" الفصل السادس و العشرون"
و گأن طائر الحُب يخفق بجناحيهِ حائمًا حول قلبي، يقتنص فرصتهِ ليحطّ على سطحهِ.
________________________________________
"الاسطبل"..
تزوره للمرة الأولى في حياتها بالرغم من عشقها اللامحدُود للخيول، حسنًا لم تجرب و لو مرة واحدة امتطائهم، و لكنها لدومًا ما كانت تتمنى ذلك، انتشاء عجيب و حبور رهيب تسلل إليها، شعور لطيف للغاية و هي تستشعر لمسة غُرتهِ البيضاء أسفل كفها بينما تداعبها ذهابًا و إيابًا برفقٍ شديد، حتى حرك الخيل رأسهُ و كأنه يرحب بها، انبعج ثغرها كاشفًا عن أسنانها اللؤلؤيّة البيضاء بابتسامة ناعمة و هي تتضاحك مرحًا، تحفزت خلاياها أكثر و هي تلتفت نحو العجوز الذي حدثها ببشاشتهِ:
- كنت حاسس إنك هتحبي أشهب!
ارتفع حاجبيها و قد برقت عيناها بالوميض أثناء قولها المشدوه:
- هو ده أشهب اللي بتتكلموا عنه؟ أنا فكرت إسم راجل
تضاحك العجوز بمرح ليردف:
- لأ، أشهب قدامك أهو، سبحان الله، انتي قابلتيه قبل صاحبه
تغضن جبينها و:
- قصدك يامن؟
أومأ العجوز ليقول و ثغره مفترًا:
- أيوة
حلت عقدة حجبيها لتلتفت نحو الخيل و هي تتحسس جبهته ثم قالت و قد تحدبت شفتيها:
- غريبة يعني!
أومأ برأسه متفهمًا مقصدها ثم قال بلهجة متراخية:
- و لا غريبة و لا حاجة، أصل أشهب ده مع يوسف من صغره، و أبوه كان الحصان المفضل ليوسف!
تضاحكت بخفوت لتقول معربة عن عدم فهمها:
- يا عم منصور ما تقول يامن و خلاص، أنا اتلخبطت!
فقال العجوز بتريث:
- أنا هقولك، يوسف كان أصله بيحب الخيل أوي، و كان عنده حصان ، و الحصان ده مات يمكن بعد يوسف بفترة صغيرة، ابنهُ كان مع جوزك من صغره، فعشان كده أكتر حصان يامن اتعلق بيه
زمت "يارا" على شفتيها و هي تستخدم رابطة خصلاتها لترفعها گذيل حصان متجاهلة بعض الخصلات التي انسدلت على طول عنقها المحاط بالرقبة الطبيّة، أثناء قولها العميق:
- مش عشانه موجود مع يامن من صغره يا عم منصور، ده عشانه ابن الحصان اللي يوسف كان بيحبه مش أكتر!
ربت العم منصور على كتفها، و هو يومئ بحركة سلسلة أثناء قولهِ الخبيث:
- طب ما انتي فاهماه أهو!
التفتت لتنظر نحوه بأعين ضائقة، ثم عادت تلتفت نحو الخيل الذي أخذ يصهل بشكل اختطف قلبها، تحمست أكثر و أكثر و قد غزت الابتسامة ثغرها و هي تقول بتحفز:
- عايزة أركبه يا عم منصور
- تركبي مين بمنظرك ده؟
التفتت بجذعها نحوه إثر صوتهِ الذي صدح على قرب منها، فتلاشت الابتسامة عن ثغرها و هي تتأمل ثيابه، لربما تلك المرة الأولى التي تراه فيها دون ملابسه الرسمية التي تضفي إليه مهابة خاصة و المزعجة في الحقيقة بالنسبة لها، بدا غريبًا بهيئتهِ تلك، مع ثيابهِ المريحة و التي تتناسب مع ركوب الخيل، كان عاقدًا ساعديه أمام صدره و هو يخطو نحوهما، ثم توقف أمام "أشهب" الذي بدا و كأنه تعرف عليه، حيث تفاعل معهُ بصهيلهِ بشكلٍ غريب و هو يرفع قوائمه الأماميّة لتحيّته، لاح على ثغره شبح ابتسامة و هو يمرر أنامله الخشنة على جبهته، بينما كانت تقول مستنكرة:
- مالي يعني؟ مش فاهماك؟
لم ينظر نحوها و هو يقول بلهجة جادة:
- بتعرفي تركبيه؟
ارتفع كتفيها لتقول بلا اكتراث:
- لأ، بس هتعلم!
تلك المرة التفت نحوها ليقول بسخرية بينما عينيه تشيران لعنقها:
- انتي عارفة تمشي لما تركبي حصان؟
تلمست تلقائيًا بأطراف أناملها عنقها، فكزت على أسنانها و قد اتقدت عيناها بغيظ و هي تقول:
- إنت بتسخر مني؟
تجاهل قولها و هو يتحرك ليكاد يلتصق بها، فتراجعت مفسحة له الطريق ليتفح الباب الحديديّ المحتجز الخيل بداخله، ثم استخرجه منه بتريث بينما كانت تقول و هي تتراجع أكثر و قد بدأ شعور الخوف يجتاحها قليلًا:
- أنا.. عايزة أركبه، ماليش دعوة
و وارت تمامًا خوفها و هي تلتفت نحو العجوز الذي يقف منزويًا على نفسه:
- خليه يركبني يا عم منصور!
فـ أردف العجوز و هو يرفع من كتفيه:
- انتي فاكراها حاجة سهلة يا بنتي؟ لازم تدربي و تتعلمي، و بصراحة مش هتعرفي و انتي عارفة تتلفتي حتى يا بنتي، يوسف معاه حق
التفتت بجذعها من جديد ناحيته و هي تراه يهم بامتطائهِ غير مكترثًا لها، فتخصرت و هي تقول محتجة و قد بدأت الحمرة الغاضبة تغزو وجنتيها:
- على فكرة انتو مكبرين الموضوع، أنا مش مشلولة، و بعدين أنا حبيته، أكيد يعني مش هيوقعني
تلك المرة التفت إليها ليغرس نظراته بين عينيها أثناء حديثه الذي يحمل مغزى:
- خليكي كده، فاكرة إن اللي بتحبيهم عمرهم ما هيأذوكي!
انعطفت نظراتها المشدوهة بين عينيه، ثم غيرت دفة الحديث متشبثة بإصرارها و هي تشيح بأنظارها بعيدًا و تعقد ساعديها معًا:
- ماليش فيه، أنا عايزة أركبه يعني عايزة أركبه
فسألها باحتداد و قد ضاقت عيناه:
- يعني ده آخر كلام عندك
أجابته بتعند واضح:
- أيوة، و مفيش حد هيقدر يغير قراري أو يمنعـ...آآه!
كانت حركة مباغتة للغاية منه حين دنا منها ليضع كفيه أعلى خصرها، رفع جسدها ليتركها أعلى صهوة الجواد، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و قد بدت غير مستوعبة تلك الحركة المفاجأة، شحب لون وجهها و هي تشعر بأنها مرتفعة للغاية عن الأرضية، توسعت عيناها، و تسارعت خفقاتها و هي تشعر و كأنها ستسقط حتى قبل أن يتحرك بها، مُستشعرة حركات الجواد العشوائيّة، في حين التفت "يامن" نحو العجوز الذي قال مشدوهًا:
- يا ابني متسمعش كلامها، مش هتعرف تتصرف
فتفاجأ العجوز بهِ يمتطي الجواد من خلفها محاوطًا جسدها بذراعيه القويين ليسحب اللجام، أثناء قولهِ الجامد:
- متقلقش يا أحدب
و ضغط بساقيهِ على جسد الجواد في إشارة منهُ للحراك، و فور أن شرع الجواد بالتحرك بهما كانت تتجاوز صدمتها و هي تحاول دفعه عنها بينما تقول محتجة:
- أنا مقولتش عايزة أركب معاك، أنا عايزة أركب لوحدي
كانت حركتهِ هادئة للغاية ريثما يخرج من الاسطبل، و من ثم البوابة الرئيسيّة، بينما هي مازالت تحتجّ و هي تقول من بين أسنانها المطبقة غير قادرة على التفات إليه:
- نزلني يا يامن، أنا أصلًا غلطانة، نزلني
و كادت تدفع ذراعيه بعيدًا و قد تشنج جسدها، فحاوطها أكثر محتويًا تشنجها و هو يقول بلهجة صارمة:
- شـشـش، بطلي
شددت أكثر على عضلات فكيها بينما تقول بلهجة معترضة و قد ارتخى جسدها قليلًا:
- أوف، أنا كنت عايزة أركب لوحدي، مش عارفة إنت إيه اللي جابك!
انحرفت نظراته نحوها ليقول بلهجة مستهجنة:
- هو عند و خلاص، هتركبي لوحدك إزاي؟
ارتفع كتفيها لتقول بينما تعقد ساعديها أمام صدرها:
- معرفش! كنت هتصرف
فور أن خطى الجواد من البوابة الخارجية شرعت سرعته تتزايد رويدًا رويدًا، فحلت ساعديها و قد اضطربت قليلًا و هي تقول بلهجة مرتابة:
- انت بتجري كده ليه؟، خليه يخفف سرعته شوية!
تغضن جبينه ليسألها ساخرًا:
- هو كده بيجري؟، و عايزة تركبي لوحدك؟
فتعندت أكثر و هي تكاد تسحب اللجام من بين أنامله:
- طب هات، أنا اللي هسوق، انت هتوقعنا أصلًا
شدد من قبضته على اللجام ففشلت في مرادها بينما يقول متشدقًا:
- تسوقي!.. أنا بقول تنزلي أرحم
ارتجف جسدها خوفًا و قد شعرت بجفاف حلقها من تلك التجربة التي لم تتوقع كونها بتلك الصعوبة، شعر "يامن" بارتجافتها بين ذراعيه، فغمغم عفويًا بينما نظراته مسلطة أمامه:
- متخافيش!
رمشت عدة مرات و قد تعندت أكثر، كادت تلتفت و لكنها لم تتمكن فبقيت أنظارها مسلطة أمامها بينما تقول بلهجة ساخرة شابها التحدي:
- و أنا مبعرفش طعم الخوف غير و أنا معاك!
استفزّتهُ كلماتها لأقصى حد، فشعر بدمائهِ تغلي في أوردته و كأنها الحميم، اصطبغ وجهه بالحمرة بينما تتقد عيناه، كزّ على أسنانه و هو يسحب اللجام فـتسارع الجواد في ركضه، بل بدا و كانهُ يلتهم الأرضية من أسفلهِ و هي تترنح من فوقه، أصابها الذعر و هي تتمسك بذراعيه خوفًا من السقوط بينما تقول و قد تهدجت أنفاسها:
- انت بتعمل إيه؟ خفف السرعة، خفف السرعة أنا خايفة!
و لكنهُ بيد و كأنه لم يستمع إليها، فشعرت بالغثيان من تلك السرعة المفرطة، تشبثت أكثر به و هي تتوسله:
- خلاص خلاص أنا آسفة بس خفف السرعة شوية، هنموت!
الدنيا تهتز أمام عينيها، الأرضية تلتهم من أسفلهم، بدأ الدوار يجتاحها و قد ارتخى جسدها و تقلصت معدتها اضطرابًا، شعرت و كأن ضغط دمها بدأ ينخفض، فارتخت نبرتها و هي تقول:
- كفاية.. كفاية أنا دايخة أوي!
تحكم بجوادهِ ليخفف سرعته تدريجيًّا حتى توقف تمامًا، فترك اللجام ليدير جسدها بالكامل إليه، وجد جفنيها منطبقين، فازدرد ريقه و هو يتظاهر بالصلابة، ضرب برفقٍ على وجنتها و هو يقول:
- بنت حسين، سمعاني!
تحركت شفتيها لتقول بحنق هامس دون أن تفتح عينيها:
- و الله العظيم انت معندكش ريحة الدم حتى! و برضو مبعرفش الخوف غير و أنا معاك
فأثارت امتعاضه مجددًا، أراد أن يلقنها درسًا فأفلت إحدى ذراعيه المحيطين لجسدها، فكادت تسقط، تشبثت بقميصهِ و هي تلتصق به و كأنها تدفن نفسها بين ذراعيه و هي تفتح عينيها ذعرًا صارخة بهلع:
- لأ لأ لأ، خلاص و الله!
تهدجت أنفاسها و هي تحدق بوجهه، عيناها اتسعتا عن الحد و هي تتأمل ملامحه التي بدت أوسم.. بدا و سيمًا للغاية كما لم ترهُ من قبل و تلك الابتسام المشرقة تُزين ثغره للمرة الأولى منذ أن رأته، ابتساماتهِ دومًا ما كانت ساخرة، شيطانيّة، و اليوم تشهد ذلك الحدث الغريب بأُم عينيها، لم ينتبه حتى إلى شفتيه اللتان انفرجتا بتلك الابتسامة الساحرة التي أضفت إليه جاذبيّة اثر جنونها المحبب عقب أن أثارت بحماقتها حنقهِ بالكامل، تغضن جبينه و الابتسامة لم تفارق شفتيه بعد بينما يتعجب تحديقها الغريب به، حتى غمغمت بذهول و هي ترفع نظراته لعينيه:
- انت.. بتضحك؟
تلاشت ابتسامتهِ على الفور و هو يحملق بوجهها فضحكت و هي تشير إليه هادرة:
- بتضحك! و الله ضحكت!
تجهم مجددًا و قد تقلصت المسافة بين حاجبيه، ثم أردف و هو يدير جسدها ليجعلها تعتدل في جلستها تلك:
- كان المفروض نجيب دكتور يقيس نظرك، بدل ما يشوف رقبتك!
عبست و هي تقول محتجة محاولة الالتفات:
- و الله شوفتك بعيني! و على فكرة أنا نظري 6 على 6!.. مش هتاخدني على قد عقلي!، تمام؟
فشدد من قبضته حولها ليجبرها على النظر أمامها ليردد بصوتٍ خالي من المعاني:
- طب بصي قدامك.. خلينا نمشي من هنا!
انتفض جسدها بين ذراعيه و هي تعترض تمامًا:
- و الله ما هيحصل، حاسب نزلني، أنا هاجي وراك مشي!
و كادت تحاول الهبوط عنه لولا ذراعيه المطوقان لجسدها و قد احتضنها إليه مشددًا من إلصاق ظهرها بصدرهِ بينما يقول حانقًا:
- مشي إيه ده انتي عبيطة؟.. انتي عارفة إحنا بعدنا قد إيه؟
تلوّت بجسدها بين ذراعيه و هي تقول بتعنّد متفاقم:
- ملحقناش على فكرة، المسافة مش كبيرة أوي و لا حاجة
يكاد يجزم أنهُ يحترق فعليّا بقربها و هو لا يتمكن من الحصول عليها، بجواره.. ملتصقة به، بل حتى في أحضانهِ و لكنها بعيدة كُل البعد، ازدرد ريقه و قد ارتخت تعبيراته بينما يدير جسدها بقوة إليه، ظنت أنها أثارت غيظه بعنادها الزائد، فزمّت على شفتيها بينما تنظر نحوه، أملى عينيه بالنظر نحو ماستيها حتى أخفض نظراته الجائعة لتتسلط على شفتيها المكتنزتين، خلاياهُ تناديها شوقًا للقاء روحها قبل جسدها، و هو لا يجد ما يفعل سوى إلجامها، تلك الارتعاشة التي أصابت شفتيها و هي تفسر نظراتهِ المريبة نحوهما أثارت رغباته الذكوريّة أكثر، أحنى رأسه و بلحظة كاد يستجيب لنفسهِ، لولا أنها أجبرت عنقها على الالتفات فتأوهت و هي تتلمس رقبتها الطبيّة:
- آآه، منك لله!
اعتدل في جلسته و هو يضبط من وضعيتها و قد ازداد حنقهُ لفعلتها تلك، كزّ على أسنانه بعنفٍ محاولًا كبت رغباته المحمومة و هو يسحب اللجام بينما خلعت هي رقبتها الطبيّة برفق و هي تتلمس عنقها الذي شعرت به يؤلمها أكثر و هي تقول مُغضنة جبينها:
- عاجبك كده؟ انت السبب!
أراد العبث معها قليلًا و هو يسحب اللجام فتحرك الخيل و هو يصهل و:
- ليـه؟
رمشت عدة مرات و قد توهجت بشرتها:
- هاه؟
- السبب ليه؟ أنا جيت جمبك؟
كزت على أسنانها بعنفٍ و هي تلفت رغمًا عنها لترمقه شزرًا فتأوهت مجددًا و هي تتلمس عنقها:
- آه، يــوه، متكلمنيش تاني لغاية ما نوصل، أوف!
و رمقت الرقبة الطبيّة بحنق و هي ترتديها مجددًا لتقول بقنوط:
- امتى أعرف أقلعك بقى، أنا زهقت من أول يوم!
........................................................
ما يُقارب الأسبوع تجلس ها هنا و ما زالت لا تدري لمَ، على ما يبدو أن هناك حفلٌ سيقام، أي حفل ذلك؟ لا تدري، بررت لنفسها أنهُ لربما حفلًا يخص شركاتهِ أو ما إلى ذلك، و لكنها و للحق يُقال لم تعش بذلك الصفاء منذ تزوّجتهُ، يكفي أن تقف في شرفة غرفتها العلوية لتجد حالها و كأنها بجنة الله على الأرض، أسبوعًا أدركت فيه الكثير من خِصاله المتخفية خلف ثوب الشيطان، خاصةً.. حينما استمعت دون قصد و هي تمر بغرفتهِ حديثهُ إلى أحدهم:
- لو ثانية واحدة عينكم اتشالت من عليه تتشاهدوا على روحكم!
في البداية خشت.. خشت للغاية أن يكون المقصد "نائف" و قد أدرك اللعبة التي تُحاك من خلفهِ، و لكنها استمعت إلى تشدد لهجتهِ حتى بدت أقرب للشراسة:
- مش عايزه ياخد باله منكم، كل خطوة بيخطيها لازم أكون عارفها، أي حركة بيتحركها توصلي، مش محتاج أفهمكم أكتر
و صمت هنيهة ليستمع للرد الذي أثار حنقه فنهض عن جلسته ليجأر:
- مش عمر الصيّاد اللي عيل زي ده يتنمر عليه، تتصرفوا في الواد ده و تجيبولي قراره في أقرب وقت
تراجعت و قد تنفست بارتياح، و لكن تروس ذهنها تعمل دون توقف، و لربما تلك المرة كانت تروس.. قلبها!
أدركت أنها تملك قدرة عجيبة، أنها تتمكن من احتواء غضبه و امتصاصهِ بعض الأحيان، ليس دومًا.. و لكنها شعرت و كأنها أنجزت.
لا تكاد تستسلم للنوم قبل أن تعبث بخصلاتها و هي تحدق في سقفية غرفتها فتتذكر كلمات العجوز عنه، و لكن.. لا، لن تستسلم بتلك السهولة، لقد عزمت على فعلها و انتهى الأمر، ستسلم تلك الذاكرة لـ"نائف" فور أن تتاح الفرصة لها، إنها فرصتها لتستعيد كبريائها الذي بعثرهُ قبلًا، سمعتها التي تشوهت بسببه، ما ألم بحياتها من مصائب على يديه، إنها فرصتها الوحيدة التي لن تتركها تضيع يومًا.
و لكن لمَ يحاول دومًا إشعارها بالذنب حياله باهتمامهِ المتواري بها، إنه حتى صار يدرك ما تفضل و ما تكره، يُدرك كيف يعبث بأوتارها دون حتى أن ينتبه لذلك، يدرك كيف ينجح في رسم الابتسامة على وجهها، و يدرك كيف ينجح في امتصاص غضبها، ذلك الاسبُـوع خطيرًا للغاية و يحمل خطرًا محدقًا بقلبها، يحمل غزوًا متواريًا لأرضها، و لكنها تعود فتتذكر البداية، ليس هو المنشُـود، و ليس من تمنتهُ، فكانت تقنع نفسها أن من دعس كبريائها.. لا يستحق أن تكون له، و لا يستحق شعرة من خصلاتها، و لكن..
.............................................................
كان يتحدث بعصبيّة شديدة في هاتفه، بل تحولت عصبيته لاحتدامًا مريبًا و هي لا تكاد تتفهم ما يقول من أحرف تداخلت في أذنيها متشابكة، حتى تحولت عصبيته تمامًا ارتخاءً و هو يستدير ليدنو منها، جلس على مقعدًا مجاورًا لفراشها و هو يردد باهتمام لم يتمكن من إخفائه:
- متقلقيش، بعتت أجيب دكتور من مصر بدل الحمار اللي هنا، هتبقى كويسة
تشبثت "يارا" بكفهِ، دون أن تعي ما تفعل، و ظلت تكرر كلماتها على مسامعهِ من جديد:
- مش عايزة دكتور.. أنا عايزة ماما، عايزة أشوف ماما
و اختلطت كلماتها مع نشيجها المستمر و هي تغمغم متابعة:
- عايزة أشوف ماما، هاتلي ماما يا صياد
أومأ "يامن" و هو يجيبها بصوتٍ احتفظ بثباتهِ، بينما يطبق بأناملهِ على أصابعها:
- قولتلك جاية، خلاص قربت
فهزت "يارا" رأسها نفيًا و هي تدمدم من بين دموعها، و كأنها تهذي، غير مدركة لكلماتهِ:
- عايزة أشوف ماما قبل ما أموت، هاتلي ماما يا يامن!
مرّ وقت عصيب، عانت فيه "يارا" من تأثير تلك الحمى التي ارتفعت فيها حرارتها حتى الأربعين، حتى أنها لم تدرك تواجد والدتها التي وصلت بعد ما يقارب النصف ساعة، فقد بدت في مرحلة ما بين الوعي و اللاوعي، و لم تدرك تواجد الطبيبة التي وصلت فيما بعد، و التي أتى بها "يامن" من القاهرة، على أن تمكث في قصرهِ، فتتابع حالة "يارا"، و بعد ما يقارب الثلاث ساعات، كانت حالتها قد بدأت تستقر، إذ أنها غفت بعد معاناة شديدة.
كانت نظراتها مسلطة عليها، و هي تمسح برفقٍ على بشرتها المتوهجة، و نظرت يسارًا حيث "يامن" الذي ارتكن بكتفه لزجاج الشرفة، و هي تقول:
- روح ارتاح انت يا يامن، أنا موجودة
فـ ردد "يامن" دون أن تنحرف أنظاره عن "يارا"، بنبرة جامدة:
- انزلي انتي ارتاحي تحت، أنا هفضل معاها
انعقد حاجبيها فتجعد جبينها إثر ذلك، و انحنى بصرها و هي تتنهد بحرارة، ثم تابعت:
-شكرًا
فـ تقلّصت المسافة ما بين حاجبيه، و قد تحرك بؤبؤيهِ نحوها و هو يستوضح:
- على؟
فقالت "حبيبة" بنبرة شبه هادئة:
- عشان جبتني لهنا
عقد "يامن" ساعديه أمام صدره، و قد انحرف بصره لـ "يارا"، بينما تلوح تلك الابتسامة الساخرة على شفتيه، و من ثم ردد:
- انزلي تحت يا حماتي!.. قولتلك أنا معاها
فابتسمت "حبيبة" هي الأخرى بسمة باهتة متهكمة، و سلّطت بصرها على "يارا" و هي تغمغم:
- وصلت لحسين
- حلـو
و اتسعت ابتسامتها و هي تتابع:
- قولتله انها تعبانة
- عظيم
تلك المرة انتقل بصرها إلى "يامن" و هي تستأنف:
- عرضت عليه ييجي معايا.. رفض
و تلاشت بسمتها تمامًا، و قد بدأ البغض يزحف لنبرتها:
- قعدت أهول له حالتها، قلتله ممكن تكون آخر مرة تشوفها فيها
و مسحت بكفها على خدها و هي تتابع:
- بعد الشر عليها طبعًا
أطبقت جفونها و هي تقرّ بـ:
- رفض!.. رفض إنه يدخل بيتك عشان يشوف بنته، حتى لو كانت آخر مرة
لم يبدُ عليهِ أي ردّ فعل، سوى أن ابتسامتهِ الساخرة اتسعت قليلًا، لحظات من الصمت هشّمها "يامن" بقوله شبه البارد:
- انزلي ارتاحي يا حماتي، قولتلك أنا موجود
لم تدرِ أكان مقصد "يامن" أنه لن يتخلى عنها كما تخلى والدها، أم أنها مجرد كلمات عابرة لا معنى لها، إلا أنها رددت محتجة:
- انت شكلك تعبانة يا ابني و...
- تؤ
و لكنها أصرّت على رأيها و:
- خلاص، هخليني أنا كمان، قلبي مش هيرتاح لو مش شايفاها قدامي
فلم يعترض "يامن":
- براحتك
لم يعلم "يامن" كم مضى، و أبصاره عالقة على "يارا"، و تلك الهواجس تواتيه، ماذا لو فقدها هنا؟ عند تلك النقطة؟ كيف كانت ستسير حياتهِ، لقد اعتاد حقًا وجودها في حياته، و كأنها أضحت ركنًا أساسيًا بها، هل كان سيسامح نفسه عمّا اقترف في حقها، هل كانت ستسامحه هي؟! ماذا كان سيحدث حقًا؟
أضحت تلك النقطة أساسية في رأسهِ، و من جديد يتجدد ذلك الشعور في داخله، بثانية واحدة قد يفارقك من حولك، بثانية قد تصبح وحيدًا، دون أن تدري هل سامحك من آذيته، أم أنك ستبقى حاملًا ذنبهِ محياك و مماتك
» أنيـن الأشجار يبقى.. و إن زالت الرياح»
كان أول ما سقط بصره عليه هو والدتها، التي غفت متأثرة بإرهاق الطريق من القاهرة للمزرعة، تغضّن جبينها، و قد تعجبت أنه استجاب حقّا لرغبتها، و أتى بوالدتها إليها كما طلبت، مسحت "يارا" برفق على وجنتها، و من ثم تلفتت بحثًا عنه، نظرت "يارا" في ساعة الحائط فلم تتبين الوقت، كون الغرفة غارقة في الظلام، فـ استدارت بجذعها كي تنظر في شاشة هاتفها، لتجدها قد تعدت الثالثة فجرًا، عبثت الرياح بالستائر المتروكة على باب الشرفة المفتوح، فـ أنبأها بأنه في الداخل، نهضت "يارا" بحذر شديد خوفًا من أن توقظ والدتها التي بدا على وجهها إمارات الإرهاق جليّة، و انتقلت للشرفة، توقفت لدى بابها، و هي تزيح الستائر قليلًا، و غمغمت محدثة إياه:
- انت منمتش؟
لم يستدر "يامن" و ظلّ بصره معلقًا بنقطة في الفراغ و هو يردد:
- تؤ
و التفت نصف التفاتة و هو يسألها باقتضاب:
- أحسن؟
فـ أومأت "يارا" و هي تخطو نحوه، بخطى بطيئة مرهقة:
- الحمد لله
فصرف بصره عنها، و عاد يحدق في اللاشئ، بشرودٍ مليّ.. تطلعت للأفق، بعينين عبّأتهما بهِ، و يأست أن تعبأ عيناهُ بها، إذ لم تنحرف نظراته اليها، لم يهتدِ بصره إليها، و لم يجد قلبهُ ملاذًا في وجودها، و لا سفينتهِ مرساة في لقياها، تعمدت ان تدحر، أو أن تكفّ مقلتاها عن الرجوع إليه، و إذ بها تضرب بعهودها عرض الحائط، مع احساسها و كأن بصرهِ انعطف إليها، من فورها نظرت لهُ.. لتجد عيناهُ القاتمتين تعانقانها في تناقضٍ لم يلق بـ سواه، تجولت نظراتها بين حدقتيه الثاقبتين، فتسلل ذراعهِ ليجتذب جسدها برفقٍ محيطًا ظهرها، فارتكنت برأسها لكتفهِ مطبقة جفونها، مستسلمة بملء إرادتها لذلك التيار الجارف من الهدوء المصاحب لوجودهِ في تلك اللحظة، و لأمانٍ نعمت به في أحضانهِ تستسيغه للمرة الأولى، انتظام دقّات قلبهِ دوى في آذانها بيُسر فأينع قلبها بمشاعرٍ عدة، رفعت بصرها إليه من جديد عقب أن استشعرت تلك القبلة الحانية التي منحها إياها أعلى جبينها، لتجد بصره عالقًا لم يهجرها بعد، لغة لم تفقهها الألسن.. و أجادت بها العيون الموارية لسيل مشاعر متدفقة، فـ إذ بصوتها يبزغ معبّأً بمشاعر الاسترابة مما كاد يصيبها:
- كنت هموت
فكان ردّهُ مباغتًا لقلبها بالأخص، عاصفًا بهِ:
-كنت هخسرك!.. زي ما خسرته
سربٌ من الهواء البارد طاف باهتياجٍ حول جسدها الغضّ، أشعرها في تلك اللحظة ببرودة طوّقت قلبها لا جسدها، انحرفت نظراتها إليه من زاوية عينها لتجدهُ قد استدار و انصرف عنها، دون حتى أن يهديها نظرة واحدة يحتويها بهِا، فسكن الشجن قلبها و استوطنهُ، متأثرة بذلك القنوط الذي نضج و أينع فيهِ، مع إدراكها أن ما حدث لم يكن سوى نسج من وحي خيالها، تقلصت أناملها مطبقة إياهم على سور الشرفة الرخاميّ، انكمش جسدها من فرط شعورها بالبرودة القارصة، أو لربما الوحدة التامّة، قبضت عينيها مستقبلة ذلك الهبوب الذي لطم بعنفٍ وجهها، كأنه يحثّها على الاستفاقة من أحلام اليقظة التي باغتتها، حتى استشعرت ذلك الدفء الذي حلّ عليها، تملك منها الشدوه المريب، التفتت برأسها لتجده يحكم سترتهِ التي أحضرها من الداخل حول كتفيها، فاستكان جسدها قليلًا و ارتخت عضلاتها المتقبضة، انتهى "يامن" من ضبط سترته على جسدها، ثم توقف جوارها من جديد، يمنح نظراتهِ للأفق و كأنه يرى منه شيئًا، ضمّت "يارا" السترة إليها أكثر، و هي تبتلع تلك الغصة التي لا تعلم مصدرها أو حتى سببها..
دفء!.. كلمة من ثلاث أحرف تظلم أحرفها معناها، تأتي على شعورها و احساس عبّأ خلاياها في تلك اللحظة، استشعر "يامن" بصرها العالق عليه دون أن يمنح عينيه القاتمتين لغير الأفق الحالك، استشعر عينين تتبعانهِ ثم تحيدان عنه، حدقت "يارا" في كفه و أصابعه الغليظة متقلصة على السور المعدني للشرفة، و دون أدنى تردد أو أن تفكر مرتين، بسطت كفها ذو الأنامل الرفيعة الطويلة، لتطبق بهم أجمع على أصابعهِ الغليظة، و قد عادت عينيها إلى وجههِ الذي تقلص قليلًا عقب فعلتها المباغتة، و لكنه لم يلتفت.. لم يُبدِ أي تأثر، و كأنه كاره لفعلتها و لمستها تلك، إلا انها لم تتمكن من تحريم لك على روحها، كانت في أمسّ الحاجة لاستشعار ملمس جلدهِ الخشن بأناملها، و لو ستندم لاحقًا، لاح شبح ابتسامة هازئة على أطراف شفتيها و هي تصرف بصرها عنه، و همّت بسحب أناملها، فـ إذ بأصابعهِ تُطبق على أناملها مُشددًا من ضمّ أصابعها، اتفتت اليه كالمشدوهة و حملقت بوجهه، و كأنه منحوت من الصخر ليس إلا، حتى أن نظراته لم يهديها إليها، رمشت مرتين تقريبًا، و قد شعرت بالغرور اللحظيّ يتمكن منها، حلق قلبها و رفرف في سماءٍ خاصة بهِ، فتغضن جبينها، متعجبة من شعورها في تلك اللحظة، حاولت كسر حاجز الغموض ذاك، فغمغمت و هي تحيد عنه:
-تاني مرة!
انحرفت نظراته إليها و قد لاح الاستفسار فيهما و قد ضيقهما فباتا أشد و اكثر احتدادًا، لا تدري لم عرفت الدموع طريقها الوعر لعينيها، فغشت بصرها و تلك الابتسامة الهازئة لا تزال تنبثق على أطراف شفتيها، و تابعت بخفوت ساخر:
- تاني مرة تلحقني.. يا يامن
فكان ردّه المتصلب أسرع مما توقعت و أقسى مما تخيلت، و خاليًا من أي حياة.. عكس ما ترقبت:
- حياتك تخصني
انعقد حاجبيها باستنكارٍ و لكن سريعًا ما تحولت بسمتها إلى ضحكة قصيرة هازئة و هي تشيح بوجهها تمامًا عنه، متبعة ضحكتها الساخرة بقولها المتهكم:
-ردك كان أسرع مما تخيلت.. على الأقل كنت فكر قبل ما تجاوب
و عادت ترمقه بنظرة قاتمة متابعة بشراسة تبينت في لهجتها:
- يمكن مكنش يبقى جارح بالشكل دا!
و علقت الأبصار.. بتبادلٍ للإظلام بالأضواء
گما يخرق الطبيعة.. كالتقاء الشمس بالأقمار، و النيران بالأنهار، الجحيم بالرياض، كالتقاء الأبيض بالأسود، الليل و النهار، كالتقاء الملاك بالشيطان، كمرفأ برفات سفينة محطمة و رمال الحب تتناثر بالأجواء
ما تبادلته الأنظار كان مُسودًا في ظاهرهِ، و ببواطن الأعين و الأحداق سكنت الأبصار المشتعلة بمختلف أحاسيس لا يدرك المرء كنهها، و لا يدري حتى بتواجدها
يقفان.. خلفهما لوحة من نوع خاص، لوحة السماء و قد تلونت صفحتها باللون البنفسجي، فاقتحمت السحاب الثقال اللوحة گضيفًا رماديًا قاتمًا، زحفت.. و زحفت و زحفت، حتى التقت بجسم القمر المعتم، فضمّته بين أعناقها في التحامٍ خبّأته فيها، فلم يعد يتبين منه شيئًا
و لا تزال الأنظار تتبادل، و كأن هنالك موسيقى حزينة تصدح في الخلفية، موسيقى تنعي قصة حب مصيرها الهلاك الأبديّ، تنتهي و تُجتثّ قبل أن تكتب افتتاحيّتها
تلك العبرة التي احتبستها مطوّلا أعلنت تمردها التام، فانسلت فارة من بين جفونها و هي تبتلع غصة عالقة في حلقها، و كأن حجر جثى فوق صدرها، فسلبها أنفاسها و حقها في أن تسترق الهواء لرئتيها، عبرة واحدة.. دافئة و كأنها سحبت ما يلتهب في صدرها من أحاسيس عِدة، فحادت عنه سريعًا، و كأنها بذلك ستواري عبرتها التي التقطها بصره منذ بداية نسجها في زرقاويها، التقى بصرها بكفيهما المتعانقان.. فكان ذلك كصفقِ موجة بجبلٍ صلد، تأثر فيها الطرف الصافق، و لم يحسّ بها الآخر
سحبت برفقٍ أناملها من بين أصابعه التي أفلتتها رغمًا عن إرادته، تراجعت "يارا" خطوة و هي تصرف بصرها عن وجهه عمدًا متهربة منه، متظاهرة بالجمود التام المختلط بالقسوة، ثم أردفت بصوت متصلد:
- أنا تعبانة.. هدخل ارتاح شوية
- أنا هنا
أشاح "يامن" بوجههِ بعيدًا و هو يدس كفيه بجيبه، و ضبط نبرته لتكون أشد قسوة و هو يستأنف بصوت أجشّ حين شعر ببصرها يرتفع إليه من جديد:
- لو احتاجتي حاجة
سقط بصرها على ظلالهما الملقاة أرضًا، فـ إذ بهما متقاربين للغاية كأنهما متعانقين، عبرة جرّت أخرى حتى بات وجهها كملتقي للعبرات، ابتلعت بعسر بالغ تلك المرارة التي عبّأت جوفها، ثم قالت بصوت غلبتهُ الحسرة، و غلفه الشجن المناقض للقسوة التي ودت لو تطلق كلمتها مطوقة بها:
- شكرًا.. معتقدش اني هحتاج حاجة
و استدارت لتهمّ بالانصراف، خطت خطوة.. خطوتين، و قطعت خطواتها التالية، فلم يبقَ سوى خطوة واحدة، همّت تخطوها، و لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة و هي تلتفت من جديد مقلصة أصابعها فوق إطار الباب الجرار للشرفة لتجده ولاها ظهره غير مباليًا لها، رمقته بنظرة متحسرة من خلف غمامة الدموع التي حطّت على عينيها، فأطبقت جفونها لتخرّ الدموع منهما منهزمة و قد أعلنت خسارتها تمامًا في تلك اللحظة، استدارت و شرعت تخطو للخارج حتى بانت تمامًا، و تلاشى اثرها، حينها فقط التفت.. ليجدها غير موجودة.. بالمعنى الحرفيّ، غير.. موجـودة.
.....................................................
كانت نظراته محمّلة بالاستهجان و هو ينظر نحو الجالس قبالتهِ، حتى أنهُ لم يتمكن و قد أُثير حنقه تمامًا بأفعاله الباردة، فراح يضرب على المنضدة الصغيرة بينهما و هو يقول مستنكرًا:
- بقى أنا أتسجن و انت تطلع من كل حاجة يا حديدي، بقى أنا أتسجن و انت اللي المفروض تكون مكاني!
و تطلع لمن حوله و الذين يجلسون مع زوّارهم، فحمحم و هو يخفض من نبرة صوته مسلطًا لنظراته عليه بينما ينطق من بين أسنانه:
- بقى أنا اللي أتسجن و انت تعيش و لا كأنك عملت حاجة!
كان باردًا للغاية و هو يتأمله، حتى أن فاههُ افتر عن ابتسامة عريضة و هو يقل مربتًا على كتفه:
- اهدى يا كمال يا حبيبي، اهدي بس شوية ليطق لك عرق و لا حاجة!
أزاح كفه بحركة عنيفة أثناء قوله المحتد:
- بقى ابن أخويا يسجنني بسبب بنتك و يسيبك كده يا ابن الحديدي!
هز "حسين" راسه استنكارًا:
- صعبت عليا يا كمال، حالتك شكلها صعب أوي
كز "كمال" على أسنانه و هو ينطق محذرًا من بينهما:
- حسيــن!
فردد ببراءة زائفة:
- مالك يا حبيبي؟ عاوز حاجة!
كور قبضته و هو يقول و قد اتقدت عيناه بنذير غير مبشر:
- أنا فاض بيّا و جبت أخري، أنا هاين عليا أقول على كل حاجة، بلاش تستفزني أحسن لك لأن هتخسر يا.. يا صاحبي!
حكّ "حسين" مؤخرة رأسه و هو يقول بضجر أصابه:
- ما تدخل في الموضوع يا كمال بدل ما انت قاعد تنكت في نفسك! انا تعبت لك يا أخي!
أومأ "كمال" بحركة خفيفة متوعدة و هو يشدد على عضلات فكيه، سحب شهيقًا زفره بتأنٍ، ثم قال بلهجة ذات مغزى:
- مسمعتش اللي سمعته يا حسين؟
تغضن جبين "حسين" و هو ينظر نحوه و:
- إيه اللي سمعته؟
تشدق "كمال" ساخرًا بينما يميل ليسند ساعده على المنضدة الصغيرة:
- بيقولوا ابن أخويا بعد الشر عنه طبعًا، حد حاول يقتله في المستشفى
و حك بإبهامه ذقنه و هو يغز بطرف عينه:
- متعرفش هو مين؟
ضحك ساخرًا و قد ترك ابتسامة عريضة على ثغره، أثناء قولهِ الذي يحمل أكثر من مغزى:
- طب ما انت عارف هو مين، هنلف و ندور على بعض
و بلحظة تيبّست ملامحه و تلاشت بسمته ليميل عليه هامسًا بخفوتٍ مُبطّن:
- و انت بنفسك اللي اديته الفرصة لده يا كمال! تنكر؟
.........................................................
.............................
..................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
