"الفصل الحادي و الستون"
انتفض من نومتهِ المؤقتة على صوت بكائها الحارق فاستشعر ذلك الألم الذي أصاب مؤخرة رأسهِ، أطبق "يامن" أسنانهِ و هو يتلفت حوله فتغضن جبينه حين وقفت أمامهُ مغمغمة بتلهف و هي تحيط وجههُ بكفيها:
- يامن.. يامن، انت.. سامعني؟
كبت تأوههِ الخافت و هو يتلمس مؤخرة رأسهِ ليجد لاصق طبيّ عريض يداهم ملمس كفه، فسأل و هو يرمش مرتين و:
- إيه اللي حصل؟
التقطت أنفاسها بصعوبة و هي تحتوي كفهُ تلقائيًا مدمدمة بلوم:
- المفروض أسألك السؤال ده، إيه اللي حصلك؟
و اخترق مسمعهِ سؤال "فارس" الذي يقف على مقربة من فراشهِ:
- إيه اللي حصل بالظبط؟ مين اللي عمل فيك كده؟
فور أن ضربت الذكريات رأسهِ كشّر عن أنيابه و هو يردف باغتياظ شديد:
- آه يا*****
و حاد بنظراتهِ المستشيطة و هو يردد حانقًا:
- خدني على خوانة و ضربني في ضهري.. لأنه عارف لو واجهني زي الرجالة مش هيطلع من تحت إيدي عايش!
زفر "فارس" أنفاسهِ الحارقة ثم ربت على ركبتهِ و هو يقول:
- طب اهدى.. الحمد لله إنك بخير
نظر "يامن" نحوهُ و هو يفضي القول لديه بتلك المعلومة:
- زي ما توقعت.. نائف الكلب مع كمال
و لوى شفتيه سخطًا و هو يقول باحتدام و قد شعر أن فرصة ذهبية سُحبت من تحت أقدامهِ:
- عشان كده معرفتش ألاقيه، لو كنت ركزت شوية كان فاتني خلصت على الاتنين!
دفعت "يارا" كفهِ بعنفٍ و هي تنظر نحوه بنظرات لائمة جعلتهُ يعقد حاجبيه و هو ينظر نحوها متعجبًا، فانسحبت من الوسط موصدة الباب من خلفها تتابعها نظراتهِ، فقال "فارس" مُغضنًا جبينه:
- مالها دي؟
انحرفت نظراته نحوه و هو يسألهُ حانقًا:
- انا جيت هنا ازاي؟
رفع "فارس" كتفيه و هو يقول ساردًا له ما حدث:
- عربية جت و سابتك قدام البوابة، الحراسة ملحقتش حتى تاخد رقم العربيّة
انكمشت المسافة ما بين حاجبيه و هو ينهض عن الفراش مستقيمًا بوقفتهِ، نفّض "يامن" خصلاته بعصبية جليّة و هو يتلفت حوله، ثم ضرب براحتهِ الجدار بعنفٍ و قد بزغت عروق جبينه:
- أنا غبي.. غبي، ضيعت الفرصة اللي كنت هخلص فيها من كل ده!
حكّ "فارس" صدغهِ و هو يسأله بارتياب:
- اللي مش فاهمهُ ازاي رجعوك تاني! في حاجة مش مفهومة
فالتفت نحوهُ نصف التفاتة و هو يقول لاويًا شفتيه:
- طالما الروح لسه فيا يبقى الـ**** دول بيخططوا لحاجة ألعن من قتلي!
فسأله "فارس" بإيجاز:
- زي؟
أطبق "يامن" جفنيهِ بقوة و هو يهمس بـ:
- يارا
و عاد ينظر أمامه و هو يدس كفيه بجيبيّ بنطاله:
- زي ما قولتلك.. نائف النجس عايز يلوي دراعي!
لفظ "فارس" أنفاسهِ الحارة و هو يسأله متشككًا:
- و أمنية؟.. هتعمل معاها إيه؟
و انخفضت نبرته و هو يردد ممتعضًا:
- ممكن يقتلها، و بسهولة كمان.. ما هو اللي زيه يعمل أي حاجة
حكّ "يامن" عنقه بانفعال و:
- مش هيقتلها.. هو عايزني أدور عليها في كل حتة، ميقدرش يقتلها
ضاقت عينا "فارس" و هو يسأله:
- و روما؟.. هتسافر؟
أومأ "يامن" و هو يقول بجفاف:
- مقدرش أستنى أكتر من كده..حبيبة بتطلع في الروح، مش هستنى أما تموت و بعدين أبقى أتصرف
و عقد حاجبيه و هو ينظر نحو قميصهِ، ثم استدار بجسده ليسأله:
- الجاكيت بتاعي فيـن؟
فأشار "فارس" نحو الأريكة و هو يقول بغرابة:
- أهو.. انت خايف يكون سرقه و لا إيه؟
خطى "يامن" نحوها و هو ينظر صوبهُ نظرة خاطفة من طرفهِ، ثم شرع يبحث في جيوب سترتهِ حتى حصل على ورقة بيضاء، تبيّن أنها صورة على وجهها الأبيض، قلبها و هو يترك سترتهِ بلا اكتراث، فضاقت عيناهُ و هو يبصر صورة "أُمنيـة" المقيدة في مقعد خشبي و قد اتضح أنها تعاني حالة إغماء ما، و مرفق معها ورقة بيضاء، فسار بعينيهِ الناريتين على الكلمات و:
-" شايف القمر دي؟ لو حاولت تبلغ الشرطة و توصل لهم الدليل يبقى فيها موتها، و لا حياتها متفرقش معاك؟"
تلوّت شفتي "يامن" امتعاضًا و هو يردد باستخفاف:
- بوليس!.. و هو البوليس هيرجعلي حق السنين اللي صبرتها يا ولاد الـ*****
فخطى "فارس" نحوه و هو يسأله مدققًا النظر لتعبيراته:
- في إيه؟
فواراهم "يامن" بجيب سترته مجددًا و هو يقول بلا اكتراث:
- متشغلش بالك
أومأ "فارس" و هو يربت على كتفهِ ثم قال و هو يومئ برأسهِ:
- أمانتك في الحفظ و الصون.. اطمنت عليها، مش كده و لا إيه؟
نظر "يامن" نحوه نظرة من طرفهِ ثم حكّ ذلك الحرق الذي شرع يتغير لونهِ بوجهه فقط و هو يقول محركًا رأسهِ بإيماءة لا تُلحظ:
- عايزني أشكّر فيك و لا إيه؟
كانت نظراته نحوه عميقة للغاية و هو يتذكر مشاحنات عدة بينهم، فعانقهُ بشكلٍ مفاجئ مربتًا بقوة على ظهرهِ متناسيًا ما بهِ، تقلصت تعبيرات "يامن" و هو يزم شفتيه، و كالمعتاد لم يبادلهُ العناق، في حين كان "فارس" يردد:
- و انت تستحق اعتذار.. ظلمتك أكتر من مرة، كنت فاكرهُ انسان يا يامن
فابتعد "يامن" عنه و هو يشيح بوجههِ بعيدًا، حكّ ذقنهِ بإبهامهِ و هو يردد بضيق طفيف:
- بقيت درامي أوي.. و أنا مبحبش ده
ابتسم "فارس" بسخرية مريرة و هو يربت على كتفهِ، ثم قال مشيرًا بعينيهِ:
- مراتك اللي درامية أوي، قلبت الدنيا من ساعة ما شافتك، بصراحة المنظر كان يخض و انت جاي غرقان في دمك، و انت عارف الستات بقى عملتها مناحة من ساعتها!
تحاشى "يامن" النظر لعينيهِ حينما كان "فارس" يقول بلهجة ذات مغزى:
- باينها وقعت و لا إيه؟
حينها نظر نحوهُ غارسًا نظراته بعيني الأخير، ثم حاد بهما عنه و هو يقول بفظاظة:
- أنا بقول تمشي أحسن
تضاحك "فارس" بخفوت ثم أردف:
- ماشي يا يامن
و باتت نبرتهِ أكثر مرارة و هو يتلفت حوله:
- أساسًا انت مش عارف أنا ضغطت على نفسي ازاي عشان أقدر أقعد هنا أكتر
و همّ بالمغادرة.. حينما استوقفهُ "يامن" و هو يقول لافتًا انتباههِ:
- فارس
توقف بمحلهِ و هو يلتفت نحوه متسائلًا، فأردف "يامن" دون أن يستدير:
- كانت بتحبك
و كأن كلمتهِ طعنت منتصف فؤادهِ، أطبق "فارس" عينيهِ و هو يلفظ أنفاسه الحارة مواريًا عبرة كادت تفر منهما، ثم قال قبل أن ينصرف ليلوذ بالفرار:
- و انت كمان.. حبيتك أوي، كانت بتعاملك كأنك ابنها!
و أوصد الباب من خلفهِ، فتعلقت أنظار "يامن" بهِ، يتذكرها جيّدًا.. كانت أُمًا حنونًا لهُ حرم من حنانها بعد حرمانهِ من والده، فخسر أيّ شخص كان له قريبًا.
طرد تنهيدة حارّة و هو ينظر أمامهِ، اخترقت تلك الرائحة أنفهِ حين حكّ بسبابته طرفها، فعقد حاجبيه و هو يتشمّم باطنها.. أطبق جفنيه و قد اخترق عبقها مراكزه الحسيّة فأججت رغبته لمعايشة لحظات أكثر حميميّة معها و قد لاح أمام ناظريه مشاهدًا من كلتا ليلتيهِ معها، لم يكن يعلم بعدهما أنهُ قد يعاني حرمانه منها عقب أن صارت كالدماء التي تسري في عروقهِ، استند بجسدهِ إلى الجدار من خلفهِ مطبقًا جفنيه بقوة و قد تطرّق تفكيره إلى تلك النقطة، فلولاهُ لما تمكّن "كمال" من انتشال روحها بتلك البساطة الجمّة، و للحق أنه كان محترفًا في جريمتهِ، حينها تذكّر كيف أنه تشكك بالأمر حيـن..
« دلفت حاملة قدح قهوتهِ و هي تغمغم متحاشية النظر لعينيهِ:
- القهوة يا يامن بيه
فقال بجفاء و هو يقوس شفتيه بقسوة:
- سيبيها و اطلعي
انحنت لتترك قدح قهوتهِ أمامه على سطح المكتب، فمنحها نظرة من طرفهِ جعلت تلك المسافة بين حاجبيه تتلاشى و هو يدقق النظر في ذلك الخدش الطفيف الذي أصاب الجانب الأيمن من فكّها، حتى استقامت "سهير" و هي محنية بصرها و استدارت لتغادر..
و لكنهُ ظل يتتبعها بذهنهِ قبل عينيه، حازت تلك الفكرة على ذهنه بالفعل، فاستغلّ باليوم التالي فرصة تواجدها بالمطبخ و شرع يبحثُ في أغراضها هنا و هناك، حتى فتح ضلفتيّ الخزانة، لا شئ.
زفر "يامن" حانقًا و قد شعر و كأن تفكيره يقوده لطريق مسدود، و لكن تغضن جبينه و قد شرع يبحث بين ثيابها المطوية و قد تذكّر كيف كانت تخفى زوجتهِ تلك الذاكرة، و بالفعل وجد بين طيّات إحدى الأثواب و بجيبها خاتمًا فضيّا لامعًا يحوى فصّا أخضر اللون، رفعهُ أمام ناظريه و قد ارتعش صدغيهِ إثر إطباقه لأسنانه، فقبض عليه بأناملهِ و هو يضرب براحتهِ ضلفة الخزانة ناطقًا من بين أسنانهِ المطبقة بامتعاض بدى على تقاسيم وجههِ الحالكة:
- "كمال"»
عاد لأرض واقعهِ و هو يفتح جفنيه و قد تنفس بارتياح بسيط يناقض رغبتهِ الانتقامية التي تفاقمت لحدٍ مريب.. على الأقل لم ترتكب تلك الخطيئة بحقّ نفسها، أحنى بصره و هو يمضى نحو زجاج شرفتهِ الشفاف و توقف يتأمل صفحة السماء من خلالها، ثم نطق راجيّا:
- يا ريت تكوني كفرتي عن ذنوبك يا هدى.. يا ريت تكوني عملتيها قبل ما تموتي
و دس كفيه بجيبيهِ و هو يردد ساخرًا:
- يا ريت ميكونش مصيرك زي مصير ابنك!
.............................................................
يُعاني.. يعاني بأبشع الطرق وحدهُ تضمّه جدران حجرتهِ الباردة و قد أغرقت دموعه التي اختزنها مطولًا صورتها الباقية لهُ منها، تفادى بصعوبة أسئلة "مايكل" الفضولية و راح يعانق حجرتهِ، و كأنهُ لم يفقدها سوى اليوم، و كأن شعوره يعاد بطريقة أكثر بشاعة و تأثيرًا في نفسهِ الضعيفة، ضعيف للغاية بالفعل.. و لم تقوَ روحهُ و لو بمقدار ذرة، جرحهِ اليوم كجرحه و هو صاحب الخمسة عشر عامًا، و كأنهُ لم يتقدم يومًا بالعمر، و الأكثر مرارة في نفسهِ أنها حتى لا تملك قبرًا، لا يعلم أين دفن جثمانها، و أي مقبرة تلك التي ضمّتها، أم أنه أحرق جسدها فلم يبقَ منه حتى بقايا؟
كان يجلس على الأرضية مستندًا بظهرهِ لإحدى زوايا الفراش، ضامّا إحدى ركبتيه إلى صدرهِ و مستندًا بذراعه المبسوط عليها، أطبق بكفه على صورتها و عاد برأسهِ للخلف و هو يضمها إلى صدرهِ، حتى تنبّه إلى رنين هاتفهِ، فسحبه من أعلى الفراش و هو ينزح دموعهِ الصامتة الحارقة، أصابه القلق و هو يجيب اتصالها بصوت شابه بحّة خفيفة:
- أيوة يا ولاء؟
فكانت تعاني شعور الندم، حتى أنها تركت غرفة والدتها و ظلّت جالسة بالخارج على إحدى المقاعد و كلماتهِ تعاد على أذنيها كالسياط، و لم تملك سوى أن تخبره بـ:
- أنا عملت حاجـة!
نهض من فوره و هو يسحب سترته أعلى الفراش ماضيّا بخطاه للخارج:
- اوعي يا ولاء.. اوعي تكون حاجة متعلقة بيارا
اختنق صدرها و هي تقول محنية بصرها:
- بس ندمانة
تنهد بانزعاج شديد و هو يستنكر بغيظ فعلتها:
- آه.. ولاء!
.............................................
- انا مش عايزة شفقة منك و لا عايزة حاجة، ماما لو هتعيش هتعيش، لو مكتوب لها تعيش هتعيش انت مش هتغير قدرها
و خطت من أمامهِ و هي تحاول مواراة دموعها الغزيرة، و لكنهُ دومًا ما يحول دون رحيلها بإطباقهِ على عضدها ليجتذبها إليه، دقق النظر بتعبيراتها البائسة ثم سألها بلهجة ثاقبة:
- مالك؟
رفعت أنظارها المحتدة إليه و هي تحتجّ:
- هو عشان برفض حاجة متعلقة بوالدتي يبقى فيا حاجة مش طبيعيّة، و لا يمكن كنت عايزني أستقبلك بالأحضان و الشكر و انت بتقولي إنك هتعمل صدقة معايا!
أطبق "يامن" بأناملهِ الغليظة على عضدها أكثر و هو ينطق بنفاذ صبر:
- يارا.. صدقيني أنا مش فايق لتقلباتك دي، انطقي و قولي مالك
فاستهجنت ذلك تمامًا و هي تحدجه بنظراتٍ ناريّة:
- تقلبات!.. تقلباتي أنا، انت مش شايف نفسك؟ انت اللي شخص مزاجي و كل دقيقة بحال
و حاولت أن تسحب ذراعها و هي تعترض على فعلتهِ الدائمة:
- و سيب دراعي.. الحركة دي بترفزني
جأر بها:
- يــارا
فهدرت بضجر:
- عايز إيـه؟ عايز إيه مني؟
فسألها بإيجاز:
- إيه اللي جد؟
حادت بنظراتها عنه و هي تزمّ شفتيها بقوة، ثم نطقت و هي تنظر نحوهُ مؤنبة:
- بصراحة أنا اللي جد معايا حجات كتير.. لكن انت، معتقدش إن في حاجة جدت معاك
ضاقت عيناها فباتتا أكثر احتدادًا، قلّص المسافة بينهما و هو يقول مشيرًا بعينيهِ:
- عايزك تعرفي إني مش فايق أحل ألغازك.. وضحى كلامك أحسن
أطبق أسنانها قليلًا و هي تنقل نظراتها بين عينيهِ، ثم قالت مستنكرة:
- تقدر تقولي إنت بتعمل إيه؟.. تقدر تقولي إنت بتعمل كده ليه معايا؟ عايز تنقذ ماما ليه؟
و حادت ببصرها عنهُ و هي تقول بجفاف:
- أنا تعبت من محاولاتي لفهمك و فهم شخصيتك، دورلك على واحدة تفهمك أكتر مني، و متهيألي انتو بارعين في ده، الرجالة كلها بارعة في ده!
و همّت بمحاولة سحب ذراعها منهُ و هي تحنى بصرها بمستوى بسيط عن عينيهِ، و لكنهُ أطبق أكثر و قد استشفّ بيسر بالغ ما يدور في خلدها:
- أختك كلمتك؟
- لأ
سرعة نفيها جعلتهُ يتيقّن مما حدث، كز على أسنانه و هو يهز رأسه بحركة خفيفة متوعدة، قبل أن يرخى قبضته عن ذراعها بارحًا محلهِ و رحل صافقًا الباب بعنف من خلفه، حينما تعلقت أنظارها به، وجدت الفرصة سانحة لتتهالك بجسدها أعلى طرف الفراش، ثم دفنت وجهها بين كفيها و هي تقول بمرارة:
- أنا السبب.. مينفعش أفضل معاك
و رفعت رأسها لتشمل الغرفة من حولها و هي تطبق جفنيها بقوة مبتلعة غصة عالقة في حلقها:
- مش هقدر أكمل.. أنا تعبانة أوي، كل ما هشوف وجعك في عينيك هتعذب أكتر، مش هقدر!
............................................................
كانت قد خرجت من المقهى الخاص بالمشفى حاملة كوبها البلاستيكي الذي يتصاعد منه الأبخرة، بلغت الرُدهة المؤدية لغرفة والدتها و لكنها لم تدرك حتى ما صار فجأة، ارتطم ظهرها بالجدار فأسقطت الكوب فوق ملابسها لتشعر بألمًا يداهم بطنها و كفيها التي تناثر المشروب الساخن عليهما، جحظت عيناها و هي تستشعر قبضتهِ التي طالت عنقها، تواثب قلبها بين أضلعها و هي تستشعر شواظ نظراتهِ يخترقها، تلاحقت أنفاسها و تهدّجت فنهج صدرها علوًا و هبوطًا، أطبقت جفنيها حين قلّص المسافة بينهما ليفحّ في وجهها:
- أنا اللي بيخالف كلامي كفيل يكون فتح على نفسه باب جهنم
و باتت نبرتهِ أكثر قتامة و هو يستطرد:
- فـ ما بالك بقى اللي ييجي على مراتي؟
أطبقت جفنيها محاولة التهرب من نظراته هامسة بارتعاد:
- أنـ.. أنا مش....
فقاطعها مكشرًا عن أنيابهِ و هو يرخى قبضته قليلًا عن عنقها متفاديًا موتها:
- شـشـش.. صوتك الحلو ده مسمعوش تاني، لأن ساعتها هقطع لسانك اللي نطق باللي حرمت عليه نُطْقه!
- يامـن
صدح صوتهِ من خلفه فلم يلتفت نحوهُ حتى توقف "فارس" ليدفعهُ قليلًا عنها و قد احتدمت الدماء في عروقهِ مرددًا باستهجان:
- بتعمل إيه بالظبط؟
فلم يحد بنظراته بعيدًا عن وجهها الذي أصابهُ شحوب مريب طال شِفاها و هو ينطق لاويًا عنقهِ للجانب فصدر عنهُ صوت طقطقة عظامهِ ثُم غمغم:
- حساب بخلصه مع الهانم.. لكن الواضح إنها لسه مدفعتش!
و حدجها بنظرة أخيرة أثارت الرعب في قلبها أكثر، ثم انصرف بارحًا محلهِ فجأة كما أتى، تنفست "ولاء" الصعداء و قد شعرت و كأن ساقيها الرخوتين ستقودانها للأرضية الصلبة من أسفلها، فتشبّثت بذراعه تلقائيًا و هي تستند بجبينها على صدره محاولة التقاط أنفاسها اللاهثة:
- كنت هموت من الخوف
فأطبق أسنانهِ بغيظ و هو يخفض نظراتهِ إليها، و أبعدها عنه بجفاء و هو يردد باستنكار:
- ايه اللي عملتيه خلاه يبقى عامل كده؟.. هو أساسًا إشعال ذاتي، هببتي إيه بقى؟
فتلمّست بطنها و قد استشعرت جلدها يحترق، ضغطت على ذراعه و هي تحنى رأسها متألمة:
- آآه.. بطني اتحرقت، مش قادرة
تغضن جبينه و هو ينظر نحو ثيابها ليجدها مبللة فهمس متسائلًا:
- انتي كبيتي إيه عليكي؟
فأفضت القول لديه قبل أن تذرف الدموع:
- الغبي ده زقني و وقع النسكافيه عليا و كان خُسن أوي!
فتغضن جبينه و هو يكرر رغمًا عنه:
- خُسن!
نظرت نحوهُ شزرًا و هي تهتف بامتعاض:
- انت شايفني فايقة بجد!.. آه
فاقتادها من فورهِ و قد استشعر خطورة ذلك:
- طب تعالي.. الحمد لله إننا في مستشفى
و أخفض نبرة صوتهِ قليلًا:
- مش عارف من غير المستشفيات اللي بجرى عليها من ساعة ما جيت كنت هعمل إيه.. شابوه للدكاترة
..........................................................
لم تُطق توبيخهِ اللاذع الذي يلقيه عليها مع آلامها المتزايدة فاعتدلت في جلستها على مقعدها و هي تتلمس بطنها ناظرة نحوه باستنكار:
- فارس أنا مش قادرة بجد.. عرفت إني غلطانة، خلاص
و بزغ الغلّ في نبرتها و هي تقول:
- بس كان لازم أعملها فيه، كفاية أوي اهانتي على إيده
فنطق "فارس" باختناق واراهُ ببراعة عقب أن زفر مطولًا:
- ولاء.. كفاية، شيليه بقى من دماغك
و نهض عن محلهِ و قد أُطبق على صدره:
- انتي بتحرقي نفسك بنفسك.. و أنا تعبت من الكلام معاكي لأنك مبتسمعيش
فتشبثت بكفه لتستوقفهُ معربة عن ندمها:
- أنا عارفة إني غلطت.. بس متسيبنيش يا فارس
توقف بمحلهِ.. استشعر لمستها لأنامله و تشبثها به، فحرف نظراته نحوها، توسلتهُ "ولاء" بنظرة انبثقت من عينيها و هي تهمس توسلًا:
- بلاش بجد تسيبني.. أنا وحيدة أوي و مش لاقية حد معايا!
زفر أنفاسهِ المختنقة و هو يشيح بوجهها عنه، ثم جلس جوارها غير قادرًا على تركها هكذا، فافترّ ثغرها عن ابتسامة صغيرة تلاشت من فورها حين قال و هو يناظرها باحتداد واضح:
- شوية و هاخدك البيت تجهزي شنطتك.. مسافرين بكرة
انعقد حاجبيها و هي تتحفز في جلستها مستنكرة ما يقول:
- نعـم! أنا؟ مسافرين فين؟.. انت بتقول إيه؟
فأردف مشيرًا بعينيهِ:
- روما.. و لا نسيتي؟
ضاقت عيناها و هي تزم شفتيها بضيق، ثم نطقت بازدراء:
- لتاني مرة بتحسسني إني شحاتة يا فارس بيه! أنا مش هاجي معاك في حتة، هفضل هنا مع ماما، تمام؟
و همّت بالنهوض.. و لكنهُ استوقفها ببرود:
- اللي متعرفيهوش ان حبيبة كمان هتسافر.. يامن هيسفرها تتعالج هناك، هتفضلي لوحدك؟
رمشت عدة مرات و قد شعرت برأسها يغلي غيظًا، ثم قالت عاقدة حاجبيها:
- نعم؟.. ازاي يعني هتسافر؟ و أنا آخر من يعلم؟
و اعتدلت في جلستها و هي تعقد ساعديها أمام صدرها ثم قالت بتحدي:
- مش هسيبه ياخدها من هنا و لو فيها موتي، يعمل اللي يعمله
تقوست شفتيه بتذمر ثم قال ملوحًا بكفهِ:
- ولاء.. معرفش انتي آخدة بالك من ده و لا لأ لكن أمك بتموت.. احنا في مصر! نسبة نجاتها متتعداش 40% هنا
فنظرت نحوه من طرفها و قد اعتصر الألم قلبها، و لكنها تماسكت و هي تقول:
- لكل أجل كتاب.. إن شاء الله هتطلع منها، و أنا واثقة في ده
و أحنت نظراتها و هي تردف باختناق أطبق على قلبها:
- أكيد يعني مش هتسيبني لما عرفت قيمة وجودها في حياتي
و نظرت نحوهُ بأعينها التي ذرفت الدموع و سألت ببحة شملت صوتها و كأنها تنتظر منهُ تأكيد يُشفى جراحها:
- مش كده؟
حرر زفيرًا حارًا من صدره و هو يعانق وجهها بنظراته،ثم هز رأسه بإيماءة جادة و هو يُشدد على كلماته:
- كده، لكن لازم تسافر يا ولاء، و انتي كمان هتسافري
أشار بعينيهِ نحو ساقها و هو يتابع:
- لازم تخلصي من الموضوع اللي أنا كنت سبب فيه.. الموضوع اللي حاسة إنه هيقف عقبة في حياتك
ارتفعت أنظارها نحو عينيه مباشرة فقال مؤكدًا بخشونة:
- و صدقيني.. أنا هساعدك عشان تعدي المرحلة دي!
وجدت بكلماتهِ راحة تسللت ببراعة لأغشيتها.. و بنظراتهِ عناق لقلبها المتمرد بين أضلعها، رمشت مرتين ثم حادت بنظراتها عنه و قد ارتبكت من نظراته الواثقة، استقام "فارس" منتويًا تركها وحدها لبعض الوقت تعيد به التفكير، و عرض عليها حينئذ:
- عايز تشربي إيه؟.. أجيبلك نيسكافيه تاني؟
فسألتهُ بفضول و هي تنزح عبراتها:
- انت هتشرب حاجة؟
رفع كتفه و هو يقول بنبرة عادية:
- قهوة.. ليه؟
فأومأت و هي تجيبهُ بصوت مبحوح:
- خلاص هاتلي قهوة.. اتعقدت من النيسكافيه
...........................................................
وجدت نفسها مُرغمة لا مخيّرة.. فباتت خطواتها و تصرفاتها أجمع متشنجة، توقفت بالأسفل و قد خبى انفعالها و هي ترى دموع "سهير" الحارة أمامهُ متشبثة بكفه و هي تترجاه:
- أرجوك يا يامن بيه، و الله ما باقي لي غيرها، دي أمانة في رقبتي
سحب "يامن" بجفاء كفيه منها و هو يشيح بنظراتهِ عنها ثم قال بصلابة:
- مش هسمح لحاجة تحصل لها، مهما بعدت هوصلها
فشعرت بدمائها تغلي في عروقها، أطبقت أسنانها بغيظ و هي تضمّ شالها الحريريّ بكفيها متعمدة نقر الدرجات بخطاها، فارتفعت أنظاره تلقائيًا نحوها، شملها بنظرة جابت أعلاها لأسفلها فكانت ترتدي الأسود، بدت عاديّة للغاية ببنطالها الأسود و كنزتها السوداء الخالية من أي نقش أو تطريز التي تصل أكمامها لرسغيها ، و خصلاتها التي عقدتها بإحكام كذيل حصان كما تحب دومًا و لم تسدل حتى أي خصلة تزين جانب وجهها، و لكنها كانت مميزة بطلّتها رغم أي شئ في عينيه، أحاد بناظريه عنها فانسحب "سهير" عقب أن ودّعته منكسة رأسها:
- ترجع بالسلامة يا يامن بيه
و رحلت، فتوقفت هي أمامه و هي تسألهُ باغتياظ لم تتمكن من كبتهِ:
- هي مين دي اللي مش هتسمح لحاجة تحصل لها.. تخصك برضو؟
نظر "يامن" لعينيها مباشرة و هو يقول بفتور:
- اليوم لسه في أوله..و أنا مش مستحمل أسمع كلمة، فاهدى كده و اصطبحي!
و استدار منصرفًا و هو يرتدي نظارتهِ الشمسية فنظرت نحوه بحنق شديد مغمغمة:
- ما أنا لازم أعرف!.. أوف
..................................................
أقلعت الطائرة الخاصّة بارحة الأراضي المصريّة لتستقر في سمائها أعلى السحب عقب أن سارت بأرض المطار ثم شرعت ترتفع في الهواء بزاوية محددة، حينها كانت قد ارتبكت إلى حد كبير و جلّ ذلك على تقاسيمها أثناء التحليق عبر طبقات الغلاف الجوي حتى تستقر الطائرة، شعرت بدقات قلبها تضطرب، فأطبقت على أناملها على مسند مقعدها و هي تطبق جفنيها و قد استشعرت التغير في الضغط الجوي الذي أثّر على حاسة السمع لديها قليلًا، لاحظ "يامن" توترها الزائد عن الحد فعقد حاجبيه و هو يسألها باهتمام:
- مالك؟
فأفضت لديه القول بشعورها دون أن تتحرك قيد أنملة:
- متوترة أوي.. أول مرة أركب طيارة
لاحظ قبضتها التي تتشنج على مسند مقعدها، فلم يتردد كثيرًا، حيث احتواها بقبضتهِ ففتحت عينيها و هي تلتفت نحوه كالملسوعة، بادلها بنظرات ثابتة و هو يقول بصلابة:
- متخافيش.. أنا معاكي
كلماتهِ محددة و دائم ترديدها في تلك المواقف، و لكنها دومًا ما تنجح في إثارة قلبها و ارتعاشهِ بين أضلعها، ضمّت شفتيها و هي تستشعر أنامله الخشنة تتلمس باطن أناملها برفق يناقض ثبات ملامحهِ، حتى ارتجّت الطائرة رجة عنيفة فمالت عليه و هي تحتضن ذراعه مغمغمة بقلق:
- في إيـه؟
و سكنت قليلًا تستشعر ذلك الهدوء الذي حلّ فجأة فسألتهُ في ارتياب و هي ترفع نظراتها نحوه:
- احنا في السما؟
فأجابها بعينيهِ دون لسانه و هو يشير للنافذة التي تجلس جوارها، رمشت "يارا" عدة مرات و هي تغضن جبينها، ثم رفعت الضلفة الصغيرة التي تفصلها عن زجاج النافذة الشفاف.
افترّ ثغرها عن ابتسامة صغيرة و قد شرع خوفها يتبدد غير منتبهة أن كفها لا يزال قيد قبضته، تأملت تلك السحب الناصعة التي شبّهتها بالقطن الأبيض الناعم الملمس أو بحلوى غزل البنات التي كانت شرهة لتناولها دومًا في طفولتها، تنفست بارتياح و هي تلتفت نحوهُ محتفظة ببسمتها فتلاقت نظراتها المنشرحة بنظرات عينيهِ الثاقبتين، للحظة تحسّرت أنها خسرت رسوماتها الجمّة الخاصة بهِ في حريق بيت المزرعة، و لكنها عقدت العزم أن تفعل من جديد و قد هالها ذلك الشعور.. أنهما سيفترقان عمّا قريب و قد عقدت العزم أن تحاول بشتى السبل إبعادهِ عنها و نبذه لوجودها في حياته حتى يسئمها فيتركها.
أحنت بصرها و قد تلاشت بسمتها و هي تحمحم ساحبة كفها من أناملهِ برفق، ثم رددت بجفاف و هي تحيد بنظراتها عنه:
- شكرًا، أنا كويسة دلوقتي
- تحب تشرب حاجة يا فندم؟
بزغ صوت المضيفة فالتفتت نحوها كالملسوعة و قد أُوغر صدرها بما يكفي اليوم، نظرة واحدة حارقة شملتها بها من أسفلها لأعلاها، حيث كانت ترتدي زيّا رسميا ضيقًا يفصل تقاسيم جسدها، تنورتهِ تصل بالكاد لركبتيها، و تاركة خصلاتها التي تلامس كتفيها بحرية دون قيود، مضيفة إلى عنقها البضّ وشاحًا قصيرًا أبيض اللون مزركشًا بنقوش رقيقة للغاية تكهنت أنها ورودًا صغيرة، و تلقائيًا انحرفت نظراتها نحو زوجها لتجدهُ يرفع نظراته نحوها، و على الرغم من جفاء تعبيراته، حتى أن عينيهِ لم تكترثان لتفحصها كما اعتقدت "يارا" أنهُ سيفعل، إلا أنها شعرت باغتياظ شديد، فهتفت باندفاع واضح و قد تلونت وجنتيها بالحمرة:
- لأ.. مرسي
فرفعت المضيفة نظراتها إليها و هي تسألها عاقدة حاجبيها بعدم فهم:
- حضرتك مش عايزة حاجة؟
فأجابتها و هي تشير لزوجها بسخافة:
- لأ.. هو مش عايز، أنا عايزة شاي
أومأت المضيفة برحابة صدر قبل أن تغيب عنهما لدقائق:
- تحت أمرك يا فندم
التفت "يامن" نحوها و هو يناظرها باحتداد فسألتهُ ببرود:
- إيه يا بيبي مالك؟ كنت عايز حاجة؟
و احتدت نبرتها و هي تُظهر غيرتها بدون قصد على السطح:
- و لا عاجباك و عايزها تقف معاك شوية كمان؟.. قول بصراحة!
التفتت برأسها و هي تزفر في حنق عاقدة ساعديها أمام صدرها لتتابع المظهر الطبيعيّ من نافذة الطائرة، فارتفع حاجبه استنكارًا.. لم يكترث كثيرًا، راح يريح رأسهِ للمقعد من خلفه قليلًا و قد شعر الآلام تنشب فيها من جديد، فهمس متبرمًا:
- البت دي مجنونة و لا إيه؟
................................................................
كانت نائية بنفسها بعيدًا عن الحضور في زاوية ما و هي تبكيها بحرقة، لا تعلم لمَ؟.. و لكن و إن لم تكن جدة حنونًا لها يكفي أنها لم تعد من سكّان الأرض، و ارتحلت برحلة لا عودة منها إلى الأرض الفانية، و شقيقتها تجلس بجوارها متعجبة سبب بكائها، حتى أن عدوى الدموع انتقلت إليها، فسكن جسدها في أحضانها و هي تنتحب بخفوت مربتة على ظهرها ملتزمة السكون عقب أن توالت عليها بالأسئلة المستفسرة و لم تجد لها إجابة، فضمّتها "رهيف" أكثر و طبعت قبلة حانية على خصلاتها و هي تغمغم بارتياب من فكرة فقدها:
- خليكي معايا يا روڤي، أنا بحبك أوي
فقالت الصغيرة بعمق من بين نشيجها الخافت:
- و أنا كمان يا رهف.. بحبك أوي أوي، مس هسيبك أبدًا
..........................................................
و على عكس ما توقعت "ولاء" أنها سـ تُجبر على امضاء الوقت ريثما تحطّ الطائرة في مطار العاصمة "روما" مع شقيقتها و زوجها.. فقد عمد "فارس" أن يحجز لهما تذكرتين بدرجة رجال الأعمال في طائرة ليست بالخاصة، فلم يكن ليتركها قطعًا مع "يامن" بمكان واحد، و على الرغم من أنه يدرك جيّدًا أنه لا يراها حتى، إلا أنه كلما رآهما معًا و إن كان بموقف مُشتد تنتابه رغبة بإحراق الأرض بمن عليها، و على عكس شقيقتها.. كانت غير مبالية باضطراب الأجواء حين ارتفعت الطائرة و إن كانت قد ارتبكت قليلًا و لكنه شعورًا دفنتهُ بداخلها، حتى استقرّت الطائرة أعلى الغيوم مستكملة رحلتها، التفتت برأسها نحوهُ لتتابعه عن كثب، فبدا و كأنهُ يحمل هموم الدنيا فوق عاتقيه و هو مطبقًا جفنيه و مستسلمًا برأسه للمقعد، فلم تمنع حالها من السؤال العابر:
- انت كويس؟
أجابها و هو ينظر نحوها عاقدًا حاجبيه:
- كويس.. ليه؟
فأعربت عما يجول في خاطرها و هي ترفع كتفيها حائدة ببصرها عنه:
- شكلك تعبان
فأجابها بغير اكتراث و هو يعود سيرته الأولى:
- عادي
أومأت برأسها غير مقتنعة بإجابتهِ ثم عادت تنظر للنافذة المجاورة لها لتسترق النظرات للخارج، و بداخل قلبها التمرد سكنت مشاعرًا عدة لا تتمكن حتى من تمييزها، و أبرزهم كان السئم من تلك الشخصية التي أجبرت حالها على العيش بجوارحها دافنة بداخلها "ولاء" القديمة.
.........................................................
كانت الوجهة الأولى لهما عقب أن ولجا لخارج المطار.. المشفى
وقفت خارج الغرفة التي خُصصت لها مسبقًا و جهزت بكافة الأجهزة الطبية التي تحتاجها حالتها، تجلس على المقعد و هي تضمّ جسدها بذراعيه مستشعرة تلك البرودة السائدة هنا على عكس الدفء الذي يُعانق أراضي القاهرة، حينما كان هو يقف أمامها مستندًا بظهره لجدار الردهة المطلية باللون الأبيض المبهج و المريح للأعين، حكّ بإبهامهِ ذقنهِ و هو يخفض ساقه المثنية على الجدار ليستقيم في وقفته و حل ساعديه ليمضى نحوها و هو يخلع عنهُ سترتهِ، ثم تركها أعلى كتفيها، ارتفعت أنظارها نحوهُ متعجبة فعلتهِ التي أجفلت قلبها بمحلهِ، ثم أخفضت بصرها غير قادرة على ردع سؤالها المتردد:
- هي.. هتكون كويسة ؟
فأعرب عن عدم معرفتهِ:
- معرفش
نظرت نحوه من جديد و هي تردد بلهجة عميقة:
- بس انت قولتلي قبل كده إنها هتكون كويسة
دسّ كفيه بجيبيهِ و هو يحدجها بنظرة مطولة، ثم حاد ببصره عنها و هو يقول بجفاء:
- كانت كذبة.. أو أمل زي ما بتسميه!
فـ ابتسمت بشعور تعبّق صدرها بهِ، ثغرها افتر عن بسمة صغيرة و هي تقول بلهجة شابتها بحّة مضطربة:
- شايفاك بقيت تدي أمل!
فتذكر تلك الطفلة المحببة إليهِ تلقائيًا، و تزامن ذلك مع رنين هاتفها الذي تعالى، فنهضت عن جلستها و هي تبحث في حقيبتها مجعدة جبينها:
- الموبايل لسه بيرن إزاي؟.. مش المفروض الخط يكون وقف؟
نظر نحوها متسائلًا فمنحتهُ نظرة مغتاظة، ابتعدت عنه بمسافة كافية، ثم أجابت على اتصال رفيقتها التي أتاها صوتها الباكي:
- تيتا ماتت يا يارا!
ارتفع حاجبيّ "يارا" و قد جمدتها الصدمة محلها و هي تسألها مكررة بذهول:
- ماتت؟ إزاي
مسحت "رهيف" على أنفها بمنديل ورقيّ و هي تقول مجفلة بصرها:
- ماتت فجأة، أنا زعلانة معرفش ليه، أنا مكنتش بحبها!
تنهدت "يارا" بضيق ثم قالت مطبقة جفنيها:
- البقاء لله يا رهيف، دي مهمًا كانت جدتك، ربنا يرحمها
و صمتت هنيهة ثم تابعت معتذرة لها:
- أنا آسفة يا روڤي.. مش هقدر آجي لأني في روما زي ما عرفتك
أومأت "رهيف" متفهمة و ما لبثت أن تجيبها حتى اختُطف الهاتف منها لتقول الصغيرة بعبوس:
- يارا.. رهيف مس راضية تقولي تيتا راحت فين، ينفع تقوليلي
احتلّ الوجوم صفحة وجهها و هي تحرر زفيرًا حارًا من صدرها، ثم قالت محاولة اختراع كذبة تليق بعقليتها و تتفهمها:
- تيتا سافرت مكان بعيد يا رهف، مش هتيجي دلوقتي، لأنها كانت تعبانة
فقالت "رهف" بحزن طغى على نبرتها:
- يعني بردو سافرت زي بابا و سابتني
ثم سألتها بنبرة أكثر شجنًا و هي تحنى بصرها:
- يارا.. هما ليه كلهم بيسافروا، انتي كمان سافرتي بعيـد، رهف قالتلي
و كأن كلماتها لامست وترًا حسسًا بقلبها، انسدلت عبرتين من عينيها لم تقوَ على ردعهم فنزحتهم سريعًا و هي تجيبها باختناق أطبق على كلماتها:
- معلش يا روڤي.. كلنا لازم هنسافر في يوم
فقالت "رهف" متحمسة لتلك الفكرة التي غزت ذهنها:
- يعني لو كبرت سوية هسافر أنا كمان.. و أسوفكم كلكم؟
و كأنها لم تتمكن من التحمل و هي تستمع لنحيب رفيقتها الذي تعالى عقب كلمات الصغيرة، فاغرورقت عيناها بالدموع التي سالت على وجنتيها، استشعرت لمستهِ لكتفها، فالتفتت نحوه لتحدق فيه بعينيها المشوشتين اثر التجمع الغزير للدموع، غضّن "يامن" جبينه أكثر و سألها بجمودٍ:
- خيـر؟
فأزاحت الهاتف لتناولهُ إياه و هي تهمس قبل أن تكمم فاهها لتكتم شهقاتها:
- جدة رهيف ماتت.. كلم رهف أنا مش قادرة أرد عليها
و كأن الصغيرة استمعت لصوتهِ الرجوليّ فهللت بخفوت:
- يامن.. وحستنى، انت مش هتيجي تاخدني تاني؟
فأجابها و هو ينفض خصلاته بحركة عصبية:
- انتي عايزاني أخدك
أومأت "رهف" و هي تجيبه بتحمّس:
- أيوة.. مس انت سوفت بابا و تيتا انت و يارا؟.. ينفع تاخدني معاك أسوفهم
انعقد حاجبيّ "يارا" و هي تنظر نحوهُ باشفاق تجلى في عينيها، فتعمّق النظر لعينيها و هو يجيبها بجفاء:
- لأ.. مشوفتش حد
عقدت الصغيرة حاجبيها و هي تسأله ببراءة:
- ليه؟ هو انت في مكان تاني غيرهم؟
- آه
فقالت بصوتها الطفوليّ:
- بس انت تعرف تروح عساني و تسوفهم؟ صح يا يامن؟
و كاد يجيبها بجفائهِ المعتاد فتلمست "يارا" كتفه و هي تتوسلهُ بنظراتها ألا يفعل، فحاد ببصره عنها و هو يجيبها بصلابة مستجيبًا لها:
- أيوة
فتحفزت خلاياها و هي تنطق بـ:
- طيب.. ممكن تقول لبابا مس يزعل مني، و تقول لتيتا إن أنا بحبها؟
فصمت و لم يجبها، فنادتهُ عاقدة حاجبيها و قد تقوست شفتيها بحزن للأسفل:
- يامن؟
تنهد بحرارة ثم أتبع ذلك بـ:
- طيب
فشكرتهُ معربة عن امتنانها و رغبتها في:
- أنا بحبك أوي يا يامن.. عايزة أبوسك بس مس عارفة
فالتوى ثغره ببسمة لم تصل لعينيهِ رغمًا عنه دون أن يمنحها ردًا، فعقدت حاجبيها و هي تسألهُ في ارتياب:
- يامن؟.. انت كبرت؟
فنظر نحو "يارا" التي التوى ثغرها ببسمة متعاطفة و هي تنزح دموعها، فقالت محذرة:
- يامن.. بجد لو كبرت أنا هزعل منك أوي، انت قولتلي هتستناني لما أكبر
و كأنهُ أراد مناغشتها قليلًا.. فغمز لها و هو يقول بصوت خفيض لم يصل لآذان رهيف:
- طب ما أختك موجودة؟.. أستناكي ليه؟
فعقدت "رهف" حاجبيها بعدم فهم، حينما كانت الدموع تتحجّر في عيني "يارا" و قد توهجت وجنتيها باحمرار قاتم، سحبت الهاتف بعنفٍ من بين أناملهِ و راحت تتحدث فيه باحتداد:
- أيوة يا رهف.. معلش هاتي رهيف، رهيف.. أنا هضطر أقفل معلش، أيوة ماما جوا، يا رب تسلمي، البقاء لله
و أنهت المكالمة و هي تناظره باغتياظ شديد، و همّ بالحراك و لكنه استوقفها و هو يسحبها بخفة إليه غامزًا و تلك الابتسامة العابثة تتراقص على أطراف شفتيه:
- مالك؟
فرددت مستنكرة:
- هيكون مالي يعني؟.. ما أنا كويسة أهو
تلمس بإبهامهِ وجنتها التي بعثت بسخونة إليها و هو يقول:
- مش باين
و انخفضت نبرتهِ و قد باتت أنفاسه الدافئة تطوف حول بشرتها:
- متضايقة ليه؟ مش قولتليلي أشوف واحدة تفهمني، ما صاحبتك موجودة، القريب أولى برضو، و لا إيه؟
تكاد تجزم أنها ستهشم أسنانها من فرط إطباقها عليهم، و حالما دنا بإبمهامهِ من شفتيها ليتلمس خطوطهما حتى فرقت أسنانها لتقضمهُ بعنفٍ فابتعد و هو يسحبه من بين أسنانها معنفًا إياها:
- انتي مجنونة و لا إيه؟
فزمجرت في وجههِ:
- لأ غبية، يا أبو عين زايغة!
و راحت تتركه لتوفض نحو مقعدها و جلست أعلاهُ و الامتعاض يتملك من كل ذرة في وجهها، انحرفت نظراته نحو أسنانها الشرسة التي تركت علامة بازغة بإبهامهِ فأردف مغتاظًا:
- غبيّة فعلًا
..........................................................
............................
...........................................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
