"الفصل التاسع و الأربعُون"
ثانية واحدة.. واحدة فقط كانت كافية، لم يتفهم "نائف" فورًا ما حدث..
ركلةً واحدة من قدم "يامن" لـ كفّ "نائف" أطاحت بالسلاح، و جعلته يتطاير في الهواء فأطبق "يامن" على مقبضهِ متناولًا إياه، و هو يُشهره نحوه و نظراته الملتهبة مسلطة عليهِ، و باحترافيّة شديدة كان "يامن" يُنحى السلاح للجانب قليلًا ضاغطًا على الزناد فانطلقت رصاصتهِ التحذيريّة التي اخترقت طرف أذن "نائف" و مرت بعدها متسببة بخدش بها، ثم انطلقت مخترقة حاجزًا زجاجيّ من خلفها تسببت في تهشيمه فدوى صوتًا هائلًا و شظايا أخرى تتناثر هُنا و هناك، تأوّه "نائف" فور استيعاب ما حدث و هو يتلمس أذنهِ التي جرحت و شرعت الدماء تتدفق منها، فتفاقمت جذوتهِ الانتقاميّة، انحرفت عيناهُ نحو سلاح "يامن" المُلقى أرضًا، و كاد يجتذبه و لكنهُ كان الأسرع، حيث دفعهُ "يامن" بطرف حذائهِ فمرره لأحد رجالهِ من خلفهِ، و بثانية واحدة كانت الأسلحة جميعها تُشهر مجددًا في وجهه، انحرفت عينا "يامن" نحو رجلهِ الذي شرع يهبط الدرجات و هو يومئ لهُ بحركة من رأسهِ، حتى بات جوارهِ فأسلمهُ تلك الذاكرة الصغيرة، انفرجت شفتا "يامن" بشراسة متفاقمة و هو يلوح بالذاكرة في وجههِ، فشعر "نائف" و كأنهُ يقف على مرجل، زمجر غاضبًا و هو يتوعدهُ بـ:
- هتندم، هتنـــدم يا يامن
- اخلــوا المكان
صوتهُ الجهوريّ الذي انفلت من بين شفتيه بينما ملامحهِ القاتمة تُنذر بأنه على وشك الإقدام على فعلٍ ما، شرع الارتياب يتسلل لـ "نائف" بينما يتلمس أذنهِ المجروحة، استشعر ذلك السائل الدافئ، فكشّر عن أنيابه حين أخفض كفه ليرى تلك الدماء مغرقة لهُ، عادت أنظارهِ ترتفع يتأمل المشهـد، رجال "يامن" يخرجون كل شخص بشركتهِ الصغيرة من وسط الشظايا و الأجهزة المدمرة، و المكاتب المهشمة التي صارت قِطعًا خشبيّة مفرقة، حتى توقف رجلهِ خلفهُ بالضبط منتصبًا و قد خلت الشركة بأسرها إلا من ثلاثتهم، عاقدًا كفيه للخلف و هو مسلطًا لأنظاره الظافرة على "نائف".. ينتظر أوامر سيّده، حينما كان "نائف" يسأل متشككًا مواريًا الارتياب في نبرته:
- انت ناوي على إيـه؟
أشار "يامن" بسبابتهِ لرجلهِ "جاسِم" الذي استجاب لهُ على مضض مقاومًا رغبته في حمايته للرمق الأخير، ثم انسحب من الوسط بأكملهِ، حينما كان "يامن" يميل للجانب قليلًا و هو يقول بلهجة قاتمة للغاية:
- بيقولوا الفهد أسرع حيـوان! لكن الصيّاد اصطاده يا.. يا دمنهوري!
انفرجت شفتيه و قد شعر قليلًا بجفاف حلقهِ من تلك الصدمة التي لم يتوقعها مُطلقًا:
- هاه!
و حملقت عيناهُ بهِ مشدوهًا بينما كان "يامن" يهمس بنبرة أشبه للفحيح و هو يدنو منه أكثر:
- و لا كنت فاكرني مش هلاقيـه؟
و تأمل الصدمة البيّنة عليه، فاستنكر ببرود:
- تــؤ، ليه كده يا نائف؟ مينفعش تنسى الصيّاد بالسهولة دي، ست سنين في السجن ماشي مقولناش حاجة بس برضو مكنش العشم!
ضاقت عينا "يامن" حتى باتا أكثر حِدة، كعينيّ صقر تلتمع في الظلام و هو ينطق من بين أسنانهِ المُطبقة:
- مش مراتي اللي حتى عيل ***** يطلع عليها كلم ****** شبههُ يا دمنهوري
و ارتفع ذقنهِ و هو يقول مشددًا من لهجتهِ:
- مراتي أشرف منك و من مليون واحد من عينتك
صامتًا.. شفتيهِ منطبقتين و قد تلاشت صدمته ليحل الظلام محلها بينما كان "يامن" يقول مستطردًا:
- حسابـك زاد معايا أوي، غلطتت.. و أنا كنت مستنيك تغلط!
تبدد أي علامات للبرود في ملامح "يامن" و هو يكشر عن أنيابهِ أثناء قولهِ الجهوريّ الشرس:
- و اللي يغلط يتحاســب يا دمنهــوري!
كانت نبرته واثقة و هو ينظر لعينيهِ مباشرة:
- مش هتقتلني يا يامن.. أنا عارفك كويس! مش هيهون عليك تقتلني بعد ما كنا مبنفترقش للحظة!
إحدى كفيهِ حاملًا لسلاحه المُشهر في وجههِ، و الآخر متقبضًا و قد رفعهُ بجوار رأسهِ، بينما يعود تزامنًا مع رفع كل إصبع من أصابعهِ، و ابتدأ بالخنصر:
- واحد
و خطوة أخرى أتبعها بـ البنصر:
- اتنيـن
خطوة ثالثة للخلف و هو يستأنف رافعًا الوسطى:
- تلاتة
بينما هو يقف محلهِ متجمدًا لا يقوى على استيعاب ما يفعل، حتى توقف "يامن" محلهُ و قد تصلبت ملامحه تمامًا و يقبض أصابعهِ مجددًا، و بثانية واحدة و مع بسطهِ لأناملهِ الخمس، و كأنهُ يشير إلى انفجار قنبلةٍ ما، و بالفعل.. تزامنت حركتهِ مع صوت انفجار بالطابق العلويّ و ألسنة النيران الناشبة تلتهم بشراهة ما يواجهها محاولة إشباع جوعها حينما كان "يامن" يقول بلهجة قاتمة:
- سلام يا دمنهــوري
و انسحب من الوسط موصدًا الباب من خلفهِ فيقطع عليه طريق الخروج، بجانب ما فعل رجالهِ من إغلاقهم كافّة الأبواب و النوافذ السُفلية التي قد تمكنهُ من الهرب.
و توقف لثانية، أعينهُ الشرسة المندلعة بها النيران المحتدمة.. تقابلها تراقص ألسنة النيران الفعليّة المهتاجة في جِنان عينيه الخضراوين و هو يُعيد السلاح لملابسهِ، ثُم استدار ليمضى بخطواتٍ ثابتة.. غير واسعة بلا اكتراثٍ لما يمكن أن يصيبـه في تلك اللحظة، حتى أنهُ لم ينتبه لتلك النيران التي طالت كفهِ و تشبثت بهِ متسببة في حرقٍ سيترك به أثرًا عميقًا فيما بعد.. كُل خطوة ناريّة يخطوها كانت الذكريات تتوافد إلى ذهنيهِ.. اكتشافهِ لكل شئ تباعًا مُنذ الثانية الأولى و تنصّتهِ على كامل مكالماتها معهُ.. الذي للحق لا يعلم كيف كان يتمكن من كبت غضبهِ إلا بشِقّ الأنفُس، لا ينكر أنه كان يثور في وجهها أحيانًا _دون سبب ظاهريّ_ بينما بداخل ذهنهِ سببًا واحدً.. لم يكن ليكترث بالبيانات الخاصة بتلك الصفقة.. مُطلقًا و إن كان لن يهمه من الموضوع سِوى شماتة "نائف" به كونه استرق منه، و لكن ما جعل نيرانه تتقد ناحيتها هو لجوئها لـ "نائف" في طريق سعيها لانتقامها منه، محادثتها معه كانت تُضرم النيران في صدره، تزرع الجمرات لتنساب في أوردتهِ، و هو يستمع لتغزل "نائف" الصريح بها.. و هي لا تبالى حتى بتعنيفهِ، يود لو أنهُ يشبعها ضربًا حتى يبرد تلك النيران التي تلتهم منهُ بضراوة، خطوة تليها خطوة و هو يبتعد عن المحيط.. و ذِكرى تليها ذكرى تلوحُ أمام ناظريه، منبثقة من العـدم..
كانت قد حضرت طعام الإفطار بالرغم من تأخر الوقت لذلك، و لكن الشقيقتين لم يستيقظا بعد، بينما هي متيقظة منذ مدة، تركت آخر الصحون بينما تتلمس عنقها الذي آلمها على حين غِرة، أطبقت جفنيها و هي تتأوه، و لكنها عاودت فتحهما و هي تسير على عجل حالما استمعت لطرقات عليه، كانت تتوقع أن تجد زوجها، و لكنها بدت مشدوهة و قد تراخى كفها عن المقبض حال رؤيته، فـ همست بعدم تصديق:
- انــــت!
تأمل بعينين جريئتين كل تفصيلة بها.. من رأسها حتى أخمص قدميها، و ثغرهُ ينبع بابتسامة شهوانيّة، بينما يستند بكتفهِ لإطار الباب عاقدًا ساعديه أمام صدره، حتى ارتكزت أنظاره على وجهها.. شفتيها تحديدًا و رغبة في تذوقهما تلوح في الآفاق، همس "نائف" بوقاحة من بين شفتيه:
- وحشتيني!
هي تعرفهُ جيّدًا.. كان شقيق إحدى زميلاتِها في الجامعة و الذي لاحقها بمضايقاتها لهُ فترة طويلة، تقوست شفتيها ازدراءً و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مغمغمة:
- متشوفش وحش يا نائـف، خير؟ إيه اللي جابك؟ عرفت مكاني ازاي؟
حل "نائف" عقدة ساعديهِ ليحكّ صدغهِ بإبمهامهِ و هو يقول:
- شوفي يا روحي.. مع إني مش عايز أمشي، إلا إني للأسف مضطر أقول اللي عندي بسرعة، رجالة اللطخ جوزك تحت، و لو شكوا في حاجة.. كل حاجة هتبوظ قبل ما تبتدي
زفرت "يارا" حانقة من طريقته المثيرة للأعصاب، ثُم أطبق أسنانها و قد احتدت نظراتها أكثر:
- عايــز إيه يا نائــف؟
- طلب.. طلب واحد، مقابل حمايتك؟
قطبت جبينها و هي تقول مُضيقة عينيها و هي تكرر:
- حمايتي؟ من إيـه بالظبط؟
أشار "نائف" بعينيهِ و هو يفرق شفتيه لينطق بـ:
- جـوزك!
ثم استقام في وقفتهِ ليميل قليلًا عليها:
- و لا فاكرة إنه باقي عليكي؟ تبقى متعرفيش جوزك كويس يا يارا!
و عبث بأنامله و هو يتابع ببرود مثير للاستفزاز:
- للأسف.. جوزك ممكن يقتلك في أي وقت، أصلك متعرفيش انتي وقعتي مع ميـن!
و تقوست شفتيه و هو يدس كفيهِ في جيبيه ليرمقها بشفقة معاتبة:
- يا خسارة.. لو كنتي قبلتيني مكنتيش دخلتي نفسك في الدوامة دي!
اشتدت قبضتها على أسنانها و هي تحاول قدر الإمكان الحِفاظ على ثباتها الانفعاليّ، فخرجت نبرتها شبه متشنجة و هي تنطق بـ:
- عايـز إيه يا نائف بالظبط؟
حينها تجلّت الجدية على ملامحهِ.. حين بادر حديثهُ:
- طلبي صعب يا يارا.. لكن أنا واثق انك هتقدري تنفذيـه، مفيش حد غيرك هيقدر يعمل ده
گانا ساذجيـن..كلاهُما ساذجين للغاية لئلّا يعلما أن "يامن" يضع كاميرات مراقبة دقيقة للغايـة مخفيَة أمام باب المنزل تمكنه من رؤية ما يحدث من جميع الزاويا، و رجليهِ اللذينِ يقفان بالأعلى.. تحديدًا على بُعد بضعة درجات متواريين عنهما.. يحرسان باب المنزل بشكلٍ دائم، فبعد بضع دقائق.. كان "يامن" قد وصلهُ ما حدث صوتًا و صورةً.
حينها عاد.. ليجد "فارس" أمام منزلهِ، و نشب بينهما ذلك العراك و قد كاد بالفعل يُخبرها أنهُ على علم بما تخفيه.. و لكنهُ توقف في اللحظة الأخيرة، و گأنهُ أراد أن يستشفّ ما ستفعل، و ماذا سيكون قرارها الأخير بعد رحلتهما الطويلـة للغاية،.. و إن فعلت، فـ على الأقل سترتاح قليلًا، و كأنهُ اعتبر ذلك مقابل فعلتهِ و خطأهِ الأوحد بحقّها، و هي إجبارها على الزواج منه، و ما أُلحق بها من مصائب بعدها، و على الرغم من أنهُ لا يعترف بذلك "خطأً".. و لكن ليرى ما سـ تفعل تلك القطة الناعمة إن تحولت و أبدت ما ببطانها من شراسة.
تلك اللمسة الحنون منها.. و المخادعة للغاية فلا تُظهر ما أتت من أجلهِ جعلتهُ يستفيق، هو بالأصل نومهِ كنوم الذئب.. يشعر بكل حركة من حوله، و حركتها تلك و هي تُقبل عليهِ و تدثره كانت كافية لتوقظه، و لكنهُ ظلّ مُطبقًا الجفنين حتى استمع إلى قلقلة المفاتيح الخاصّة بهِ، و استمع إلى صوت إيصاد الباب، فنهض من فورهِ، راح يخرج حاسوبهِ الآخر و جلس على طرف الفراش في حالة تأهّب شديدة يُتابع ما تفعلهِ تلك الشرسة.. عبر عينيّ الفارس الذي كانت تشعر بهِ و كأنهُ يراقبها، و تركها تفعل ما تريد.. تنهى مهمتها، تتجول في غرفتهِ المحظور على غيره دلوفها، ترى لوحتهِ و ما عليها.. و التي لم يُسبق لأحدٍ دونه الاطلاع عليها، و لاحت ابتسامة حالكة على طرف شفتيه حين تذكر فعلتها الهوجاء التي حاولت بها أن تلهيهِ عمّا كانت تفعل، و لكنهُ للحق استغل الأمر ليحظى ببضع لحظات ينعم فيها بشهدها المُغري.
گان ينتظر تلك اللحظة تحديـدًا.. التي ستقرر فيها هل هي قادرة على التخطى أم لا، و لكنها غبيّة للغاية كما يدعوها دومًا، اعتقد أنها ستختار أمرًا من اثنيـن لا ثالثا لهما.. إمّا أن تُعطى "نائف" تلك الذاكرة، فيتأكد بذلك أنها لن تُسامح.. لن تتخطى، و لا تفقهُ في أمور الغفران من ذنبٍ لم و لن يعترف بهِ.
و إما انتظار تلك اللحظة التي سـ تأتيهِ فيها فتخبرهُ بنفسها عما كادت تفعل، فيتولى زمام الأمور حينها.. و لكنهُ بيد أنه لم يفهمها جيّدًا بعد، أو أنها لم تفهم فيمَ أقحمت ذاتِها، حتى أنها لا تدري أنهُ كان يتابعها بيُسر بالغ و قد تركت غرفتها في إحدى الليالي ففعلت كما فعلت مسبقًا.. و لكن تلك المرة كانت غرفة مكتبه ببيت المزرعة، فشعر بحركتها في غرفتهِ، و تركها.. حتى أنه لم يكلف نفسه عناء الهبوط ليرى ما تفعل، و لكن باليوم التالي كانت إجابة على أسئلتهِ.. حين اكتشف أنها أعادت البيانات بأكملها بعد تفكير كما كان يتوقع بقلبها و ليس بعقلها، ترقّب أن تخبره بما فعلت، و لكنها صمتت.. و ظلت صامتة. حتى أنهُ كان يرى بوضوح تلك الذاكرة التي كانت بكفها حين أتى "نائف" لزيارتهِ و تركه يصافحها.. بل و يقبل كفها، في سبيل معرفة ما تفعل تحديدًا، عقب أن تركت بعقلهِ علامة استفهام.
ما خطر بذهنهِ حينها هـو أنها تراجعت.. لمرة واحدة تراجعت عن التفكير بقلبها الذي دومًا ما يُسبب لها الكوارث، و تلك المرة ستفكر بذهنها و فقط، لذا أعادت نقل البيانات إلى الذاكرة.. و أودعتها كفّ "نائف".
و لكنه للحق لم يكن يدرك أنها سـ تُلقى بأفكار ذهنها عرض الحائـط، بحيث تتلاعبُ بـ "نائف" و تُسلمه ذاكرة فارغة، و هي لا تدرك بعد كمّ الشر الذي يخفيه خلف قناع بروده و سخريته.. الذي دومًا ما يرتديه.
أخيـرًا.. و بعد رحلة قضاياها بين أروقة ذكرياتهِ فلم يستفق منها سِوى على صوت رنين هاتفه، بسط "يامن" كفه ليسحب هاتفه عن تابلوه السيارة، فوجد اتصالاتٍ عِدة وردت منها، و لكنهُ كان يتجاهلها، ينتوي العودة إليها و لكن بما أنه هُنـا، و اليوم تحديدًا، لديهِ ما سيفعلهُ قبل رحيلهِ من أحضان القاهـرة.
...............................................................
گمن فقدت كلّ شئ
أدركت في نهاية المطاف أنها كانت غبيّة.. غبيّة للغاية للدرجة التي تجعلها لا تفكر سِوى بالأموال عقب حرمانٍ نال من عائلتها و طالها بأبشع الطرق.. حين توفّى شقيقها الصغير مريض القلب إثر الفقر المُدقع الذي منعهم من التدخل الجراحي الفوريّ لهُ عقب انتكاسة حادة في حالتهِ.
و منذها و هي هكذا..
"هُـدى".. أنانيّة، تكره الضعف، تهوى التسلط، ذات شخصيّة متجبرة و للحق يُقال أنها نجحت في أن تنقل بضع صفاتها لابنها.
ها هي اليـوم.. تقف في منتصف قصرها الشامخ الذي شهد أحداث عِدة، تعود كما كانت.. وحيدة، وحيدة للغايـة، و لكن هناك فارق واحد، أنها اليوم مُحاطة بالمال و الثروة تحظى بالجاه و السُلطان، و لكنها و للمرة الأولى في حياتها.. تُدرك أنها مجرد خيالات واهية.
راحت تتشمم ملابسهِ التي أبقاها.. قميصًا تلو الآخر، الحق يُقال أنها لم تقسَ عليه كما قست على بِكرها، و أنها لربما أحبتهُ أكثر قليلًا، عبقهِ العالق بثيابهِ أعاد إليها ذكريات طفولته، جلست على طرف فراش "عُمـر" و راحت تبكى.. تبكى بحرقة و قد شعرت بنفسها عاهرة.. مجرد عاهرة خانت والدهِ سابقًا و تزوجت عشيقها بعد مماتهِ، و لكنها كانت قد سئمت، سئمت من زوجها الذي لم يُشعرها يومًا بأنوثتها، لم يهتم بها،.. لم يرها، لم يرها حتى، و لم يكترث سوى لـ "حبيبة"، حبيبة التي وقفت گالشوكة في حلقها مرتيـن، الأولى حين كانت بالفترة الجامعيّة، لا تنكر أنها كانت أنانية حينذاك و لكنها أحبّت.. أحبت حُبها الأول الذي راحت الرياح تعبث به و تشتته كما شتت قلبها، تلك الرياح التي أطبقت عليهِ حتى أصابتهُ بالصقيع، و خسرت حبيبها الأول، و تزوجت من أجل الأموال..
حينها لم تقاوم سحر "كمال"، لم تتمكن، قاومت و حاولت التصدي، و لكنها استسلمت في نهاية المطاف عقب محاولاتٍ منه لم تكن بالجمّة، فهو يُدرك جيّدًا مناطق ضعفها، كانت تعلم جيّدًا العدواة التي بين كلاهما.. حبيبها السابق و الأول، و عشيقها، حينها كانت كمن تعهّد بمعاهدة الشيطان.. إن عاد "حسين" فليقتلهُ ابنها، لن تتمكن من أن تراهُ محاطًا بأسرتهِ و مع حبيبتهِ التي اختطفتهُ منها، و تزوجها دونًا عنها،" إن لم يكُن لها.. فلا يكن لغيرها"
و لم تكن تدري أنها تُدمره.. في سبيل خلقه قويًا صلدًا يقف گالجبل الشامخ في مواجهة عقبات الحياة القاسية، تلك الحياة التي دعستها لأكثر من مرة، و حاولت بكل الطرق مجابهتها حتى صارت هي، "هدى الريحانيّ" زوجة "يوسف الصيّاد" و من بعدهِ أخيه "كمال الصيّاد" و الأهم من كِلاهما.. و الذي يُعطيها أكثر فخرًا و اعتزازًا أنها والدة تلك الشخصيّة الطاغية التي تدعس من يحاول الوقوف أمامهِ.. والدة "يامن الصيّاد".
شهقت لأكثر من مرة، و دموعها تنساب كالشلالات المنهمرة على وجنتيها، و كأنها تحاول تنقية نفسها المُعبقة بالذنوب، دفنت رأسها أكثر في قميص ابنها الأصغر حتى راحت دموعها تخترق مساماهُ فأغرقته، و لكنها رفعتهُ مجددًا حين استمعت لرنين هاتفها، فراحت تسحبه.. تلهفت بشدة و هي تنزح دموعها لتجيب على مكالمتهِ المرئيّة، و أبعدت وجهها عنه حتى يتبين وجهها و هي تلوى ثغرها بابتسامة باهتة:
- عمــر، وحشتني يا حبيبي، عامل إيـه؟
افترّ ثغره عن ابتسامة متسعة و هو يناغشها قليلًا:
- إيه البكش ده يا هُدهد.. ما أنا لسه مكلمك من ساعتين!
و لكن ابتسامتها اتسعت أكثر، و عبراتها ترقرقت في مقلتيها و هي تقول بلهجة مبحوحة:
- بس وحشتني.. يا ريتني عرفت قيمتك من زمان يا عمر، يا ريتني عرفت قيمتك إنت و يامن من زمان!
شعر و كأن هنالك خطب ما و هو يُدقق في تقاسيم وجهها ، فسأل بتشكك و هو يضيق عينيه:
- ماما.. انتي كنتي بتعيطي؟
فنزحت "هدى" تلك العبرة العالقة في عينها و هي تزيح الهاتف قليلًا عن وجهها، ثُم قالت و هي تبتسم بتزييف:
- لا يا حبيبي، دي حاجة دخلت في عيني
و راحت تحادثـهُ مُطولًا، توصيهِ بأن يحاول مجددًا مع أخيهِ لتحسين علاقته به، عقب أن قصّ عليها تفصيليًا ما حدث مُسبقًا، و لم تنتبه إلى "سهير" التي راقبتها بقنوط من شِق الباب الموارَب.
..............................................................
كان في طريقهِ عقب أن أنهى ما كان يفعل، سيجارتهِ بين شفتيهِ، يُسمم رئتيهِ بمادة النيكوتين بينما يتواصل كل دقيقة تقريبًا مع "منصور" ليطمأن لحالتها، و لكنه مازال يرفض إجابة اتصالاتها المتكررة، زفر بقنوط حين تعالى رنين الهاتف مجددًا، و كاد يسحبهُ ليُفعّل الوضع الصامت عقب أن سئم محاولاتها،.. و لكنهُ توقف و تعلقت عيناه بالاسم المُنبثق، اشتدت ملامحه و هو يتردد في الإجابة، حتى انتهى الاتصال، و ما هي إلا ثوانٍ معدودة و كانت تُعيد الاتصال مجددًا، زفر و أصابع كفهِ تتشنج على المقود، ثُم أجاب عبر جهاز سماعة البلوتوث بجفاء بيّن و نظراته التي أظلمت مسلطة على الطريق:
- خيـر يا مدام هدى؟
- وحشتني يا يامن!
نبرتها المبحوحة خرجت منها مممتزجة مع نشيج مكتوم ثُم تابعت:
- وحشتني أوي
زفر أنفاسهِ الملتهبة و هو يطبق جفنيه ضجرًا ثُم قال بلهجة أشد بأسًا:
- عايزة ايـه يا هدى؟ لخصي
فهتفت بنبرة شبه ساخرة تحمل المرارة في طيّاتها:
- مبـروك على جوازك.. مفيش موقع منقلش الخبر
نفث "يامن" دخان سيجارته.. ثم قال و قد بدأ يملّ:
- ادخلي في الموضوع يا هدى
تقوست شفتيها شجنًا و هي تهمس بإنهاك نفسيّ:
- أنا تعبانة يا يامن
ارتفع جانب ثغره بابتسامة ساخرة و هو يشدق بـ:
- سلامتك
أحنت أهدابها قنوطًا و قد تهدل كتفيها، ثُم أردفت و العبرات تترقرق في مقلتيها:
- أنا مش بهزر.. أنا تعبانة، وحيدة، مش لاقية حد جمبي، يامـ...
فقاطعها بصرامة و قد تيقّن من سِر مكالمتها:
- هُــــدى، مش هطلعلولك، ريحي نفسك
أطبقت جفنيها لتنسدل عبرة حارقة على وجنتها و هي تقول بلا اكتراث لقولهِ:
- حبيت أسمع صوتك يا يامن
و بدا التلهف في نبرتها الصادقة:
- يامن تعالى..هاتها و تعالى، أنا راضية، و الله راضية ببنت حبيبة عشان خاطر تفضل جمبي، راضية بأي حاجة بس تكون موجود، أنا.. أنا عارفة إنك حبيتها، و متأكدة من ده، مش هأذيها، صدقني مش هأذيها، هاتها و تعالى، خلينا نبدأ من جديد!
كان وجههُ صلدًا للغاية و هو يقول غيرُ مباليًا بها كثيرًا:
- إيه كمّ المشاعر المفاجئة دي؟ سرها إيه؟
بدا الارتياب حقًا في نبرتها و هي تقول و هي تقبض على أناملها:
- أنا خايفة و أنا لوحدي.. خايفة يا يامن، أرجوك تكون جمبي، أنا محتاجة لك!
زفر أنفاسهِ الملتهبة و قد سئم ذلك الحديث الذي يرى من وجهة نظره أنهُ عبارة عن مشاعر مزيفة، و تمثيل من والدتهِ، لذلك ردد منهيًا الحديث:
- هـــدى، كمال مش مطلعه، و لو على البيت اللي حاسة فيه بالوحدة.. هعمل اللي بتلمحيلهُ هكتبه باسمك، على الرغم انه البيت اللي عاش فيه أبويا.. لكن شاف نجاسة كتيــر.. مش عايزه، و كنت غلطان لما فكرت أخلى مراتي تحط رجلها فيه، لو ده سر المكالمة و التمثيل اللي مبخيلش عليا، فأحب أقولك إني حقيقي مش فايق لك، سلام
و أنهى المكالمة متجاهلًا ذلك الصدق الذي التمسه في نبرتها، و تاركًا لها في انهيارها، و قد انفجرت باكية بحُرقة و هي تستشعر ذلك الشعور المُميت الذي ينهش من روحها، و شظايا ما فعلت طوال حياتها تتعلق بقلبها الذي دفنتهُ و وراهُ الثرى.. و لكنهُ حيا مجددًا عقب سبات طال، تقوقعت على نفسها أعلى الفراش.. و تابعت بكائها متأثرة ببكرها الذي خسرته و لن تتمكن استعادتهِ يومًا حتى.
لم تتمكن "سهير" من الوقوف متوارية و قد استشعرت مشاعرها الصادقة، دلفت دون أن تطرق الباب و راحت تجثو أمام فراشها على ركبتيه، بينما "هدى" تنظر نحوها بقهر و قد تشوشت رؤيتها اثر الدموع التي ملأت مقلتيها، فربتت "سهير" على كتفها و هي تُبادر بتنهيدة مطولة:
- عارفة.. عارفة احساسك، و عارفة إنك اتغيرتي
دفنت "هُدى" رأسها في وسادة ابنها الأصغر و هي تقول بلوعة:
- أنا بموت يا سهير.. بموت، آه!
و بالرغم مما رأتهُ على يديّ تلك المتجبرة التي تراها اليوم في أسوأ حالاتها، إلا أن عينيها ترقرقت فيهما العبرات المتأثرة، كبحت هبوطهم بصعوبة، و هي ترفع ذقنها، ثُم قالت:
- فكري يا هدى.. فكري كويس، لازم يعرف كل حاجة
حينها خبى صوت شهقاتها، و تحجرت الدموع في مقلتيها و هي ترفع نظراتها إليها غير قادرة على الاستقامة في جلستها:
- إيــه؟
أومأت "سهير" و هي تقول بلهجة متريثة:
- أيوة.. لازم يعرف، لو بجد ندمانة فلازم يعرف كل حاجة
و أحنت بصرها عنها و قد تهدل كتفيها و هي تقول بقنوط:
- كفاية أوي اللي شافه طول حياته، لو فعلًا حبيتيه لو لذرة واحدة.. ارحميه من عذابه و قوليله!
تشتت.. تشتت بأفكارها و قلبها و كأنها لا تقوى على استيعاب قولها، حتى انتفضت في جلستها و هي تقول بأعين متوسعة:
- و بعديـن؟ هيعمل فيا إيه لو عرف؟
- هيقسى.. هيقسى أوي، لكن هييجي يوم و هيسامحك
هزت رأسها عدة مرات نفيًا و هي تقول بجنون:
- لا لا لا.. مش هيسامح، مش هيسامح أبدًا، عمره ما هيسامح، هينتقم مني!
تنهدت "سهير" بيأسٍ بالغ و هي تنظر نحوها، ثم نهضت و هي تقول بلهجة ثابتة:
- لو حسيتي للحظة.. للحظة واحدة بس إنك أُم يا هدى، هتعملي ده!
فارتكز بصرها التائه عليها، وجدت بين عينيها نظرة قوية تمتعت بها "سهير" دومًا، ثم تركتها و انصرفت بهدوء شديد كما أتت، تاركة لها في متاهات لا تجد لنفسها منها مخرجًا.
...................................................................
رأسها يسقط على كتفيها و حالة نعاس شديدة مُسيطرة عليها، و لكنها تعود و تنتفض مجددًا و هي تمسح وجهها بكفيها محاولة نزح ذلك عنها و هي تشغل نفسها بهاتفها الذي لم يفارق كفها، محاولة مجددًا و مجددًا و مجددًا.. و تبوء المحاولات أجمع بالفشـل الذريع.
و تلك المرة استغرقت في النوم حقًا لما يقارب الخمس دقائق و هي تجلس في أحضان فراشهِ، حتى انتفض جسدها بأكملهِ حين استمعت لصوت الباب ينفتح، هبّت واقفة على قدميها و أنفاسها تتلاحق و هي تحدق بهِ، في حين لم ينظر نحوها و هو يخطو للداخل و قد استشعر وجودها من عبقها الذي يملأ الغرفة، لم يوليها اهتمامًا و كأنها سرابًا لا وجود له، فاستثار أعصابها أكثر ببرودهِ الظاهريّ ذاك، بينما لو منحها فرصة النظر لعينيهِ كانت سـ ترى بوضوح الحُمم البركانية المتقاذفة منهما، ابتلعت ريقها بتوجس، و هي تنظر نحوه، لم تتمكن من أن تقف صامتة هكذا، فراحت تسألهُ بعتاب:
- قتلته؟
و كأنها ذرة عبار مضت و عبرت، راح يحلّ أزار قميصهِ، حتى أنهاهم.. فـ خلعهُ و ألقاهُ أرضًا دون اكتراث، فتعلقت أنظارها بظهرهِ الصلب.. المشوه بالكثير من الآثار، فشعرت بألم يداهم قلبها.. ألم لا تعرف سببهِ و لا مصدره، استجمعت شُتاتها المبعثر و هي ترفع أنظارها نحوهُ منتظرة أن يتحدث.. يلتفت.. ينظر إليها، و لكنهُ على عكس ذلك كان ثابتًا صلدًا للغاية و هو يستكمل تنفيثهُ لدخان سيجارتهِ بينما ينظر من زجاج الشرفة الشفاف للخارج، زفرت أنفاسها الملتهبة و قد يئست مما يفعل، ثم حسمت أمرها خطت نحوه و استدارت لتقف أمامه، فلم تنحرف حتى أنظاره نحوها، شعرت و كأن صدرها هي الأخرى تعبأ بالنيكوتين، فتقلصت ملامحها قليلًا، راحت تسحب السيجارة التي تركها متدلية من جانب ثغرهِ بينما كان داسًا كفيه في جيبيّ بنطالهِ، حينها فقط انعطفت نظراته نحوها، قاتمة للغاية.. حتى أنها هابتهُ كثيرًا في تلك اللحظة تحديدًا، ابتلعت ريقها في محاولة منها للتظاهر بالقوة و انسلت من أمامهِ لتمضى نحو المنفضة، و دعست السيجارة فيها، حينها انعطفت نظراته المظلمة نحو الزجاج مجددًا، حتى عندما عادت لتحشر نفسها بين جسده و بين الزجاج من خلفها.. ظلّ على نفس حالته، تنفست "يارا" بعمق في محاولة منها لضبط انفعالاتها، ثُم سألتهُ بارتياب و نظرات متشككة:
- قتلتـه؟
و بدون أن ينظر نحوها كان يسأل بسخرية جافة:
- يهمك؟
أحنت بصرها و هي تسحب نفسًا عميقًا لصدرها ثم زفرته على مهل، رفعت أنظارها إليه ثم قالت بلهجة عميقة:
- لأ
- بتسألي ليـه؟
- انت اللي تهمني!
حينها انعطفت نظارتهِ نحوها، نظرة واحدة شملت وجهها، ثم عاد لوضعيته الأولى و هو يسأل بإيجاز:
- ليـه؟
رمقتهُ بنظرة معاتبة، ثم زفرت أنفاسها بقنوط و هي تسأله مؤنبة:
- مش عارف ليـه؟
مجددًا تنعطف نحوها نظراته الحالكة، فحرفت أنظارها بين عينيه و هي تتوسله:
- أرجوك.. كفاية قتل بقى، كفايـة يا يامن
أشاح بنظراته عنها ليحدق في الزجاج مجددًا، بينما نظراتها اليائسة معلقة بوجههِ، استشعرت و كأن الحديث معه في هذهِ اللحظة تحديدًا لن يفيد، ساد الصمت.. أحنت حينها بصرها فسقط أنظارها على هاتين الندبتين المختفيتين بين تقاسيم و عضلات صدرهِ اللتين كانت هي سببهما في منتصف الصدر.. و لكنهما يميلان نحو الجانب الأيسر تحديدًا، غامت عيناها و هي تتلمسهما بأطراف أناملها دون تردد، أثناء قولها:
- مش مصدقة إني كنت هعمل زيك في يوم! مش مصدقة إني كنت هقتلك ببساطة
و أثناء تدقيقها في صدره.. حتى وجدت تلك الندبة الثالثة، فتغضن جبينها و هي تتلمسها أيضًا بينما تسأله بشدوه، و كأنها لا تدري من أين أتت:
- إيـه ده؟
..................................................
.................................................................
..................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...