"الفصل الثاني و الأربعون".. الجزء الثاني
وقفت أمام المرآة متأففة و هي تتأمل انعكاس صورتها، سحبت نفسًا عميقًا تسيطر به على إنفعالاتها و زفرته متمهلة، ربتت "رهيف" على كتفها و هي تشير للمرآة قائلة:
- جميلة يا يارا
عبست أكثر و هي تمسح بكفها على ثوبها السماويّ الذي طلبت من رفيقتها "رهيف" أن تحضره، حيث كان الثوب ليصل لمنتصف عضدها، ضيّق حتى الخصر، و ينسدل بتوسع غير مبالغ فيه للأسفل بعدة طبقات من الشيفون،.. قصير إلى حدٍ ما من الأمام.. فيصل بالكاد لما بعد ركبتيها، و تنسدل طبقاتهِ من الخلف فينتهى بذيل ليس بالطويل، فتتمكن هي من سحبهِ، انتبهت إلى ما أضفتهُ رفيقتها "دينا" التي أحسنت ما فعلت على وجهها.. لم تُكثر من استخدام مساحيق التجميل، فأبرزت بها رقّة ملامحها، و أخفت نوعًا ما ذبولها الواضح، حيث وجنتيها الورديتين و عينيها المكحلتين باللون الأسود الذي أبرز لون عينيها الزرقاوين، و شفتيها التي طُليت باللون النبيذي، و صففت شعرها ليكون على شكل "كعكة" رقيقة للأعلى، أبدعت في صنعها، و أسدلت فقط بضع خصلات على طول عنقها البضّ الذي انتهى طولهِ بعقد رقيق انتهى بماسة زرقاء، و أقراطها لها ذات التصميم.
ما أثار تساؤل رفيقاتها هو لون ثوبها، و لكنهن بررن أنه مجرد حفل يعلنان بهِ زواجهما، و ليس حفل زفاف بالمعنى الحرفيّ لذلك.
انحرفت أنظار "يارا" للخلف حيث تقف رفيقاتها المبتسمات يتمازحن حولها، و لكنها غير مدركة ما يقال، فعقلها شاردًا للبعيـد، التفتت نحو "رهيف" و هي تتنهد بقنوط شديد، تكاد للحظة أن تفرّ من هنا بالفعل، أن تنأى بنفسها، تكاد تصرخ منفجرة في أوجههن لتبلغهنّ أنها ليست سعيدة كما يتخيلن، و أن انفعالاتها أبدًا ليست توترًا كونها ستضحى محطّ أنظار الجميع، و لكنها اكتفت بتشنجها و هي تتحرك من أمام المرآة، حتى تيبست بمحلها حين استمعت لطرقاتهِ التي تدركها جيّدًا على بابها، تشبثت أناملها بكف "رهيف" دون وعي منها، و أنظارها المرتابة مسلطة على باب الغرفة.
بينما الفتيات أردن العبث قليلًا بعدما تأكدنَ من هوية الطارق، استندت ثلاثة منهن بأجسادهن للباب بينما تقول إحداهن بعبث:
- العروسة لسه مجهزتش يا عريس
و صاحت أخرى و هي تتضاحك بمرح:
- استنى شوية
نظر "يامن" لساعة معصمهِ و هو يقول مستهجنًا:
- ليــه؟ بتعمل إيه كل دا؟
ضحكت إحداهن بصخب ثم قالت بمرح:
- معلش بقى، لازم تستنى
و قالت أخرى مزيفة احتجاجها:
- مينفعش تشوفها دلوقتي!
نفخ "يامن" بانزعاج شديد و هو يفرك وجهه بانفعال حتى احمرّ لون بشرته، حتى و أخيرًا تحركت "رهيف" لتخطو نحوهن و هي تعتابهنّ بضيق:
- إيه يا بنات؟ إيه الرخامة دي؟
غمزت إحداهن قائلة:
- ما تخليه يستنى شوية يا روڤي
لكزت إحداهن في كتفها و هي تنهرها قائلة:
- بس بقى انتي و هي، وسعوا
فامتثلن لأمرها و هنّ يتململنَ في ضيق طفيف، حتى تسنى لها فتح الباب لتلوى ثغرها بابتسامة باهتة و هي تقول:
- يارا.. جاهزة
تسلطت أنظاره المتصلبة عليها لدقائق مطولة، فرمشت عدة مرات و هي ترخى قبضتها عن مقبض الباب بعدم فهم، حمحمت بحرج و هي تفسح لهُ الطريق ليعبر من جوارها فاستشعرت كم هي ضئيلة بالنسبة له،.. ارتكزت أبصاره عليها فالتقت أعينهما، حادت "يارا" أولًا ببصرها لتنظر لـ "رهيف"، فأردف "يامن" بلهجة قاتمة و هو مسلطًا لبصره عليها:
- عايز أقعد مع مراتي شوية
و انحرفت أنظارهِ إليهن و هو يقول بلهجة قوية:
- ممكن؟
تنحنحت الفتيات حرجًا، ثم بدأن واحدة تلو الأخرى بالخروج، حتى كادت "رهيف" تنسحب لولا أن تسلطت أنظار "يامن" عليها و هو يقول:
- عايزك!
تيبّست بمحلها و هي تنظر نحوه بعدم استيعاب، ثم أشارت لنفسها، و هي تغمغم تعجبًا:
- أنا؟
فتنمّر لسذاجتها قائلًا:
- في حد غيـرك؟
حمحمت "رهيف" ثم سألته مستوضحة:
- أفندم؟
أشار بعينيهِ للخارج قائلًا بلهجة ثابتة:
- موضوع مهم.. هكلمك فيه بعدين
ارتفع حاجبيها في استرابة و هي تنقل النظرات بينهُ و بين "يارا" التي تتابعهم بامتعاضٍ شديد، حتى أومأت "رهيف" برأسها موافقة:
- عن إذنك
و انصرفت بعدما موصدة الباب من خلفها، فالتفت حيث "يارا" العاقدة حاجبيها و ساعديها و هي تقول مستنكرة:
- موضوع إيه ده بقى إن شاء الله؟
أشار بعينيهِ و هو يخطو نحوها قائلًا باقتضاب:
- يخصها
زمت شفتيها بغيظ شديد، ثم التفتت لتنظر لهيئتها بالمرآة، شعرت بأن قرطها الثقيل يوشك على السقوط من أذنها، و كأنهُ ليس مُحكمًا، فتجهمت أكثر و هي تنتزعهُ بغل حتى آلمت أذنها فتأوهت و:
- آآه!، أوف
تقطب جبينها أكثر و هي تنظر للقرط بنظرات مغتاظة، ثم عادت تنظر لوجهها في المرآة محاولة إعادتهِ، و لكنها تيبست تمامًا حين كان يقبض على كفها، ازدردت ريقها و هي تحرك بؤبؤيها لتنظر لانعكاس صورته بالمرآة، حتى استلّ القرط من بين أناملها، و شرع يحاول إلباسها إيّاه، فتشنجت و هي تحتجّ بضراوة محاولة انتشل قرطها من أنامله:
- أنا هعرف لوحدي، مش محتاجة مساعدة.. منك إنت بالذات!
كان متصلبًا للغاية و هو يأمرها بـ:
- اثبتي
ضربت الأرض بقدمها بعصبية شديدة، حتى انتهى مما يفعل و اعينه مسلطة على انعكاس صورتها، كادت تتحرك و قد استشعرت قربه المحظور، و لكنه قلّص المسافات بينهما و هو ينحني عليها قليلًا ليهمس بجوار أذنها بينما أنفاسهِ الدافئة تلفح بشرتها و أعينهُ مسلطة على المرآة:
- الحكاية مش محتاجة التشنج و العصبية اللي انتي فيها دي
كزّت على أسنانها حنقًا و هي تلتفت برأسها لتنظر نحوهُ باستهجان، فانحرفت أنظارهِ إلى عينيها مباشرة، كانت عينيهِ جامدتين و هو يمرر أنظاره بينهما، ثم قال بلهجة قاسية:
- مفيش حاجة هتتغير يا.. بنت حسين، مجرد حفل لا هيقدم و لا هيأخر!
باتت نظراتها متوهجة و هي تحرفها بين عينيه، ضيقت عينيها و هي تقول مُحتجّة على تسلّطهِ الدائم:
- لـ تاني مرة.. لأ، مش تاني، للمرة المليون يا يامن بتجبرني على حاجة مش عايزاها!
و باتت أكثر انفعالًا و هي تقول ناقرة بسبابتها على صدره:
- للمرة المليون بتقرر حاجة تخصني.. لوحدك، من غير ما يكون لي أي رد أو حتى رأي فيها، للمرة المليون بتحسسني إني عبدة عندك بتتحكم فيها زي ما انت عايز، تؤمر.. و هي تنفذ!، للمرة المليون يا يامن.. خليك فاكر ده
و كادت تمضى من جواره و لكنه استوقفها و هو طوق خصرها ملصقًا لجسدها بهِ قائلًا متعمدًا الضغط على كلماتهِ:
- و للمرة المليون هقولك، انتي..تخصيني!
فصاحت بهِ و قد استشاطت غيظًا بينما تلكم ذراعيه المطوقان لها:
- بأمارة إيه؟ بأمارة إنك هترميني أول ما تنتقم من أبويا؟ بأمارة إيه أخصك؟
و أشارت بكفها و هي تهدر باحتدام:
- و لا بأمارة إني على الهامش و هتمحيني قريب يا يامن بيه؟ تاني بتحسسني إني مجرد غرض امتلكته و قريب هترميه!، أنا مخصكش، و لا أخص حد، تمام!
فغمغم بلهجة صقيعية و هو يرخى قبضته عنها قليلًا:
- أنا بقول ننزل أفضل، اتأخرنا!
تابعتهُ بنظرات مستشاطة و هي تطبق أكثر على أسنانها، بينما كان يقول ساخرًا و هو يدير جسدها لتصير جوارهِ:
- لأ بس حلو الفستان
نظرت لوجههِ القريب منها و هي تتمتم بتحدي:
- أكيد مكنتش متوقع ألبسلك الأبيض!
تقلّصت المسافة ما بين حاجبيهِ و هو يقول متوعدًا:
- معديها بمزاجي!
تقوست شفتيّ "يارا" بتهكم و:
- مرسي جدًا!
سحب ساعدها و هو يقول بلهجة حالكة آمرة:
- امشي!
فخرجت نبرتها مغتاظة و هي تقول:
- أمرك!
........................................................
فكرة الحفل التي تُقام بالحدائق رائعة للغايـة..
حيث تشعر بانتعاش و الهواء اللطيف يداعب صفحة وجهك، و الحرية التي لا تُشعرك بقيود القاعات، و حبور و أنت ترى الخُضرة المترامية و الممتدة من حولك، و الكلأ أسفل منك، و انشراح صدرك و عبق الزهور الرائع يخترق حاسة الشم لديك.
الطاولات لدائريّة الأنيقة اكتُظت بها الحديقة الشاسعة و قد وضع فوق كل منها مزهرية لطيفة تحوي ورودًا ناعمة الملمس و لطيفة الشذي، و حول كل منها عِدة مقاعد مغلفة باللون الأبيض، و مزينة بشريط عريض من الستان يُعقد من الخلف باحترافية بأشكالٍ مختلفة.
كانت تجلس و كأنها تجلس على مرجل، كفيها يتقبضان على الطاولة أمامها و هي تطبق أسنانها بانفعال، لم تتخيل أنها سـ تخطو بقدمها هنا، كانت سترفض رفضًا قاطعًا، و لكنهُ أجبرها على الحضور رغمًا عنها و قد تفاجأت به صباحًا أمام باب منزلها بهيئتهِ الأنيقة،.. مبررًا بأنه مسؤول عن اصطحابهما، منذ أن أتت رفضت حتى الصعود لأختها أو حتى رؤيتها، و بقت بالغرفة التي حُضرت لهما مسبقًا في الطابق الأرضيّ عقب أن أرشدهما الخدم لها مجبرة والدتها على عدم الصعود و هي تبرر ذلك باحتياجها الشديد إليها.. حيث أنها ليست على خير ما يرام.
و ها هي مجبرة على التبسُّم في وجهها، و مباركة زواجها و كأنها تتنمى لها الخير، نفخت بانزعاج شديد و هي تحنى بصرها، حتى انتبهت إلى تلك الضغطة الخفيفة التي احتوت كتفها، التفتت نحو والدتها التي سألتها باهتمام:
- انتي كويسة يا حبيبتي؟
أومأت "ولاء" و هي تجبر نفسها على الابتسام و لكنها لم تتمكن، فظلّت ممتقعة الوجه و هي تحيد بأبصارها عنها لتقول بلهجة متشنجة:
- أيوة
و شعرت بدمائها تغلى في عروقها حين سقطت أنظارها عليه بهيئتهِ المهندمة.. يرتدي حِلة من اللون الكحليّ القاتم و التي تناسبت كثيرًا مع لون بشرتهِ، يقف و يتحادث مع أحدهم بعيدًا فلا يصلها حتى صوته، و گأنهُ شعر بعينيها المُسلطة عليه، فالتفت نحوها لتتلاشى بسمتهِ تمامًا و تظل فقط أنظاره المظلمة، لم تحد بأبصارها عنه و هي تتعمد تحديجهُ بغيظٍ، حتى فارت الدماء في عروقها تمامًا و قد شعرت برأسها يغلي من شدة غيظها حين تبدلت الموسيقى قليلًا،.. تسلط الضوء على مدخل القصر، الجميع في حالة تأهّب شديدة، ينتظرون على أحر من الجمر خروج العروسين، خاصة الصحافة التي ستغطي الحدث، تسلطت العدسات أجمع على باب القصر، و لكن بدأ الجميع بالتهامس المندهش و المتسائل عن سبب التأخر، و البعض بدأ بتململ بعدم قدرة على الانتظار، حتى كانت المفاجأة.. انقطعت الأضواء تمامًا من الحفل بأكملهِ فنهض البعض عن مقاعدهم و قد تعالت الأصوات المتسائلة، الجميع يتلفت بعدم فهم لما يحدث، حتى استمع الجميع لصوت مريب.
كانت تقف تتمكن من رؤية الجميع.. و لكن لا أحد يراها من خلال ذلك الحاجز الزجاجيّ بغرفة مكتبهِ بالطابق السفلي، تغضن جبينها باهتمام و هي تعقد ساعديها أمام صدرها، ثم التفتت نحوهُ لتسأل:
- انت بتعمل إيه بالظبط؟
ارتكزت أنظارهِ على شخصًا ما بعينه و هو يقول بلهجة جافة:
- اهدي
انتفضت في وقفتها حين انقعت الأضواء بشكل مفاجئ، فهمست و هي تتلفت حولها:
- هو في إيه؟، إيه اللي حصل
استشعرت ذراعهِ الغليظ الذي طوّق خصرها، تلمس بسبابتهِ الحاجز الزجاجيّ و هو يكرر كلمتهِ بصوت أجشّ و هو يرمقها من زاوية عينه:
- اهدي
و أتبع كلمتهِ بسؤالهِ حينما ارتكز سبابته على نقطة ما:
- شايفة إيـه؟
فسخرت منه و هي تتلفت حولها قائلة:
- و لا أي حاجة!، حاسة إني عامية
زفر بانزعاج شديد و هو يرمقها من زاوية عينه، حتى تغضن جبينها حين صدح ضوء مفاجئ وسط تلك الظلمة الحالكة أمامهما، حيثُ شخصًا بعينهِ، ارتكزت الأبصار أجمع عليهِ و مازال التساؤل قائمًا، تهدجت أنفاس "يارا" و هي تنقل نظارتها بين سبابتهِ و من ظهر من خلفها، ازدردت ريقها و هي تلتفت نحوهُ لترمقه بأعين متوسعة فانحرفت حينها أنظارهِ إليها، فغرت شفتيها، و شعرت بارتعاش دقات قلبها، رجفةً أحاطت بجسدها شعر "يامن" بها، فسألها مغضنًا جبينه:
- مالك؟
للحظة خشى.. أن يكون قد أعاد إليها ذكريات ليست بالجيدة المتعلقة بذلك الشخص تحديدًا، و لكن شعوره ذهب أدارج الرياح حين زيّنت ابتسامة عريضة ثغرها فكشفت عن أسنانها الؤلؤيّة، التمعت عينيها و كأنهما ستدمعان و قد ازداد تهدج أنفاسها، رمشت عدة مرات و قد تجولت أنظارها على ملامحهِ التي باتت أكثر وسامة و هي تسألهُ بلهجة تائهة:
- أنا عندي فضول أعرف إنت إيه بالظبط؟
ثُم حادت بهما لتتعلق أنظارها بهِ و هي تقول بعدم فهم و قد تلوت شفتيها باستنكارٍ:
- انت بتعمل كده ليـه؟
و التفتت إليه مجددًا لتقول متسائلة:
- إنت.. إيـه بالظبط؟
نظر "يامن" لساعة يدهِ السوداء، ثم ارتفعت أنظارهِ إليها ليقول باقتضاب:
- اتأخرنا.. يالا
و سحب الباب الجرار بشكلٍ عكسيّ لينفتح على مصراعيهِ، حينها تسلطت الأضواء مجددًا عليهما، تعالت التصفيقات و التهليلات، و شرعت العدسات تلتقط تلك اللحظة بدقّة و احترافية من زوايا معينة، و معظم الحضور يسجلون تلك اللحظة، بينما هي قد تماسكت بصعوبة لئلا تذرف دموعها و هي تسير نحوهُ مُطوّقة من قبل زوجها بينما هو يدنو منها، حتى و اخيرًا التقيا بنقطة في المنتصف، أرخى "يامن" قبضته عنها، فلم تشعر بنفسها و هي تجثو على ركبتيها أمامه لتوازيه، سحبت كفه من أعلى مقعدهِ المدولب و هي تحتويه بين كفيها، ثم قالت باشتياق شديد:
- وحشتني يا خالي، وحشتني أوي
حرّك "فتحي" كفه ليمسح برفقٍ على وجنتها و هو يقول معبّرًا عن إعجابهِ:
- ما شاء الله، تبارك الخالق، إيه الجمال ده يا بت يا يارا؟
تقوست شفتيها بابتسامة و قد أدمعت عيناها تأثرًا، و لكنه سارع بنزح دمعاتها و هو يقول محذرًا:
- ليـه؟ ليه كده بس؟ ما أنا قدامك أهو
أجهشت بالبكاء و هي تنهض عن جلستها لتتمكن من ضمه إليه أثناء قولها المبحوح:
- عشانك وحشتني أوي، كان نفسي أشوفك من زمان، ياريتك كنت جمبي يا خالي، يا ريتك كنت كويس، كنت هتقف جمبي مش هتسيبني زي بابا!
و لم تكترث بمن حولها حتى،كادت تبكي بالفعل و الدموع تهطل من عينيها و هي تدفن وجهها في عنقهِ:
- يا ريتك كنت كويس يا خالي، يا ريتك كنت كويس!
كانت تشعرهُ بعجزه، كلماتها حطّت گالشهب على صفحة قلبهِ، و لكنه وارى شعوره ذلك و هو يمرر كفه على ظهرها محاولًا تهدئتها:
- سامحيني يا بنتي لو احتاجتيني و ملاقيتينيش جمبك في يوم، معلش يا حبيبتي
ابتعدت "يارا" قليلًا و هي تنزح دموعها بصمت، فأردف مشيرًا لساقيه بانكسار:
- غصب عني!
و أجبر شفتيه على الابتسام و هو يشير لنقطة ما خلفها:
- و بعدين خلاص، أنا اطمنت عليكي، جمبك جوزك يا يارا!
التفتت عفويًا و قد استقامت في وقفتها فتلاقت أعينهما، ظلّت محتفظة بكفه في قبضتها، رمشت عدة مرات لتنزح الدموع عن عينيها، ثم عادت تلتفت لخالها و هي تسأله باقتضاب مرتاب:
- طنط.. مجتش معاك
هز "فتحي" رأسه نفيًا و هو يقول:
- ها؟، لأ، أصل..
و انحرفت أنظاره المرتبكة نحو "يامن" فنفخ الأخير بانزعاج و قد أدرك أنه سيفسد كل شئ، ذلك الاتصال البصريّ بينهما، و نظرة "يامن" المحذرة، أعادت لديهِ ذكريات صباح اليوم حين حادثهُ "يامن":
- جهز نفسك، رجالتي هييجو ياخدوك،انت و بس!
عقد "فتحي" حاجبيه و هو يقول مستوضحًا:
- إزاي يا ابني؟ و مراتي؟ أسيبها لوحدها!
أتاهُ صوته الحالك و هو يردف بـ:
- تسيبها لواحدها تسيبها عند الجيران ، تسيبها على باب الجامع.. ماليش فيه، أنا مش عايز غيرك النهاردة، عظيم؟
ارتفع كتفيّ "فتحي" و هو يتنهد بحرارة و قد استشعر أن زوجته نوعًا ما قد فعلت شيئًا:
- اللي تشوفه يا ابني
و انخفضت نبرة صوته و هو يقول بلهجة شبه مكلومة حين كاد "يامن" ينهى الاتصال:
- أنا.. عايز أسألك على حاجة واحدة، ابني عمل إيه؟
أطبق "يامن" أسنانه ثم أجابهُ من بينهما و قد توهج وجهه:
- بلاش تعرف أحسن، أصلها حاجة متشرفش!
أحنى "فتحي" أهدابه مبتلعًا غصة عالقة في حلقهِ، ثم لفظ أنفاسه الحارقة و هو يسأله:
- مش عايز أعرف،.. مش عايز أعرف غير حاجة واحدة
و حالما وجدهُ صامتًا تحفّز أكثر لسؤالهِ:
- هـو.. عايش؟
- عايــش.
استفاق على تلك الضغطة التي احتوت كفه فانحرفت أنظاره نحوها و هو يبتسم قائلًا:
- ها؟، أه، ميرفت، أصلها.. تعبانة شوية، و الطريق طويل عليها، مقدرتش تيجي
زفرت "يارا" أنفاسها بارتياح و هي تلتفت نحوه و كأنها استشفت.. بل متيقنة أنه خلف ذلك، فحاد بأنظارهِ الحانقة بعيدًا عنها، حتى انتبه إلى رفيقه الذي تقدم نحوه ليشير للرجل:
- ده مين ده كمان؟
تحرك "يامن" مبتعدًا به قليلًا و هو يقول:
-خليك في حالك
فالتوت شفتيّ "فارس" باستنكار:
- برضو؟.. ماشي
و نقل بصرهُ بينهما و هو يردد مقوسًا شفتيه بسخرية تامة:
و لا إيـه؟.. في فرح من غير رقص Slow - مش هترقصوا
زجرهُ "يامن" بنظرة حامية، فتراجع عمّا قالهُ توّا و بلا إكتراث، و كأنه كان يتعمد إثارة غيظهِ فقط:
- خلاص.. الحق عليا!
........................................................
راقبت "ولاء" ما يحدث بأعين متوهجة من فرط انفعالها، خاصة حالما استمعت إلى قول والدتها المستنكر:
- هو إيه اللي بيحصل بالظبط؟.. فتحي جه ازاي!
فلم تقوَ على الجلوس أكثر، سحبت حقيبتها بعنف لتنهض و هي تغمغم:
- و كمان جايبلها خالي؟.. كده كتير، كتيــر!
انحرفت أنظار "حبيبة" نحوها لتسألها:
- مالك يا ولاء؟ رايحة فين
فتحركت من محلها دافعة المقعد للخلف و هي تبرر لها باغتياظ شديد:
- هشوف الحمام فين يا ماما، شوية و راجعالك
..........................................................................
نهضت "رهيف" من محلها فلاحقها خالها بأنظارهِ و سؤالهِ:
- هتروحي فين يا بتي؟ اجعدي
ابتسمت له بحنق و هي تقول:
- هروح أقف مع صاحبتي شوية
و قبل أن يحتج كانت تمضى مبتعدة و هي تزفر بضيق شديد، ليت والدتها وافقت على الحضور معها فتتخلص قليلًا من تحكمات خالها المثيرة لأعصابها، تتبعها "راشد" بأنظارهِ المهتمة و هو يتأمل ثوبها، ثم نهض بعد عدة دقائق منها و هو يقول:
- عن إذنك يا بابا، ثواني و راجع
و أوفض خلفها حتى توقف أمامها يستوقفها، فنظرت نحوه متسائلة بفتورٍ:
- خير يا راشـد؟ في إيه؟
ارتفع حاجبه الايسر استنكارًا و هو يقول:
- رهيف.. انتي من يومها بتتهربي مني، مكلمتينيش و لا كلمة
رمشت عدة مرات و هي تقول بلا اكتراث:
- و المفروض أكلمك ليه و في إيه؟
أشار بكفه و هو يردد حانقًا:
- في مليون حاجة المفروض نتكلم فيها.. بما إن فرحنا الإسبوع الجاي يا رهيف!
نفخت "رهيف" بانزعاج، ثم رددت بضجر و هي تفر منه:
- راشـد، معلش، أنا رايحة أشوف صاحبتي، عن إذنك
كانت تقف محاطة برفيقاتها اللاتي أخذن يحذرنها من تدمر مساحيق التجميل بسبب دموعها، و لكنها لم تكترث، أعينها تتابع خالها الذي مضى لأحد الطاولات.. طاولة والدتها التي نهضت "ولاء" منها توًا، حتى انتبهت إلى "رهيف" التي وقفت أمامها مباشرة و هي تبتسم بسخافة متلفتة حولها، ثم ارتكزت بصرها عليها و هي تسألها هامسة:
- مين ده يا يارا؟
- خالي!
شهقت "رهيف" بصدمة و قد توسعت عيناها:
- خالك؟ أبو خا...
و ابتعلت كلماتها حالما أدركت ارتفاع نبرة صوتها، فعبست "يارا" و هي تشيح بوجهها قائلة بضيق:
- أنا بحاول أنسى بكل الطرق يا رهيف، ليه كده؟
زمت "رهيف" شفتيها مؤنبة نفسها، ثم تمسكت بكفها و هي تحتويه بضغطة خفيفة معتذرة:
- انا آسفة و الله، مكنتش أقصد
سحبت "يارا" كفها و هي تبتسم بتصنع قبل أن تتلقى التهنئة من تلك السيدة التي أقبلت عليها:
- قفلي الموضوع
................................................................
كانت تتجول_ بتعرج_ في أنحاء الحديقة محاولة التنفس و قد شعرت و كأن هنالك ما يُطبق على صدرها، غير مدركة أنظارهِ المسلطة عليها، التي تتابع أقل إيماءة أو حركة تصدر عنها، كانت جميلة بحق بثوبها النبيذيّ الأنيق و قد حذرها سابقًا من ارتداء أي من ملابسها المريبة ، و الذي كان يصل لقدميها، ذو فتحة صدر دائرية لا تبرز مفاتنها، و زوّدتهُ بشالٍ أنيق من الحرير، تنهد بحرارة و هو يلتفت ليتبادل أطراف الحديث مع "يامن" و بعضًا من رجال الأعمال بينما النادل يتحرك هنا و هناك بكؤوس الشراب، حاد "يامن" ببصرهِ يسارًا فتسلط أعينه عليها، أشارت تلك السيدة إليه بعينيها، ثم انسحبت لمكانٍ خالى من الضيوف، استأذن الابتعاد قليلًا.. ثم تتبعها، حتى بلغ تلك النقطة الخلفية من الحديقة.
فور رؤيتها توقف أمامها امتد كفه إليها ليحتوى بهِ كفها و هو ينحني قليلًا ليطبع قبلة عليهِ ملصقًا شفاههِ بكفها، ثم استقام و هو يقول بلهجة صلبة:
- متوقعتش تقبلي الدعوة
زمت تلك السيدة شفتيها و هي تتلفت حولها خوفًا من متابعة أحدهم لها، ثم سحبت كفها بحذر من قبضته الغليظة أثناء قولها الثابت:
- لسه واصلة حالًا
- نورتي المكان
ازدردت ريقها و هي تعبث بخصلاتها بتشنج طفيف، ثم قالت بوضوح:
- يامن.. أنا مش قادرة أتصرف بشكل طبيعي و لا كأني عرفت حاجة، خلاص، أنا هروح له حالًا، و جيت أبلغك بده، هقوله إني عرفت كل حاجة!
و كادت تمر من جواره، لولا ذراعه الذي بُسط أمامها و هو يقول بلهجة قاتمة:
- بيننا اتفاق!
نظرت لعينيهِ اللتان التمعتا گعيني غُدافٍ تضوى في الظلام، فحكّت عنقها بانفعال:
- مش قادرة ألتزم بيه، مش قادرة أبدًا، إنت مش فاهم شعوري، مش فاهم حاجة
و انخفضت نبرة صوتها و هي تقول مشيحة بوجهها:
- هفضل أمثل عليه حد امتى؟ أنا خلاص تعبت
و تسلطت عيناها مجددًا بعينيهِ و هي تقول بغلّ شديد:
- و هي كمان لازم تعرف! لازم تعرف كل حاجة
.........................................................
..........................
..................................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
