الاشمئزاز صفحة وجهه و هو يشمله من رأسهِ حتى أخمص قدميه صائحًا بتشنج و هو ينفض ذراعهِ:
- إيه يا بني آدم؟ ما تبص قدامك و انت ماشي
أشاح الأخير بذراعه هادرًا بتبجح:
- إيه يا عمنا؟ حد جه جمبك؟ انت ماشي تخبط في الخلق و هتفتري علينا
تغضن جبين "كمال" و هو يردد مستهجنًا:
- أفترى على ميـن؟ أنا جيت جمبك
فـ ردد الجالس بالخلف مستنكرًا و قد اشتدت عضلات وجهه:
- الله الله! ده شكله هيتفرعن علينا و يشوف نفسه
ابتسم رفيقه بخبثٍ و هو يردد فاركًا كفيه بتحفز:
-لأ ده احنا نعلّم عليه بقى!
استحسـن إجابته فـ افتر ثغره عن ابتسامة ناقمة و هو ينهض آمرًا:
- قـوم معايا
و مضى نحوه و هو يجأر بصوتهِ الرجولي المحتد:
- في إيه يا أشرف؟ حد داسلك على طرف و لا إيه؟
فـ أشار "أشرف" نحوه و هو يردد بنبرته الفظّة:
- الراجل ده شايف نفسه علينا يا كبيـر ، ماشي يخبط فينا و لا كأننا حيوانات قدامه ، لا و فاتح زوره علينا!.. ده يرضيك
تأمله من رأسه حتى أخمص قدميه بنظرات عابثة ثم أردف و ابتسامته تتسع:
- لا طبعًا ميرضينيش
مرر "كمال" النظرات بينهما و هو يردد محتدمًا و قد اندفعت الدماء في عروقه:
- هو إيه ده اللي يرضي و ميرضيش!.. بقولك إيه ياض انت و هو ! حلو عن سمايا انتو متعرفونيش
كشّر ثالثهم عن أنيابهِ و هو يهدر محتدمًا:
- ياض!
و أشاح لمن حوله مرددًا بصوتٍ جهوري محاولًا الدفاع عن كبيرهم:
- ده بيقول على المعلم ياض!..قوموا يا رجالة
و بلحظةٍ كان الجميع من ذوى الأجساد القوية و الملامح المحتدمة يلتفون من حولهِ بوضع متحفز ، أغلهم يشمرون عن سواعدهم منتظرون الأمر للانقضاض عليه، فـ مرر النظرات بينهم بينما كان الأخير يـ ندفع نحوه قابضًا على تلابيبه مغمغمًا بنبرة ناقمة و قد تلاشت ابتسامته تمامًا:
- ده انا كنت بقول عليك قد أبويا و مش راضي أمد إيدي
و باغتهُ بضربةٍ قوية من مقدم رأسهِ إلى جبهة "كمال" و هو يردف بصوت ساخر:
- سبحان الله ، تصدق بقيت قد أخويا!
.....................................................................
على الرغم من كونه غير قادرًا على فتح جفنيهِ إلى أن صوتها اخترق أذنيه متوافدًا إلى أحلامهِ المختلطة و الغير مفهومة ، شطرًا يريد العودة فقط من أجلها ، و شطرًا يناديه بالتخلي عن حياته ببساطة ، و هو في المنتصف قادرًا على تحديد مصيره ، و لكنه أعطى لحالهِ هُدنة تستبقيه كما هو ، عالقًا بين الحياة و الموت ، غير قادرًا على عبور الشعرة الفاصلة و العودة لحياتهِ ، أو التخلي.
شهقاتها أخذت تخترق أذنيه ، و بالرغم من ذلك لم يتخلّ عن موقفهِ ، و ظل كما هو ساكنًا صلدًا، حتى و فجأة انقطع صوتها ، و صُمت آذانهِ تمامًا ، لينغمس ثانية بين طيّات اللاوعي.
كان صوتها قد انقطع و هي ترفع رأسها عن ركبتيها بعد استماعها لقرعاتٍ على بابها ، نزحت على الفور دموعها ، و حاولت جاهدة التحكم بشهقاتها التي انفلتت منها بين الحين و الآخر ، أزاحت خصلاتها الحاجبة لرؤيتها عن عينيها ، ثم انتزعت رابطة خصلاتها عن معصمها لتجمع خصلاتها للأعلى بها، سحبت شهيقًا عميقًا زفرته بتروٍ ، ثم رددت بنبرة اختلجها الاختناق:
- ادخلي يا ولاء!
فُتح الباب و دلفت من خلالهِ "رهيف" و هي تغمغم باستياءٍ زائف:
- ولاء!..يعني احساسك مقالكش مين على بابك!
التفتت كـ المصعوقة و قد فغرت شفتيها ، حملقت بها بتعجبٍ ثم رددت بعدم استيعاب:
- هاه!.. رهيف
أومأت "رهيف" و هي توصد الباب من خلفها ، و مضت نحوها ثم انحنت لتضمها إليها بحنو ، مسدت على ظهرها و هي تحتويها متمتمة:
- أخبارك إيه
تنغض جبينها فور أن وقعت أنظارها عليه من خلف ظهر "يارا" ، فـ ابتعدت عنها و قد شعرت بهيبته الطاغية تغلف المحيط من حولها ، توجست خيفة و هي تردد بارتياع:
- ايه اللي حصل له ده؟.. هو مات ؟
فـ نزحت " يارا" كفها عن كتفها و هي تغمغم بعتاب وجل:
- ارحميني يا رهيف ، أنا ناقصة!.. أنا مقتنعتش إنه عايش غير لما مات تاني ، قصدي أما أغمى عليه تاني
كانت نظرات "رهيف" المرتابة معلقة به و هي تتذكر اللقاء بينهما ، فـ فرقعت "يارا" أصابعها أمام عينيها و هي تردد محاولة جذب انتباهها:
- يا رهيف روحتي فيـن؟ ما هو قدامك أهو ، متشكيكينش في نفسي بقى!
و أشارت إلى الخارج مغمغمة بنبرة ذات مغزى:
- بقولك إيه ، هاتيلك كرسي من برا و تعالي ، عايزاكي ، عايزة أسألك على حجات كتير
حادت بنظراتها المتخوفة عنه و هي تكاد تسحبها من ساعدها:
- بقولك إيه يا يارا ، تعالي نتكلم برا أفضل
فـ نهضت "يارا" عن مقعدها لتتشبث بساعدها و أدارتها لتجلس على طرف الفراش بجوار ذراعه ، ثم أجلستها أمامها على المقعد و هي تهتف باصرار:
- لأ هنا و حالًا
سحبت " رهيف" ساعدها و هي تتوسلها بنظراتها:
- يارا أرجوكي تفهمي موقفي!
هزت "يارا" رأسها استنكارًا و هي تهتف بنبرة حازمة:
- أفهم إيه يا رهيـف؟.. ازاي عرف مكاني ، تقدري تقوليلي؟
عقدت "رهيف" ما بين حاجبيها و هي تغمغم محنية لنظراتها:
- و الله أنا مكنش قصدي ، أنا جيت عشان أعرف مامتك بمكانك لكن..
فـ تشدقت و هي تعاتبها:
- نعم!.. كمان كنتي جاية تعرفي ماما! أنا استئمنتك و انتي..
رفعت "رهيف" أنظارها المتوسلة إليها و هي تستوقفها بقولها المستدرك:
- يا يارا افهميني ، و الله أنا كنت هطمنها عليكي بس ، كنت هقول إنك معايا و انك كويسة ، هي متعرفش بيتي و لا كانت هتعرف مكانك!
لم تقتنع " يارا" بمبررها ، و ظلت نظراتها قاسية نحوها و هي تغمغم بتبرمٍ:
- مع ان ده مش مبرر لكن حتى انتي معملتيش كده ، انتي عملتي الأسـوء و عرفتيه مكاني ، تقدري تقوليلي هو عرف ازاي؟
سحبت "رهيف" نفسًا عميقًا زفرته متمهلة قبل أن تدمدم بتريث:
- أنا هقولك
و حرفت نظراتها نحو وجهه ثم عادت تنظر نحوها و هي تردد بخفوت:
- و أنا طالعة هو كان نازل من بيتكم ، فـ..
قاطعتها مضيقة عينيها:
- من بيتنا!
أومأت "رهيف" و هي تستأنف:
- أيوة ، اتقابلنا ، و لما سمعته بيتكلم في الموبايل و بكلم واحد و بيحكي عن الصحفيين و حاجة شبه كده ، استشفيت إن ده جوزك ، لاقيت نفسه بقوله أنا أعرف مكان مراتك
ارفع حاجبيه للأعلى باستنكار و هي تعقد ساعديها أمام صدرها:
- بالسهولة دي يا رهيف؟ بعتيني بالسهولة دي
فـ شحذتها قائلة بتوسل:
- و الله يا يارا مقصدتش ، و لما حاولت أسحب كلامي سحبني زي البهيمة و خدني معاه كأنه خاطفني! و مرضيش يحل عني غير لما قولتله مكانك
حرفت نظراتها الحانقة نحوهُ و هي تتشدق ساخرة بتأفف:
- انتي هتقوليلي! عارفة طريقته الهمجية دي
ثم عادت تنظر نحوها و هي تردد و قد لفت نظرها شيئًا ما فـ استفسرت عما سمعتهُ، عقب أن انعقد حاجبيها:
- انتي قولتي إيه؟ سمعتيه بيتكلم عن صحفيين؟ كان بيقول إيه
هزت "رهيف" رأسها بلا مُبالاة و هي تغمغم:
- مش فاكرة
- حاولي تفتكري! أنا متأكدة ان هو اللي ورا اللي اتنشر عني زي أخوه!
شُدهت و هي تحملق بوجهها ، ثم فرّقت شفتيها لتغمغم غير مستوعبة:
- هاه! انتي عرفتي؟
- أكيـد ، حاولي تفتكري يا رهيف ، ساعديني شوية
استنكرت تفكيرها و هي تتنهد تنهيدة مطوّلة:
- يا بنتي هينشر عنك كلام زي ده ازاي و انتي مراته ؟
فـ تأففت و هي تحل ساعديها:
- يـوه!.. أنا زهقت ، كل شوية مراته مراته ، أومال لو مكنتش حاكيالك كل حاجة ، أنا لا مراته و لا زفت ، افهمي بقى!
فبررت لها قائلة:
- و لو! يكفي ان قدام العالم حاليًا انتي مراته ، ميقدرش يلوث سمعتك بالشكل ده
فـ جفّت نبرتها و هي تومئ برأسها مغمغمة بنبرة ناقمة:
- لا يقدر يا رهيـف! طالما عايز ينتقم من بابا ، يبقى هو اللي قصد يلوث سمعتي عشان يبقى وشه في الأرض
هزت "رهيف" رأسها مستنكرة تحجر ذهنها ، ثم فركت جبينها بكفها و هي تردد معترضة:
- مش فاكرة ابدًا ان كلامه كان على كده!
فـ حفزتها للتذكر و هي تحتوى كفها مترجية إياها:
- حاولي تفتكري يا رهيف
و أمام اصرارها،.. استغرقت عِدة دقائق حتى تمكنت من التذكر ، فشددت من قبضتها على كفها و هي تردد متعجبة:
- افتكرت حاجة غريبة أوي!
تفاقمت ريبتها ، فـ لاحقت أنفاسها و قد تجمدت نظراتها على وجهها:
- إيـه هي؟
- افتركت انه كان بيكلم واحد و بيقوله يعرف الصحفي اللي نشر الكلام ده على مراته ، و كمان كان بيتكلم على أمانة.. حاجة سايبها معاه ، بس مفهتمش هو بيتكلم على إيه!
و ارتابت و هي تنظر نحوها بوجلٍ مستوضحة باهتمام:
- تفتكري ممكن يكون إيـه يا يارا؟
راحت كلماتها تتلاعب بخلايا ذهنها و هي تستعيد كلمات "فارس" لها في المشفى عندما أخبرها أنه تركها أمانة لديه ، احتلت الصدمة تعبيراتها ، فـ سحبت كفها من قبضة "رهيف" ، و راحت تلتفت لتنظر نحوهُ مستشعرة ذلك الغموض الذي لم تتمكن من اختراقهِ بعد ، هزت رأسها بعدم فهم قبل أن تردف بتيهٍ:
- أنا مش فاهمة أي حاجـة!
..........................................................................
...................
............................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
