" الفصل الرابع و العشرين"
توقف مُضطرًا عند إشارة المرور.. الصمت المُطبق عمّ بعد كلمتهِ الأخيرة، فكانت تجلس جامدة بمحلها و قد كان وجهها غير مقروء التعبيرات، كان "يامن" مستندًا بمرفقهِ إلى حافة الزجاج المفتوح بجواره، و هو ينظر لساعة معصمه متأففًا من ذلك الزحام الذي تضج به شوارع القاهرة في وقت الظهيرة، حتى امتد كفٌ فجأة إليه و هو يستمع إلى صوت يعرف جيدًا:
- تشتري مناديل يا بيه؟
ارتفعت أنظاره المتوسعة نحوها فـ كانت الصدمة الأكبر من نصيب "سهير".. لو أن أحدهم سكب دلوًا من الثلج فوق رأسها لكان أهون عليها، سحبت كفها إليها و قد شعرت بالدماء تفر من أوردتها بينما صوتها يخرج متلعثمًا باسمهِ:
- يـ..امـ..ن بيه؟
خلع على الفور نظراتهِ القاتمة و هو يحملق بها فكان صوت نبضاتها يكاد يصم أذنيها، فـ استدارت" سهير" من فورها لتفر هاربة،.. حينما حاول هو أن يفتح باب السيارة الفارهة فـ اصطدم بابها بباب السيارة المجاورة اثر الزحام المروري، فـ كشر عن أنيابه و هو يتطلع لإشارة المرور بنظراتٍ حانقة، كور قبضته و هو يضرب بكفهِ المقود، تابعت "يارا" ما يحدث بعدم استيعاب، و فور أن تفاجأت بسبابهِ الذي وصل إليها، عقدت حاجبيها و هي تسأل مستوضحة:
- في إيـه؟
تغير لون إشارة المرور فشرعت السيارات تتحرك من جواره معطية مساحة إليه ليفتح بابه، فـ ترجل تاركًا السيارة و هو يمر من بين السيارات التي يكتظ الطريق بها، باحثًا بعينيهِ عنها في جميع الاتجاهات، فـ تفاقم غضبه حين لم يجدها، فراح يهدر باسمها و قد تشنجت عضلات جسده و برزت عروق جانبيّ رأسه بوضوح، و لم ينتبه إلى تسللها من خلف ظهره لتستقل إحدى وسائل المواصلات العامّة التي تحركت لتمضي من جواره فتفر ببدنها من هنا، تيبس بمحلهِ و هو يلتفت في اللحظة الأخيرة فلمحها تجلس بجوار النافذة و هي تحاول مواراة وجهها عنه، فـ أوفض نحو سيارته و استقلها مجددًا متجاهلًا السباب من خلفه و تلك الأبواق المتذمرة لتوقف سيارته هكذا في منتصف الطريق، و راح يضغط على دواسة البنزين و هو يصفق الباب بعنف من خلفه ليلتهم المسافات الفاصلة بين السيارتين، و لكنها لم تكن لتصمت، حيث ظلت تردد محاولة إدراك ما يحدث حولها و قد توجست خيفة من تبدل حالته هكذا، فراحت تردد بلهجة متوجسة:
- إيه اللي بيحصل بالظبط؟.. انت بتعمل إيـه؟
تفاقم خوفها مع تضاعف السرعة حين التفتت لتجد الأرض تُلتهم أسفل السيارة، ازدردت ريقها بتوجس و هي تنظر نحوه قائلة بحنق:
- خفف السرعة شوية، راعي إن في انسانة معاك
أكثر ما يثير حنقها حين تجدهُ متجاهلًا لها بتلك الطريقة، فـ راح كفها يمتد لتلكزه في كتفه برفق و هي تردد ساخطة:
- على فكرة أنا بكلمك، لو انت مستغني عن حياتك فأنا..
تفاجأت بهِ يلتفت نحوها بوجههِ الذي يشبه كتلة النيران، و هو يوجه نظراته الملتهبة نحوها ليجأر بـ:
- اخرســي بقى! اخرســـي!
انكمشت على نفسها و هي تبتعد عنه ملتصقة ببابها، حدقت به بتعجب واضح ، ثم رمشت عدة مرات و هي تزدري ريقها، بينما التفت ليرتكز ببصره على الطريق، فـ كان مفترق الطرق، لا يعلم أيهما سلكت، فـ تجهم أكثر و هو يدور عائدًا بالسيارة إلى طريق شبه مختصر لربما يؤدي إيها، و لربما لا،.. فـ ألقى باللوم عليها و هو يجأر بشراسة:
- لما تكوني مش فاهمة حاجة يبقى تسكتي خالص.. لما تشوفيني مش طايق نفسي إياكي تنطقي بكلمة معايا، واضــح؟
انعقد حاجبيها و هي تلتقط أنفاسها اللاهثة، ثم عبست و هي تقول محتجة:
- مش طايق نفسك ما انت أصلًا على طول مش طايق نفسك!
فـ ردد بتهديد واضح من بين أسنانه المطبقة:
- لو سمعت صوتك تاني يا بنت حسين و رحمة أبويا لتشوفي وش عمرك ما شوفتيه مني، مات الكلام!
سحب هاتفه تحت أنظارها المتوسعة شدوهًا و المعلقة به، و مرر بسبابته على شاشته ، و انتظر حتى يأتيه رده، فأجابهُ بفتور:
- ألو
- سهير فيـن؟
ضيق "فارس" عينيه بينما يردد بعدم اكتراث:
- سهير، مالها؟
فـ أتاه صوته الهادر بشراسة:
- بقولك هي فيـن، انت أطرش؟
زفر حانقًا قبل أن يجيبه و هو يفتح باب سيارته:
- هدى هانم طردتها من يومين
استهجن ذلك بشدة:
- نعـم! و ازاي متقوليش حاجة زي دي؟
صفق "فارس" الباب ثم أدار المحرك و هو يقول ببرود:
- و هقولك ليه يعني؟ أيًا كان دي خدامة معتقدتش إن ده هيفرق مع يامن الصياد
خرجت سبة خافتة من بين شفتيه أعقبها بقولهِ المحتدم:
- اقفل يا و**.. اقفل
و قبل أن ينهي المكالمة استمع إلى صوته البارد و هو يقول:
- استنى عشان متقوليش مقولتليش ليه، أنا حاولت أعرفك المرة اللي فاتت قفلت في وشي.. أخوك عمل حادثة
لم ترتخِ عضلة واحدة من عضلات وجهه، بل أنها تغضنت أكثر و هو يضيق عينيه بينما كان "فارس" يفضي بما لديه:
- انت عارف انه مبيعرفش يسوق.. و هو راجع من القسم بعد ما شهد ضد مراتك الي كانت السبب في كل حاجة بتحصل لنا، عمل حادثة في الطريق، هبعتلك عنوان المستشفي، دلوقتي اقفل براحتك يا..يا يامن بيه!
و بادر هو بإنهاء المكالمة، بينما كانت تتأمل ملامحه التي بدت لها تغيرت قليلًا، و لكنها تلك المرة لم تجرؤ على فتح فاهِها، لاحظ "يامن" وسيلة المواصلات العامة الذي سار قبالته في الاتجاه المضاد لهما و مرر أنظاره على أرقامهِ التي حفظها عن ظهر قلب، ثم اقتطع عليه الطريق بسيارته، و ترجل منها، صافقًا الباب من خلفه، مضى نحوه بثبات و خطى منتظمة، كاد السائق أن يتذمر و لكنه فور رؤيته ازدرى ريقه خوفًا و قد اعتقدهُ أحد أفراد الشرطة، توقف "يامن" مرتكزًا بأبصاره على مقعدًا بعينه، و لما لم يجدها راح يمرر النظرات عبر النوافذ بين الجالسين ، استشعر دمائه تغلى بأوردته، حتى انتبه إلى ترجل السائق من السيارة و هو يمضي نحوه ليردد بتوجس جلّ على ملامحه و قدم إليه رخصة قيادته و بطاقته:
- اتفضل يا باشا.. و الله كله سليم
و ضرب بكفه على جسم السيارة و هو يهتف بنبرة ارتجفت قليلًا:
- و العربية عـ..
اقتطع "يامن" بنفاذ صبر حديثه و هو يقول بلهجة مشتدة:
- في واحدة نزلت من العربية من حوالي سبع دقايق؟
غضن الرجل جبينه و هو يقول غير قادرًا على التركيز:
- ها..؟ مش فاكر يا بيه
كور "يامن" قبضته ليضرب زجاج السيارة و هو يجأر بـ:
- ما تخلص.. أنا فاضيلك، ست كبيرة كانت لابسة أسود.. نزلت من العربية و لا لأ؟
انتفض جسده و قد شعر بالخوف مما يجري، فراح يحاول التذكر جاهدًا، حتى أومأ عدة مرات و هو يقول بارتباك بادي:
- أيـ..وة يا بيه، في.. في ست نزلت من العربية من.. من ييجي خمس دقايق
و راح يعقب وقد شعر بالخوف من ان يطاله شيئًا ما:
- هي..هي مجرمة و لا إيه يا بيه؟ قتلت و لا سرقت و لا حاجة من...
لكم الزجاج مجددًا بحنقٍ تفاقم أكثر بداخله، ثم مضي مقتطعًا المسافة بينه و بين سيارته، و استقلها ليبتعد و هو يردد لنفسهِ ممتعضًا:
- طبعًا ما صدقتي خلصتي منها!.. ماشي يا هـدى
...............................................................
عقب أن أفرغوا فيه شحنةً من الضرب المُبرّح بعصيّهم و أقدامهم، لم يقوَ على الحراك، و ظل مفترشًا الأرضية و هو يأنّ بخفوت مما تعرّض له، فأمرهُ إحداهم و هو يشير بعصاهُ:
- رجعوه
تعاون إثنين لرفع ثقل جسده عن الأرضيّة من ذراعيه، فصرخ "كمال" متأوهًا إذ أُجبر على الوقوف على ساقيهِ، فجرجراهُ كشاهٍ تقتاد لمذبحها، و قبل أن يلجان بهِ خارج تلك الغرفة الصغيرة المُظلمة، كان يردد:
- استنوا
و أقبل عليهِ، و ابتسامة خبيثة تتراقص على أطراف شفتيه، ثم انحنى ليهمس جوار أذنهِ بفحيحٍ مريب:
- يامن الصياد بيبعتلك سلامه!
تأوه "كمال" مجددًا، و قد شعر بالدماء تغلي غليًا في أوردته، و لكنه لم يقوَ على إصدار أي ردّ فعل، حتى أمرهما بعينيهِ و قد عادت ملامحهِ تتيبس:
- خدوه!
...........................................................
كان قد أنهى حمامه الذي أزال بهِ آثار تعب الأيام الماضية قبل أن يتخذ خطواته التالية الذي يفكر بها و يرتبها جيدًا في رأسه، خرج محيطًا خصره بمنشفة عريضة، و راح يشرع في ارتداء ثيابه، تخلى عن الشاش المغلف بجرحه غير مباليًا به، ارتدى فقط بنطالهِ و وقف عاري الصدر أمام المرآة يتأمل ما تركته تلك الجروح الغائرة، ضاقت عيناه المظلمتين قليلًا و هو يميل برأسه للجانب ليتأمل عن كثب موضع طعنتها الذي يكاد يكون ملاصقًا لتلك الندبة التي تُركت بصدره مقسمة على عدم تركهِ، و لم تنجح حتى العضلات التي اكتظّ صدره بها من أن تمحوها بشكلٍ تام، أطبق جفنيه و هو يلتقط قميصه و كاد يشرع بارتدائهِ حتى استمع إلى طرقاتها على باب غرفته، فـ ردد دون أن يرفع أنظاره:
- ادخلي
فلم ترد الدلوف، فقط حذرته و كأنها تعلم ما سيفعل:
- متشيلش الشاش عشان الجرح ميتلوثش!.. تقريبًا لسه..
تراجعت للخلف خطوتين حين فتح الباب على حين غرة ليردد بصوت متهكم:
- مش محتاج لنصايحك يا "دكتور" يارا!
أخفت وجهها المتضرج بالحمرة بين كفيها و هي تردد باستنكار جافّ:
- إزاي تفتحلي بالمنظر ده؟ انت اتجننت و لا إيـه؟
أخفض نظراته ليشمل جسده ثم ارتفعت أنظاره نحوها و هو يعقد ساعديه أمام صدره، مستندًا بكتفه إلى حافة الباب:
- والله!.. أومال حماتي اللي قلعتني قميصي يا بنت حسين؟
ارتفع حاجبيها و هي ترمش عدة مرات، ثم أزاحت كفيها عن وجهها لتتبين لهُ تلك الحمرة التي تضاعفت بوجهها فـ ورّدت وجنتيها ازدردت ريقها و هي تبرر لهُ بتلعثم تام و كأن أحرفها تتبعثر كلما حاولت جمعها:
-مـ..ما انت كـ..كنت مش في وعيك، و .. و مكنـ..و القـ..القميص كله كان.. كا.. و الشـ.. الشاش كان..
انتصب و هو يولي ظهره لها ليسحب قميصه عن الفراش بينما يقول بلهجة متجمدة:
- لو عايزة غيري هدومك عشان خارجين، في هدوم في دولابك!
تيبست بمحلها و قد تعلقت أنظارها بظهرهِ المكشوف أمامها و قد أثرت الإضاءة التي تملأ الغرفة بإظهار ما بظهرهِ، تلك السجحات التي بدا أنه تعود لزمن طويل، و الندوب البارزة التي تملأه، حتى أن هناك آثارًا للحروق أعلى ظهره لم تكن لاحظت أيًّا من ذلك مسبقًا و قد كانت تخلع قميصه و كأنها مغمضة العينين.. و لكنها الآن ترى بوضوح تلك الآثار الغريبة، توسعت عيناها و هي تخطو نحوهُ بخطواتٍ منتظمة شبه بطيئة، حتى تغضن جبينها مع ذلك الحرق بجلدهِ الذي يشمل الكثير من ظهره العريض، فـ تلقائيًا تلمستهُ و هي تهتف بذهول تام:
- إيـه ده؟
انتفض و هو يستدير ليسحب معصمها، قابضًا عليه بعنف فشعرت بأناملهِ تخترق لحمها و تكاد تلتصق بلحمها، توهجت نظراته و هو يحرفها بين عينيه تاركًا القميص يسقط أرضًا أثناء جأرهِ المحتدم:
- بتعملي إيـه؟
ازدردت ريقها و هي تردد مرتبكة، محاولة أن تكبت أنّاتها الخافتة لدى فعلتهِ المباغتة:
- إيه اللي في ظهرك ده؟ أنا.. أنا أول مرة أشوفه
حرر أناملهِ عن معصمها و هو يردد من بين أسنانهِ المطبقة بلهجة حالكة:
- قولتلك يا بنت حسيـن.. متحاوليش تفكري في أي حاجة تخصني!
و التقط قميصه ثم انتصب و هو يقول بلهجة صارمة مشيرًا بعينيه:
- ادخلي غيري هدومك يا بنت حسين
تسمرت بمحلها و نظراتها معلقة به، فشرع يرتدي قميصه و هو ينبهها بخشونة صارمة:
- بنت حسيــن
سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهل، بينما التفت موليًا ظهره لها و هو يغلق أزرار قميصه، فقالت من خلفه بلهجة شاردة:
- هسألك سؤال أخير و عايزاك بجد تجاوبني عليه!
تأفف متعمدًا أن يصلها صوت زفيره و هو يلتفت نحوها قائلًا بامتعاض واضح:
- أسئلتك كترت أوي يا بنت حسين، قولتلك متحاوليش
فـ غمغمت بلهجة جادة:
- آخر سؤال.. صدقني آخر سؤال
أنهى إغلاق أزراه فدنا منها و هو يضيق عينيه قائلًا بلهجة حازمة:
- اخلصي
ضمت شفتيها معًا ثم فرقتهما لتحرف نظراتها بين خضراوتيه، انعقد حاجبيها فتضغن جبينها قبل أن تهز رأسها استنكارًا:
- انت عملت كده ليه؟
زفر مجددًا و قد فرغ مخزونهِ من الصبر، ثم قال ساخطًا و هو يستدير:
- أنا بقول تروحي تلبسي أحسن!
استدارت لتكون أمامه و هي تردد موضحة سؤالها:
- أقصد.. ليه قولتلي أقتلك، ليه سلمتني السكينة بنفسك.. تعرف إني كنت فاكراك شخصية أنانية، لحد ما حاولت أفكر في اللي عملته! لو كنت مبتحبش غير نفسك فـ أكيد مكونتش هتسيبني أقتلك من غير ذرة تردد!
ظلّ جامدًا حتى شعرت بأنهُ لن يجيب على سؤالها كسابقيهِ، و لكنها انتفضت فجأة حين امتد كفه لملامسة ظهرها.. موضع طعنتها تحديدًا و هو يُقربها إليه مقلصًا المسافة:
- واحدة بواحدة يا بنت حسين!.. خالصين
سرت قشعريرة بجسدها و هي تنكمش على نفسها رامشة عدة مرات و هي تنقل نظراتها المرتبكة بين عينيه الغامضتين، لربما سابقًا فسّرت ذلك الجحيم بأن نيرانهِ التي تضطرم بحدقيتهِ تطال من حولهِ فتحرقه، و لكنها اليوم شعرت بأن نيرانه تلك.. لا تحرق إلا نفسه.
ارتجافة شفتيها جعلت أنظاره تتعلق بها، اشتهى تذوقهما أكثر من أي وقتٍ مضى.. و لكنه بصعوبة حاول أن يردع جموحه الغير مسبوق و هو يفلتها ليستدير و هو يغلق زريّ كُميّه، فـ تابعتهُ نظراتها العميقة محاولة اختراق أغواره و قد كشف لها عن وجهًا أكثر غموضًا له، و لسان حالها يقول:
- لكن لما طلعت بابا براءة قولت إننا خالصين!
................................................................
أقبل عليه ففغر شفتيه و هو يتأمل ما صار بوجهه و تلك الكدمات حول عينيه، لم يشعر أنه استشاط من "يامن" لأجل والده من قبل، و لكنه اليوم و في هذه اللحظة استشعر حنقًا غريبًا عليه، فـ بفضل" زوجتهِ" و من حاولت قتلهِ كان والده بهذه الحالة الشبه منتهية، ضمهُ "كمال" إلى أحضانه محاولًا أن يكتسب تعاطفه معه، فهو يعلم جيدًا انه من القلائل الذين بأيديهم تغيير قرارات "يامن".. غير مدركًا أن تلك المرة لن يتنازل من أجل "فارس".
ربت "فارس" على ظهره فـ ابتعد "كمال" عنه و هو ينظر نحوه بأسى مردفًا:
- اتصرف يا فارس، اتصرف و طلعني.. هتسيب أبوك مرمي في الحجز؟
انهار جسده على المقعد و قد شعر بساقيه تؤلمانهِ، من فرط ما تلقّاه من ضرب مبرح، و هو يغمغم مخفضًا رأسه بأسف:
- على آخر الزمن أتمرمط المرمرطة دي بسبب ابن أخويا!.. و عشان مين؟ عشان مراته اللي كانت هتقتله؟ عشان بنت اللي قتل أبوه!
و رفع أنظاره إليه و هو يقول بنبرة أقرب للرجاء:
- اتصرف يا ابني، اتصرف يا فارس متسيبنيش في وقت زي ده!.. متسيبش أبوك يا فارس
جلس "فارس" و هو يحني بصره عنه و قد شعر و كأن حجرًا أطبق على صدره، زفر أنفاسه المختنقة قبل أن يردد بعجز:
- للأسف مش قادر أعمل حاجة!.. انت عارف إن يامن نفوذه ميتقارنش بيا، أنا مكملتش شهرين في مصر!
اشتدت قبضة "كمال" و هو يردد و قد تشربت وجنتاه حمرة الغضب:
- يعني إيـه؟ آخرتي هتسجن؟
فـ حاول طمأنتهِ و هو يردد بخشونة:
- يا بابا متقلقش، أكيد في حل
تمعن"كمال" النظر لملامح ابنه، ثم ردد من بين أسنانهِ المطبقة:
- فارس.. انت عارف كويس إني لا كذبت و لا زفت، و لا جيت جمب يامن ، و عارف كويس إن بنت حسين هي اللي كانت هتقتل يامن، أنا ذنبي إيه يتهمني اتهام زي ده؟
ردد "فارس" بلهجة واثقة و هو يميل بجذعه للأمام:
- بابا، متقلقلش، أنا هحاول، مش هسيبك تتمرمط على كبر!.. هحاول مع يامن و أوقف اللعب السخيف اللي بيحصل ده
فـ أجابه "كمال" و هو يمسح على وجهه متأففًا:
- حاول يا ابني، لأني خلاص قرفت!
صمت قليلًا ثم قال ممتعضًا و هو يعقد حاجبيه:
- و الهانم هدى فيـن؟ مجتش زارتني و لا مرة ليه؟ و لا هي ما صدقت؟
أشاح"فارس" بكفه و هو يعود بظهره للخلف متعمدًا إثارة النيران بينهما:
- يا بابا هدى هانم مين اللي تيجي لحد هنا عشان تشوفك؟.. اذا كان مشافتش ابنها اللي كان بيموت!
استشاط و قد شعر بدمائهِ تندفع في عروقه، ثم ردد حاسمًا و قد اشتدت لهجته:
- تخليها تيجي بأي شكل يا فارس، محدش هيقدر يطلعني غيرها!
لم يمنع "فارس" شفتيه من أن تنفرجا بسخرية، بل أن ضحك ساخرًا قبل أن يعقب ذلك بقولهِ المتهكم:
- هدى هانم تقنع يامن!.. يا بابا قول كلام غير ده!
فـ احتد "كمال" قائلًا باصرار:
- اعمل اللي بقولك عليه
تلاشت السخرية عن وجهه لتحل الجدية محلها و هو يردد مستوضحًا:
- و دي أجيبها ازاي إن شاء الله؟
صمت "كمال" و قد ارتبك قليلًا و هو يحاول صياغة ما يدور بذهنه، ثم ردد بصوت شبه تائه:
- قولها.. قولها مش هيقع لوحده!
انعقد حاجبيّ "فارس" و هو يعتدل في جلسته و قد تحفزت خلاياه مما يقول، ثم ردد مستنكرًا:
- نعـم؟
أومأ "كمال" و هو يؤكد ما تفوه به توًا:
- قولها كده و هي هتفهمني كويس، قولها كمال الصياد لو وقع.. مش هيقع لوحده
................................................................
صفعةً دوّى صوتها في الأرجاء هوت بها على وجنتهِ ، صفعةً لم تتخيل أن تتسبب بها أناملها الرقيقة مُطلقًا، لا تعلم ما تلك القسوة التي اكتسبتها لتصفعه، و لكنها فور أن رأتهِ و تذكرت كلماتهِ التي تمس شخصها لم تتمكن.. وجدت نفسها تفعلها دون أدنى ذرة تفكير ، أحنى الأخير بصرهِ عنها بتخاذل، بينما هي سحبت كفها و قد شعرت بالذنب فيما فعلت.. خاصة مع حالتهِ تلك و ذراعه الذي أُصيب بكسر أدى إلى تجبيره، و رأسهِ المحاطة بالشاش الطبي ، بينما كان "يامن" صلدًا لم يتأثر ، بل أنهُ حتى توقّع منها ما هو أقسى ، شملهُ بنظراتٍ مزدرية ، حينما كانت تحدجه بنظراتٍ قانطة ، لم ترد إظهار ضعفها، أو حتى شعورهِا بالذنب، أرادت أن تبدو أكثر قوة، فرفعت ذقنها و اختلطت نبرتها بـ القسوة أثناء قولِها:
ـ كنت فاكراك ملاك!..لكن انت شبههم كلهم.. شيطان ، وثقت فيك بس انت.....
فـ لم يسكت إينذاك ، بل رفع نظراته إليها و قد تشبعت حدقتيه بـ الغيظ و هو يردف متبجحًا:
ـ كنتي عايزاني أعمل إيــه و أخويا بيموت قدام عينيا بسببك!.. لما أنا شيطان انتي تبقى ايه؟.!مـلاك!..و لا انتي.....
ارتجّ الوسط إثر جأرهِ و قد ثار بُركانهِ فجأة فـ باتت نظراته كـ شُواظٍ يخترقه بينما يدنو منه:
ـ انت ليك عين تبجح يالا!.؟
توسعت عيناها و هي تسرع لكي تكون حائلًا بجسدها بينهما ، هي أضحت تعلم حق العلم تهورهِ ، و كيف أنه بـ لحظة غضب قد يودي بحياة أخيه فـ تمتمت بنبرة قوية:
ـ الموضوع بيننا،..متتعصبش عليه ، أنا ه..ـ
حجبت عنهُ رؤيته فـ حاد ببصره إليها ، قبض على ساعدها و هو يحدجها بنظراتٍ نارية هاتفًا بـ:
ـ الموضوع ميخصكيش!.. دورك خلص!
رفعت حاجبها الأيسر استنكارًا و هي ترمقه بـ استهجان فلم يكترث لها أزاحها بسهولة جمّة عن طريقه ، مستكملًا مضيّه نحوه ، كور قبضتهِ و هو يقبض على ياقة ثياب مشفاهُ ليجتذبه نحوه و بـ منتهى الجفاء ردد:
ـ اسمع يالا! اذا كنت معرفتش أربيك فـ معلش ، هتتربى من جديد و على إيدي، لو فاكر نفسك كبرت تبقى غبي
تأوه بخفوتٍ و قد قَصِد "يامن" أن ترطم قبضته بـ عنقه التي وضع حولها رقبة طبيّة ، أحنى بصره عنه غير قادرًا على مجابهة نظراته ، فـ قبض بكفهِ الآخر على فكه و قد تشنجت عضلات وجهه اثر إطباقه على أسنانه ، و جأر بـ شراسة و هو يرفع وجهه إليه:
ـ بصلي و أنا بكلمك!.. متعملش فيها برئ و ندمان عشان ورحمة أبويا أوريك يامن تاني غير اللي تعرفه
ترك لتأوهاتهِ العنان فـ ارتاعت و هي تعطف نطراتها بينهما ، خفق قلبها بعنفٍ في صدرها ، و سريعًا ما دنت منه و هي تحاول تخليص الأخير متمتمة بهلع:
ـ بتعمل إيه يا مجنون!.. انت مش شايف حالته ، هيموت في إيدك!
لم تكن قواها كافية لردعهِ عنه ، فـ كان يكفي منه أن حرر كفه عن ياقة قميصه ليبسط ذراعهِ كـ حائلًا بينهما و بينها فلم تتمكن من بلوغ "عمر" أو محاولة تخليصه ، و بدون أن يحرف نظراتها نحوه حتى ، كان فقط مُحدقًا بهِ و فجأة جأر:
ـ وجعك!.. احمد ربنا ان ده حصل لك ، لأن لو كنت طلعت سليم مكنتش هسيب فيك حتة سليمة
عقد حاجبيه و هو يتمتم متجاوزًا آلامه بعتابٍ جلي:
ـ أنا كنت بحاول أرجعلك حقك بعد اللي حصل لك بسببها!..تعمل فيا كده!
فـ تجهم وجهه أكثر و هو يشمله بازدراء ثم دفعهُ بعنفٍ للخلف و هو يتمتم ممتعضًا:
ـ مش يامن الصياد اللي يستنى عيل زيك يجيب له حقه
تأوه الأخير و هو يتلمس عنقهِ بأطراف أنامله بواسطة ذراعه السليم ثم أحنى بصره منكسًا رأسه بزاوية بسيطة و بصعوبة نظرًا للرقبة الطبية المحيطة لعنقه ، بينما تنفست "يارا" الصعداء قليلًا ثم رمقته بنظراتٍ حانقة ، لم تتحرك.. فقد خشت أن يتهور مجددًا فيحدث ما لا يحمد عقباه ، التفت"يامن" ليحدجها بنظراتٍ گالسهام الراشقة فبادلته بنظراتٍ مستنكرة ، استدار ليمضى نحو باب الغرفة مقتطعًا مجال التواصل البصري بينهما فتابعته طاردة زفيرًا محتقنًا من صدرها ، كاد يدير المقبض ليلج خارجًا و لكنه توقف في اللحظة الأخيرة و هو يلتفت إليه مرددًا بنبرة متصلبة:
ـ يوم التلات الساعة 5 الصبح تبقى في المطار!
توسعت عيناه و قد شعر بجفاف حلقهِ ، ازدرد ريقه بصعوبة و هو يرفع نظراته إليه مرددًا بتوجس:
ـ المطار!..
تغضن جبين "يارا" و هي ترمقه بنظراتٍ متسائلة ، فـ أردف" يامن" بنبرة صلدة:
ـ هتسافر برلين!.. هتكمل دراستك هناك
و صمت هنيهة متأملًا وقع الصدمة عليه و التي ألجمت لسانهِ و شلت عضلاتها ، ثم استطرد بقساوة معهودة منه:
ـ لو أنا معرفتش أربيك يبقى تتربى من أول وجديد!..لو 17 سنةعيشتهم عشانك مطمروش فيك فـ ملعش!..ملحوقة يا.. يا حفيد يعقوب
و همّ بـ الخروج ففتح باب الغرفة لولا أن استوقفه بقولهِ الساخط الذي اختلط مع الاستنكار:
ـ قولتلك انك بقيت نسخة من عمي!.. أديك بتعمل فيا زي ما عمل فارس
فـ كانت كلماتهِ تلك التي تستفزه إلى أقصى حد گالبنزين الذي سُكب فوق النيران المُضطرمة ، فتأججت جذوات الجحيم بداخله ، لكم الحائط بجوار الباب بعنفٍ براحتهِ ثم مضى نحوه بوضعٍ هجومي و هو يجأر بـ:
ـ انا و لا انت اللي بقيت نسخة منه في وساخته يا ***
فـ انخلع قلبها و هي ترى اندفاعهِ الشرس و كأنه فريسته، مضت نحوه لتسد الطريق أمامهِ و هي تتمتم مستوقفة إياه:
ـ حرام علية بقى كفاية اللي هو فيه
فـ هدر بها باستهجان و هو يقبض بعنفٍ على عضدها :
ـ حاسبي من وشي
هزت رأسها نفيًا و هي تحاول شحذ قِواها لتتصدى لدفعه ثم أردفت بتصميم:
ـ مش هبعد يا يامن!..أرجوك اهدى انت مش شايف حالته
كاد يُهشّم أسنانه و هو يقبض عليها مشددًا على عضلات فكيه المتشنجة ، ثم فرقهما ليجأر بصوتٍ ارتجّت الجدران اثره:
ـ حاسبــي!
لم تنكر أنها خشت تهورهُ عليها، حتى أن جسدها انتفض هلعًا و لكنها تشبثت بذلك الأمل الواهي الذي أوهمها بأنه سيستمع إليها ،و سيتخلى عن سخطهِ و لن يتعداها ، نهج صدرها من فرط الرعب و هي تحرف نظراتها المتوسلة بين عينيه و قد حاولت جاهدة ألا يتجلى الارتعاد على ملامحها، حاولت أن تستخدم نظراتها علّها تكون كدلو مياهٍ يُخفف من توهج عيناه ، لم تُدرك أنها كانت تقبض على عضدهِ المُتعرج اثر العضلات التي تكتظ بها ذراعه في محاولة منها لردعه ، فلم يمر ذلك عليه ، استشعر لمستها كخدر سحري في أوردتهِ بينما يستقبل ذلك الشعاع الهادئ الذي بعثته عيناها ، و فور إن شعرت أنه أوشك على الاستجابة لها ، أومأت برأسها بحركةٍ خفيفة و هي تحثه بحذر، محتوية ذراعهِ بضغطة خفيفة:
ـ اهدى!
لم تكن تتخيل ما تأثير كلمتها المُقتضبة عليه ، حتى أنها لم تنتبه أنها استرقت إحدى كلماتهِ لها ، لم تلن عضلات وجهه المتشنجة و لكنها تجمدت قليلًا و هو يرمقها بنظراتٍ غريبة عليها لم تتمكن من تفسيرها، و لكن نظراتهِ إلى حدٍ ما متصلبة صلدة ظاهريًا ، أحنى بصرهِ ليحدق بكفها أعلى ذراعه فـ تغضن جبينها و هي تخفض نظراتها ، فتوترت و هي تسحب كفها على الفور متمتمة بخفوت مرتبك:
ـ آسفة
و لكن هدوئهِ الذي لم يدم سوى ثوانٍ معدودة فور أن لمح "عمر" من خلفها و هو يرفع نظراتهِ المحتدمة إليها ، فـ اضطرمت النيران بصدرهِ مجددًا ، كزّ على أسنانه محاولًا كبح انفعالهِ فلم يتمكن ، فاذ بهِ يُزمجر غاضبًا و هو يدفع ما فوق الكومود الصغير بجوار الفراش من حامل معدني ارتص فوقه أنواع مختلفة من الأدوية، فارتدت للخلف متفادية تلك الشظايا التي تناثرت و قد انفلتت منها صرخةً مرتعدة اثر انفعالهِ المُفاجئ، حدجهُ بنظراتٍ مستشاطة بينما الأخير يبادله بنظراتٍ محتجة ، ثم ترك كلاهما و هو يستدير ليمضى بارحًا الغرفة بأكملها.
التقطت "يارا" أنفاسها اللاهثة ثم التفتت لتجده يشملها بنظراتٍ مزدرية و اللوم ينبثق من بين عينيه ، حرد صدره أكثر و أكثر عليها فخشت أن تتضاعف جذوة الحقد بداخله تجاهها ، استجمعت سريعًا شتات حالها ، فـ حادت ببصرها عنه لتوفض للخارج ، تنهدت بضيق و هي تبحث عنه بناظريها حتى وجدته قد بلغ آخر الرواق ، فـ هرعت من خلفه و هي تناديه بصوتٍ حانق:
ـ استنى هنا!..انت رايح فين كده و سايب أخوك في حالته دي؟.
لم يكترث لها و هو يتابع سيرهِ و كأنها ذرة غبار عبرت و مضت من أمامه ، فـ صرّت على أسنانها و قد استشاطت غضبًا من تجاهله إياها:
ـ أنا مش كلبة بتتكلم يا يامن بيه!.. اقف و كلمني زي ما بكلمك
أوغر صدرها من ذلك التجاهل ، فـ اندفعت الدماء بعروقها حتى تشرّبت وجنتيها بـ الحمرة ، و اتقدت الشعيرات الدموية بزرقاوتيها من خلف تلك الهالة البيضاء بهما ، و برشاقةٍ كـ فراشةٍ تتنقل بين الزهور كانت تتخطاهُ بـ خطوة لتقف أمامهُ تسد عنه الطريق مستندة أفقيًا بساعدها على صدرهِ_أسفل نحره بقليل على وجه التحديد_بوضعٍ هجومي بحت و هي تنقل نظراتها النارية بين حدقتيه هادرة باغتياظ:
ـ أنا بكلمك!
تيبّست قدماه و هو يهدر بها بشراسة:
ـ أنا مش شايف قدامي، حاسبي بدل ما تندمي
أجابتهُ باصرار:
ـ مش هسكت و مش هسيبك غير لما تفهمني إيه اللي عملته ده!
فـ جأر بها مستهجنًا تدخلها:
ـ و انتي مالك؟
استشاطت نبرتها و هي تجيبه:
ـ الموضوع يخصني
فردد محتدمًا و هو يشير لها بعينيه:
ـ موضوعك مع عمر خلص لما انتي بغبائك اتخليتي عن حقك و اكتفيتي بقلم مش هيسيب حتى أثر في وشه!.. جه دوري يا بنت حسين، و أنا عارف كويس ازاي آخد حقي
عقدت حاجبيها و هي تتمتم متذمرة:
ـ بطل تقولي غبية! أنا مش غبية ، و بعدين حقك إيه مش.....
فـ جأر مقاطعًا و قد احتد:
ـ مش بعد السنين اللي ضيعتها عليه هيطلعلي كده!.. مش بعد 17 سنة هيطلعلي و** شبهه!
ضيّقت عينييها و هي تتأمل ملامحه الملتهبة ، ثم أردفت مستوضحة:
ـ انت قصدك إيه؟ مش فاهمة حاجة
كز على أسنانه بعنفٍ ثم دمدم من بين أسنانهِ المُطبقة:
ـ و لا هتفهمي!..حاسبي
و كاد يتحرك لولا إنها استوقفته و تشدد من قبضة ساعدها على صدره ثم حثّتهُ على الاسترسال و هي ترمقه بنظرات مستفسرة:
ـ فهّمني!
مرر عيناهُ على ملامحها ثم تمتم بفتور:
ـ و لو فهمتك مش هتفهمي
ضيّقت عينيها و قد تركت جبينها مُجعدًا اثر تقطيبِها ، تعمّقت نظراتها نحوه و هي تحاول سبر أغواره فلم تتمكن ، تلك الهالة الغامضة المُحيطة به لم تتمكن بعد من اختراقها ، ثم تسلطت نظراتها بين عينيه ، تلك النظرات التي تنبعث من كليهما كانت تكفي قبلًا لزرع الهلع في نفسها ، اليوم هي تقف أمامهُ ملتصقةً به و ثباتٍ عجيب تملك منها ، انتشلت نفسها من بؤرة أفكارها و قد تركت زفيرًا حارًا من صدرها و هي تعطف نظراتها القانطة بين عينيه ثم قالت:
ـ انت مجربتش أصلًا تفهمني حاجة، محاولتش تحكيلي!
كاد يُزيح ساعدها عن صدره بينما كان يردد متهكمًا بصلابة:
ـ دي مش حكاية قبل النوم هحكيهالك ، و مش رواية من اللي بتقريهم البطل هيحب البطلة و يعيشوا في تبات و نبات!..فوقي بقى و اخرجي من عقلية القصص دي! قوقي يا بنت حسين
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا و هي تقبض على كفه الذي حاول أن يزيح ساعدها ، فـ ظلّت تعبيراته متوهجة ، فرددت مسترسلة:
ـ انت فاكرني غبية!..صح؟. شايفني واحدة تافهة مش عايشة في الدنيا و لا حاسة بحاجة ، فاكرني بنت اتدلعت و عاشت حياتها الضحكة متفارقش وشها.. و أقصى طموحتها انها تتجوز واحد يحبها و يدوب فيها ، و انها عاشت حياتها بس عشان حلمها ده!لكن لأ ، أحب أقولك انك غلطان يا يامن بيه!
و نقرت بسبابتها على كتفها مردفة:
ـ أنا مدركة كويس أوي للي بيحصل حواليا!..مدركة إن الدنيا بقت غابة كل واحد عايز يخلص فيها على التاني!
و صمتت هنيهة تتأمل تعبيراته فكانت كما هي.. لم يتأثر فاستطردت و قد انفرجت شفتاها بسخرية:
ـ و اللي مش هتصدقه ان إنا عارفة كويس جدًا ان مفيش حاجة اسمها حُـب في زمن الأخ ممكن يقتل أخوه عشان خاطر الفلوس!.. و ان العواطف مبقاش ليها اي معنى
و تجلى الحقد بين حدقتيها و هي تتمتم بحفوتٍ مرير محنية بصرها عن عينيهِ:
ـ و اللي اكتشفته حديثًا، ان الرجالة.. مجرد كائنات بتسعى ورا شهواتها و بس!
تركت زفيرًا ألهب جسدها و هي تطبق جفنيها لثوانٍ لتمحى تلك الذكريات الراشقة ثم فتحتهما لتجده يحرف نظراته بين حدقتيها ، ثم غمغم بجمودٍ شابهُ التهكم و هو يقوس شفتيه سخطًا:
- لو بتتكلمي على الـ****** اللي في حياتك، فاعرفي إنك غلطانة، عشان دول **** مش رجالة!
توسعت عيناها في ذهولٍ لذلك الكمّ من السباب الذي ألقاه على مسامعها، فغرت شفتيها و قد عبس وجهها، و أجابت استهجانًا و هي تخفض بصرها عنه:
- انت مش....آ
فقاطعها و هو يسأل مستنكرًا بلهجة هازئة:
- و تعرفي إيه كمان عن الدنيا يا.. بنت حسين؟ عرفيني عليها! أصل مجاتليش فرصة أعرفها!
أطبقت على أسنانها غيظًا و هي ترفع نظراتها إليه، ثم أردفت من بين أسنانها، و قد اشتدت لهجتها:
ـ أعرف ان الراجل في أول فرصة بيتخلى عن مراته و بيرميها عشان نفسه ، و ان في ثانية ممكن الست تلاقي نفسها مُطلقة ، و عارفة نظرة المجتمع للمطلقات و ازاي الناس بتفكر فيهم!
و أضحت نبرتها أكثر احتدادًا و هي تتابع:
- و انها لازم تروح تعيد التجربة اللي عارفة انها مش هتشوف فيها غير المر و الذل و تتجوز راجل تاني يخلص على اللي بقى منها عشان كلام الناس اللي مبيخلصش عنها و عشان تحافظ على سمعتها ، مع العلم انهم برضو مش هيسيبوها في حالها أبدًا!..أنا عارفة كل ده كويس!
و ضاقت عيناها و قد افترّ ثغرها عن ابتسامة ، مستطردة:
- أنا اتولدت و عيشت في وسط المشاكل دي كلها ، و لا انت ناسي أنا منين؟!..أنا اتولدت في منطقة الناس فيها مبتسكتش، و مفيش حاجة بتشبع أرواحهم المريضة غير الكلام على الناس، أنا عارفة ده كويس!
حاولت مواراة المرارة من نبرتها و هي تتابع:
- و بالرغم من كل ده عندي أمل ، و تعرف..أنا متأكدة ان الأمل ده وهم! مجرد وهم إنا عايشة فيه ، و حلم هصحي..لأ أنا صحيت منه خلاص ، صحيت منه على كابوس! لكن مكنش في إيدي حاجة غير اني أحلم و بس ، و ان الأمل يفضل جوايا و ان....
فقاطعها بثباتٍ دون أن ترتخي عضلة واحدة من عضلات وجههِ:
ـ الأمل اللي انتي بتتكلمي عنه هيكون سبب في معاناتك!..الأمل لما بيكون مجرد كذبة عايشة فيها ده في حد ذاته كابوس، الأحسن انك تبطلي تحلمي يا بنت حسين، مش هتستفيدي حاجة.. بالعكس انتي هتخسري
فـ احتجّت بشدة على تفكيره و قد قطبت جبينها استنكارًا:
ـ غلط!. الانسان اتخلق عشان يحلم، الأمل الكذاب اللي انت بتتكلم عنه هو سبب حياة ناس كتير!
فقاطعها و قد ضجر من حديثها المتواصل و قد تفهم محاولاتها لتضليلهِ:
ـ بنت حسيـن!..كفاية ، أنا مش غبي عشان مفهمش اللي بتحاولي تعمليه
تنهدت بحرارة و قد بدى القنوط على ملامحها، إذ فشلت في تضليله و محاولاتها لجرف تفكيرهُ بعيدًا، فقالت استنكارًا و هي تصرف بصرها عنهُ قليلًا:
- تمام.. نرجع لموضوعنا، مينفعش تسيب أخوك يسافر عشان..آآ
حينها أشار "يامن" للخلف مقاطعًا باحتدام و قد اتقدت عيناه:
ـ و لو أنا فشلت في تربيته فملحوقة!.. يتربى من أول وجديد
ارتفع حاجبيها للأعلى و هي تهتف باستهجان:
ـ تربيه ده إيه!..خلاص بقى راجل
فـ تأججت نيرانه و غلت الدماء بـ أوردتهِ و هو يجأر بـ:
ـ مكبرش على أخـوه!
رمشت بعينيها عدة مرات بعدم فهم ، فـ استطرد هادرًا بسخطٍ:
ـ مكبرش على اللي شاف القرف عشانه!..و عشان ميحسسوش انه أقل من اي واحد في سنه ، عشان ميحسسوش بأنه يتيم الأب و الأم و أمه عايشة
و صمت هنيهة ثم تابع ناقرًا بسبابتهِ على كتفهِ مردفًا:
ـ كنت باكل من نفس الأكل اللي بياكله!..اضطريت اتنفس الهوا اللي بيتنفسه عشانه، اضطريت أستحمل كل حاجة عشان خاطره هو و أسكت، سكتت عن حجات كتير عشانه ، و في نفس الوقت عملت المستحيل عشان يطلع ليوسف مش ليه! عشان أخلق يوسف مش عشان يطلع لي نسخة من الـ***** التاني!
رمشت بعينيها عدة مرات بعدم إدراك ، ثم ضيّقت عينيها بعدم فهم، ثم هتفت بتيهٍ:
ـ انت بتتكلم عن إيـه؟ أنا مش فاهمة أي حاجة!
فلم يكترث لقولها و راح يهدر مهتاجًا و هو ينتزع ساعدها بعنفٍ عن صدره:
ـ مكبرش عليا أنا يا بنت حسين
مرّت إحدى الممرضات النحيلات من جوارهم فطالبتهم بصوتٍ محتج:
ـ الصوت يا فندم لو سمحت!.. دي مستشفى و المرضى محتاجين راحة
تطاير الشرر من عينيه و هو يحرف نظراتهِ نحوها، صار وجهه مصطبغًا بحُمرة فاقعة اللون ، ترك بركانهِ يثور في وجهها و هو يكاد يخطو نحوها:
ـ انتي هتعلميني أتكلم ازاي!. غــوري من وشي
للحظة انتفض جسدها فتراجعت للخلف و قد أوجست في نفسها خيفة ، فسارعت "يارا" بمحاولة صدهِ عنها فوقفت كحائلًا بينهما و هي تتمتم معنفة بصوتٍ خفيض:
ـ انت بتعمل ايه؟ هي مقالتش حاجة غلط
فـ رددت الأخيرة من خلفها مُتصنعة الثبات و هي تواري ارتباكها :
ـ حضرتك مينفعش اللي بتعمله ده!..لو اتماديت أكتر من كده هضطر أطلب لك الأمن يتصرفوا معاك
فارت الدماء في عروقهِ ، فردد و هو يحاول أن يُزيحها عن طريقه:
ـ حاسبي يا بنت حسين!..حاسبي خليها تطلبلي الأمن
فـ استوقفتهُ بصعوبة و هي تتمتم متوسلة بجمود:
ـ أرجوك تهدى بقى!
ثم التفتت و هي تبسط كفها مغتصبة ابتسامة على ثغرها:
ـ احنا آسفين جدًا! متقلقيش حضرتك دي مشكلة بسيطة و هنحلها
رفعت ذقنها متظاهرة بـ الثبات الزائف و هي تتمتم:
ـ يا ريت يا فندم..لأن لو حصل تاني هيكون في يكون في تصرف تاني
و انصرفت و كأنها تفر من موت محتم ، فاشتاط و هو يدفعها بعنفٍ من ساعدها:
ـ دي بتقولك تصرف تاني! بتهددني!
ثم جأر بصوتهِ ليصل اليها فكادت تتعثر في خطواتها:
ـ طب و رحمة أبويا انتي لو مكنتيش ست كنت عرفتك شغلك
ارتد جسدها للخلف و لكنها عادت تدنو منه و هي تعنفه قائلة باحتجاجٍ ظاهر:
ـ ما تهدى بقى انت عامل زي التور الهايج كده ليه
احتد و هو يحول نظراته اليها ، قبض على مرفقها و هو يردف:
ـ بقولك ايه!.. أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي، لمي لسانك اللي عايز قصّه ده أحسن لك و خلي يومك يعدي
ضيّقت عينيها و هي تتمتم بتحدي:
ـ و لو ملميتوش هتعمل إيـه؟!.
و قبل أن تتحرك شِفاه ليجيبها استطردت تجاوب على سؤالها بتهكم مُحتد:
ـ أقولك أنا،.. هتمسك ايدي و تشدني وراك زي البهيمة و ترميني في العربية و تاخدني معاك مش عارفة فين!.
فـ أردف بنبرةٍ قاسية و هو يلتقط ساعِدها ليخطو مبتعدًا بها:
ـ بالظبط كده!.. امشي قدامي
.......................................................................
..................................
........................................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...