"الفصل السابع و السبعون"
تغضن جبينها باسترابة حين وجدتهُ لا يزال هُنا.. مُقبلًا عليها من رواق آخر، تيبست "سُعاد" محلها حتى توقف "مايكل" أمامها مباشرة، فسألتهُ من فورها بضيقٍ لم تتمكن من مواراتهِ:
- انت لسه هنا؟
أومأ "مايكل" و هو يناولها كوبًا بلاستيكيًا ابتاعهُ من الخارج مرددًا:
- لم يكن هنالك مقهى ملحقًا بالمشفى.. اعتقد أنكِ بحاجة إليه
تقلصت تلك المسافة بين حاجبيها و هي تضيق عينيها، تناولت الكوب منه، ثم سألته:
- إيه دا؟
- قهوة!
أومأت "سعاد" بقلة حيلة و هي تهز كتفيها، و وجدت نفسها مجبرة على القول:
- شُكرًا
- you are welcome
و انحرفت نظراته المرتبكة قليلًا لباب الغرفة الموصد، لم يتمكن حقيقةً من منع نفسهُ من السؤال و قد غلّف لقلق شغف نبرتهِ:
- Is she fine?
رنا بنظرة مترددة إليها، ثم رمش مرة واحدة و هو يتابع و قد اختلطت نبرتهُ لتجمع الإنجليزيّة بالعربيّة:
- I mean.. هل هي بخيـر؟
أومأت و هي تردد و قد ابتسمت رغمًا عنها:
- بفهم انجليزي، مش غبية للدرجة دي
فـ أحنى بصرهُ عنها و هو يقوس شفتيه بابتسامة رجوليّة مُعتذرًا بعفوية:
- I'm sorry.. I didn't mean that
" أعتـذر، لم أقصد ذلك"
و أطبق جفونه ليترجم و هو يحكّ مؤخرة رأسه مشيحًا ببصره عنها:
- أقصـد...
فحاولت أن ترفع عنه الحرج:
- خلاص.. خلاص، عرفت إن مش قصدك
فراح يسألها السؤال الأهم و هو يتهرب بنظراته من عينيها المُتصيّدة له:
- كيف حالها الآن؟
أومأت "سُعاد" و هي تحرر زفيرًا ملتهبًا عن صدرها، ثم دمدمت بتحفّظ مُقتضب نوعًا ما:
- كويسة
تلوى شدقيهِ بضيق و هو ينظر نحوها من طرفه، ثم هز رأسه و هو يتابع بذلك التلعثم المُغلف لنبرتهِ:
- So.. I have to go
و أطبق جفونه و هو يزفر في حنق، و قبل أن يهمّ بالترجمة ..أومأت "سعاد" و هي تدمدم:
- لو عايز تمشي امشي
زمّ "مايكل" شفتيه و هو يردد بنبرة قاطعة:
- but I أعنى سأظل هنا حتى تتحسن، أقصد كي أطمأن إلى وصولكما سالمين لبيتكم، أعني بالقاهرة!
ضاقت عيناها و هي تتصيّد كلماتهِ متمتمة بنبرة ذات مغزى، و كأنها تتعمد تذكيرهُ بالفارق:
- عايز توصلنا يعني؟.. متتعبش نفسك يا.. انت اسمك إيه؟
رنا إليها بنظرة مطولة انبثق منها الحنق و قد شعر أنهُ ككتابٍ مفتوح أمامها، و لم يشعر بنفسهِ سوى و هو يردّ على إجابة سؤالٍ صاغتهُ بسؤالٍ آخـر تمامًا لم يمتّ بصلة له:
- Yes.. I love her, do you feel victory now
أنغضت "سعاد" رأسها باستنكار ثم رددت ببرود و هي ترفع كتفيها:
- أبدًا.. و إيه اللي هيخليني أرتاح أو احس بانتصار في دا
و لم تتردد.. سحبت ساعدهُ لتضع معصمهِ نصب عينيهِ، انحرفت نظرات "مايكل" للصليب المحتلّ معصمهِ في إباءٍ، فـ أطبق جفونه و هو يشيح بوجهه مستشعرًا اختناق صدرهِ، و كأن ضلوعه أطبقت على قلبهِ، فرددت "سُعاد" عقب أن تركت ساعده:
- إبعـد.. إبعد يا ابني، لو بتحبها بجد مع إني شاكة في دا، ابعد عنها
و منحته نظرة أخيرة جامدة، ثم مرّت من جواره قاصدة الابتعاد عنهُ، و ما إن صارت خلفهُ تمامًا حتى ردد "مايكل" بمرارة طافت حول نبرتهِ التي حاول أن تكون مُتصلبة:
- إن لم يكن حبًا فماذا؟.. لمَ أسعى دومًا لحمايتها؟ لمَ لا أتمكن من إبعادها عن تفكيري؟ لمَ لا يكتمل يومي إن لم أستمع لصوتها؟ لمَ أتألم إن التقطت عيناي دمعة تحاول إخفائها، لمَ أشعر بالضياع من دونها؟ لمَ تكن أمنياتي أن تمنحني نظرة واحدة تشفي مرضي بها؟ لمَ تحول عالمي لكآبة دائمة فقط لأنني أدرك معاناتها و عاجز عن محاولة التخفيف عنها؟.. لمَ شعرت و كأنني أفقد روحي فور رؤيتها غارقة في دمائها؟ لمَ لم أتمكن من تخيل يومي دونها، لم شعرت بالخوف الذي لم أشعر بهِ يومًا لمجرد أن تملكتني فكرة فقدانها؟
تيبست محلها و قد أجبرت كلماتهِ ساقيها على التوقف رغم أنفها، التفتت و قد فغرت شفتيها متأثرة بعمق كلماتهِ التي نبعت من صميمهِ المُتخم بحبها، فردد "مايكل" و هو يقوس شفتيه:
- Tell me please.. what is it? isn't love?
"أخبريني لُطفًا.. أليس الحُـب؟"
هزت "سُعاد رأسها بالسلب و قد تجلت الصرامة على ملامحها، رفعت ذقنها لتجيبهُ في احتجاجٍ رافض:
- مينفعش.. انت من عالم و بنتي من عالم تاني، سامع؟ مينفعـش؟
رنا "مايكل" بنظرة لمعصمهِ و هو يعترف إليها:
- لربما لم أكن متدنيا.. أو ملتزمًا حتى بالمسيحيّة
و زفر مستثقلًا ما سيتفوه بهِ و هو يدس كفه بجيبهِ مرددًا بتيهٍ:
- و لكن أهو بتلك السهولة؟.. أن أتخلى عن ديني.. معتقداتي.. إيماني.. عائلتي التي سترفضُ ذلك رفضًا قاطعًا..أن أتخلى عن ما يعادل حياتي في لحظة واحدة؟
أُثيرت حفيظتها مع كلماتهِ التي أفضى إليها بها، فراحت تخطو نحوه لتقف أمامه و هي تهز رأسها بالسلب مرددة باعتراضٍ تام:
- اسمع يا ابني.. حتى لو غيرت دينك فـ أنا مش هوافق بنتي تتجوز واحد اتخلى عن دينه في ثانية عشان بس ياخدها، انت كدا بتشككني فيك أكتر، إنت مش بس مسيحي، إنت من بلد تانية.. معتقداتها و عاداتها و تقاليدها غيرنا، بلد متفتحة قليل أوي لما نلاقي منهم انسان ملتزم بدينهُ سواء مسيحي أو حتى يهودي، أنا مقدرش أئتمنك على بنتي
و صمتت هنيهة فـ أشاح "مايكل" بوجههِ عنها، تابعت "سُعاد" بنبرة جادة عميقة:
- الإسلام يا ابني دين عادل.. بيأمر الراجل بحسن معاملة زوجته، الرسول مُحمد عليه الصلاة و السلام كان عامل خطبة إسمها خطبة الوداع قبل ما يموت، قال فيها " و استوصوا بالنساء خيرًا".. الإسلام دين تسامح و عفو و كظم الغيظ، الإسلام بيشجع على الإحسان للجار، لنجدة المستغيث، الإسلام نفسه أمرنا بأننا نحترم الأديان السماويّة، الإسلام لو كل المسلمين التزموا بيه.. صدقني يا بني مكانش دا حالنا، إحنا اللي بنشوه صورة الإسلام في عيونكم و في عيون أي بلد أجنبي، الإسلام أعظم من إنك تنطق الشهادة عشان بس تتجوز مسلمة، انت كدا.. بتستهر بيه، و أنا آسفة، يستحيـل أقبل بدا
و أحنت بصرها و هي تردد معتذرة منهُ إن كان قدر بدر منها خطئًا في حقّ دينهِ دون قصد منها:
- و من كلامي مقصدش إن الدين المسيحي مأمرش بقيم سامية، أنا بعتذر لو فهمت دا أو فهمت إني قاصدة أسئ لدينك، أنا شخصيًا بحترم المسيحين جدًا، لكن آسفـة.. إنت مش مجرد مسيحي، إنت مسيحي من بلد أجنبي أنا و انت عارفين كويس إن مفيش حد فيه ملتزم.. عن إذنك
و خطت مبتعدة عنه و قد تركت جوبهِ جانبًا رافضة أن ترتشف منه رشفة واحدة، نظر "مايكل" الكوب مطولًا فـ اكفهرّ وجههُ و انبثقت نظرة مصممة في عينيهِ، عبر الرواق الذي يؤدي للمخرج و قد عقد العزم على فعلةٍ ما.. لربما سـ تؤتي بثمارها، و ربما لن يستفيد منها سوى إرهاقًا لروحهِ.
...................................................................
تلك الشاحنة الضخمة التي تتبعتها سيارات أخرى أقل حجمًا استهدفها دونًا عن غيرها، أشار "يامن" بسبابتهِ عبر زجاجه المخفض كإشارة للبدء.. و ما هي إلا ثوانٍ و كانت السيارات التابعة لـ "يامن" تُقصي السيارات الأخرى التابعة لـ "نائف" و المحيطة للشاحنة.
كان هجومًا مُباغتًا لم يتوقعهُ رجال "نائف" إطلاقًا، فلم يقوَ منهم على صدّ ذلك الهجوم، و شرعت السيارات تُقصى عن طريق "يامن" واحدة تلو الأخرى، منهم من أجبرتهم سيارات "يامن" على الحيود عن الطريق الرئيسيّ، و من أنهى "يامن" حياتهِ بطلقة واحدة لرأس سائقها فتصطدم السيارة بسيارة أخرى أمامها فتتناثر الجذوذ و الشظايا..
حتى بات الطريق فارغًا إلا من سيارات "يامن" التي تهشم أجزاء منها كالمصابيح الأمامية إثر الإرتطامات العنيفة، و تلك الشاحنة التي ضاعف "يامن" من سرعتهِ ليُضحي جوارها تمامًا، بسط ذراعه ليُصوب سلاحهِ لإطار الشاحنة، و أطلق عدة رصاصات حتى حادت عن المسار، أتبعها برصاصة مُوجهة لرأسه مباشرة أودت بحياتهِ على الفور و أسقطت جسدهُ فوق مقود الشاحنة الذي لُطخ بالدماء الدافئة التي تنبجسُ من رأسهِ، و ما هي إلا ثوانٍ و كانت الشاحنة تحيد عن المسار فـ سقطت أفقيًا في منتصف الطريق على جانبها، مُحدثة دوّيا هائلًا وسط تلك الظلمة الحالكة، صفّ "يامن" سيارته خلفها و من ثم ترجل منها ليخطو نحوها، و من خلفهِ توقف السيارات أجمع، و شرعت حراسته تترجل منها، و من خلفهم بزغت تلك الشاحنة الضخمة الفارغة الخاصة بـ "يامن"، توقف "يامن" امام الشاحنة المُحطمة مباشرة، و بإشارة واحدة غمغم بلهجة أحلك من تلك الظُلمة التي تحيكهم من كلّ حدبٍ و صوب:
- ابدؤوا
- أمرك يا يامن بيه
ارتفع رأسهُ في شموخٍ و قد بزغت تلك النظرة المتوعدة في مقلتيه المحاطة بالشعيرات الدموية البارزة، راقب ما يحدث أمام عينيهِ من نقل تلك البضاعة الهائلة لشاحنتهِ هو فصار يملكها، فـ انزوت ابتسامة شيطانية على شفتيه و هو يردد بلهجة قاتمة:
- أما نشوف بقى هتعمل إيه في خسارتك يا.. دمنهوري!
...........................................................
كانت تبكي بكاءً خائرًا و هي تهز رأسها بالسلب من بين شهقاتها الخفيضة:
- أنا اتحرمت من إني أشوفها، خليني أشوفها مرة واحدة بس، هاتوهالي، أنا عايزاها، يا ولــاء.. وديني عندها يا ولاء
فور أن استفاقت من نومتها و هي على حالتها تلك، فربتت "ولاء" على كفها و هي تتوسلها لتُهدئ من روْعها:
- يا حبيبتي و الله هوديكي عندها، و الله جاسم بيخلص اجراءات الخروج و في طيارة هتاخدنا، أرجوكي بس اهدي و أنا هعمل لك اللي انتي عايزاه
التقطت "حيبة" أنفاسها بصعوبة و هي تنظر نحوها من بين عبراتها المشوشة لرؤيتها، ثم دمدمت في مرية من قولها:
- بجد هتوديني يا ولاء؟.. يعني.. يعني خلاص هشوف بنتي؟
تحدّبت شفتيها بابتسامة باهتة و هي تنحني عليها لتترك قبلة هادئة أعلى جبينها، و تعهّدت لها بـ:
- و الله هتشوفيها يا حبيبتي، صدقيني هتشوفيها
....................................................................
فور أن اقتاد سيارتهُ داخل أراضي القاهرة، ترجل منها عقب أن صفّها أمام أول "مكتبة" ضخمة خاصة ببيع الكتب من فورهِ، دلف للداخل ليجد تقاسيم و فروعٍ عِدة للكتب، فلم يجتبى سوى ما أرادهُ، خطى "مايكل" نحو ركن الأرفُف الخاصة بالكتب الإسلاميّة، و عيناه تتجولان على عناوين كلّ كتاب، و شرع ينتقى منهم العديد، يُخرج إحداهم و يشمل غلافهُ بنظراتهِ، ثم يُضيف لما بين يديه كتابًا آخر، و آخر.. و آخر، حتى صارت لديه حصيلة لا بأس بها في كل شئ.. السيرة النبويّة، تفسير القرآن الكريم بأجزائهِ العديدة، كتب الأدعية، الأذكار، قصص الأنبياء، حتى تعجّب العامل نفسه لدى تلك الكميّة التي اقتناها ذلك الرجل الذي يبدو عليه من النظر الأولى نحوهُ أنه أجنبيّ الجنسية ليس من أرض مصر، خرج "مايكل" من المكتبة عقب أن دفع مبلغًا لا بأس بهِ عبر إحدى بطاقتهِ الائتمانيّة، بوجهٍ يُخفى ما يعتمل في نفسهِ..
قصد سيارتهُ و هو يحمل الحقائب العِدة، سارع بفتح صندوق السيارة الخلفيّ و تركهم فيها، و من خلفهِ خرج أكثر من عاملٍ ليضع باقي حقائبهِ، حتى انتهى من نقل ذلك العديد الضخم، أغلق "مايكل" صندوق سيارتهِ، و دار حولها ليتسقل مقعد السائق، و رحل مبتعدًا عن تلك البقعة ليقصد منزلهُ، منتويًا أن يقضى وقتًا مُطولًا.. مُطولًا للغاية في رحلة مع كتبهِ.
........................................................
وقف أمام مخازنهِ محاطًا بكوكبةٍ من حراستهِ، تأفف "نائف" مُضجرًا و هو ينظر في ساعة يدهِ و قد تجهّم وجهه و سئم من طول انتظارهِ، على الجانب الآخر.. كانت تلك السيارة التي تهشّمت واجهتها بالكامل مُصطدمة بجذع شجرة ما عقب أن تلقّت هجماتٍ عدة من إحدى سيارات "يامن" فـ أجبرتها أن تنحرف عن الطريق
رأسهُ أعلى المقود و قد تدفّق من جرح رأسهِ كمية لا بأس بها من الدماء، تأوه الرجل بصوتٍ مرتفع و هو يتململ في جلستهِ، استشعر ذلك الملمس الدافئ المغرق لجبهتهِ فتلمس جرحه بأطراف أنامله، نظر في ساعة يده، فسارع و هو يتأوه متألمًا بإخراج هاتفه، و أجرى اتصالًا بـ "نائف" من فورهِ، تلقّاه "نائف" باستهجان و:
- انتو فين؟
و من بين أنفاسهِ المتهدجة ردد الأخير متأوّهًا:
- يامن الصياد و رجالته طلعوا علينا فجأة يا نائف بيه، معرفش عملوا إيه في البضاعة!
گالمُهل يسرى في أوردتهِ، و جحيم استعرّ نيرانه في صدره، أطبق "نائف" على أصابعهِ مكورًا قبضته و قد اهتزت عضلات صدغيهِ، تحول وجههُ لكتلة من النيران و هو يفرق أسنانهُ بعسرٍ لينطق باحتدامٍ مُستهجن من بينهم:
- و انتو كنتوا فين يا شوية ******، يعني إيه متعرفش عمل إيه في البضاعة؟
و ما إن همّ الرجل بإجابتهِ و قد أطرق رأسه في خزي، حتى صاح "نائف" في وجههِ:
- اقفـل، اقفل يا ابن الـ***** لما أشوف حصل إيه، ما أنا مشغل شوية ******* و ******** عندي
و أنهى المكالمة و ألسنة نيرانهِ تتراقص في صدره، و ما إن همّ بإجراء إتصالٍ آخر حتى تلقى تلك الرسالة منه، كاد يُهشم أسنانه من فرط إطباقهِ عليها حين وجد مقطعًا مرئيًا مُسجلًا لتلك الواقعة..
حيث يقوم رجال "يامن" باستخراج البضائع من الشاحنة المقلوبة على جانبها ليتمّ نقلها فيصبح مستودعها شاحنة "يامن"، و في نهاية المقطع بزغ صوتهُ القاتم:
- حلو المشهـد يا دمنوري؟.. و لا اتفاجأت؟
و ضحك ضحكاتٍ هازئة مُتهكمة متبعًا ذلك بقولهِ الغامض:
- خلي الصدمة دي لبعدين.. لأن في حجات كتير لسه هتعرفها!
و صمت هنيهة.. ثُم تابع بلهجة ساخطة ذات مغزى:
- تؤ..تؤ..تؤ، كان لازم أشوف منظرك يا نائف، بس معلش، أصلك مستعجل!
و أنهى كلماتهِ الحارقة لأعصاب "نائف" بقولهِ البارد:
- متهيألي كفاية عليك كدا يا دمنهوري لاحسن تتشل، صحيح القرض اللي خدته من البنك عشان تعمل الصفقة دي كان كام؟.. ابقى تعالى لي الشركة يمكن أفكر أديلك سلفة.. معلش بقى ربنا يعوض عليك!
و أنهى "يامن" المقطع المرئيّ عقب أن أعقب كلماتهِ بضحكة ساخرة دون أن يُظهر وجههُ.. فقط رجالهِ الذين ينقلون البضائع، فلم يشعر "نائف" بنفسهِ سوى و هو يلقى هاتفهِ بعنفٍ بالغ، حتى انتبه إلى أحد رجالهِ الذي دنا منهُ و هو يحمحم مرددًا بخفوتٍ وجل:
- نائف بيه.. الطرد دا جاي باسم حضرتك
نظر نحوهُ بأعينه التي تتناثر منها الشظايا و الجذوذ، و من فورهِ سحب الظرف من يدهِ بعنفٍ بالغ و صدره ينهج علوًا و هبوطًا، و نزع غلافهُ بتشنج صاحب حركاتهِ أجمع و لسانهِ لا يكفّ عن سبهِ، حتى جحظت عيناه و شخص بصرهُ الملتهب لما وجد في الظرف، ورقة ماليّة من فئة " الرُبع" جنيهًا مصريّا، مرّت عيناه المتوهجتين على تلك الملاحظة الصغيرة المُرفقة معهُ و:
- " يكفي؟ أنا عارف إنه كتير عليك.. متشكرنيش يا دمنهوري، دا واجبي، اقبله بس يمكن ينفعك وقت زنقة، بدل ما تمشي تشحت في الشوارع"
فلم يشعر بنفسه سوى و هو يقتطع الظرف و الورقة الماليّ و الرسالة معًا و هو يجأر بصوتهِ و قد شعر ببركانهِ يثور تمامًا:
- آه يا ابن الـ******، يا *********، و عزة جلال الله ما سايبك يا ********
.............................................................
كان في استقبالهم و هو يترقّب الثواني كأنها أدهرًا تمر عليهِ، إذ سيحظى أخيرًا برؤيتها بعد التقطتها عيناهُ عن بعدٍ فأشار إليها، سارعت "ولاء" في خطواتها بقدر ما أمكنها عُكازها، حتى صارت أمامه مباشرة تاركة "جاسم" يُسند جسد والدتها التي شعرت بساقيها رخوتين.. تقوى بالكاد على تحريكهما.
توقفت "ولاء" أمامه مباشرة و قد تقوست شفتيها بابتسامة واسعة رغمًا عنها، و كذلك هو.. ثغرهُ اتسع به ابتسامة رجوليّة جذابة و هو ينهل من وجهها ما يجعله يحفظ تقاسيمهِ و يطبعه في صميمهِ، ودّ لو باستطاعتهِ أن يجتذبها لأحضانه و يسحقها بين ذراعيه محاولًا إشباع شوقه و حنينهِ إليها، و لكنهُ وجد نفسه متيبسًا لم يُصافحها حتى، دقائق مرّت.. لم يتفوّه أحدهما ببنت شفة، و لكن نظراتهم التي ومضت ببريق لامع فاضت بالكثير مما عجز اللسان عن ذكرهِ، و گأنها لُغة خاصة.. خاصة بهما وحدهما، لا لغيرهما دخل بها و لا يفقهها فقيه، أنفاس "ولاء" المتهدجة قطعت عليهِ تلك اللحظات الصامتة، فبادر بقولهِ الخشن:
- عاملة إيـه؟
أومأت و تلك الابتسامة لا تفتؤ تحتلّ محياها:
- كويسة.. و انت؟
- تمام
و انحرفت عيناهُ رغمًا عنه و قد غربت بسمتهِ عن وجهه ليحتله تعبيرات حادة حين دنت "حبيبة" فأردف و هو يبسط ذراعيهِ لها:
- عنك يا جاسم
فوجدت "حبيبة" نفسها تضمهُ إليها و هي تردد من بين شهقاتها التي شرعت فيها توًا و هي تشكوهُ قسوة زوجها المتوفى:
- شايف يا ابني اللي عمله فيا؟.. حرمني منها؟ دا أنا كنت بروح أزور قبرها كل يوم، كنت بتعذب كل يوم و أنا بشوف يارا قدامي و بتخيل أختها
احتوى "فارس" جسدها بين ذراعيه و قد لانت ملامحهُ لها و انبثقت نظرة مُشفقة لحالها بين عينيه، غابت ابتسامة "ولاء" و تلاشت و هي تتقدم منها لتربت برفقٍ على كتفها و قد احتلّ تعبيراتها الوجوم:
- خلاص يا ماما أرجوكي.. متعمليش كدا في نفسك ، خلاص إنتي هتشوفيها أهو
فردد "فارس" عقب أن حرر تنهيدة من صدرهِ:
- خلاص مات يا حبيبة.. انسيه و افتكري بناتك، قولي الحمد لله إن ربنا هيكتبلك تشوفيها بعد العمر دا
أومأت "حبيبة" بقلة حيلة و هي تنزع دموعها بمنديلٍ ورقيّ، ابتعدت عنهُ قليلًا فسألها "فارس" و هو يتأمل وجهها الباهت:
- تقدري تمشي؟.. أشيلك
فلكزتهُ "حبيبة" بعنفٍ في كتفه من بين شهقاتها لتنهرهُ:
- بس يا ولـد!
لم تقوَ "ولاء" على كبت ابتسامتها.. بل أنها ضحكت فنظر "فارس" نحوها و قد ارتفع حاجبيه و ابتسامة صغيرة ترتسم على ثغرهِ:
- هي فهمتني غلط و لا إيـه؟
و نظر نحو "حبيبة" مجددًا و هو يُناغشها:
- يا ستي أشيلك عادي مش هوقعك!.. إحنا قدها و قدود بردو!
رنت "حبيبة" إليه بنظرة مغتاظة فتجلت الجدية على وجههِ و هو يعرض عليها مجددًا:
- مش بهزر و الله يا حبيبة؟.. قادرة تمشي بجد؟
رنت "حبيبة" إليهِ بنظرة مطولة عميقة، أتبعتها بقولها و قد دحرت دموعها مجددًا عن عينيها:
- يا ريتني كان عندي ابن زيك.. كان وقف جمبي و مسابنيش لحظة
فعبس "فارس" عبوسًا زائفًا و هو يُثرّبها:
- يا ستي أنا قصرت في حاجة؟.. اعتبريني ابنك
أومأت "حبيبة" و ابتسامة باهتة مُجاملة ترتسم على محياها، ثُم دمدمت و هي تربت برفقٍ على كتفهِ:
- ربنا يخليك لشبابك، اسندني بس يا ابني.. أنا كويسة
............................................................
غرفتهِ صارت بحالة من الفوضى.. الكتب متناثرة هنا و هناك و هو يجلس خلف مكتبه عقب أن أخذ حمامًا دافئًا يزيل بهِ أحداث اليوم الذي شعر أنها لا تزال عالقة بهِ و تلك الدماء التي لم يكن قد نزحها سوى بمنديل ورقيّ و اكتفى بذلك.
أُحيط بكتبهِ.. شرع يُقلب صفحات أحدهم و يفرّ أوراقهُ مبتغيًا صفحة بعينها عقب أن استعان بكتابها الكريم و بحث في صفحاتهِ واحدة تلو الأخرى عن تلك الآيات التي استمع إليها في السيّارة..
حتى أدرك أنها من ضمن سورة تُسمى "الحشر"، و ها هو يبحثُ في كتاب التفسير حتى بلغ الصفحة المنشودة، سحب "مايكل" قدح قهوتهِ التي يتصاعد منها البخار، و شرع يرتشف بضع رشفات، ثم تركهُ جانبًا مجددًا و هو يصُب جمّ تركيزه فيما يقرأ.. معنى الآية التي ظلّت عالقة في آذانهِ تحديدًا، و من ثم ما عقبها.. إنها من " أسماء الله الحُسنى"، تلك الكلمات التي فهم بعضها، و عجز عن فهم البعض الآخر، استعان بكتابٍ آخر كان قد لمح ذلك العنوان في الفهرس الخاص بهِ ليجد صفحة كاملة تحوى أسمائهِ _عزّ و جلّ_ تسعة و تسعون إسمًا، قرأهم جميعًا، و استعان بهاتفهِ ليُفسّر معاني ما تعذر عليه فهمهُ.
و ترك الكتب جميعًا.. سحب "مايكل" كتاب القرآن مرة أخرى، و عاد إلى تلك السورة التي كانت أول ما يخترق أذنيهِ من آيات الذكر الحكيم، سورة "يوسف".. و شرع يقرأها بتكسّر أحاط نبرته.. و هو الذي كان يعتقد أنهُ يتحدث العربية بطلاقة، كان عسيرًا للغاية على لسانهِ.. و لكنهُ فعلها، و أنهى آية تلو الأخرى و هو يستعين مجددًا بإحدى أجزاء كتاب التفسير مستهدفًا تلك السورة دونًا عن غيرها، و محاولًا أن يجد تلك الآيات التي استمع إليها أيضًا، حتى ألمّ "مايكل" بالقصة و أدركها جيدًا، قصة سيدنا "يوسف" الذي عُصف بهِ عقب ما كادهُ له إخوتهِ و انتهى به الأمر بالسجن و لكنهُ لم يقنط.. فصار في النهاية "عزيز مصر"، و تحققت رُؤياه.. الشمس و القمر و الأحد عشر كوكبًا، أبويهِ و أخواتهِ الإحدى عشر كُلٌ قد قعوا لهُ ساجدين، و على الرغم من كونهُ أنهى قدحهِ.. إلا أن رأسهُ في النهاية سقطت و قد غشاهُ النعاس فجأة بلا أي مقدمات، و كأنها غفوة إجباريّة.
و لم يجد سوى الظلام.. الظلام الدامس بقسوتهِ و جفائهِ، و هو في غيابت الجُب، لا يعلم كيف انتهى بهِ الأمر هنا، عقب متاهاتٍ و حياة قضاها متمتعًا بما بها من زينةٍ، لا يعلم مثواهُ و لا آخرتهِ كيف سـ تكون، حياةً لم يكن لها أيّ فائدة و أو نفع، عاث بها فسادًا و مجونًا، و ها هو الآن قد انتهى مطافهُ في بئر عميق، و باءت محاولاتهِ أجمع بالفشل للصعود منهُ أو أن يجد لنفسهِ منه مخرجًا، يُنادي و ينادي و يصرخ بأعلى صوتٍ لديهِ فلا يرتدُ إليه سوى الصدى، حتى شعر بكل خليةٍ بجسده تتيبس حين استمع لصوتها الرقيق يناديهِ بوجلٍ طاف حول نبرتها من مكان نائي مرتـفع.. مرتفع عنهُ للغاية لا يبلغهُ حتى بعينيه:
- يــوسُف!
ارتفعت عيناهُ محاولًا تتبع الصوت و هو يهدر باسمها:
- رهيــف!
فـ ارتدّ إليهِ الصوت مجددًا:
- يـوسُف
و لا شئ.. لا يجد لها طيفًا و لا ظِلًا، حتى لا يتراءى لهُ شيئًا سوى تلك الظلمة، حتى انقشع الغمام فجأة في نقطة من الأعلى و كأنها أزاحت غِطاءً قد أُحكم على فوهة البئر و هي تهدر بهلع:
- يــوسُف!
شعر بعينيهُ تؤلمانهِ فور أن اخترقها ذلك الكمّ المريب من الضوء فانحرفت عيناهُ عن فوهة البئر التي تبيّنت لهُ غير قادرًا على النظر إليها، رمشت عيناه عدة مرات و هو يردّ بصوتهُ إليها محاولًا أن تلتقطها مقلتاهُ و هو يردد بصوتٍ انخفضت نبرتهُ:
- رهيــف
و كان الضوء يغمر وجهها ، و كأن الشمس المتوهجة خلف رأسها ، حادت عيناهُ عنها مجددًا و قد شعر و كأن الأرض ضاقت عليهِ بما رحبت و ضاقت عليهِ نفسهُ، حتى صدح صوتها الذي اختلط بتهدج أنفاسها:
- يـوسُف.. تعالى!
و مجددًا لم تُسعفه عيناه للنظر نحوها، انخفضت عيناه قليلًا عن وجهها المُشوش بفعل ضوء الشمس البرتقاليّ الذي يغزوها، فلم يتراءى لهُ سوى كفها الذي اضطرت أن تبسطهُ وسط ظلمتهِ لتحاول انتشالهِ و هي تتوسلهُ بصوتها:
- تعالى يا يوسف.. أرجوك، يــوسف!
و صدح صوتٍ بآية من قارئ من الغياهب و الأعماق بخشوعٍ شجيّ:
- "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ "
شهقة مُطولة صدرت عنهُ و هو ينتفض معتدلًا في جلسته و قد تفصّد جبينهُ عرقًا، أعينهُ شاخصة كالذي أُغشي عليهِ من الموت، نهج صدر "مايكل" علوًا و هبوطًا، و هو ينظر حولهُ ليجد نفسهُ في مكانهِ لم يتحرك، بصعوبة التقط أنفاسهِ و هو يُطبق جفونه، و تساءل بصوتٍ مسموع تهدّج:
- What.. what is that?
زفر مستثقلًا ما شعر بهِ يجثو على أضلعهِ، استند "مايكل" بمرفقيهِ لسطح مكتبه و هو يرمق تلك الصفحة المفتوحة بكتاب القرآن الكريم أمامهُ بذهول، رمش عدة مرات و هو يسحبهُ إليه و قد تعلقت عيناهُ بآية دون غيرها، سـورة " الحديد" تحديدًا.
حاول أن يتذكر كيف أتت تلك السورة و آخر ما اخترق ذاكرته أنه كان يقرأ من سورة "يوسف"؟.. و لكنه تذكر أنه قلب الصفحات بشكلٍ عابر عقب أن أنهاها، و من ثُم ثقل جفنيه و داهمهُ سلطان النوم على الرغم من كمّ القهوة التي تجرّعها ليظل واعيًا، أطبق "مايكل" جفونه و أنفاسهِ تتلاحق، راح يستند بمرفقيهِ على سطح مكتبه، و دفن وجهه في كفيهِ، حتى انتبه إلى رنين هاتفهِ الذي صدح وسط الهدوء التام إلا من صوت أنفاسه المتهدجة، مرر "مايكل" أنامله العشر في خصلاته قبل أن يزيح كفيه عن وجهه ليسحب هاتفه، نظر خلالهِ للساعة الآن أولًا.. ثُم أجاب على اتصال "فارس" و هو يدلك جبينه بكفه الآخر:
- Where are you.. Faries?
فسخر "فارس" منهُ و:
- أخيرًا حنيت عليا و رديت؟
و تصلّبت نبرته و هو يسألهُ باستنكار:
- انت اللي فين؟.. من إمبارح و أنا بكلمك مبتردش؟ انت حصل معاك حاجة
تقوست شفتيّ "مايكل" انزعاجًا و هو يجيبهُ بفتور مُبهم:
- nothing Important.. tell me, Where are you?
نظر "فارس" خلال المرآة الأماميّة للخلف.. حيث تسكن "حبيبة" المكلومة في أحضان "ولاء" التي تمسد برفقٍ على كتفها، حرر زفيرًا مُطولًا و أدبرهُ بـ:
- حكاية طويلة.. بعدين هقولك
أومأ "مايكل" متفهمًا، و من فورهِ استنبط:
- إذًا يخص "يامن".. أليس كذلك؟
فكان ردّ "فارس" غامضًا:
- يعني.. حاجة زي كده
لم يبالي "مايكل" كثيرًا و لم يراوده مجرد الفضول، حتى سألهُ "فارس" مُغضنًا جبينه:
- لسه منمتش؟
فرك "مايكل" جفونهُ و هو يجيبه من بين أسنانهِ:
- غفوة قصيرة.. و استيقظت
أومأ "فارس" برأسهِ و ما إن همّ بسؤاله مجددًا و قد شغل بالهُ حقًا، كان "مايكل" يقتطع ذلك الطريق عليهِ:
- I want to sleep again.. سلام
و أنهى المكالمة و هو يزفر في ضيق، عاد يفرك جفونه ملقيًا هاتفهِ بلا اكتراث، ثم نظر مجددًا في مصحفه و قد تعلقت مقلتاه بتلك الآية دونًا عن غيرها، أغلق المصحف في النهاية عقب أن ترك العلامة على تلك الصفحة، و عاد بظهره للخلف و هو يمسح وجههُ بكفيه مُطلقًا سراح تنهيدة مُثقلة بهمومهِ و أسئلته العديدة التي لا تُحصى، نهض "مايكل" و هو يدفع المقعد للخلف، و سحب قدح قهوتهِ الفارغة متهيّئًا لإعداد آخر.. في محاولة منه لئلّا يستسلم مجددًا لسلطان النوم، و من ثُم سيعود مجددًا ليقرأ أكبر قدر ممكن و يبحث و يُنقّب بنفسه محاولًا بلوغ إجابة مرضية لنفسهِ.
...........................................................
بسمة شرسة احتلت محياهُ و هو يرى شاحنتهِ قد تعبّأت ببضاعة "نائف"، في حدثٍ سيسبب لهُ خسائر فادحة، خاصة و أنهُ يعلم أنه اقترض أموالًا طائلة من البنك ليتمكن من إكمال صفقة الشراء تلك، أغلق رجلين بوابتيّ الشاحنة الخلفيتين عقب أن تمّ نقل البضاعة، فردد "يامن" بلهجة غامضة و هو يأمرهما:
- نزلوا السواق
تغضن جبينهما و هما يتبادلان النظرات، و لكنهما سارعا لتنفيذ الامر، حتى صارت الشاحنة خالية منهُ، أشار لهما "يامن" بعينيه المتوهجتين ليلقى أمرًا أكثر غموضًا و هو يخرج سلاحه المرخص:
- ابعـدوا
حافظ رجالهِ على مسافة بينهم و بين السيارة داخرين لهُ، دون أن يدركون حقيقة مبغاهُ، حتى أشهر "يامن" سلاحهُ لمخزن البنزين في الشاحنة، ضغط على الزناد فانطلقت رصاصتهِ لتسكنهُ، و لم تلبث ثانية واحدة و كانت الشاحنة تنفجر بالبضاعة التي تحويها مُصدرة دوّى مرعب، تولّدت ألسنة النيران المتراقصة التي شرعت تتخذي على الشاحنة بأكملها و قد تناثرت الشظايا و الجذوذ منها، انبعث في الوسط سخونة رهيبة لدى اشتعال السيارة و تطاير الدخان في السماء مُعلنًا انتصار نيرانهُ، انعكس بريق النيران في مُقلتي "يامن" المتوهجتين و هو يعيد سلاحهِ لملابسه و تلك الابتسامة الشرسة تعيد البزوغ على مبسمهِ، دقائق توقف فيهم ليراقب النيران الشرهة، و من ثم أردف بلهجة قاتمة:
- المهمة انتهت.. امشوا!
....................................................................
و عقْب أن حادثت ابنتها و التي أجابت مُرغمة على اتصالها عقب أن فشلت أي وسيلة للفرار من هنا، تمكنت "هُوليا" من بلوغ الموقع الذي بعثته "يُورا" لها، ترجلت "هوليا" عن سيارتها و مضت نحو الباب، فتوقف كلا الرجلين في وجهها ليُشكلا حاجزًا عنها، فرددت و هي تعقد حاجبيها:
- أنا أمها.. خلوني أدخل أشوفها!
- آسف يا هانم.. معندناش أوامر بده
فصرخت "هوليا" في وجهه استهجانًا:
- بقولك أمها.. حاسب عديني
و خطت خطوة للأمام، و لكن ردعها الآخر بقولهِ الغليظ:
- مينفعش يا هانم
زمجرت "هُوليا" بعنفٍ و قد اتّقدت عيناها بنذير متوعد و هي ترمق كلاهما، ثُم صاحت متعمدة رفع صوتها ليصل لابنتها:
- يــورا.. أنا هنا يا حبيبتي، جيت عشانك يا يورا
تركت "يورا" هاتفها من فورها، نهضت عن جلستها و قد تعلقت أنظارها بالباب، ثم رددت من خلفهِ مستنجدة بها:
- ماما.. الهمجي اللي اسمه يامن مش راضي يخرجني، خليهم يخرجوني من هنا يا ماما
نظرت "هُوليا" لكليهما بازدراء، ثُم رددت متعهدة لها و هي تُعلمها بدنوّ وصول حراستها:
- متخافيش يا حبيبتي، الحراسة في الطريق، ثواني بس و هتكوني معايا!
- ده عشـم إبليس في الجنة يا هوليا
أعقب "يامن" كلماتهِ بصفعهِ لباب السيارة بعنفٍ ليدور حول مقدمتها حتى توقف أمامها مباشرة، كزّت "هوليا" على أسنانها و هي تنظر نحوهُ باحتداد، ثم أجابت باغتياظ:
- يامن.. دا مكانش اتفاقنا
توقف "يامن" أمامها مباشرة و هو يشير بعينيهِ الثاقبتين مرددًا بلهجة ذات مغزى:
- و مكانش اتفاقنا انك تخبي حاجة عني
أحنت "هوليا" بصرها عنهُ قليلًا و هي تضمّ شالها الحريريّ المرفق بثوبها القصير لصدرها محاولة تقديم تبرير و قد تلعثمت نبرتها:
- و دي مكانتش حاجة تخصك يا يامن.. و حاجة مكانتش هـ...
فـ قاطعها جائرًا مشيرًا بسبابتهِ باستهجانٍ تام و قد اصطبغ وجهه بحمرة فاقعة:
- لما تبقى نسخة من مراتي و عايزة تعمل عليا لعبة ***** و تحط نفسها مكانها.. يبقى ميخصنيش؟
فهدرت "يورا" من خلف الباب بصوتها المُحـتد:
- احترم نفسك و مترفعش صوتك عليها يا همجي
نظر "يامن" نحو الباب و هو يردد محذرًا إياها:
- مسمعـش صوتك أحسنلك
لفظت "هُوليا" أنفاسها الملتهبة، ثم رددت عقب أن أطبقت جفونها قليلًا محاولة استعادة شتاتها:
- يامـن.. أنا بنتي يمكن طايشة شوية، لكن صدقني اللي عملته دا لأنها عرفت الحقيقة و ...
فقاطعها "يامن" باحتدام و هو يرتكز ببصرهِ المُضطرم عليها:
- بنتك مين يا هوليا؟.. انتي هتكدبي الكدبة و تصدقيها
تشرّبت وجنتيها بالحمرة القاتمة.. خطت "هوليا" نحوه خطوة مقلصة المسافة بينهما، و على الرغم من كونها ترتدي كعبًا عاليًا إلا أنها لم تبلغ طولهِ و على الرغم من ذلك غرست نظراتها المُصرة بعينيهِ و هي تدافع عن حقها فيها:
- أيوة بنتي يا يامن.. و مش هسيبها لو عملت إيه!
و أشارت بسبابتها لنفسها و هي تردد بلهجة أشدّ بأسًا و تصميمًا:
- أنا اللي كنت معاها لحظة بلحظة، أنا اللي شوفتها بتكبر قدام عيني، أنا اللي ربيتها بنفسي، أنا اللي أكلتها و شربتها، أنا اللي سهرت جمبها في مرضها، أنا اللي علمتها تمشي خطوة بخطوة، أنا اللي فضلت جمبها لحد النهاردة، مش عشان حبيبة ولدتها تبقى بنتها
و صرخت صرخت مُكبوتة في صدرها بـ:
öldün mü- لـــأ.. دي بنتي أنا يا يامن، أنا.. " أفهمت؟"
تقوست شفتيّ "يامن" باستهزاء و هو يردد مشيرًا بعينيهِ الجافتين:
- هوليا.. الكلام دا مياكلش معايا، بلا بنتك بل زفت.. يورا بنت حبيبة و هاتي اللي يثبت العكس
فزمجرت "هوليا" و قد أطبقت كلماتهِ على صدرها:
- عايزة أشوفها.. عايزة أشوف بنتي، خليهم يفتحوا الباب دا
فكان ردّهُ حاسمًا بصوتهِ الأجشّ:
- الباب دا مش هيتفتح غير لما حبيبة توصل.. سامعاني يا هوليا؟
أطبقت "هوليا" على أسنانها في اغتياظٍ منهُ، و أعلنت تمردها على قولهِ و هي تتراجع خطوة عن محيطهِ لتشير للرجلين بالدحور:
- ابعـدوا.. أنا هاخد بنتي يعني هاخدها.. ابعـــدوا
تهدجت أنفاس "يورا" و هي تتمتم باستهجان:
- أنا.. أنا عايزة أرجع مع ماما، خليهم يفتحوا الباب، أنا معنديش أم غير هوليا..
Tamam?
و أحنت رأسها و هي تهزها بالسلب و نبضاتها تتلاحق:
- أنا.. مش عايزة أشوفها، مش عايزة أشوفها، أنا مش عايزة غير ماما اللي أعرفها، مامــا، خليه يخرجني من هنا
فكانت كلماتها كسائل قابل للاشتعال جعلها ثائرة لتحاول الوصول إليها، فنظرت نحوهُ بأعين ملتهبة و هي تردد مشير للباب باحتـدام:
- شايف؟.. بنتي نفسها مش معترفة غير بيا، اتفضل خليهم يبعدوا، خليهم يبعدوا يا يامن بقولك
فجأر بصوتهِ عقب سكون دام بضع دقائق:
- اللي قولتهُ يتفهم.. الزفتة اللي جوا مش هتشوف غير أمها الحقيقة، أمها يا هوليا، سامعــة؟ أمها
فصرخت "يورا" مُحتجّة على قراره و قد ذرت عيناها الدموع:
- انت أصلًا مش هتفهمني.. عمرك ما هتفهمني، عمرك ما هتحس بيا
تهدجت أنفاسها و قد توسعت عيناها مُستثقلة ما ستتفوه بهِ و قد أطبق على أضلعها:
- عارف يعني إيه تعيش عمرك كله مع انسانة فاكرها هي اللي جابتك للدنيا؟ و فجأة تكتشف إن حياتك عبارة عن كذبة؟ الأم اللي فاكرها قدمت لك حياتك تكون غير اللي انت تعرفها، تكون واحدة تانية عمرك ما شوفتها و لا تعرف أي حاجة عنها؟
فرددت "هوليا" و قد انبجست العبرات من بين عينيها تأثرًا:
- يورا.. صدقيني أنا عملت دا عشانك، أنا.. أنا معرفتش انتي مين غير.. غير قريب صدقيني
لمست كلمات توأم زوجتهِ وترًا حساسًا لديهِ، فأشاح "يامن" بوجهه المُتجهم و هو يقبض جفونه، حينما كانت "هوليا" تجهش في البكاء و صوتها الحارق يحاول توسلها:
- انتي بنتي يا يورا.. أنا اتحرمت من نعمة إني أكون أم، عيشت طول عمري أتمني اللحظة اللي أخلف فيها، و لما.. و لما لاقيتك تضيعي مني؟ بعد ما خلاص؟ اتعلقت بيكي و مبقتش عارفة أعيش من غيرك هتسيبيني؟.. طب.. طب أعيش لمين من بعدك؟ دا أنا عايشة عشانك يا يورا
تصاعدت شهقات "يورا" الحارقة و هي تدمدم مستندة بمرفقها على مقبض الباب:
- مش عايزة أسيبك.. مش عايزة أسيبك يا ماما، و مش عايزة أشوفها، أنا مش عايزة غيرك، مش عايزة غيرك انتي بس، خليه يطلعني من هنا يا ماما
Lotfan"لُطفًا"
مسح "يامن" بظهر إبهامهِ ذقنه و قد أصابهُ الضجر، فالتفت نحوهم و هو يدس كفه الآخر بجيبهِ مرددًا بصوتهِ القاتم:
- خلصتوا نواح و لا لسه؟
فنظرت "هوليا" نحوهُ بتوسل من بين عبراتها و هي تدمدم:
- يامن.. افتح الباب، خليني آخدها و أمشي، مش هتشوفنا تاني، بس خلينا نمشي من هنا
فـ انفعل قجأة و:
- قولت لأ.. حبيبة هي اللي هتاخد بنتها، برضاها أو غصب عنها يا هوليا!
لم تكن "هُوليا" بالمرأة الضعيفة مطلقًا، و سريعًا ما أضحى خورها اللحظي قوة لتقاتل حتى الرمق الأخير من أجل أن تستعيد ابنتها، تصلب وجهها و هي تنظر نحوهُ بتمقُّط محتدم، ثم نطقت بإصرارٍ مريب و تهديد أحاط لهجتها:
- يبقى انت اللي اضطريتني لكده يا يامن.. رجالتي جايين دلوقتي و مش هسيب المكان دا غير و بنتي معايا
تقوست شفتيّ "يامن" استخفافًا قبل أن يدمدم:
- فوقي يا هوليا و شوفي انتي بتكلمي مين و بعدين اتكلمي
و تيبست نبرتهِ گتيبس ملامحه و هو يشير لنفسه مرددًا باستهجان:
- مش يامن الصياد اللي يتهدد يا هوليا.. أنا في ثانية أنسف رجالتك اللي بتتكلمي عنهم، فــوقي
و ما إن همّت بالرد حتى قاطعها صوت احتكاك إطارات سيارة ما بالإسفلت، شحب لون وجهها و هي تنظر نحو السيارة و قد استنبطت من بداخلها، ترجل "فارس" أولًا عقب أن صفّ "جاسم" السيارة، و من ثم عاون "ولاء" و "حبيبة" على الترجل، و فور أن هبطت "حبيبة" من السيارة أوفضت و كأن ساقيها وجدتا سببًا لتحملانها نحوه، حتى توقفت أمامه مباشرة، و لم تتردد في التشبث بذراعهِ المعضل و هي تردد بلهفة أحاطت نبرتها من بين تهدجها:
- يـ..يامن.. هي فيـن؟ بنتي فين يا يامن؟ خليني أشوف بنتي
خرّت "يورا" على قدميها فور استماعها لصوتها و قد انفلتت منها شهقة كتمتها بكفها، ضمّت شفتيها معًا و هي تقبض جفونها، ثُم سدت بكفيها أذنيها محاولة ألا يتسلل صوتها لها و هي تهز رأسها بالسلب محاولة إقناع نفسها بالحقيقة المُترسّخة بداخلها:
- Yok, Holıa benım annıem ..Holıa benım annıem "هوليا والدتي"
و قبل أن يهمّ "يامن" بإجابتها كانت "هُوليا" تصيح بأعلى صوتٍ لديها متشبثة برأيها:
- yok.. يورا بنتي أنا يا حبيبة، بنتي أنا!
توقفت "ولاء" جوار "فارس" نائيين عن المحيط قليلًا، فهمست "ولاء" لهُ مُحتجة بتبرم على قول تلك السيدة التي استفزتها:
- شايف الغبية بتقول إيه؟.. أنا هاين عليا أجيبها من شعرها
و همّت بالحراك و قد اندلعت نيران الحقد بداخلها، فاستوقفها "فارس" و هو يعيدها محلها هازئًا منها:
- تجيبي مين بحالتك دي انتي قادرة تمشي.. اتنيلي اقفي على جمب، خلي الليلة تعدي على خير
فسحبت "ولاء" ساعدها بعنفٍ منهُ و هي تنظر نحوه بتوعد و:
- ماشي يا فارس.. خليك فاكرها
- هفتكرها حاضر
- أوف
نظرت "حبيبة" نحوها و قد احتدت نظراتها، أطبقت أسنانها و هي تهمّ بالانقضاض عليها هادرة من بين أسنانها بتشنج:
- انتي اللي سرقتي مني بنتي.. انتي سرقتي مني بنتي و اتحرمت منها عشانك
توقف "يامن" في المنتصف كالسدّ فحال بينها و بين "هُوليا" التي تراجعت للخلف، فصاحت " حبيبة" متابعة باستهجان:
- انتي اللي سرقتي جوزي و انتي اللي سرقتي بنتي.. انتي اللي سرقتي حياتي كلها، عايزة مني إيه تاني.. مكفاكيش 23 سنة عاشتهم في حضنك.. مكفاكيش 23 سنة اتحرمت من إني أشوف بنتي بسببك؟ مكفاكيــش؟
فزمجرت "هُوليا" بقولها المحتدم:
- لـــأ.. أنا مش هسيب بنتي اللي عايشة عشانها عشان واحدة أنانية زيك
فناطحتها "حبيبة" بالرأس و هي تصرخ بسخطٍ نحوها من أعماقها:
- أنا اللي أنانية و لا انتي اللي خدتي مني كل حاجة و لسه ليكي عين تنطقي؟ ليكي عين تتهميني بالأنانية
أطبق "يامن" بأناملهِ على عضديّ "حبيبة" و هو يشير بعينيهِ الصارمتين للرجلين، فأومأ كلاهما في تفهمٍ لإشارته، حينما كان "يامن" يُقلص المسافات بينهما و هو يتعهد لها بلهجة حالكة:
- حبيبـة.. اهدي، بنتك مش هتكون غير معاكي، خلاص؟
هزت "حبيبة" رأسها بالسلب بهيستريّة فـ أطبق "يامن" بأنامله أكثر على عضديها كرسالة صريحة و هو يتابع بلهجة أشدّ صرامة:
- حبيبة، بنتك هترجع لك، خديها كلمة مني!
ازدردت "حبيبة" ريقها و هي تحرف أنظارها التي تعلقت بـ "هوليا" إليه، نقلت نظراتها بين عينيهِ الثاقبتين، حتى تنبّهت إلى الرجلين اللذين فتحا الباب على مصراعيهِ، نهضت "يورا" من فورها نازحة عبراتها محاولة استجماع شتاتها المبعثر، نظرت للجميع بأعين تائهة، التفتت "حبيبة" كالمصعوقة، وكأن عقارب الساعة تحجّرت..
ابنتها.. تلك التي تعتبر نسخة عن شقيقتها، خاصةً و أنها قلّدت أسلوبها في الثياب حين حاولت أن تخدع "يامن" ، أرخى "يامن" قبضتيه عن "حبيبة" تمامًا ليدس كفيه بجيبيهِ، فاستدارت "حبيبة" بكامل جسدها إليها و قد دوّى نبضها في أذنيها، تلاحقت أنفاسها، و تيبست عيناها على كل تقسيمة من وجهها، إنها انعكاسٌ لابنتها "يارا".. نسخة منها، شـوقٌ غير محدود انبثق من مقلتيها المعلقتين عليها، خطت "حبيبة" خطوة واحدة مقتربة و هي تفتح لها ذراعيها و قد احتلّ مبسمها بابتسامة عريضة، تهدجت أنفاسها، و انبجست الدموع التي تحجرت لثوانٍ مجددًا من مقلتيها، و لكنها تختلف.. إنها دموع الجذل و سرورها الذي لم يعد يسعها، خاصة حين صرخت "يورا" صرخة دوّت في الأرجاء التي سكنت تمامًا فجأة، فاجتثت هي ذلك الهدوء بصوتها:
- annem
و هرعت إليها.. مارة من جوارها تمامًا، فغربت ابتسامة "حبيبة" و قد ارتخت ذراعيها جوارها، احتل الآسى ملامحها و هي تلتفت لتجدها قد زرعت نفسها بأحضانها.. بأحضان سارقتها "هُوليا"، دونًا عنها هي عبراتها المسرورة تحولت لعبراتٍ مُلتعجة، أجبرت "حبيبة" نفسها على المضى نحوها.. تجرّ ساقيها حتى توقفت أمامها مباشرة، ارتكزت ببصرها على ابنتها و هي تهمس مُثربة إياها:
- أنا.. أنا أمـك، أنا أمك مش هي
تلاحقت أنفاس "يورا" و هي تنظر نحوها شزرًا من طرفها، تشبثت بثياب "هوليا" و هي تنطق من بين شفتيها بازدراء:
- انتي ميـن؟ أنا معرفكيش، انا معنديش غير أم واحدة، و هي ماما هوليا، سامعاني
گالشهب الثاقبة حطّت كلماتها على قلبها، و گالأسهم القاتلة هطلت نظراتها على روحها، فغرت "حبيبة" شفتيها و قد شعرت بالتيه يتملك منها، الخـور و الضعف لازما نبرتها و هي تشير لنفسها:
- أنا.. أمك، أنا أمك، أنا اللي حملتك في بطني، أنا اللي أكلتك من أكلي، أنا اللي استحملت وجع ولادتك عشان تيجي للدنيا
فاض وجهها بأنهار عبراتها المتأثرة و هي تتمتم من بين شهقاتها الملتاعة:
- أنا.. أنا اللي اتضحك عليا، أنا اللي اتقالي إنك موتي، أنا اللي أبوكي ضحك عليا و خدك مني، ضحك عليا و خلاني أدفنك بإيدي، أنا اللي كنت بروح كل يوم لقبر فاكراه قبرك، أنا اللي كنت ببكي بدل الدموع دم على بنتي اللي راحت مني
فكان ردّها قاسيًا للغاية و هي تبتعد عن "هوليا" قليلًا لتواجهها:
- انتي كان عندك اتنين مش بس واحدة.. لكن هوليا مكانش عندها حد، انتي كان عندك بديل عني.. أختي التوأم، اللي نسيتك ان عندك بنت تانية ماتت زي ما كنتي فاكرة
هزت "حبيبة" رأسها نفيًا و هي تردد بنبرة ممشوجة بنحيبها:
- لأ.. أبـدًا، عمرها ما نسيتني إني خسرت بنتي، عمرها ما نسيتني إن خسرت توأمها، عمرها
فرفعت "يورا" رأسها في إباءٍ مدمدمة بترفُّع و هي تشملها باحتقار:
- أنا مش بنتك.. اعتبريني ميتة زي ما اعتبرتيني السنين دي، اعتبري اني مش موجودة!
اتسعت ابتسامة "هوليا" الظافرة و قد أدمعت عيناها تأثرًا فرحًا، مسدت على كتف ابنتها و هي تضم جسدها إليها قليلًا ثم همست لها:
- هنمشي من هنا يا حبيبتي.. هنمشي من هنا
و لكن حبورها انتُقص و قد فرغ مخزون "يامن" من الصبر، زفر متأففًا من تلك الدراما الزائدة التي طالت عن الحدّ، فراح يتخطى "حبيبة" ليخطو نحو الفتاة، اجتذبها من عضدها إليه ليخلصها من ذراع والدتها المحيط لظهرها، و شرع يخطو للأمام دون تعقيب، فصرخت "يورا" و هي تجد نفسها تبتعد عن أحضان والدتها:
- ماما..لـــأ، سيبني يا همجي، سيبني
مضت "هوليا" في أعقابه و قد غابت ابتسامتها و حلّ التوجس محلها و هي تنطق بهلع:
- لا.. مش هتاخد مني بنتي يا يامن.. يامـــن
تغضن جبين "ولاء" و هي تسأل في ارتياب:
- هو بيعمل إيه؟
فلم يجبها "فارس".. بل انحنى ليحملها بين ذراعيه و قد ارتسم الحزم على ملامحهِ:
- اوعي تدخلي.. خليكي في العربية
شهقت "ولاء" من فعلتهِ المباغتة و اسقطت عكازها رغمًا عنها، طوقت عنقه بذراعيها و هي تعنفهُ باستهجان:
- انت بتعمل إيه يا فارس؟ اتجننت؟
خطى "فارس" بخطواتهِ المتسعة ليصل للباب الخلفيّ في السيارة و هو يستنكر قولها و:
- بعمل إيه يعني يا ولاء؟ شايفاني بحبّ فيكي؟ أنا لو استنيتك تمشي مش هنخلص النهاردة، و شكلها هتقلب دم!
استحت من كلماتهِ على الرغم من جديّة من نبرته، فبعثت وجنتيها سخونة متوهجة و هي تحمحم و:
- طب شيل و انت ساكت
نظر "فارس" نحوها نظرة من طرفهِ، فهز رأسهُ استنكارًا و هو يغمغم:
- عبيطة دي و لا إيه!
بلغ السيارة، فأشار لـ "جاسم" ليفتح الباب، فعل "جاسم" من فورهِ منفذًا أمره ثم تراجع للخلف قليلًا، فـ انحنى "فارس" ليترك جسدها برفقٍ بالداخل، أرخت "ولاء" ذراعها عن عنقه فردد "فارس" بلهجة قاطعة:
- خليكي هنا يا ولاء.. اوعي تخرجي
فرددت مُذعنة له و قد شاب بعض الخوف نبرتها:
- حاضر
استقام "فارس" و هو يصفع الباب، ثم خطى نحو "يامن" الذي تلاحقهُ "هوليا" و هي تردد بجنون:
- مش هتاخدها مني يا يامن.. مش هتاخد بنتي مني، سامعني؟ مش هتاخدها مني
حاولت "يورا" عبثًا الفكاك منه و:
" اتركني.. أُمـي"annem، Bırakın - سيبني.. سيبني يا كائن انت،
و وجّهت حديثها لوالدتها و هي تحاول الالتفات لها:
- خليه يسيبني يا مامـا، مامــا
أخرج "يامن" مفتاح ما كان قد استخرجه من سلسلة مفاتيحهِ مسبقًا من جيب سترته، مفتاحًا خاصًا بشقة اقتناها مسبقًا من أجل "حبيبة" و "ولاء" و أسلمه لـ "فارس" و هو يردد بنبرة جادة:
- ودي حبيبة على بيت المعادي
فسألهُ "فارس" غير مباليًا بضجيج الفتاة و السيّدة:
- و انت هتعمل إيـه؟
فلم يُفصح "يامن" عما يجول بخاطرهِ و:
- اعمل اللي قولتهُ
أومأ "فارس" و هو يقف محله.. ثم عاود أدراجهُ ليخطو نحو "حبيبة" المتيبسة محلها و ردد بعجلة:
- حبيبة.. تعالي معايا
رنت "حبيبة" إليه بنظرة مكلومة و هي تضم كفيها لصدرها:
- بنتي يا فارس
- هترجع لك يا حبيبة.. تعالي معايا الوقتي
و لكن شخصت أبصارها فجأة نحو "هوليا" التي توقفت في منتصف الطريق، أخرجت "هوليا" سلاحها الذي كانت تواريه في طيات شالها الحريريّ و أشهرتهُ نحو "يامن" و هي تردد بنبرة مهددة:
- لو مسيبتش بنتي هقتلك يا يامن.. سامعني؟
توقف "يامن" محله و قد تجعد جبينهُ ، فـ التفتت "يورا" نحو والدتها و قد زاغت عيناها بتوتر و هي تسألها في ارتياب:
"ماذا تفعلي؟"Ne yapıyorsun - مـ..ماما
فصرخت "حبيبة" و هي تهمّ بالحراك نحوها لولا ذراعيّ "فارس":
- يامــن
صدح أصواتٍ مفاجأة إثر احتكاك إطارات بالأرضية، و اصطفاف ثلاث سيارات أمامهم، تزامن ذلك مع إشهار جميع الأسلحة في أيدي حراسة "يامن" الذين تجمعوا من حول البيت إلى واجهتهِ نحو تلك السيدة التي تجرأت على ربّ عملهم، هبط رجال "هوليا" عن سيارتهم واحدًا تلو الآخر، و للحقّ كان رجالها يفوق رجال "يامن" عددًا، إلى أنهُ ظل ثابتًا مرفوعًا الرأس و قد استدار بجسده بالكامل ليواجهها، الأسلحة التي أُشهرت في وجه "هوليا" قابلتها أسلحة أُشهرت في وجه رجال "يامن"، الوسط بأكملهِ صار يعجّ بالأسلحة و الشرر المتطاير من الأعين، خطى "جاسم" المصوِّب نحو "هوليا" ليكن بجوار "يامن" تحسّبًا للحظة سـ تكاد تودي بحياة ربّ عملهِ، مستعدًا ليفديه بحياتهِ، شمخت "هوليا" بذقنها و قد احتلّ محياها ابتسامة ظافرة و هي تردد مهددة إياه:
- سيب بنتي.. و إلا صدقني يا يامن، مش هتتردد للحظة إني أقتلك
نبع عن ثغر "ولاء" شهقة مرتعدة و قد شعرت بجسها يرتجف إثر المشهد المريب الذي تراهُ على أرض الواقع للمرة الأولى في حياتها، كادت عيناها تخرجان عن محجريهما و هي تتابع ما يجري من خلال زجاج نافذتها، و راحت عيناها المتوجستين تبحثان عنهُ محاولة التقاطهِ من بين الأجساد البشرية.
بعُسرٍ بالغ.. تمكن "فارس" من أن يدفع بـ "حبيبة" التي حاولت الفكاك منه و هي تهدر بأعلى صوتٍ لديها:
- لـــأ، بنتي، بنتي هتقتلها، الحق بنتي يا يامن!
بلغ "فارس" السيارة، ففتح بابها ليجبر "حبيبة" على الجلوس و هو يوجه حديثهُ الآمر لـ "ولاء":
- ولاء.. إياكي تخطى برا العربية
و صفع الباب.. و من ثم أغلقه بالقفل الإلكتروني و هو يخرج سلاحهُ بدوره، و راح يدنو من "يامن" الذي لم يبدُ عليه أي توتر.. أو تأثر، ظلّ ثابتًا صلدًا بشموخٍ لا يليق إلا بهِ، و بتعبيرات حالكة قاتمة تعتبر جزءً منه، و فور أن دنا منه "فارس" و هو يوجه سلاحه نحو "هوليا" ردد "يامن" بصرامة دون أن يحيد بعينيهِ الملتهبتين عنها:
- اعمل اللي قولتلك عليه يا فارس
و أتبع قولهُ بلوى عنقه للجانبين فصدر صوت طقطقة فقراتهِ.. في حركة مُستخفة بها، ثم ارتكز ببصره عليها و هو يقوس شفتيه باستهزاءٍ منها جعل سعيرها يتفاقم اتقادًا، استدار "يامن".. و ما إن همّ بفتح باب سيارتهِ كانت "هوليا" تهدده بالسلاح و هي تخطو خطوة نحوهُ:
- لو فتحت الباب مش هتردد للحظة إني أقتلـك، سيب بنتي أفضل ليك
فتح "يامن" باب المقعد الأمامي، و ألقى بجسد "يورا" التي التزمت الصمت رهبةً من ردّ فعل والدتها الغير متوقع ، فقط صدرها ينهج علوًا و هبوطًا و قد خشت حقًا مما يدور حولها، صفع "يامن" الباب بعنفٍ من خلفها، و راح يدور حول مقدمة السيارة، فـ تطاير الشُواظ المتقد من عينيّ "هوليا" و هي تطبق أسنانها، ثم زمجرت غيظًا و هي تطلق رصاصتها دون أدنى ذرة ندم، مُعتقدة بذلك أنها ستستردّ ابنتها من بين مخالبهم، فدوّى صوت الطلقة في الأرجاء مُجتثّا السكون الذي ساد عقب قولها، و لم يستمع سوى لصرخة "فارس" المهتاجـة:
- يامــــن
................................................
..............
.....................................................................!
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
