"الفصل السادس و الستون"

996 21 0
                                        

"الفصل السادس و الستون"
ناديتـهُ.. فلم يرتدُ لي سوى الصدى.
_________________________________________________
- ازاي.. ازاي قدرتي تسكتي عن كل دا!.. ازاي!
استفاقت على صوتهِ المهتاج فأردفت و هي تطبق جفونها:
- مش دا المهم دلوقتي، المهم يامن.. يامن و بس
و تشنجت نبرتها و هي تردد متابعة:
- أنا قاعدة هنا متكتفة مش عارفة أعمل حاجة
و نهضت عن محلها و قد ثارت ثائرتها و هي تقول مشيرة بكفها باستهجان:
- قاعدة هنا و مش عارفة هو فين و لا حصل له إيه.. اتصرف، حاول انت تتصرف، انت هتسيبـه؟
أطبق "فارس" جفنيه و هو يترجل عن السيارة، مرر أناملهُ في خصلاته و هو يبتعد عنها عدة خطوات تتابعهُ "ولاء" بنظراتها الفضولية، حتى توقف "فارس" و هو ينظر في ساعة يدهِ:
- أختك هتعمل عملية دلوقتي.. أتصرف ازاي
فغرت شفتيها و هي تردد مستنكرة:
- عملية؟ عملية إيه دي؟
نفض "فارس" خصلاتهِ بعصبية ثم قال بضيق جثُم على أضلعه:
- عملية.. لرجلها، أنا هاجي آخدك تكوني معاها
استشعرت و كأن الدوار يهاجم رأسها، و لكنها ظلّت ثابتة رغم ذلك، قبضت شفتيها ثم قالت و هي تهز رأسها بالنفي:
- الزفت جاسم مش راضي يطلعني من هنا.. حتى لو جيت انت بنفسك مش هيرضى يخليني أتحرك، مش هقدر أكون معاها
فكان ردّهُ قاطعًا و وجههُ قد اصطبغ بالحمرة:
- خلاص.. هأجلها طالما مش هكون معاها، أنا مش هسيبها لوحدها
فردد بتهلف طغى على نبرتها الجادّة:
-  تمام.. تمام بس اتصرف و اوصل له في أسرع وقت يا فارس
أومأ برأسهِ و هو يقول بلهجة ذات مغزى عقب أن حرر زفيرًا حارًا:
- متخافيش يا بنت عمي.. أنا مش هسيبه
و أنهى المكالمة، عاد مجددًا لسيارتهِ و استقلها دون أن يوضح لها في البداية، و لكنه قطبت جبينها حين وجدتهُ يعود مجددًا عبر الطريق المعاكس.. فسألتهُ حينئذ و قد شعرت و كأن الخطب جلل من تقاسيمهِ الغريبة:
- في إيه؟.. هو احنا مش رايحين المستشفى؟
هز "فارس" رأسهُ بالسلب ثم أجاب بجمود:
- لأ.. هكلم الدكتور يأجل العملية
ارتفع حاجبيها باستنكار و قد شعرت بضيق يجتاحها عقب أن كانت هيّأت نفسها لذلك، و سألت منزعجة:
- يعني إيه؟
نظر نحوها نظرة واحدة، ثم حاد ببصره و هو يقول:
- في حجات كتير متعرفيهاش و مش هتفهميها، لكن أبسط حاجة إن يامن نزل مصر، و أنا مش هقدر أسيبه
شعرت بقلبها يتواثب بين أضلعها، رقّت نظراتها و لاحت فيهما نظرة حزينة و هي تسألهُ بتشكك:
- يعني هتسافر انت كمان؟
أومأ و هو يردد:
- ايوة.. لكن أوعدك أول ما أرجع هعملك العملية
اعتدلت في جلستها و هي تحدق في الزجاج الأمامي بقنوط، في حين اختلس هو النزرات نحوها تقوست شفتيه و هو يستطرد بلهجة جادة:
- ولاء.. أنا حياة يامن مهمة عندي جدًا، و حياتك انتي كمان، لا هقدر أسيبه لوحده و لا هقدر أسيب البلد و انتي في أوضة العمليات.. افهمي موقفي
فقالت باحتجاج و قد طفى الانزعاج على صفحة وجهها:
- معتقدش إن يامن محتاج منك مساعدة، و بعدين فيها إيه لو سيبته لوحده؟
فقال و قد احتـد فجأة:
- ولاء.. قولتلك في حجات مش هتفهميها
فاحتدمت الدماء في عروقها هي الأخرى، انتفضت و هي تلتفت نحوهُ مرددة بتشنج:
- خلاص فهمني
أطبق "فارس" على أسنانه.. ثم فرقهما ليغمغم و هو يوزع نظراته المحتدة بينه و بين الطريق:
- مش وقتـهُ.. هفهمك لكن بعدين، لكن باختصار شديد ممكن أقولك إن يامن لو راح ممكن......
و قضم كلماتهِ و قد أطبق شفتيه مُستثقلًا ما سيقول، و لكنهُ تابع في النهاية عقب نظرات مترقبة منها:
- ممكن ميرجعش.. و أنا مش هقدر أسيب ابن عمي
حملقت بوجهه مطولًا، ثم اعتدلت في جلستها و هي تطبق جفنيها مرتكنة برأسها للمقعد، ثم غمغمت من بين شفتيها:
- خد بالك من نفسك
نظر نحوها نظرة من طرفه، نظرة مطولة عميقة شملت وجهها، و سريعًا ما حاد بنظراته عنها ليدير المقود حيث سيعبر طريقًا جانبيًا، سحب هاتفهُ ليحادث الطبيب فيطلب منهُ تأجيل موعد جراحتها و قد ضاعف من معدل السرعة ليصل بأقصى سرعتهِ و يجمع ما سيحتاجهُ من الفندق قبل أن يغادر تلك المدينة.
...............................................................
أوقف السيارة على بعد من البوابة، ثم ترجّل منها صافقًا الباب بعنف من خلفه، التف حولها ليصل للصندوق الخلفي الذي يضُمّ جثمانهِ و استخرجهُ من حاملًا لهُ على كتفهِ، لم يبالى بثقل جسدهِ و لا بألم ظهرهِ.
 و خطى نحو الداخل بخطوات لا حياة فيها، حتى عبر البوابة و راح يدلف عابرًا الممر الطويل المزدان بالحشائش على جانبيه،  توقف أمام بوابة القصر الذي أفرغهُ قبل أن يغادر أرض الوطن من الخدم، استعمل مفاتيحهُ ليفتحه و دفعهُ دفعة عنيفة، كما فعل ببوابة القصر..
 ثم دلف للداخل، توقف في منتصف البهو و ألقى جسده بعنف أشد على الأرضيّة، و ترك القصر بأكمله ليخطو نحو السيارة و عاد مجددًا بعد دقائق، ابتدأ بالطابق العلويّ.. و شرع يسكب تلك العبوات الضخمة التي تحوى سائلًا قابلًا للاشتعال، عبوة خلف الأخرى حتى انتهى منهُ و هبط الدرجات المفترشة ببساط أحمر قاتم و هو يسكب عبوة أخرى على طولها، و حالما هبط للأسفل كانت قد انتهت..
 فألقى بها بلا اكتراث و سحب أخرى.. كل غرفة أغرقها بتلك المادة حتى فاحت رائحتها في الأرجاء، حتى توقف لدقائق أمام تلك الغرفة الوحيدة التي سيندم أشد الندم على خسارتها.. و لكنهُ مرغمًا على ذلك إن كانت ضمن غرف ذلك القصر الملعون، دلف ليتفحصها للمرة الأخيرة، صورة والدهِ.. فراشهِ.. عبقه الذي رغم تلك الرائحة الطاغية إلا أنهُ أنفه استخلصته من الجو، و بحركة عنيفة.. أزاح ذلك الإطار ليلقيه أعلى الفراش، و شرع يسكب العبوة، حتى انتهى منها فتركها و خرج..
توقف أمام جثمانهِ الغارق في دمائه و سحب  عبوة أخرى.. و سكب ما بها كاملًا فوقهُ، أخرج قداحتهِ من جيب سترته الداخليّ و عيناهُ مسلطتان عليهِ.. و بدون أدنى ذرة ندم و دون أن يرفّ لهُ جفن كان يتخلى عن القداحة لتسقط أرضًا فشرعت ألسنة النيران تندلع و تتولد من حولهِ وصولًا لجثمانهِ القريب للغاية منهُ حتى نهشتهُ و طغت عليه فلم يعد حتى ظاهرًا، ارتفعت أنظاره عنه ليتتبع النيران الجوعة و هي تبتلع و تلتهم كل ما يقابلها دون تفرقة أو تمييز و قد انعكست الألسنة في خُضرة عينيه المحاطة بالشعيرات الدموية البارزة، ذلك القصر الذي سُفك فيه الكثير و الكثير من الدماء على يدهِ، وصولًا لدمائهِ التي ابتلعتها أرضيته..
 كما سفك دماء أخيه هنا، كلتا زوجتيهِ، طفلهُ الذي لم يكتب لهُ أن يرى النور بعينيهِ و لم يكن لديهِ علم أيضًا أن هنالك الكثير حدث بين جدران ذلك القصر الذي بُينت أساساتهِ بالدماء الخالصة.. گقتل جدهِ "يعقوب" على يد أحد أبنائهِ و بتدبير من الآخر.
..................................................................
و گأن قلبهُ گقطعة من الجليد الخالص.. لم يظفر حتى بارتياح و لو لثانية واحدة، لم يجد ما يشفى عليل روحه، لم يبرأ جرحه، و لم يستشعر أي تغيّرًا.. سوى للأسوأ.. و لكنهُ كان گدينٍ في عنقه أوفاه.
سار بإبهامهِ على شاهد القبر متأملًا بعينيهِ المتوهجتين كقطعتين من الجمرات على الرغم من تصلّب ملامحه و تيبسها الاسم المُدوّن، لفظ نفسًا عالقًا بصدره و كأنه يحاول تنفيث نيرانهِ ثم رفع نظراته عنه و هو يردد بصوت خالٍ من الروح:
- ارتاح يا بابا.. حقك رجع
استوقف السيّارة.. هبط منها متعجلًا و راح يخطو للداخل و قد تيقّن مما يدور في خلدهِ حين رآى الباب مفتوحًا، دلف مستوفضًا حتى تيبّس جسدهُ حين وجده أمامه، استشعر "يامن" وجوده و لكنهُ لم يلتفت، و لم يتحرك قيد أنملة، لم يصدر عنهُ أي ردّ فعل حين ردد "فارس" برهبة تملكت منهُ و هو يجبر ساقيه على الحراك:
- لأ!.. اوعي
 و دنا منه.. لم ترمش عيناه و ظلتا شاخصتين، توقف جواره مباشرة ليسير بعينيه على وجهه الذي حمل بضعًا من الشحوم السوداء و قد هبّت النيران في وجههِ:
- انت.. اللي حرقت القصر؟
و أيضًا لا يجيب.. لا ينبس ببنت شفة حتى، و لم يبدُ أي تغيير عليهِ، فردد "فارس" و هو يحتوى كتفه بضغطة خفيفة:
- يامـن؟
حينها انحرفت نظراتهِ نحوهُ.. نظرة انبثقت من عينيه علقتا بذهن الأخير الذي نقل نظراته بين جمرتيه المتوقدتين، ثم سألهُ:
- قتلته؟
تغضن جبينه حين استشعر ذلك الملمس الدافئ أسفل كفهِ.. فانخفضت نظراته نحو كتفه ليجد ثيابه مشبعة بالدماء، شعر بدمائهِ هو تنسحب من عروقه و هو يردد متلهفًا:
- انت.. اتصابت؟ الدم ده جاي منين؟
حاد بنظراته عنهُ ليعيد النظر نحو القبر الذي ضمّ جثمان والده منذ سنون، و لم يلفظ سوى بتلك الكلمات الخالية من أي معنى للحياة:
- مش دمي!
عفويًا تنقلت نظرات "فارس" على ثيابهِ أكملها ليجدها تقريبًا غارقة في الدماء، تراجع للخلف خطوة و قد شعر بجفاف حلقهِ، أطبق جفنيه و هو يعتصرهما بقوة، ثم سأل:
- دفنته؟
و بدون أن يصدر عنهُ حركة ردد من بين شفتيه:
- اتحرق في القصر اللي عملهُ مدبح!
أشاح "فارس" بنظراته عنه و قد استشعر ألمًا يعصف بفؤاده رغم أي شئ، تقبّض كفيه بجواره و قد كبح بصعوبة تلك العبرة التي توقفت على أعتاب جفنيهِ، ثم سأل بتحشرج:
- و أمنية؟
فكانت كلمتهِ موجزة للغاية و متعهدة في نفس الآن:
- هترجع
و لم ينظر نحوهُ.. استدار لينصرف عقب أن شعر أن أضلعه تضيق على قلبهِ فما عادت تسعهُ، تتابعه نظرات "فارس" القانطة، و لم يتمالك نفسه.. فـ إذ بجسده يتهالك على إحدى درجات القبر الرخامية دافنًا وجههُ بين كفيه، و قد سمح للعبرات الصامتة أن تتجول على وجنتيه بحريّة.
................................................................
أجرت "ولاء" عمليتها الجراحية و لم تكن بجوارها.. و ها هو اليوم عملية والدتها و قد استفاقت منذ أيام عدة و أيضًا لم يعُد، لا تعلم كم مضى و لكنها تدرك أنها لم تمر أيامًا.. بل سنونًا ثقيلة على قلبها.. حينما عاد "فارس" عقب أن يأس من محاولاتهِ الجمّة للوصول إليه يكفى أنهُ اطمأن إلى أنه على قيد الحياة فقط، و لكنهُ لا يكفيها.. ما يقارب الأسبوعين و هي تعاني بغيابهِ المطوّل تعلم أنهُ يعاني وحيدًا بجحيمه الذي أضرم نيرانه بنفسهِ، و كم كانت تود لو تكون لهُ خير مؤازرًا في تلك اللحظات العسيرة، و ها هي مجددًا في سجن جديد لها.. تقضى يومها العسير من دونه في أحضان جناحهما بالفندق، لجأت لهوايتها المفضلة.. فشرعت تجسده مجددًا بهيئة "الغُداف" على أرواق عِدة، و قد لاحت فكرة ما جعلتها تبتسم ساخرة، فحتى الآن كانت لهُ أسيرة.. و إن كان سجّانها غائبًا.
.................................................................
طوال تلك المدة يلاحقها و هي لا تعلم ماذا عليها أن تفعل تحديدًا.. يوميّا تكاد تفر إليه فتخبرهُ بما يحدث، و لكنها تتقاعس في النهاية، و تعود فرارًا لغرفتها.
أبت والدتها الرحيل إلا بمرور ذلك الشهر و قد كانت غارقة في أحزانها بغياب جدتها، فظلّت في ذلك المكان.. و تحديدًا في غرفتها التي قبض فيها ملك الموت روحها، و كأنها تجد بين أحضان تلك الغرفة ملاذًا لروحها الملتاعة.
 على عكس "رهيف" التي تناست الأمر.. و تأقلمت مع الوضع.. و تركت خوفها يتجه صوب أمرًا آخر يشغل تفكيرها ليلًا نهارًا.. و لكن ما هابتهُ لم يكن خالها الذي يزجرها بنظراته و كلماته، فكانت تتهرب من فورها حين يتواجد في المنزل، تُحصى الدقائق و الثواني التي ستتمكن فيها من الفرار من ذلك الحبس الإجباريّ،.. و لكن ما هابتهُ حقًا هو ذلك الأجنبي الذي يعتبرها وسيلة لتسليتهِ فتتلقى منه رسائلًا سخيفة وقحة ليلًا نهارًا.
كانت ليلة هادئة دافئة من ليالي الربيع، حينما كانت تقرأ من المصحف وردها اليوميّ الذي أهملتهُ فترة.. و لكنها عادت إليه مجددًا و كأنه السند الوحيد، كم تجد راحة تتغلغل لخلاياها في كل حرفٍ تقرأهُ بتأني و ترتيل، تشعر بالفخر حقًا أنها أتمت حفظهِ منذ كانت في الصف الأول الثانويّ على الرغم من أنها لم تكن أزهريّة، و صادف اليوم قراءتها لسورة "يوسف".. تلك السورة التي بحق الأقرب لقلبها.
گان صدرها منشرحًا و قد تجلى ذلك على صفحة وجهها الهادئة عقب أن ختمتها بقولها:
- صدق اللهُ العظيم
و أغلقت المصحف بتروٍ ثم تركتهُ جانبًا، ربتت على خصلات الصغيرة التي كانت تضمّها أثناء استماعها لترتيلها.. و كأن شعور الراحة الذي تسلل إليها جعل النوم يُطبق على جفنيها في أحضانها، عبثت "رهيف" قليلًا بخصلاتها، ثم ألصق شفتيها بوجنتها الممتلئة لتترك أعلاهُ قبلة حانية، و نهضت بحذر من جوارها عقب أن شعرت بحرارة الأجواء، فراحت تفتح الستائر و فتحت شباكها قليلًا ليرتطم النسيم الرطب بصفحة وجهها، زفرت نفسًا مرتاحًا من صدرها و هي تطبق جفونها، ثم تحركت من أمام النافذة، خطت نحو فراشها و كادت تستلقي استعدادًا للنوم العميق، و لكنها تيبست حين ومضت شاشة هاتفها بعد رنين قصير أعلن عن وصول رسالة توًا، كادت تتجاهلها كما تجاهلت أخواتها و لكن هاجسًا ما جعلها تفتحها، و كأنهُ حدسها الذي أنبئها بأن هنالك خطب.
 جلست على طرف الفراش و هي تسحب الهاتف عن الكومود و راحت تفتح الرسائل بترقّب، توسعت عيناها حتى كادتا تخرجان عن محجريهما.. شهقة مصدومة انفلتت منها و قد شحب لون وجهها و بهتت معالمهُ و هي تُبصر تلك الصورة التي التُقطت من زاوية محترفة،.. بل من زاويا عدة حين كانت تقف برفقتهِ في أرضها ليلًا، و أردفهم برسالتهِ:
-" أسبوعين تتجاهلينني؟.. و لكن أيمكنك أن تفعلين بعد ذلك؟"
- " أسيكون سيئًا إن ألصقت تلك الصور على جدران كل مزل ببلدتكم"
فراحت تنقر على الهاتف من فورها و قد شعرت أن حياتها على المحك:
- "انت عايز إيه؟"
- "ليلة واحدة"
فلم تقوَ على التحمل.. شعرت و كأن قوتها تخور، نهضت من فورها مستشعرة تلك الرجفة التي اعترت جسدها بأكمله، و بشكل فوضويّ عقدت حجابها حول رأسها، و راحت تخطو للخارج من فورها، و لم تترد في أن تصعد الدرجات حتى غرفتهِ في ذلك التوقيت المتأخر من الليل، توقفت أمام غرفته و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا.. تلفتت حولها ، ثم طرقت على الباب عدة مرات، حتى أتاها ردّهُ المتثاقل.. و كأنه كان غارقًا في سبات عميق، ثوانٍ مرت عليها سنونًا و هي تترقّبهُ، حتى و أخيرًا فتح الباب ليطلّ من خلفهِ، حملقت عيناه الناعستين بعدم تصديق، فركهما قليلًا ثم نظر نحوها متعجبًا تواجدها:
- رهيـف!.. بتعملي إيه هنا في وقت زي دا؟
فكانت كلماتها متلعثمة مرتجفة و هي تشير بكفيها و هاتفها:
- هـ..هيفضحني الحيوان، الحقني يا راشد، اعمل أي حاجة
احتلّ الامتعاض تقاسيمه و هو يقول مستهجنًا:
- مين دا؟.. انتي بتقولي إيه؟
أحنت بصرها عنه بتخاذل و هي تهمس بقنوط:
- مـ..مايكل!
و فتحت الهاتف.. راحت تعرض عليه الصور فحملقت عيناه و هو يختطف الهاتف منها، وجههُ قد تلون بحمرة فاقعة و هو يضرب الحائط بقبضته المكورة.. ثم سألها بصياح مُفزع:
- إيــه دا؟ انتي قابلتيه امتى؟
فراحت تجيبهُ بصعوبة متهدجة:
- من.. اسبوعين
و رفعت نظراتها إليه و هي تعقد حاجبيها محاولة التبرير:
- هو.. هو اللي قرب مني بالشكل دا، لكن أنا و الله يا راشد سيبته فورًا و مشيت، أنا.. كنت رايحة الأرض لاقيته هناك.. معرفش إنه.....
أطبق على أسنانه باغتياظ شديد و قد شعر و كأن الجمرات تسري في أوردتهِ، خاصة حينما أغلق الصور ليمضى بعينيه على كلماتهِ، فلم يتردد في أن يلكم الجدار مجددًا بقبضتهِ و هو يهدر بـ:
- يا ابن الـ******!
فحاولت تهدئتهِ و هي تتلفت حولها متوسلة إيّاه:
- أرجوك وطي صوتك.. خالي لو عرف ما هيصدق يقتلني
 و لكنهُ لم يهدأ.. راح يجري اتصالًا به عبر هاتفها وسط تجمدها، شعرت بالدماء تفر من أوردتها، حينما وجدتهُ يمسح على وجهه بكفه الآخر بعنف و هو يترقّب رده، حتى و أخيرًا أجاب:
- لم أكن أعلم أن يصلني ردّك بتلك السرعة
فكان ردّهُ محتدمًا على الرغم من انخفاض نبرتهِ:
- لو كنت راجل من ضهر راجل قابلني في الأرض
ارتفع حاجبيّ "مايكل" استنكارًا و لكنهُ لم يتعجب كثيرًا، بل أن ثغرهُ افترّ عن ابتسامة صقيعيّة و هو يغمغم:
- كنت أعلم أنها ستلجأ إليك متناسية أنك حاولت قتلها من قبل
فـ أنهى "راشد" المكالمة من فورهِ و ناولها الهاتف، دلف متناولًا قميصًا يرتديه فوق بنطالهِ و قميصه الداخليّ الأسود اللون و عبر من جوارها و هو يرتديهِ، فراحت تتبعهُ و هي تتوسلهُ بارتجافة طغت على نبرتها:
- أرجوك يا راشد متضيعش نفسك.. راشـد
فشرع يهبط الدرجات و هو يغلق أزرار قميصه آمرًا إياها بـ:
- خشي أوضتك و متطلعيش منها
شعرت بالهلع يتسرب في أوردتها و هي تتبعهُ مترجلة عن الدرجات من خلفه، حاولت الوصول إليه و لكنهُ كان كالذي يُسابق الرياح، و حين حاولت الحديث كان صوتها راجيًا و هي تغمغم باسمهِ:
- راشـد
التفت نحوها نصف التفاتة عقب أن ترجل عن آخر درجة و هو يهدر بصوت ارتفع فجأة:
- قولت على أوضتـــك
تيبست بمحلها رغمًا عنها تتابع رحيله بنظراتها الهلعة.. و لكنها لم تجد حلًا آخر، فراحت تفرك كفيها بتوتر طغى على كل خليّة بجسدها و هي تغمغم:
- يا رب.. أنا معملتش حاجة و انت العالم، يا رب أرجوك
............................................................
كُـل ما حولها مريحًا للنظر و العنين و يبعثُ الحبور في النفس و انشراحًا للصدر، حيث ألوان الجدران المبهجة، و الستائر البيضاء التي تمرّ أشعة الشمس من خلالها في مشهد يرسل الهدوء للنفس البشريّة، و خاصةً غرفتها.. حيث اكتُظت بباقات الورود الأنيقة بكافّة أنواعها و أشكالها، نظرت من خلال الباب و أذنت بالدخول و هي تعتدل في جلستها و قد لاح على ثغرها بسمة هادئة، حتى دلف "فارس" موصدًا الباب من خلفهِ.. دنا منها، ترك الباقة أولًا في أحضانها و هو يغمغم متسائلًا:
- أخبارك إيه النهاردة؟.. أحسـن؟
قربت الورود ذات اللون الفريد "اللاڤندر" من أنفها لتتشمم رائحته بتحمّس، ثم أجابتهُ:
- أكيـد
و تلمست الورود الناعمة بأطراف أناملها و كأنها تخشى عليها من الأذى، ثم نظرت حولها و تسلطت نظراتها بالنهاية عليه و هي تمازحهُ:
- كل يوم ورد!.. أنا بتعود على فكرة خد بالك
فـ ابتسم ابتسامة لم تصل لأذنيه و هو يجلس أمامها:
- اتعودي.. مش ممانع دا!
و أضاف بنبرة ذات مغزى و كأنهُ يتعمّد أن يذكرها بـ:
- يا بنت عمي
عبست فجأة و اكفهرّ وجهها و هي تترك الباقة جانبًا، ثم قالت بضيق جثُم على صدرها:
- برضو لسه مش مقتنع
فـ أشار إليه بعينيه و هو يردد بنبرة اشتدت:
- انتي اللي مش مقتنعة و مش قادرة تقتنعي
فارتفع كتفيها و هي تنظر نحوهُ مبررة احتجاجها:
- لأن مفيش أي سبب مقنع..مفيش دليل حتى
أشار بعينيه و هو يقول مؤكدًا و قد تلوت شفتيه سخطًا:
- في دليل.. إن جدى كاتب أسهم الشركة باسم "حسين".. دا دليل كافي، لو مكنش ابنه هيكتب له شركة بحالها ليه؟
و قبل أن تُبدى اعتراضها المُتعنّد، كان "فارس" يقول:
- اللي متعرفيهوش إن "يامن" قالي يومها بعد ما رجعنا إن أبوكي معرفه قبل ما يموت
حملقت عيناها و دون أن ترمش سألتهُ:
- عرفه؟.. عرفه إيه؟
لفظ "فارس" أنفاسهِ ثم قال مُبديًا لها:
- قاله إن يارا تبقى بنت عمه.. تقدري تقوليلي تفسير تاني غير دا؟
فسمحت لعينيها أن ترمشا عدة مرات ثم حادت ببصرها عنهُ و هي تردد بعدم استيعاب:
- يعني دا بجد؟
ارتفع كتفيه و هو يتمتم بفتور:
- صدقتي خير.. مصدقتيش إنتي حرة
و نهض عن جلستهِ و هو يردد بنبرة جافة:
- أنا هخلي الدكتور يكتب لك خروج النهاردة بعد ما اطمنت على حالتك، عشان تكوني مع والدتك
ارتفع حاجبيها و هي تدمدم استنكارًا:
- هي فاقت؟
أومأ و هو يقول مشيحًا بوجههِ عنها:
- فاقت.. و عرفتها الحقيقة اللي مش راضية تقتنعي بيها
فاعتدلت في جلستها و هي تقول متحفزة:
- فاقت امتى؟.. و ازاي متعرفنيش
نظر نحوها مباشرة و هو يردد بسخط:
- مفاقتش غير امبارح.. و معرفتش دا غير بعد ما رجعت من عندك، و أديني بعرفك، ليكي شوق للخناق؟
حمحمت حرجًا و هي تحني بصرها عنهُ، ثم قالت محاولة الدافع عن نفسها:
- على فكرة مش قصدي.. انت اللي بقيت عصبي زيادة
فقال قبل أن ينصرف:
- عمليتها بكرة.. هبعتلك واحدة تساعك تجهزي و أخلص الحساب عشان نمشي
و برح محلهُ.. تابعتهُ بنظرات قانطة عقب تبدل حالهِ تمامًا خلال آخر أسبوعين، و لكن على الرغم من ذلك لم تكن عليه حانقة، بل أنها حتى امتنتهُ و هي تتذكر ذلك اليوم و....
« گان يومًا عصيبًا عانت منهُ.. ظلت تتجول في أرجاء حجرتها على الرغم من تعرّجها، إلا أنها و كأنها حاولت أن تشبع من السير قبل أن تكون قعيدة في الفراش، حتى آلمتها قدماها فاضطرت للجلوس أخيرًا تزامنًا مع دلوفهِ عقب أن طرق طرقتين، دنا منها حينما كانت تعرب لهُ عن ظمأها:
- أنا عطشانة أوي يا فارس
فقال و هو يجلس على المقعد أمامها عاقدًا حاجبيه:
- مينفعش تشربي يا ولاء.. الدكتور قال تصومي قبلها بخمس ساعات على الأقل، و خلاص مفيش غير ربع ساعة، استحملي
عبس وجهها و هي تردد بضيق واضح:
- طيب
 و ما هي إلا دقائق و كان الباب يُقرع، فنظرت نحوهُ بارتباك مضاعف حتى انفتح الباب على مصراعيهِ لتدلف الممرضة منه و محياها يعلوه بسمة هادئة و هي تغمغم:
- we need to prepare you!
ازدردت "ولاء" ريقها و قد شعرت بتوتر رهيب يجتاحها، نظرت نحوه و هي تنكمش على نفسها مرددة:
- هو.. مش لسه ربع ساعة
فنهض "فارس" عن محلهِ و هو يردد بلهجة جادة:
- هيجهزوكي للعملية
فاستقامت في وقفتها أمامه و أعربت لهُ عن شعورها:
- أنا خايفة
منحها نظرة هادئة على الرغم من اكفهرار وجههُ و هو يردف بإشارة من عينيه استقبلتها من فورها:
- مفيش حاجة مستاهلة.. أنا معاكي
و أشار بكفه و هو يدمدم بلهجة شبه آمرة:
- تعالي
و اقتادتهم الممرضة لطابق غرفة العمليات، حملقت "ولاء" بالكلمة التي تعلو الباب حين توقفت أمامه و قد شعرت بالدماء تفرّ من عروقها، أطبقت جفونها لتحرر زفيرًا حارًا، ثم عادت تفتحهما حين فتحت لها الممرضة الباب و أشار لها:
-  her you are
 التفتت لتنظر نحوهُ لتجده ملتفتًا عنها مشغول بالإجابة على مكالمة هاتفيّة وردتهُ.. لم يمنحها نظرة أخيرة مما فاقم ضيقها، أحادت ببصرها عنه و قد امتقع وجهها بحزنٍ شمل تقاسيمهُ، ثم راحت تمضى للداخل، خطوة كانت تفصلها عن الدخول حتى استمعت إلى صوتهِ من خلفها:
- just one minute please
و نظر نحوها و هو يردد بخشونة:
- ولاء
نظرت نحوهُ عاقدة حاجبيها، فـ أشار للهاتف و هو يدنو منها و:
- مكالمة عشانك
فـ انكمشت المسافة ما بين حاجبيها و هي تغمغم بتعجب:
- عشاني؟
تناولت منهُ الهاتف و راحت تضعهُ على أذنها فاستمعت لصوتها الجاد:
- عارفة إني كان لازم أكون معاكي.. لكن قبل أي حاجة بقولك إني مقدرتش، يامن سايب معايا واحد من رجالته و مش قادرة أطلع برا الفندق
فـ حُلت عقدة حاجبيها و هي تردد:
- يارا!
فـ أردفت الأخيرة بنبرة ثابتة:
- أكيد مكنش لازم أسيبك في لحظة زي دي
أحنت "ولاء" ناظريها و قد ترقرقت العبرات في مقلتيها، ثم أعربت لها عن شعورها بارتباك و كأن ما كان بينهما عداوة:
- أنا خايفة أوي.. حاسة إني مش هخرج تاني
انقبض قلب "يارا".. و لكنها كانت متماسكة بشكلٍ غريب، أطبقت جفونها و هي تتنهد في ضيق، ثم قالت باصرار:
- اياكي.. اياكي تعملي دا، مش عايزة أخسرك انتي كمان
فنظر "ولاء" لباب غرفة العمليات و هي تقول ما يعتمل في نفسها:
- حاسة إن اللحظة اللي بخطي فيها باب العمليات بدخل برجلي للموت
فعنفتها بصوتٍ مستهجن:
- ولاء.. شيلي الفكرة دي من دماغك، هتعملي العملية و هتكوني كويسة
فعقدت حاجبيها و هي تسألها بتوجس مُتشكك:
- تفتكري؟
هزت "يارا" رأسها بالسلب و رددت مؤكدة بيقين:
- لأ مفتكرش.. أنا متأكدة من دا
- Please harry
كان ذلك صوت الممرضة التي تدخلت حينما كان "فارس" يشمل تعبيراتها و قد شعر بقلبهِ ينتفضُ بين أضلعه من كلماتها المتشائمة، نظرت "ولاء" نحوها نظرة واحدة، ثم رددت على عجل بارتباك ينضحُ من نبرتها:
- طب أنا.. لازم أقفل
و كادت تنهى المكالمة، لولا أن استدركتها:
- ولاء
- نعم؟
تركت زفيرًا ألهب صدرها، ثم أتبعتهُ بـ:
- سامحيني.. أنا آسفة لو جرحتك، و سامحيني إني كنت سبب رئيسي في اللي حصل لك
و أنهت هي المكالمة.. و كأنها تتهرب من ذلك الاعتذار، و كأنهُ مذلّة لنفسها التي لم تعد هشّة كما كانت.. بل صارت أكثر قوة و شموخًا، و كأنها اكتسبت طِباعه و شابهتهُ، حينما كانت "ولاء" محملقة و قد سمحت لدموعها بأن تهبط بصمتٍ على وجنتيها، نظرت للهاتف قليلًا، ثم حادت ببصرها لتنظر نحوه و هي تسلمهُ إياه، نظرت لعينيه مباشرتين بعينيها الدامعتين، ثم دمدمت مُمتنة:
- شكرًا
و هو يتناول هاتفهِ.. تعمد أن يتشبث بكفها فحملقت بهِ متعجبة فعلتهُ، حينما احتواهُ هو بضغطة خفيفة و هو يشير لها بعينيه مغمغمًا بعمق:
- ولاء.. هستناكي
رمشت عدة مرات لتنزح تلك العبرات التي شوشت رؤيتها حتى تبين لها وجههُ المُكفهر المتجهم التعبيرات، و لكن رغم ذلك حملت نظراته نحوها معانٍ شتّى، و لم تجبهُ، فشدد من قبضته على كفها و هو يردد بلهجة أشدّ تحمل مغزى مُبطن:
- مش هسمح لك تنسحبي بسهولة.. المشوار طويــل، و أنا عايز أعيشهُ.. معاكي!
شخص بصرها نحوهُ و قد نبض قلبها بعنفٍ في صدرها، حينما كان هو يردف مُكررًا:
- هستناكي يا ولاء، متحاوليش تهربي
أومأت برأسها و هي تحنى بصرها عنهُ.. سحبت كفها من كفه و قد تهدّل كتفيها، ثم استدارت لتعبر الخطوة الفاصلة بينها و بين الغرفة تتابعها نظراته التي عانقتها و احتوت روحها، قبل أن ينغلق بابيّ الغرفة كانت تلتفت لتسمح لعينيها باستراق نظرة واحدة لوجههِ قبل أن يُغلق البابين في وجهيهما فيفرقهما، دون أن تعلم هل لهما بلقاءٍ آخر.. أم أنهُ سيكون الأخير؟»
 و لم يكن الأخير.. كان هناك الكثير من اللقاءات عقبهِ، و ها هو اليوم لقاءً آخر، و ها هو بابًا آخر يوصدهُ، و لكنها عقدت العزم على فتحهِ، دون أن تعلم ما سرّ تلك الخفقة المريبة.. تلك النظرة التي تومض ببريق ملتمع نحوهُ، تلك الرغبة في البقاء برفقتهِ، و ذلك الشجن و القنوط المصاحب لغيابهِ.. و كأن ألوان الدنيا أجمع تبهت، فتبتلعها موجةٌ من الغيوم.
...............................................................
لم تجرؤ أن تغادر بهو المنزل  جلست أنظارها شاخصة لدى الباب و كأنها تنتظر أن يُطلّ منه في أية لحظة، شعرت بقلبها يكاد يبلُغ حنجرتها من فرط ارتعادها، تفرك كفيها في توتر، و عيناها تتجولان ما بين الباب و ساعة الحائط.. تحتسب الدقائق و تحصى الثواني، حتى انتفض جسدها حين استمعت إلى صوت الباب ينفتح، فنهضت من فورها و أوفضت نحوهُ.. حتى وجدته يدلف خلالهِ و هو ينظر نحوها من طرفه، توسعت عيناها و هي ترى تلك الكدمات البارزة و خيوط الدماء التي تسيل على وجههِ، فكتمت شهقتها بكفها و هي تدنو منهُ مغمغمة بارتياب:
- إيه.. إيه اللي عمل فيك كدا؟
نظر نحوها نظرة من طرفهِ و قد تقوست شفتيها، ثم قال و هو يتخطاها:
- مش قولتلك متطلعيش من أوضتك
تتبعتهُ و هي تسألهُ بإصرار و كأنها لم تستمع إليه:
- رد عليا يا راشد.. هو اللي عمل كده فيك؟
التفت ليحدجها بنظرات حالكة جعلتها تتيبس في محلها، ثم أشار إلى غرفتها متعمدًا خفض صوتهِ الآمر ليكون أشد وقعًا عليها:
- قولت.. على.. أوضتك
و تركها محلها و انصرف متسلقًا الدرجات، تتبعتهُ بنظراتها و هي تحرر زفيرًا حارًا من صدرها، ثم دفنت وجهها في كفيها و قد شعرت أن الضغط عليها لا يحتمل، خطت نحو حجرتها، و فور أن دلفت فتحت هاتفها.. لتتفاجأ برسالة أخرى منه:
-" أعاد أم لا؟"
- " أعتقد أنهُ وصل"
-" أرئيتِ ما أصابه على يدي.. أتمنى لو تبالغين في الاحتماء بهِ فـ أتركهُ لكِ جثةً هامدة!"
تهالك جسدها على الفراش و هي تدلك جبينها في حيرة امتزجت مع التيه و الاغتياظ، للحظة فكرت في اللجوء إليهِ، "يامن"، هو وحدهُ من سيتمكن من السيطرة على الوضع، من سيضع حدّا لما يحدث، و لكن رفيقتها أخبرتها أنها لا تتمكن من الوصول إليه دون أن تطرق لأي موضوع آخر، فـ كيف ستصل هي إليهِ إذًا؟
..............................................................
كانت تقف خلف الزجاج تراقب تساقط الثلوج على أراضي تلك المدينة في ذلك الوقت المتأخر من الليل، بحيثُ تحتضن الغيوم القمر.. و كأنها تهبط على صفحة قلبها الملتهبة، و للعجب أنها لا تُخمد نيرانه.. بل كانت كسائلًا قابلًا للاشتعال ففاقم ما بها من جذوة، تحتسي من قدح قهوتها ذات المذاق المُر للغاية، و لكنها لم تعد ترتشفُ غيرها، و كأنها إن أضافت قِطعة من السكر تذوب بها فقد ارتكبت جرمًا بحقهِ هو، فتحت الباب الجرار و خرجت للشرفة..
 راحت تستند على سورها بمرفقيها و هي تمعن النظر المترقب للشوارع، تنتظر أن يهلّ طيفهُ.. أو أن تتشممّ عبقهِ.. أو أن تُشفى عيناها برؤياهُ.. كم تبدو متماسكة و كأنها اكتسبت تلك الصفة منه، بينما بداخلها جفّت أوراقها و أصابها الذبول شجنًا على فراقهِ، ليتها تتمكن من مناداتهِ فتبرأ روحها باستماعها لصوتهِ و كأنهُ سيخترق قلبها لا أذنيها، ليتها تتمكن من استراق نظرة واحدة إليهِ فيعينها على الصبر و التجلّد.
تناديهِ من خلف الطرقات.. من خلف الشرفات.. من خلف الشبابيك.. و من خلف القلوب، تناديهِ بجرحهِ.. ليُضمد جرحها، تناديهِ باسم الحُـب الذي لا يؤمن به، تناديه بضنا روحها و وَصبها، تناديه بلسان لا يفهمهُ الكثيرون.. بلسان الحُب، عساه يستجيب.. عساهُ يشفع عنها و يمنحها التحرر من أسرها، أسرها الذي صار ملجأها، و سجنها الذي أضحى جنة في كنفهِ، أسر العشق الذي أوصدت بنفسها بابهِ و احتبست نفسها به مع سجّانها.
كيـف هو؟ أين هو؟ أمنهار هُـو؟ أم أنه مازال يحتفظ بصلابتهِ، أنحنى كاهليهِ أم أنه لا يزالُ متصلبًا لا يحنيه شيئًا؟.. أترك زمام دموعهِ فانطلقت من عيناهُ.. أم أنهُ حرمها حتى ذلك الحقّ، أتخطُر على بالهِ؟ أم أنه لا يشغله سوى انتقامه الذي لن يريحهُ و لو بمقدار حبةٍ من خردل، لا يشغلهُ سوى انتقامٍ لن يعيد ما ذهب أدراجُ الرياح، و لن يشفى لهُ جرحًا، و لن يُلئم لهُ رتقًا، و لن يُخمد لهُ نيرنًا.
كادت ترتشفُ رشفة أخرى من قدحها فوجدتهُ قد برد للغاية، و كأن الصقيع أصابهُ گقلبها، نظرت نحوهُ متعجبة ذلك.. يا تُرى كم مضى عليها من الوقت تترقبهُ فبرد شرابها؟ و ظلّت نظراتها معلقة به لوقت غير معلوم.. فتفاجأت بنفسها تنهار بعد تماسُـك مريب دام لكثير من الوقت، بعد صمود.. و تجلد.. و صبر، بعد صلادة و شموخ أظهرتهُ أمام نفسها، وجدت نفسها تنهار لذلك السبب.. تنهارُ لأنهُ برد، تركتهُ أعلى السور و تركت ساقيها الرخوتين يقتادانها للأرضية و شهقاتها ترتفعُ، دفنت وجهها بين كفيها و هي تبكي شجنًا و لوعةً.. دموعها انهمرت گانهمار الثلوج، و لكنها كانت ملتهبة مُشبّعة باللوعة و الصبابة.. دموعهًا لو كانت لها لغـةً.. لنطقت بوصب روحها و عذابه.
...............................................................
كانت ترغي و تزبُد في وجههِ استنكارًا بما يفرضهُ عليها من أحكام تخُص أسرها، فـ نطقت به استهجانًا:
- يعني إيه مش هينفع؟.. يعني إيه مش عايزني أكون مع والدتي اللي فاقت و مش عارفة أشوفها، يعني إيه مش عايزني أكون جمبها في عمليتها؟.. يعني إيه يا جاسم
فكان كما هو دومًا.. يغُض عنها بصرهِ و مطرقًا لوجهه و هو ينطق بثبات عاقدًا كفيه:
- آسف يا هانم.. مقدرش أعمل دا غير بأمر مباشر من يامن بيه
فهزت رأسها استنكارًا و هي تهدر به باهتياج شاجِب:
 - يامن؟.. و هو فين يامن؟ فيـن يامن؟ موجود؟ هييجي؟ يا ترى هو فاكر اللي محبوسة هنا أصلًا و لا نساها
- روح انت يا جاسم!
........................................................
..................
.........................................
 
 
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن