" الفصل السابع عشر"
كانت " هدى" منحنيـة للأسفل _ و هي جالسة فوق فِراشها_ لتتمكن من ارتداء صندلها ذو الكعب العالي و اللون الجملي الذي يتماشى مع لون ثيابها الأنيقة ، أنهت ارتداء فردتها اليسرى ، فـ تنفست بعمق و هي تستقيم بوقفتها ساحبة حقيبتها التي تحمل ذات اللون ، و توقفت لثوانٍ أمام المرآة للتعمق النظر لملامحها فاحصة كل تفصيلة دقيقة بها ، فـ زفرت بانزعاج و هي تبصر تلك الهالات السوداء التي تكونت مؤخرًا أسفل عينيها ، و تحديدًا منذ أن علمت بزواج ابنها الأكبر بابنة "حبيبة" ، و بالرغم من كونها لا تُلحظ إلا أنها أشعرتها بـ إهمالها لذاتها مؤخرًا ، و تحرك بصرها نحو خصلاتها ، ضيّقت عينيها و هي تسحب خصلتها البيضاء مغمغمة بصوتٍ محتد:
- كان لازم يعني الزفت فارس يلاحظ؟ أوف!.. معقول كده هيمسكها عليا ذلة ؟
أخرجها من شرودها صوت الرنين الذي دوى ، سحبت "هدى" هاتفها فور استماعهِا لرنينه من أعلى منضدة الزينة ، تغضن جبينها و هي تنقر زر الإجابة ، و ما هي إلا ثوانٍ و كان يأتيها صوته اللاهث:
ـ ابنك.. ابنك يا هدى
ازدردت ريقها بتوتر و هي تهمّ بسؤالهِ:
ـ عُمـر؟. انت عرفت إيه اللي....
هز"كمال" رأسهُ نفيًا و هو يتحسس عنقه بـ بنانٍ مرتجفة:
ـ يـ..يامن، يامن يا هُدى!
انحلت عقدة حاجبيها و قد شعرت بتقلص معدتها، اعتقدت أن "يامن" وافتهُ المنيّة من نبرتهِ، خفق قلبها في صدرها و تردد دويه في أذنيها و هي تقول بـ أنفاسٍ شبه متهدجة:
ـ مـ..ماله؟
ـ رجع ، رجع و كان هيقتلني
تلاشى ارتباكها بالكامل و حل محلهُ ابتسامةً عريضة ارتسمت على شفتيها المُلطختين بطلاء الشِفاه الوردي، تنفست الصعداء و هي تقول بارتياحٍ تام:
ـ خضيتني يا كمال! انا فكرتك هتقولي مات!
اندفعت الدماء في عروقه و هو يردد مغتاظًا:
ـ بقولك كان هيقتلني!.. كنت هموت على ايد ابنك، ايه البرود اللي انتي فيه ده؟
انتبهت توًا لقولهِ فـ عادت تعقد ما بين حاجبيها مُجعدة جبينها ثم غمغمت بتعجبٍ:
ـ ايـه!.. يقتلك، و يامن يعمل كده ليه؟
ضرب "كمال" سطح المكتب براحته و هو يهدر بها مستشيطًا:
ـ مش عارفة ليه!.. عشان بلغت عن اللي ما تتسمى
توسعت عيناها و هي تردف:
ـ بنت حبيبة!
فـ تجلّت السخرية التامة بنبرة "كمال" و هو يقول:
ـ أيوة يا هانم!.. افرحي بابنك اللي هيرجع ياخد انتقامه منها، افرحي يا هدى هانم، البت وقعت ابنك خلاص
احتدمت الدماء في أوردتها ، و التهبت بشرتها بـ الحمرة الفاقعة و هي تردد مستهجنة:
ـ انت بتقــول ايـه!. انت اتجننت، أكيد اتجننت!
ـ لأ متجننتش!.. انتي اللي مجنونة و مش طبيعية، خليكي تقنعي نفسك ان ابنك هيرجع عشان يقتلك حسين و بناته و حبيبة معاهم!..و يرجع كرامتك اللي ضاعت زمان يا هدى هانم
فـ احتــدت لهجتها و هي تحذّره من التمادي:
ـ خُد بالك من كلامك يا كمال
تلوّت شفتي "كمال" سخطًا، مُعقّبًا بامتعاضٍ جلّ على تقاسيم وجههِ:
ـ بلا كمال بلا زفت!.. مش دي الحقيقة يا هدى هانم؟ و لا أنا غلطان؟.مفكراني عيل بريالة ، مش فاهم انتي عايزة تنتقمي من حبيبة ليه؟..و لا فاكراني أهطل و مفكر انك عايزة تنتقمي منها عشان جوزك اللي مكونتيش بتطيقيه كان بيحبها!
فـ صاحت بتشنجٍ و قد تأججت نيرانها:
ـ لا انت زودتها أوي!..واضح ان اللي يامن عملهولك طيرلك عقلك، أنا هقفل يا كمال، و لما يرجعلك عقلك و تحس انك بقيت طبيعي نبقى نتكلم!
و أنهت المكالمة و هي تدس الهاتف بحقيبتها، و التفتت لتُلقى نظرةً على هيئتها للمرة الأخيرة ، رفعت ذقنها بشموخٍ و هي تقول بغموض:
ـ مش "هُدى الريحاني".. اللي تسكت عن حقها!.. أبــدًا!
............................................................
لم تكن لتتمكن من كتم ما يجيش بصدرها و صورتهِ تضوي أمام عينيها ، شعرت بضرورة إخبارهِ و إن كانت لا ترغب مُطلقًا في الحديث معه، و لكن ضميرها الذي يجلدها من الأساس لم يكن ليُخيرها ، فـ تركت زفيرًا حارًا قبل أن تلتفت نحوه و هي تردد بصوتٍ محتد:
ـ شوف بقى!.. عشان ضميري و بس عايزة أقولك حاجة
خرج صوتهُ صلدًا للغاية و هو ينقر على شاشة هاتفه بدون أن يكلف نفسهُ عناء النظر إليها:
ـ قــولي!
عقدت ما بين حاجبيها و هي تقول بصوتٍ جاد:
ـ في حد عايز يقتلك
و صمتت قليلًا و هي ترمش بعينيها ثم سارعت بتصحيح خطأها:
ـ أقصد يعني حد غيري! أقصد مش أنا اللي.. ، قصدي اني مش عايـ...
اقتطع"يامن" تلعثمها و هو ينظر نحوها بزاوية عينه:
ـ بنت حسيــن!.. لخصي
كلما حاول الاتصال بهِ"فارس" تأتيه تلك الرسالة المُسجلة ، فـ زفر حانقًا و هو يترك الهاتف أعلى صندوق السيارة الداخلي مُطلقًا سبة خافتة من بين شفتيه، يشعر أنهُ ليس على ما يرام، ذلك التشوش الذي يصيب رؤيتهِ من الحين و الآخر يجعلهُ يستشعر خطرًا يحوم فوق رأسها، حتى أنهُ عقد العزم على إيقاف السيارة جانبًا، ريثما يتواصل مع أحد سائقيه، و لكنها قطعت عليه ذلك الطريق، و شوّشت أفكارهِ بقولها و قد زفرت "يارا" حانقة من لقبها ذلك، حاولت أن تترك أي عداء جانبًا، نظرت نحوه شزرًا، ثم رمشت مرة واحدة، لتطلق سراح زفيرًا حارًا من صدرها، أعقبتهُ باستطرادِها المتلعثم:
ـ مش عارفة هتصدقني و لا لأ، لكن.. لكن في حد حاول يقتلك في المستـ....
قاطع حديثها بلهجةٍ متصلبة و ما زالت تعبيراته جامدة:
ـ عارف!
قطبت جبينها و هي تغمغم متعجبة:
ـ ها!.. عارف؟
لم تتلقَ منهُ ردًا، فرددت مستفسرة و هي ترفع حاجبيها استنكارًا:
ـ و يا ترى بقى تعرف هو ميـن؟
ازاح أحد كفيه عن المقود ليحك ذقنه بظهر إبهامهِ و هو يردد بنبرة جليدية:
ـ أيوة عارف!.. متتعبيش نفسك
فـ رددت مستهجنة:
ـ على فكرة انت مستحيـل تكون عارف و إلا.....
ابتلعت كلماتها في جوفها و هي تنظر لنقطة في الفراغ مستعيدة اللحظات الأخيرة، اعتدلت في جلستها ثم التفتت تنظر نحوهُ و هي تردد مستصعبة ذلك:
ـ عـ..عشان كده كنت هتقتله!.. هو نفسه اللي....
فـ احتدمت نبرتهِ و هو يمنحها نظرةً حامية:
ـ بنت حسيــن!..كفاية
فـ استوضحت عن مقصده و هي تنظر نحوه ببلاهة:
ـ كفاية إيـه؟
ـ أنا عارف كويس هو مين، قفلي الموضوع على كده!
اندفعت الدماء في أوردتها ، فـ اعتدلت لتكون في مواجهته ثانيةً و هي تردد متحدية:
ـ عارف كويس؟.. و لو قولت إنه عمك
فـ تشنجت عضلات وجهه و هو يلتفت نحوها مرددًا باحتداد:
ـ و لو قولت أنه أبوكي؟
و گأن دلوًا من الثلج سُكب فوق رأسها، تيبست بمحلها و قد توسعت مقلتاها إثر كلماتهِ المريبة ، ضاقت عيناها استنكارًا، ثُم تحركت شفتيها لتنطق باستهجان:
ـ نعم!.. انت واعي للي بتقوله يا كائن انت؟
شعر بأن طاقته تُستنزف في حديثه معها و الذي لن يجدي ، فـ أنهى الجدال بـ قولهِ الصارم بالرغم من خفوتهِ المُفاجئ و هو ينظر إمامه:
ـ بنت حسيـن!..صدقتي مصدقتيش.. مش مشكلتي! مات الكلام في الموضوع ده
فلم تكترث لقوله و استطردت بحنق:
ـ بقولك ايه!. هو أي حاجة تحصل لك يكون بابا السبب فيها، و بابا إيه اللي هيجيبه المستشفى أساسًا، و بعدين أنا بعينيا شوفته تمام كان لابس كمامة و مش باين وشه!.. لكن عينيه كانت باينة و لو مش آخد بالك فـ عين بابا زرقا ، انما أعتقد عمك عينه سودا، و بعدين حتى لو لابس كمامة أنا هعرفه ، أنا مش عـ... حــاسب!
كانت آلامه قد تفاقمت ، و بسبب فقدهِ للكثير من الدماء داهمهُ الدوار الحاد المُفاجئ ، و صاحب ذلك تشوش في رؤيتهِ ، لم يستمع لحرفٍ واحد مما نطقت به و هي تحاول اطلاعهِ على ما حدث ، و لم ينتبه لتلك المقطورة القادمة بـ الاتجاه الآخر و كاد يصطدم بها، لولا قولها المرتفع بنهاية الحديث ، فـ أدار عجلة القيادة للجانب قليلًا محاولًا تفادي الاصطدام فـ انحرفت السيارة عن المسار ، خفف "يامن" حِدة السرعة و هو يضغط بشكلٍ مُفاجئ على المكابح ،و لكن المسافة كانت أقصر من أن تتوقف السيارة ، فـ لم يُقدر لها سِوى الاصطدام بـ جِذع شجرة ضخمة على جانب الطريق.
.........................................................................
حاولت قدر المُستطاع أن تزيح أي ذرة توتر قد تصيبها فتفسد تلك اللحظات الرائعة التي تحظى بها، فـ ابنها تيقنت من عودتهِ ، و قريبًا ستتيقن من عوتهِ لرشده و أخذ انتقامها الذي تسعى إليه، أودعت كفها بين كفيّ الأخيرة لتقوم بطلي أظافرها بالطلاء ذي اللون " الفيروزيّ".. بينما المصففة تقوم بـ صبغ خصلاتها لأخرى شقراء گخيوط الشمس الذهبية عقب أن قامت بقصهِ بشكلٍ مختلف يتناسب مع مظهرها الجديد متعمدة أن تنتقي لها ما يُبرز سنها أصغر مما هو عليه، و بينما هي مُطبقة الجفنين مسترخية، ارتفع رنين هاتفها ، فـ تقوست شفتيها بضيق و هي تفتح عينيها ، و سحبته معتقدة أنهُ"كمال".. و لكن خاب ظنها حين وجدتهُ رقمًا غير مسجل، تغضن جبينها و هي تجيب بصوتها المحتد:
ـ ألـو
ـ يا ترى فاكراني يا هـدى؟. و لا الأيام نسيتك
اعتدلت في جلستها و هي تسحب كفها من يد الفتاة الشابة ، ثم أشارت بهِ للمصففة لتتوقف ، و قد شعرت بخفقات قلبها تكاد تصم أذنيها، تقلّصت المسافة بين حاجبيها و هي تهمهم مستمتعة بلفظ الاسم على شفتيها:
ـ حسيـن!
ـ أيوة حسين
أطبقت جفنيها قليلًا محاولة التحكم بكمّ المشاعر الجيّاشة التي اجتاحتها و هي تستمع لصوته الذي تحفظه عن ظهر قلب، ثم فتحتهما و هي تردد بحدة ظاهرية:
ـ خيـر يا حسين؟.. بتتصل ليه؟
فـ خرج صوته حازمًا و هو يمضي نحو شباك غرفته ليفتحه فتسلل الضوء الباهت لداخل الغرفة:
ـ احنا لازم نتقابل يا هُـدى.. لازم!
.......................................................................
للمرة الرابعة على التوالي يغسل وجهه بالماء البارد محاولًا بذلك أن يستعيد قدرًا من اتزانهِ المفقود، و عندما شعر أنه اكتفى، أغلق الصنبور و هو يسلط نظراته على المرآة المثبتة أعلى الحوض، استند بكفيه على حافته، تطاير الشرر من جذوتيهِ المتقدتين و هو يتحسس عنقه بـ أنامله، ثم ردد متوعدًا:
ـ وديني لأوريها شُغلها تمام اللي خليتك تعمل فيا كده!..أنا هوريكم كلكم.. مين هو "كمال الصياد"، اهدوا بس.. اهدوا عليا ، اللعبة لسه في أولها!
رمق انعكاس صورته بنظراتٍ متقدة للمرة الأخيرة، ثم مضى ليخرج من المرحاض المُلحق بمكتبه، تصاعد رنين هاتفه ، فـ زفر محتقنًا و هو يمضي نحوه، و حالما رآى اسمهُ منبثقًا اكفهر وجهه أكثر ، عقد حاجبيه و هو يسحب الهاتف مجيبًا بامتعاض:
ـ عـايز إيــه؟
ـ وحشتني!.. قولت لازم أشوفك.
......................................................................
تأوّهت بخفوتٍ و قد شعرت بألم يداهم عضلات جسدها و خاصة عنقها الذي فور أن حاولت تحريكه خرجت منها أنّة خافتة، رمشت عدة مرات و هي تحاول الاعتدال في جلستها، حتى نجحت فـ جلست مستقيمة و هي تتلمس فقرات عنقها ، حاولت أن تتذكر ما حدث، فـ داهمت الذكريات ذهنها بضراوة ، توسعت عيناها عن آخرها فـ التفتت لتتأكد شكوكها، حين كان بجوارها ، رأسه مصطدمًا بـ المقود، امتد كفها و هي تهز كتفه برفق مغمغمة:
ـ انت!.. فوق
لم تجد منه اجابة ، فـ انتفض قلبها بين أضلعها، ترجلت عن السيارة و دارت حول مقدمتها حتى توقفت أمامه، فتحت الباب، و انحنت قليلًا و هي تحاول رفع ثقل جسده عن المقود حتى نجحت بصعوبة للغاية، فأركنت رأسهِ للمقعد، جحظت عيناها و هي تتلمس تلك الدماء المتدفقة التي تغرق قميصه الأسود، و حين شعرت بملمسها الدافئ أسفل كفها، سحبته على الفور لتكتم به شهقتها المُرتاعة و قد دوى صوت نبضها في أذنيها، شعرت بأطرافها تتثلج و هي ترفع نظراتها الهلعة نحوه ، ثم ربتت على وجنته محاولة افاقته و هي تغمغم بـ رجاء:
- فوق بقى أرجوك ، فــوق ، انت .. انت مش سامعني؟
و أخفضت نظراتها نحو الدماء ، ثم امتدت أناملها المرتعشة لتحل أزرار قميصه ، ليتبين لها الشاش الطبيّ الأبيض المُغلف لجرحه مُصطبغ بـ لون الدماء الأحمر ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تردد بتيهٍ تام:
- أعمل إيه!.. اعمل ايه؟ مش عارفة.. مش عارفة أعمل حاجة
و أدمعت عيناها و هي تغمغم بتلعثم غير قادرة على جمع شتات حروفِها:
- مش.. مش معايا موبايل حتى ، مش عارفة أتصرف ازاي
و رفعت بصرها إليه هي تتوسلهُ قائلة:
- طب قوم قولي أعمل ايـه!.. الله يخليك قـوم
و كأنها تُحادث جثة هامدة، ، تهدل كتفيها بقنوطٍ و هي تجلس على الأرضية بجواره مستندة بذراعيها على ساقيهِ، و قد شقّت الدموع طريقها على وجنتيها ، أطرقت رأسها و هي تردد مقهورة:
- يا رب أرجوك مبقتش قادرة أستحمل الضغط ده ، يا رب!
- بـ..بنت حسيـن!
تسلل صوتهُ الخافت للغاية إلى أذنيها ، حتى أنها اعتقدت أنها تتخيلهُ ، اندفعت الدماء الفارّة مجددًا في عروقها و قد تحفّزت خلاياها ، رفعت نظراتها الدامعة إليه لتتأكد شكوكها حين رأت شفتيهِ تنفرجان مجددًا لتتلفظان لقبها ، رمشت عدة مرات لتزيح الدموع المشوشة لمجال رؤيتها ، ثم نزحتهم بأطراف أصابها و قد تلهفت نبرتها و هي تتشبث بذراعهِ:
- انت.. انت سامعني؟.. انت سامعني صح؟
كان مازال مُطبقًا لجفنيه ، و لكن انعقد ما بين حاجبيه و هو يحاول ان يفتحهما ، فـ رمش عدة مرات حتى سقطت أنظارهِ عليها و هي قريبة منه ، تتأملهُ بنظراتها المتلهفة، فـ أطبق جفنيه مجددًا و هو يهمس بتحشرج مقتضب:
- بتعملي ايـه بالظبط؟
بسطت كفيها معربة عن تيهها ، ثم رددت بضياعٍ و هي تتلفت حولها:
- مش عارفة!.. مش عارفة أعمل إيه؟.. مش عارفة أعمل حاجة ، قولي أعمل إيه؟
- اهربي!
التفتت نحوهُ گالمصعوقة و قد توسعت عيناها و تجمدت الدموع تمامًا فيهما، ثم همست بعدم استيعاب:
- هاه!
التقط أنفاسهِ بصعوبة و هو يحثّها قائلًا:
- اهربي!.. دي فرصتك الوحيدة
ازدردت ريقها و هي تغمغم بعدم تصديق:
- انت.. انت بتقول ايـه؟
فرّق جفنيهِ فـ حانت منهُ نظرةً إليها من عينيهِ ، تسلطت نظراته على ماستيها مُباشرة و نقل نظراته بينهما ، حرفت "يارا" نظراتها بين غابتيهِ المُضطرمتين فـ حانت تلك اللحظة أمامها ، هزت رأسها مستنكرة و هي تسألهُ:
- ليه مقولتليش؟.. ليه مقولتش انك كنت موجود عشان تنقذني؟ ليه محاولتش تفهمني!.. مكنش كل ده حصل!
ارتفع جانب شدقهِ ببسمةٍ ساخرة و هو يردد بتهكم ساخط:
- و انتي أول ما هقولك هتترمي في حضني؟.. هستفيد إيـه!
فـ رددت باندفاع متشنّج:
- انت قليل الأدب على فكرة!
- عارف
و رفع نظراتهِ عنها ليحدق أمامه بنظراته التي أخذت تُظلم مجددًا:
- اللي عايزك تعرفيـه ان اللي مقدم البلاغ هيروح في داهية، منعت اللي كان ممكن يحصل لك، مش عايزك تخافي من حاجة ، عارف إن في حاجات كتير ملحقتش أعملها
و عادت نظراتهِ تتسلط على زرقاوتيها و هو يهز رأسه بـ خفةٍ مغمغمًا بخفوتٍ واثق:
- لكن هتقدري تعيشي يا بنت حسيـن!.. اهربي، خـدي حريتك اللي كنتي بتحلمي بيها
فـ هدرت بهِ ساخطة و هي تضيق عينيها:
- انت مجنون!.. أنا مش قاتلة
و أخفضت نظراتها و قد أصابها الارتباك و شاب نبرتها:
- أيوة!.. أيوة بعترف إني حاولت أقتلك ، بس كان من غير قصد ، مكنتش فاهمة حاجة ، كان.. كان حتى من غير ما استوعب اللي حصل! و حاولت أصلح غلطي
ثم رفعت نظراتها المحتدة إليه و نقرت بـ سبابتها على ساعده المكشوف و كأنها تنقر على أحد أوردتهِ البازغة و هي تردد قاصدة التشديد على كلماتها:
- أنا اديتك دمّي عشان متموتش!.. عارف معنى إني أذي أكتر إنسان بكرهه في حياتي جزء مني! عارف معنى إن دمي بيجري في دمك دلوقتي
كان لوقع كلماتها تأثيرًا خاصًا لديه، و بالرغم من الجمود البادي عليه إلا أن كلماتها ظلّت تترد على أذنيه مراتٍ عِدة ، قبل أن تشدد من قبضتها على ذراعهِ بلا وعي منها و هي تهز رأسها نافية ذلك:
- أنا مش هسيبك أنا مش قاتلة زيك!
تسلطت نظراتهِ المتحدية عليها و هو يحذرها قائلًا:
- المرة دي غيـر يا بنت حسيـن!.. المرة دي لو رجعت! مش هسيبك غير على جثتي، مش هديلك الفرصة دي تاني و أقولك اهربي يا بنت حسيـن!.. فكري تاني ، فكري لمرة واحدة في حياتك بعقلك مش بقلبك!
كلماتهِ العميقة وضعتها بين المِطرقة و السندان ، مِطرقـة ضميرها الذي ينخرها ، و سِندان سعيها نحو حريتها و الحصول عليها ، و ها هـو يهديها مفتاح أسرها ، هـو أتى عليها ، و جار عليها كثيرًا، تسبب بمعاناةٍ حرفية لها ، و كوارث عِدة أصابت عائلتها بسببهِ ، يحق لها تركه إذًا، و لكنها أبـت.. أبت تمامًا و هي تتخيل حياتها التي سيظل ضميرها يجلدها بها بقسوةٍ فـ قد كان بإمكانها إنقاذ روح و لكنها أبت و فرّت تاركة لهُ خلفها، ضمّت شفتيها معًا و هي تردع ذهنها عن التفكيـر ، فـ إن حدث و فكرت بهِ كما يقول فـ حتمًا ستغير قرارها و تتركه ، أومأت بحركةٍ خفيفة و هي تردد بتريث:
- انا موافقاك!.. انا غبيـة ، غبية جدًا لدرجة إني مش قادرة أسيبك بعد ما دمرت حياتي كلها ، لـو ده مُصطلح الغباء فانا بعترف بغبائي
و عمّقت نظراتها المُصرّة نحوه و هي تردد بنبرة حاسمة:
- مش هسيبك يا صيّاد ، مش هسيبك
انطبق جفنيهِ سويًا بوهنٍ و قد لاح شبح ابتسامة على شفتيه ، عاد برأسهِ للخلف محررًا بصعوبة زفيرًا عن صدره ، فـ رددت و هي تتأمل حالتهِ الواهنة:
- و بعديـن لو بنتكلم عن الغباء فـ انت أكتر واحد غبي شوفته في العالـم!.. حد يخرج من المستشفى في حالتك دي؟
فـ اتسعت ابتسامتهِ الساخرة قليلًا و هو يردد بصوتٍ خافت للغاية:
- تقريبًا انتي الوحيدة اللي اتجرأت تشتمني!
برقت صورة والده أمام عينيهِ في الظلام الدامس الذي حلّ حين أطبق جفنيه ، فلم يمنع نفسهُ من أن يُقر لها بذلك و قد بدا و كأنهُ يهذي مُطبقًا بعسرٍ على أصابع كفهِ:
- كان نفسي روحه ترتاح،.. بس أنا مش عارف هو عايز إيـه!.. كان نفسي يرتاح في تربته ، لكن هو مكانش عايز دا، كان نفسي أكون الابن اللي هو عايزه لكن مقدرتش حاولت أزرع أمله فيا في أخويا
و تجلت السخرية المريرة في نبرته و هو يغمغم:
- و الظاهر إني فشلت
تنهد بحرارةٍ أعقبها قولهِ المرير:
- كان نفسي أقابله!
فرددت و هي تسحب كفه متلمسة إياه بـ أناملها الرقيقة هامسـة بتوسل مختنق و قد تجمعت الدموع في مقلتيها:
- أرجـوك بقى كفايـة!
سحب كفهُ عن وطأة أناملها الرقيقة ، ثم ضبط نبرته لتصير لهجتهِ صلدة بالرغم من خفوتِها التام و كأنها كلماتهِ الأخيرة:
- لكـن احنا طريقنا مش واحد!.. هـو في الجنة ، و أنا جهـنم!
انخفضت وتيرة أنفاسهِ مع كلماتهِ الأخيرة التي بالكاد وصلت إلى مسامعها، و انقطع صوته تمامًا ، فـ انخلع قلبها و هي تهتف بصوتٍ مرتاب:
- يـ..يامن؟ انت .. انت سامعني؟
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تضرب على وجنتيه برفقٍ هامسة بتوسل:
- لا لا لا .. خليك معايا ، خليك معايا أنا لوحدي ، أرجـوك فوق ، قـوم ، أنا خايفة أوي
قَنِطت من احتمالية رده ، فـ شددت من قبضتها على ساعده و هي تغمغم بمرارة:
- انت ليه بتعمل فيا كده؟.. ليه بتحسسني بالذنب ناحيتك و انت أكثر شخص أذيتني؟ انت معاك حق ، أنا.. أنا فعلًا غبيـة ، بس أرجوك بقى قوم!
دفنت وجهها بين كفيها و هي تجهش بالبكاء، و لكنها سريعًا ما أزاحتهما عن وجهها و هي تنظر لوجهه هامسة بتيه:
- موبايلك!.. موبايلك ازاي مفتكرتش ده !
و حاولت تذكر أيـن رأته يضعه ، فـ نهضت متحفزة عن جلستها تلك مجبرة ساقيها على الحراك ، ثم دارت حول مقدمة السيارة و فتحت باب مقعدها ، انحنت "يارا" بجسدها لتبحث عنه على صندوق السيارة الداخلى الصغير ، و لكنها بالتأكيد لم تجده، فانحنت و شرعت تبحث عنه أسفل مقعدها حتى وجدته، ثم انتصبت و هي توصد الباب من خلفها ، و راحت تجلس أمامه مجددًا تاركة كفها فوق ساعدهِ و هي تتلمس جلد بشرته الباردة فـ أصابها الوجل ،تلاحقت انفاسها ارتفعت وتيرتها و قد اصابها التوتر حينما وجدتهُ مغلقًا بـ خاصيّة" البصمة" ، فـ تقلصت تعبيرات وجهها و هي تهمس بضياع بادٍ:
- طب أفتحهُ ازاي!.. أعمل ايه
و نظرت نحوه محاولة البحث عن جابة ثم هزت رأسها استنكارًا و هي تسارع بسحب كفه:
- ما انت قدامي أهـو ، إيـه الغباء ده؟
شرعت تجرب أصابعه واحدًا تلو الآخر حتى نجحت ، فنقرت على شاشة الهاتف محتفظة بقبضتها المتوترة فوق ساعده ، و ما إن أتاها ردها حتى صاحت بـ صوتٍ امتزج مع نشيجها:
- الحقيني يا ماما ، الصياد بيموت و أنا مش عارفة أعمل إيـه! اعملي أي حاجة.
...........................................................................
سحب قدح المشروب الأحمر الساخن و الذي يتطاير منه البخار إلى شفتيه ليتذوق منه على أطراف لسانه ، و ارتشف رشفةً بالرغم من سخونتهِ، ثم تركه جانبًا و هو يهتف عاقدًا لحاجبيه:
- بس تعالالي هنا و قـولي!.. كنت مسنود من ميـن بقى؟
و گأنهُ يجلس أمامهُ تمامًا، توئمًا لا يُفرقهما سِوى ذلك الشيب الذي شرع يغزو شعر رأسه و يبدو حتى أن الأخير يتصدى لهُ ، و ملامحًا لم ينجح الزمان بخط خطوطهِ العريضة فوقها، فـ بدا و كأنهُ شابًا يشبه اخيه و ابنهُ تمامًا ، تغضّن جبين "حسيـن" و هو يستفسر:
- يعني؟!
غمز "كمال" مرددًا بنبرة ذات مغزى:
- مش غريبة دي؟ خلاص المحكمة هتصدر حُكـم الإعدام!.. و فجأة تاخد براءة و تتقيد القضية ضِد مجهـول
انفرجت شفتا "حسيـن" عن ابتسامة عابثة متعمدًا أن يستفز خصمه:
- طب بذمتك مش حاجة تحير؟
فـ أشار "كمال" بكفه متصنعًا الضحك أثناء قولهِ:
- دي مش بس تحيـر!.. دي تهبل يا راجل
أومأ "حسيـن" و هو يهمس بغموضٍ واثق:
- ما أنا عـارف!
تنهد "كمال" بحرارةٍ قبل أن يغمغم:
- آه يا حسين ، كان ممكن نبقى حبايـب ، لكن انت رفضت
فـ سحب "حسين" قدحهِ بدوره و هو يردف أثناء ارتشافه:
- ما قولتلك قبل كده يا كمال ، عُمر ما التلج و النار يتقابلوا!
عاد " كمال" بظهره للخلف و هو يردد بهدوءٍ حذر:
- اكـيد مش هيبقى بيننا غير الدم!
فـ صدر صوتًا مزعجًا اثر ترك "حسين" قدحه بعنف و هو يردد مهتاجًا مشيرًا له:
- اتكلم عن نفسـك يا كمال!.. انت اللي وصلتها لكده بعمايلك
تجعد جبن "كمال" و هو يردد مستوضحًا:
- قصدك إيـه
أشار "حسين" بعينيه و هو يردد حانقًا:
- فِكرك مش عارف انت كنت بتعمل إيـه عشان توقع أخوك!
فـ اشتدت تعبيرات "كمال" اثر كلماته المغزيـة التي تحمل خلفها الكثيـر ، و بدت القسوة في نبرتهِ الخشنة و هو يردف:
- سيبك من كل ده و لخـص!.. طلبت تقابلني ليه؟
نقر "حسين" بسبابتهِ على الطاولة و هو يردد بصوتٍ ثابت:
- تسحـب البلاغ و تطلع بنتي بأي شكل من كل ده
افترّ ثغر "كمال" عن ابتسامةٍ عابثة عقد ساعديهِ أمام صدره و هو يرمقه بنظراتٍ خبيثة مرددًا باستمتاع:
- و إلا..؟
احـتد " حسين" و هو يردف بصوتٍ واثق للغاية:
- و إلا كـل المستور هيبان!.. كله يا كمال!
فـ ارتاب " كمال" قليلًا و قد تلاشت بسمته عن ثغره تمامًا ، ازدرد ريقه و هو يميل للأمام غارسًا عينيهِ بعيني الأخير مستفسرًا بـ ريبة:
- قصدك إيـه؟
أشار "حسين" بعينيه و هو يغمغم بتهديد صريح:
- أنا أعرف عنك حاجات إنت متتخيلهاش!.. و شايل كله في قلبي و ساكت يا كمال ، لكـن مثل و قالوه زمان " اتقِ شر الحليم إذا غضب"
رمش " كمال" عِدة مرات و قد شعر بـ أطرافهِ تتثلج تمامًا عقب ما استمعهُ ، لا يدري مقصده المبطن و تلميحه الضمني إلى أي مدى وصل، إلى اي مدى يعرف عن خباياه ، أوجس في نفسهِ خيفة لم يظهرها، فردد بلهجة مستهجنة:
- أنا مبتهددش يا حسيـن
فردد "حسين" يناطحهُ:
- كمـال!.. اسمعني كويس ، بنتي تطلع من كل ده ، فاهـــم!.. و إلا قسمًا عظمًا لتشوف حسين تاني غير اللي قدامك ده
انبثقت نظراتهِ الحاقدة من عينيهِ و هو يرمقه بنظراتٍ محتقنة ، ثم كاد ينهض ليهم بالمغادرة لولا أن استوقفهُ "حسيـن" بنبرة ذات مغزى و بابتسامةٍ لئيمة:
- مراتك لسه بتحبني
تيبس جسده بمحله غير قادرًا على التحرك ، لكلماتهِ مغزيان.. الأول أنهُ كان يعلم بعشق زوجته له سلفًا و ليس غير داريًا بذلك كما كان يعتقد ، و الثاني أنهُ يُفتّش في دفاتر الماضي لـ يتمسك بإحدى أطراف خباياه التي ستقتاده نحـو المنحدر ، توهجت حدقتاهُ و هو يلتفت مرددًا بصوتٍ جهـوري:
- انت اتهبلت على كبر و لا إيـه؟ إيه الكلام اللي بتقوله ده؟
فـ كان "حسين" باردًا للغاية:
- أيـوة عارف إنها كانت بتحبني!
رمش عدة مرات و قد التهب وجهه بالحمرة ، فـ رفع " حسين" ساعده لينظر في ساعة يده ، ثم رفع نظراته إليه و ابتسامته العريضة لا تكاد تفارق ثغره:
- أثبتلك!.. هثبتلك حالًا
و أشار نحو باب المقهى و هو يردد بثقةٍ تامة:
- بالظبط 3 دقايق و هتلاقي مراتك داخلة من الباب ده ، في كامل أناقتها و شياكتها ، عشـان تقابلني!
....................................................................
........................
.................................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
