"الفصل الثالث و الستون"

753 23 2
                                    

"الفصل الثالث و الستون"
-"يارا تبقى بنت عمك"
دوّى الصوت في أذنيه و كأنهُ وليد تلك اللحظة..
كممّ شفتيه و قد أدرك أنهُ تفوه بالكثير رغمًا عنه، واجهتهُ نظرات "يامن" المتشككة و هو ينطق باستهجان جلّ على وجههُ:
- الـ..ـصياد؟ حسين الصياد يعني إيه؟
و أدرك أنهُ تحدث بالعربية، فأطبق أسنانه بغيظ شديد ثم نطق من بينهما بالإيطاليّة:
- ما الذي تعنيه؟ ماذا تعني بـ "حسين الصياد"
أزاح كفيه المرتعشين عن شفتيه و هو يقوس شفتيه بابتسامة مرتجفة باهتة ثم نطق:
- أقلت الصيّاد؟.. لا تكترث كثيرًا أيها الشاب.. إنه السن الطاعن الذي وصلت اليه، أكاد أتعدى التسعون!
فضرب "يامن" براحتهِ على المنضدة أمامهِ و هو يجأر مستنكرًا:
- أتعتقدني أبلهًا ؟ ما الذي تقصده بحسين الصياد؟.. تكلم!
 زمّ شفتيه و هو يحنى بصره عنه، فتوهج وجههُ أكثر بالحمرة الفاقعة و قد بدى بعينيهِ التهاب جرتيه و هو يحدجهُ بأنظاره المترقبة القاتمة، و ما إن طال صمتهِ حتى كوّر قبضته ليلكم المنضدة مجددًا و هو يجلس في حالة تأهّب شديدة:
- إن كنت أشبه جدي في نظرك فأعتقد أنك تعلم أنني لن أترك هذا المنزل دون ان أجد إجابة لسؤالي.. ما الذي تقصدهُ بـ "حسين الصياد"، ما ذا تعرف أنت عنـه؟.. أخبرني
ضمّ شفتيه معًا و هو يرفع ناظريه إليه، ثم قال مطلقًا زفيرًا عميقًا:
- لقد تعهدت لجدك أن أدفن السر معي حتى الممات أيها الشاب.. لن أتفوه بحرف ما دمتَ......
فنهض "يامن" عن محله و قد فقد آخر ذرات تعقله، مال عليه ليتمكن من الإطباق على تلابيبه و هو يقول غارسًا نظراته بعينيهِ:
- و إن لم تنطق فسيكون مماتك على يديّ.. تحدث خيرًا لك من أن تقضي نحبك!
فحذرهُ مما يفعل و:
- رجالي يحاوطون المداخل جيّدًا.. إن أصابني مكروه فلن تخرج من هنا حيّا
تقوست شفتيه إزدراءً و هو يغمغم بقسوة:
- و لا يفرق معايا
تغضن جبينه بعدم فهم.. فلم يكترث "يامن" للإيضاح لهُ و راح يقول بلهجة محتدمة:
- لقد توفى جدي و انتهى الأمر.. إن أردت أن تتبعهُ فلا تتحدث، أتفهـم؟
زفر بحرارة و هو يحيد ببصره عنه، فحرر "يامن" قبضتيه عنه و هو يستند بكفيهِ لمسنديّ مقعده آمرًا إيّاه بـ:
- تكلـم.. من يكون "حسيـن"؟
- إنهُ عمّك.. أخ والدك الغير شقيق
ابتعد عنه و كأنما عقربًا قد لدغهُ، ظل محملقًا بوجهه بنظراته المحتدمة و قد تيقّن مما دار بخلدهِ، حينما كان هو يرفع نظراته نحوه و هو يومئ برأسهِ:
- و هو من ترك لهُ جدّك فرع شركته هنا.. و لكنه نبذها و لم يخطُ بقدميه داخلها حتى!
جلس "يامن" مستندًا بمرفقيه إلى ركبتيه ليدفن رأسهُ فيهما.. إذًا لم تكن ابنة "كمال" كما كان يتوقع، و لكن بالفعل.. زوجتهِ إبنة عمّه بشكل آخر لم يكن يتوقعهُ مطلقًا، حينما راح الأخير يسترسل سردهِ:
- حينها لم يدرك حسين تلك الحقيقة إلا حديثًا و قد أخبرتهُ بها والدتهِ و هي على فراش الموت، حيث كانت تعمل خادمة في قصرهِ و كانت حينئذ متزوجة من " رأفت الحديديّ".. و فعلت ذلك ليُطالب بحقه من والده الفعليّ، و لكن "يعقُـوب" رفض رفضًا قاطعًا الاعتراف به كونهُ ابنًا غير شرعيًا.. و غير ذلك أنه من خادمة، و لكن قبل موتهِ ترك له ذلك الفرع و لكن "حسين" لم يطأها بقدميهِ كما أخبرتُك!
«- بس ده ابنك يا يعقوب.. ابنك إنت!
أشاح بناظريه بجفاءٍ عنها و هو ينطق من بين شفتيه:
- يعقوب بيه يا زهرة.. متنسيش نفسك
تغضن جبينها و هي تنظر نحوه معاتبة، ثم تشبثت بذراعه و هي تنطق متوسلة إياه:
- يعقوب.. متعملش كده أرجوك، بص.. أنا هطلق، هتطلق منهُ و تتجوزني
سحب ذراعه منها و هو يردد باستهجان:
- أتجوزك انتي!..انتي اتجننتي يا زهرة، انتي حتة خدامة عندي، عايزة يعقوب الصياد يتجوز خدامة بعد مراته شهيرة هانم؟
شعرت و كأنها غرضًا سيلقيه بلا اكتراث و يقصيه عن حياتهُ، فاستنكرت ذلك تمامًا و صرخت بـ:
- يعني إيه يا يعقوب؟.. عايزني أعمل إيه في ابنك؟
نظر نحوها.. ثم نحو بطنها الذي يضمّ طفلهُ في أحشائها و قد تيقن أنه ابنه هو عقب أن " أجرى تحليل ليتأكد من نسبهِ ، لحظات و كان يحيد ببصره عنها عاقدًا كفيه خلف ظهره، ثم أردف بلهجة متيبّسة:
- انتي متجوزة و حامل من جوزك، ده اللي لازم يتعرف و بس!
و عاد ينظر نحوها غير مباليًا بإمارات الصدمة التي غزت وجهها:
- و هعوضـك كويس عن ده يا زهرة، لكن متورينيش وشك ده هنا تاني!
.............................................................
 ضرب براحتهِ على سطح مكتبه بانفعال جلي و هو يقول باهتياج:
- يعني إيه مش هتعترف بيا؟.. يعني إيــــه؟
نهض عن محلهِ ليدور حول مكتبه مردفًا بتشنج:
- يعني انت لا ابني و لا أعرفك.. و لا عمرك هتبقى فرد من عيلة الصيّاد
و نقر بسبابتهِ إلى جانب جبينه و هو يستطرد باستخفاف حالك:
- انسى.. مش يعقوب الصياد اللي هيبقى عنده ابن من حتة واحدة من الحواري!
و برح محلهِ تتابعهُ أنظاره التي تكاد تلتهمهُ حيّا، أومأ "حسين" برأسه متوعدًا إياه بالرد القاسي:
- و رحمتها لاكون معرفك مين حسين الحديدي طالما مش هتعترف إني الصياد!
.................................................................
سكب لهُ مجددًا كأسًا آخر و هو يردف من بين ضحكاتهِ الساخرة:
- اشرب.. اشرب، ده أبويا طلع ألعن مني
تجرّع "حسين" ما بالكوب و قد بدا عليه الترنّح، ثم تركهُ بعنفٍ أعلى الطاولة و هو يتحس عنقه بانفعال، حينما كان "كمال" يرتشف بدوره ذلك المشروب المسكر و قد تيبست تعبيراته و تلاشت ابتسامته لتحتل الضغينة تقاسيمه:
- يوسف.. يوسف.. يوسف، حاطط كل ثقته في يوسف و أنا على الهامش.. يوسف المحترم و كمال الصايع، يوسف اللي يشيل المسؤولية و كمال ميعرفش معانها
و انطبقت أسنانهِ بكمد أشد ثم نطق بـ:
- و يطلع هو كان عايش حياته، و عنده ابن مش راضي يعترف بيه
ضرب "حسين" بقبضته المكوّرة أعلى البار و هو يقول باحتدام مستشعرًا ذلك السعير الملتهب الذي يحرق أحشائهِ:
- متحرقش دمي أكتر ما هو محروق
صبّ لهُ مجددًا بالكأس، ثم قال و هو يتأمل تقاسيمهِ:
- هتعمل إيه بالظبط؟
نظر "حسين" نحوهُ و هو يلوى شفتيه باستهجان، فسألهُ "كمال" باهتمام:
- متأكد إن في حاجة في دماغك.. و طالما جيتلي أنا و مروحتش ليوسف، يبقى أكيد ناوي على حاجة
حينها تبدلت ملامحه و قد التوى ثغره بابتسامة شيطانيّة، حكّ "حسين" صدغه عقب أن تجرع كأسًا آخر، ثم نطق و هو يشمخ بذقنهِ:
- فيفتي فيفتي، و تدخلني القصر!
تعجب "كمال" من جرأتهِ الشديدة، و لكنه تظاهر بعد الفهم و هو يعقد حاجبيه و:
- يعني إيه؟
فلمس "حسين" جانب وجنتهِ بلسانه من الداخل، ثم قال:
- لأ.. انت عارف قصدي كويس
أومأ "كمال" و هو يعرب عن ذلك:
- تمام.. طالما بنلعب على المكشوف
و نظر نحوهُ نظرة ذات مغوى ثم قال مشيرًا بعينيهِ:
- فيفتي فيفتي ازاي بقى؟.. ناسي يوسف و لا إيه؟
مال "حسين" عليه ليكون إليه أقرب و نطق بنبرة خافتة أشبه بالفحيح:
- أنا قصدي حصتك.. فيفتي فيفتي و الموضوع هخلصه بإيدي!
حملق "كمال" بوجههِ غير مصدقًا و من فورهِ انفعل فصاح و قد تشنج وجهه:
- نعم يا روح أمــك.. عايزني أديك نص حصتي ليه؟ هي حتى طلقة و الموضوع يخلص
حكّ "حسين" صدغه ببرود شديد و هو يهتف بقنوط زائف:
- بس للأسف.. لازم حد متمرس عشان متسيبش وراك دليل، و إلا بخ.. هتتلعق على حبل المشنقة، لا هتطول حصتك
و تلوى شدقيه بابتسامة ساخرة و هو ينطق غامزًا:
- و لا نصها حتى يا ابن أبويا!
................................................................
كان السكون مطبقًا على قصر عائلة الصيّاد بدهاليزهُ  و قد غرق في الظلام في ذلك التوقيت من الليل، حينما دلف "حسين" بيُسر بالغ بمساعدة "كمال" الذي أمر حارس البوابة بأن يلبى لهُ طلبًا واهيًا..
 دلف غرفة والده و الحقد كالنيران التي يتناثر شواظها في عينيهِ،  توقف محلهُ و هو يرمقه أثناء نومه مرتاح البال و كأنهُ لم يفعل ما تجعلهُ يجهد ليله، مرتديّا قفازات سوداء و ملثمًا وجههُ، و بحذر شديد.. كان يسحب إحدى الوسادات و يخطو نحوه و نظراته القاتمة معلقة بهِ، حتى أقبل عليه تمامًا و أشرف بطوله على جسده المسجى، و بثانية واحدة كان يكتُم أنفاسهِ بواسطتها، انتفض "يعقوب" من نومتهِ و قد شعر بالاختناق فتلوى في مضجعهِ و هو يحرك كفيه محاولًا إزاحة ذلك الشئ عن أنفه ليتمكن من التنفس، حتى تلمس الكفين الحاملين لها، فلم يتمكن من خدشه بسبب قفازاته الطويلة، و ما هي إلا ثوانٍ و كان جسده يرتخى عقب أن انخفض مستوى الأكسجين بجسدهِ، فأحنى "حسين" الوسادة قليلًا ليتبين لهُ نظرات والده الحالكة من أسفلها، فمنحهُ ذلك الحق.. أن يرى قاتله قبل موته و قد تعرّف إليه "يعقُـوب" بيُسر بالغ من عينيه الزرقاوين، و انحنى "حسين" ليهمس له و الوسادة ما زالت قيد تكميمها لفاههِ و أنفهِ:
- أيوة أنا حسين يا.. بابا، متستغربش!
و ما هي إلا ثوانٍ و كان جفنيه ينطبقان و قد توقف قلبهُ عن النبض، فأزاح "حسين" الوسادة تمامًا و هو يردد مقوسًا شفتيه:
- معلش يا يعقوب.. ما أصل كان لازم أعرفك أنا مين!
..........................................................
كان واجمًا.. ملامحه احتلها الحزن العميق و جفنيه المنتفخين يقف على أعتابهما الكثير من العبرات التي يكبحها بشِقّ الأنفس، يجلس بجوارهِ توأمهِ و قد بدى أنه لم يتمكن من السيطرة على نوبة البكاء التي انتابتهُ، بادر "يوسف" بالتربيت على كتفهِ و هو يقول محاولًا مؤازرتهِ:
- اهدى يا كمال.. إنا لله و إن إليه راجعون
نزح "كمال" دموعه بمحرمة ورقية و هو يقول من بين انتحابهِ تحسّرًا:
- هيوحشني أوي يا يوسف
زفر "يوسف" مطلقًا أنفاسه الحارة و قد شعر بما يطبق على صدره:
- ربنا يرحمهُ
و نظر في ساعة يده و هو يقول معربًا عن ضجرهِ:
- أنا مش عارف إيه اللي خلى المتر يصمم ييجي في يوم زي ده! المفروض منتكلمش في الورث دلوقتي خالص، إحنا في إيه و لا في إيه!
فقال "كمال" مشيرًا بعينيهِ و هو يمسح وجههُ الغارق في دموعه المتجددة:
- أهو جه.. خلينا نشوف هو عايز إيه
نهضا للترحيب الزائف بوجوده، حتى جلس أمامهم على الأريكة المقابلة تاركًا حقيبته الجلدية السوداء أعلى المنضدة الصغيرة، فسألهُ "يوسف":
- تشرب إيه يا متر؟
أشار الأخير بكفهِ و هو يفتح حقيبته:
- متشكر جدًا يا يوسف بيه، بس أنا جاي أقول حاجة و أمشي على طول
فكان "كمال" يجلس على أحرّ من الجمر و قد استبدّ به الفضول، حتى أخرج المحامي وصية السيّد "يعقُوب الصياد" و همّ يقرأها عليهم عقب أن ارتدى نظارة طبيّة، فقاطعه "يوسف" و هو يتأهّب في جلسته:
- وصية إيه يا متر الوقتي؟ ده أبويا لسه معداش على موته يومين!
شعر "كمال" و كأنهُ سيفسد الأمر، فأطبق على ساعدهِ و هو ينحني قليلًا ليهمس له:
- يعني هنطرد الراجل يا يوسف.. خليه يقول اللي عنده و خلاص، و بعدين ما هي معروفة.. لا عندنا أعمام و أمنا متوفية، أكيد هنبقى النص بالنص
فتقوست شفتيّ "يوسف" فتورًا و هو ينظر نحوه من طرفهِ، ثم نفخ بانزعاج أطبق على صدرهِ، فأشار "كمال" للمحامي ليحثّهُ على القراءة:
- يالا يا متر
-" أنص أنا.." يعقوب كامل الصياد" على أن يرث كل أملاكي و أسهم شركاتي من بعدي.. ابني "يوسف يعقوب الصياد"
و كأن نيزكًا ملتهبًا هطل على صفحة قلبهِ فأحدث بهِ دمارًا عنيفًا، نهض عن محلهِ كالملدوغ و هو ينطق مستهجنًا:
- نعـم!.. يعني إيه الكلام ده؟
توسعت عينا "يوسف" من تلك الصدمة التي لم يتوقعها أحدهم مطلقًا، ثم أردف متشككًا:
- انت متأكد من اللي بتقوله ده يا متر؟
فخلع المحامي نظارتهِ الطبية الخاصة بالقراءة و هو يناولهُ الورقة:
- اتفضل يا يوسف بيه.. وصية والدك في ايدك اتأكد من اللي بقوله بنفسك
سار "يوسف" بعينيه المتوسعتين على الكلمات مرارًا و تكرارًا حتى انفرجت شفتيه غير مصدقًا و هو يرفع نظراته لتوأمهِ:
- مش معقـول!
........................................................
هاج و ماج و أقام الدنيا و لم يقعدها.. حطم كل ما هو قابل للتحطيم في منزل "كمال" بينما الأخير يتابعهُ و هو جالس و كأنه يجلس على مرجل، أطاح "حسين" بالزجاجات أعلى البار جميعًا فسقطت وسط رفاقها مهشمة متناثرة الشظايا و هو يجأر و قد بلغ انفعالهِ أوجه:
- يعني إيه كتب كل حاجة باسم يوسـف؟.. يعني قتلته على الفاضي!
ضرب "كمال" بقبضته المتكورة على مسند أريكته و هو يهدر بتشنج واضح:
- كل حاجة كانت ليوسف طول ما هو عايش.. و حتى بعد موته مسابليش حاجة!
ضرب "حسين" براحتهِ الجدار و هو يردد متوعدًا:
- و مالهُ؟.. نخلص بقى من يوسف.. و من بعده كل حاجة هتبقى لينا
فنطق "كمال" باحتدام:
- انت ناسي ابنه يا خفيف؟.. هتعمل إيه فيه؟ هتقتله هو كمان؟
فحكّ "حسين" عنقه و هو ينظر نحوه من طرفهِ، ثم ردد و صدره يعلو و يهبط من فرط الانفعال:
- معلش.. نص العمي و لا العمى كله، نخلص أول من يوسف و انت هيبقى ليك في الميراث
فارتفع اجب "كمال" الأيسر و هو يقول مستنكرًا:
- أنا كده حصتي إيـه؟.. مش هيبقالي حاجة
و تبرّم و هو يتابع:
- و كمان عايزني أقاسمك فيه
تلوت شفتيّ "حسين" امتعاضًا و هو يردف:
- كان المفروض نسبتي تبقى أكتر منك طالما لسه هقتل، لكن معلش.. هنخليها النص بالنص زي ما اتفقنا
عقد "كمال" ساعديه أمام صدره و هو يردد باستخفاف:
- و مراته؟.. هدى هانم الريحاني؟ هتعمل إيه فيها ما هي ليها في الميراث!
أشار "حسين" بعينيهِ نحوهُ و هو يقول بخبث شديد:
- طب ما هي حبيبة القلب؟ اتجوزها و تبقى كوّشت على كل حاجة!
فأشار "كمال" لنفسهِ و هو يحتج بانفعال عقب أن نهض عن محلهِ:
- و مراتي و ابني؟ انت نسيتهم؟ هعمل فيهم إيه؟
فجأر "حسين" بانفعال جمّ:
- انت هتعمل فيها الزوج المخلص أوي دلوقتي، ما انت عمرك ما فكرت فيهم!
و أشار بكفه إلى نفسهِ و هو يقول بنبرة خفتت قليلًا:
- و كده يبقى نلعب في منطقة تانية.. انت هيبقى في ايدك كل حاجة، و أنا هاخد اللي عايزهُ!
.................................................................
و حدث ما أراد و لكن.. لم يتوقع مطلقًا تلك الطعنة الغادرة من "كمال" ليتخلص من "حسين" تمامًا، حيث قام بالإبلاغ عنهُ و بنفوذهِ كان على وشك أن يتم إصدار الأمر بإعدامهِ، و لكن حينها لا يعلم كيف صدر حكم البراءة، و تم تهريبهِ من البلاد ما إن تدخلت "هدى" و....
كانت تجلس أمامهُ مرفوعـة الرأس في كامل أناقتها، حينما كان هو ينطق من بين شفتيهِ للمرة الألف محاولًا إقناعها:
- أنا.. مقتلتش يوسف يا هدى، مقتلتوش
و العجيب أنها كانت تثق بهِ ثقة عمياء.. فهي لم تعلم قبلًا إلا أن من قتل "يوسف" ما هو إلا أخيهِ "كمال"، و لم تعلم بتورطه، أو أنهُ هو من قام بالجريمة بكلتا يديهِ، شبكت كفيها معًا على المنضدة الصغيرة الفاصلة بينهما، كم ودّت لو يصدر عليه حكم الإعدام فقط لتنتشله من أحضان زوجتهِ البغيضة "حبيبة"، طردت زفيرًا حارًا من صدرها أعقبته بقولها الصارم:
- قول يا حسين.. عايز إيه؟
فراح "حسين" يتلمس كفيها برفقٍ شديد أحيا فيها مشاعرًا لم تمُت يومًا، هي دفنت حبها لهُ في قلبها و احتفظت بهِ لنفسها، و لكنها صِدقًا لم تكن تدري أنه يكفي ليقرأ ذلك الوميض اللامع الذي كان و مازال يبرُق في مقلتيها حينما يحادثها، لم يكن من العسير مطلقًا أن يعلم حقّ العلم أنها ساقطة بعشقهِ حتى النخاع، فراح يتلاعب بأوتارها و هو يرتدي قناع الوداعة أمامها و:
- انتي طول عمرك جارتي يا هدى.. طول عمرك كنتي قريبة مني أوي، أكيد هتساعديني، أكيد هتطلعيني منها، مش كده؟
حاولت جاهدة أن تقاوم تلك الرعشة التي أجفلت جسدها من لمسة واحدة خبيرة منه، نظرت لعينيه المتوسلتين فشعرت و كأن حصونها تتهاوي واحدًا تلو الآخر، أجفلت بصرها عنه ثم غمغمت محاولة الرفض:
- مقدرش أعمل حاجة يا حسين، أنا...
فاحتوى كفها بضغطة خفيفة و هو يقطع عليها ذلك الطريق:
- تقدري يا هدى.. تقدري، أنا مش عايز غير تخرجيني و تساعديني أهرب من هنا
تغضن جبينها و هي تنظر نحوهُ نظرة ضائقة و قد تعجبت فكرتهِ:
- تهرب؟
أومأ و هو يُؤكد قوله قاصدًا نفس المعنى:
- أيوة.. عايز أسافر، كمال مش هيسيبني طالما حطني في دماغه، ساعديني أسافر تركيا
فزمّت شفتيها ثم نطقت بشدوه طفيف:
- تركيا؟.. اشمعنى تركيا؟
فأجابها كذبًا دون أن يجلّ الارتباك على وجهه:
- واحد صاحبي هناك و هيساعدني
صمتت قليلًا و هي تضمّ شفتيها مُفكرة.. وجدت أنه ليس حلًا سيئًا، على الأقل ستختطفهُ من "حبيبة" أيضًا و تقصيه عنها، انتبهت إلى تلك الضغطة الخفيفة التي احتوت كفها فرفعت نظراتها إليه حينما سألها بخشونة:
- ها؟.. هتساعديني؟
نظرت نحوهُ مطولًا تتأمل ملامحه الوسيمة، ثم أشاحت بهما عنه و هي تلفظ أنفاسًا حارة أتبعتها بـ:
- Okay.. هساعدك
و لم تكن تعلم أنها تخطفهُ من زوجته الأولى.. لتلقى به في أحضان زوجته الثانية، و لكن ما تيقّنت منه أنه سيعود حتمًا.. و لو بعد حين، و حينها سيقتله ابنها، لن تسمح لهُ بالتواجد بمكان واحد مع "حبيبة" و لن تسمح لهما بالاجتماع ثانية عقب الفراق، و أنشأت ابنها تزرع السموم في عقلهِ غير مدركة أن ذلك لم يكن كذبًا، أو أن "حسين" المرتكب للجريمة »
....................................................................
صدمة اعترتهُ لم يكن يتوقعها مطلقًا و لم تخطر على بالهِ حتى، لقد شكك بنسب "يارا" و ليس بوالدها قط، دفن "يامن" وجههُ بين كفيه و هو يستند بمرفقيه إلى ركبتيه و قد شعر بصداع ينهشُ من خلايا رأسهِ العصبية، بسمة ساخرة لاحت على ثغرهِ حالما داهمهُ ذلك التفكير.. فـ والدهُ قد تعاون كلا أخويه لقتلهِ، هُنا فقط استطاع أن يدرك السبب الرئيسيّ لدى ارتكاب "حسين" تلك الجريمة و قتلهِ لـ "يوسف"، ليس من أجل "حبيبة" قطّ كما أدرك في الآونة الأخيرة.. و إنما هو من أجل نفسه فقط، مرر "يامن" أصابعه العشر في خصلاته و هو يرفع نظراتهِ إليه حينما اختتم سردهُ بالجزء الضئيل للغاية الذي يعلمه من تلك الحكائة:
- أعلم أن يعقُوب كان أنانيّا حينها، و لكنه لجأ إليّ و أفرغ ما بجبعتهِ، لم يعلم إنسانًا أيّا كان على وجه الأرض ذلك السر الذي احتبستهُ مطولًا في بئري غيري أيها الشاب
إنهُ عبقها.. إذًا هي هُنـا، التفت من فورهِ ليجدها بالفعل تهبط الدرجات و قد قرع صوت حذائها الأرضيّة، حملقت عيناهُ بها و هو يتأملها مطولًا غير مستوعبًا انها بالفعل جزء منه، كانت تبتسم مجاملة في وجه تلك الجميلة التي أعطتها بعض من ثيابها عقب أن أخذت حمامًا دافئًا، و أيضًا ترتدي الأسود.. و لكنه لونًا فرض سيطرتهِ عليها و ليس عليه فقط عقب موت والدها، كانت تجمع خصلاتها على شكل "كعكة" و لكنها تركت البعض منها يتساقط بحرية على طول عنقها و جانبيّ وجنتيها، و حادت نظراتها ريثما أنهت الدرجات هبوطًا إليهِ لتجده ينظر نحوها، و لم ينصرف ببصره عنها حتى سارت فأرشدها الكهل و هو يشير إلى جوارهِ:
- اجلسي يا سيدتي
- أشكرك
و جلست جوارهِ ملتصقة به تمامًا، انخفضت نبرتها و هي تميل عليه قليلًا لتسأله متعجبة:
- في إيه مالك؟ بتبص لي كده ليـه؟
التوى ثغره بابتسامة ساخرة و هو يحيد بنظراته عنها مردفًا بصوت قاتم:
- ولا حاجـة، يا مدام يارا حسين الصيّاد
أومأت برأسها غير منتبهة لقولهِ حتى و لكنها حملقت بالكهل حين نطق بـ:
- أليس من المصدم أن تعلمي دون سابق إنذار أن زوجك العزيز ما هو إلا ابن عمك؟
- ها؟
و نقلت نظراتها لـ "يامن" و هي تسألهُ بخفوت متشكك:
- الراجل ده عبيط و لا إيـه؟ أنا مش واثقة فيه أبدًا، خلينا نمشي من هنا
فوجدت أنظارهِ اتجهت عفويًا حين كان ينظر نحوهُ للفتاة العشرينيّة التي انحنت على جدّها لتعانقهُ مغمغمة بوداعة:
- " كيف حالك جدّي الآن؟"
فربت على كتفها و هي يضحك بعذوبة متثاقلة:
- "بخير عزيزتي"
لكزتهُ "يارا" بعنفٍ في جانب معدته بمرفقها، حين وجدت نظراتهِ عالقة على وجه الفتاة الجميلة، غير مدركة أنه شاردًا، فقالت باغتياظ شديد:
- بتبص على إيه؟
نظر نحوها من طرفهِ نظرة ممتعضة، ثم نهض عن جلستهِ و هو يسحب هاتفهُ و سلسلة مفاتيحهِ عن أعلى الطاولة حينما كان الأخير يقول مشيرًا إليه:
- ما الذي تفعلهُ أيها الشاب؟.. لقد جهزت لكما غرفة تبيتنان بها اليوم
فرفض ذلك من فورهِ:
- لا.. سآخذ زوجتي و أرحل عن هنا
فتنهد بتثاقل أجثم عل صدره و هو يقول ناقلًا بصره بينهما:
- لا تعلم أنك ستتسبب لي بشعور الذنب حتى يحين موعدي أيها الشاب.. كان على السرّ أن يُدفن معي بقبري
فحاول أن ينزح عنهُ ذلك الشعور و هو يستقيم في وقفتهِ:
- لا تدع لذلك مجالًا.. لقد مات جدّي و انتهى الأمر
و نظر نحوها نظرة معبرة و قد تغضن جبينها بعدم فهم لما يدور، فوقفت امتثالًا لإشارتهِ، حينما كانت تلك الفتاة تدنو منهُ.. شبّت على أطراف قدميها لتطبع قبلتين على وجنتيهِ ثم ابتعدت قليلًا لتهتف بابتهاج و كفها يحتضن ذراعهِ المعضّل:
- لم أكن أصدق أنني سأقابل "يامن الصيّاد" يومًا.. و لكن أتعلم، أنت أكثر وسامة من جدك الذي يحتفظ جدي بصورهِ القديمة
أومأ بحركة خفيفة من رأسهِ دون أن يبالي بإجابتها، فتركتهُ، راحت تقبلها أيضًا.. و هي تصافحها و تعانقها بمرح مردفة:
- و دعيني أراكي يا زرقاء العينين.. لم يمضِ الكثير من الوقت على صحبتنا و لكن.. لا أعلم أحببتك كثيرًا
اجتزّت "يارا" على أسنانها بعنفٍ و هي تحاول أن ترسم ابتسامة على ثغرها، ثم نطقت بـ:
- و أنا أيضًا
فنقلت الفتاة نظراتها بينهما، ثم قالت بمرح:
- تليقان ببعضكما البعض كثيرًا
فانحرفت نظراتها نحوهُ و قد راقت لها كلماتها، و هو تعلقت نظراتها العميقة بها أيضًا.. يكاد لا يصدق أنها من لحمهِ و دمهِ.. و كأن كلمة النهاية لا تُكتب لعلاقتهما، حاد بنظراتهِ عنها و هو يحكّ ذقنهِ بإبهامهِ، حينما تسلطت عينا الفتاة على عينيه ثم عادت تنطق بشغف و هي ترفع كتفيها:
- أتعلمان.. كم أعاني فضولًا لأرى عينيّ طفلكما المستقبلي، ترى ممن سيسلب لون عينيهِ؟
و حذرتهما بسبابتها و هي تقول بودّ مشاكس:
- و انظرا.. سأحزن كثيرًا إن لم تبعثا بصورتهِ لي، و سآتى بنفسي لزيارتكما حينها!
فلم تنحرف نظراتهِ نحوها مجددًا و قد بدا أنه لم يستمع لكلمات الفتاة، إلا أنها استمعت إليها و حفظتها جيدًا.. بل و اتخذت الجزء الأكبر من تفكيرها.. تعلم أنه مستحيل و هما على حافة الفراق..
 و لكنها راحت تتخيل نفسها بداخل غرفة العمليات تنجب طفلهما الأوّل.. و هو يجاورها لن يتركها في لحظة كتلك، سيستمعان معًا إلى صرختهِ الأولى، و إلى بكائهِ، سيحظيان برؤيتهِ معًا للوهلة الأولى، و سيعانقانهِ معًا، ستنظر نحو وجههِ القريب و تبتسم و هو سينزح حبّات العرق عن جبينها و وجهها المُنهك و يلصق شفاههِ بجبينها ليطبع قبلة مطولة تستشعر فيها مدى أشواقهِ، كـ حُلم اليقظة سار أمام عينيها استفاقت منهُ على واقعًا مريرًا جافّا حين فرقع أصابعه أمام وجها و هو يقول باحتداد:
- بقولك يالا.. سرحانة في إيه كدا؟
فحمحمت و هي تنقل نظراتها بين كلاهما، راحت تصافح العجوز الذي أومأ برأسه مودعًا إياها، و مضت من خلفهِ و فور أن خرجا كان "جاسم" يقف مجاورًا لباب القصر الصغير الذي يضمّ الجد و حفيدتهِ، سألهُ "يامن" دون أن يلتفت نحوه و هو يستكمل سيرهِ:
- انت كويس؟
أومأ برأسه و هو يتبعهُ:
- كويس يا باشا
فأشار بسبابتهِ لهُ ليتوقف محلهِ بينما هو يتابع سيره:
- "إليچاه" هيسيب عربية توصلك الفندق
فتوقف "جاسم" محله و هو يطرق قائلًا بثبات شديد:
- أمرك يا باشا
في حين سارت "يارا" بجوارهِ و هي تعقد حاجبيها لتتوالي أسئلتها من جديد:
- مين ده يا يامن؟ كنتوا بتتكلموا في إيه؟
استقلّ السيارة خلف المقود ففعلت بدورها و هي تستقل المقعد المجاور لهُ، نفخت بغيظ شديد و هي تنظر لجانب وجههِ المتصلّب ثم كررت سؤالها بلهجة أشد:
- يامــن، ميـــن ده؟
لم يجبها أيضًا، و كأنها ذرة غبار عبرت من أمامه و مضت، أدار المقود و شرع يقتاد السيارة فاعتدلت في جلستها و هي تغرس أناملها في خصلاتها مغمغمة بتشنج:
- و لا كأني بكلم نفسي.. أوف!
.................................................................
كانت تقف مستندة بجسدها لذلك الجدار الفاصل بينهما مرهفة السمع.. نظرت حولها فكان كل شئ قد تم تنظيفه و ترتيبه من قِبل احدى العاملات بالفندق التي بعثهُ "فارس" إليها، كان الصباح قد بدأ يهلّ و هي لم تنعم ببضع دقائق من النوم حتى، ارتشفت من قدح الشاي الدافئ الخاص بها و هي تتأمل المظهر البديع في ذلك التوقيت، و منذ أن وقفت لم تصدر و لو صوتًا خافتًا.. فقط تتابع المشهد واقفة قليلًا و جالسة قليلًا، ما بين هذا و ذاك، حتى تنبهت إلى قولهِ الهامس:
- ولاء
فعقت حاجبيها و هي تقف بحالة تأهُّب.. التفتت لتردد متعجبة من صحوتهِ الآن:
- انت لحقت تنام؟
فكانت مستندًا بمرفقيه لسور الشرفة و هو يقول  نافيًا برأسهِ:
- منمتش أصلًا.. مش عارف أنام
فتنهدت بضيق أجثم على صدرها و هي تقول مستندة بكتفها مجددًا:
- و لا أنا.. مش جايلي نوم
و أعربت لهُ عن شعورها عقب أن ارتشفت رشفة من كوبها فصدر صوتًا و هي تبتلع أثناء قولها:
- قلقانة أوي.. خايفة على ماما و...
فقاطعها و هو يبتسم بشغف:
- بتشربي إيه؟
غضنت جبينها ثم قالت و هي تنظر صوب كوبها:
- شاي بالحليب.. ليه؟
مرر أناملهُ في خصلاتهِ و هو يقول:
- عادي.. سؤال
و همّ بالاستطراد.. و لكنهُ ابتلع كلماته في جوفه حالما استمع لرنين هاتفه، فسحبه بينما كانت "ولاء" تسألهُ بفضول عفوي منها:
- مين اللي بيكلمك في وقت زي ده؟
فقال متعجبًا و قد بدأ يتملك منهُ ارتياب شديد:
- ده يامن.. يا ترى حصل إيه؟
و أجاب من فورهِ:
- ألو
و تغضّن جبينهُ حالما استمع لردّهِ:
- ها؟.. ليه؟
و نظر في ساعة يده ثم نطق بـ:
- دلوقتي؟.. طيب خلاص، حاضر
و أنهى مكالمتهِ و قد جلّ القلق المختلط بالجدية على وجههِ، فسألت "ولاء" باهتمام عاقد حاجبيها:
- في إيـه؟
فأمرها و هو ينتصب في وقفته:
- ادخلي غيري هدومك
ضاقت عيناها و تقلصت المسافة بين حاجبيها و هي تقول بذهول:
- دلوقتي؟ ليـه؟
- معرفش.. يامن عايزنا
فأطبقت أسنانها بغيظ و هي تترك قدحها بعنفٍ أعلى الطاولة، ثم نطقت بتبرم:
- و ده عايز إيه ده  في ساعة زي دي؟ ده أنا منمتش من امبارح و كنت لسه هدخل أنام
فقال بضيق تملك منهُ:
- معرفش.. ادخلي اجهزى بقى خلينا نشوف في إيه
............................................................
طاولة دائريّة في مقهى فخمٍ يُطل بواجهتهِ على نهر "التيبر" مُباشرة جمعت بين الأربعة..، الموسيقى الإيطاليّة الناعمة في الخلفية لا تتناسب أبدًا مع توتر الأجواء فيما بينهم، حمل "فارس" قدح قهوتهِ و هو يتأمل تعبيرات "يامن" الحالكة فسألهُ بفضول شابه القلق:
- خير يا يامن.. قلقتنا
نفّض "يامن" خصلاته بعصبية حينما كانت هي ترتكز بأبصاره عليه غير قادرة على سبر أغوارهِ، نفخ "يامن" بانزعاج و هو ينظر نحوها، فغضّنت جبينها و هي تطالبهُ بتوضيح لسبب ذلك التجمّع المفاجئ، فراح "يامن" يرنو بناظريه لـ "فارس" لافظًا أنفاسه المختنقة:
- عندنا عم.. عم منعرفش عنه حاجة!
فترك القدح من فورهِ و هو يتأهب في جلسته مصدومًا من تلك الجملة التي وقعت كالصاعقة على مسامعهِ:
- عم!.. عم إيه ده انت بتتكلم جد؟
حاد "يامن" ببصره عنه لينظر لـ "يارا" نظرة ذات مغزي محدد لم تفهمها فورًا، فقطبت جبينها بعدم فهم، حينما كان يقول "يامن" و ثغره يرتفع بابتسامة متهكمة:
- أو يمكن نعرفه حق المعرفة.. لكن منعرفش هو مين
حملق "فارس" بهِ ثم نطق من بين أسنانه بانزعاج:
- يامن.. صدقني مش وقت ألغازك، عم إيه اللي بتتكلم عنه؟
فعاد "يامن" بظهرهِ للخلف و ألقى نظرة عابرة على تلك المتيبسة أمام "يارا" تحديدًا و تتحاشى النظر إليهِ، ثم سحب قداحتهِ ليشعل سيجارة دسها بين شفتيه، سحب أنفاسهِ منها و هو ينقل بصرهُ نحو "فارس" الذي أشاح بوجهه فاركًا عنقهِ بانفعال، ثم عاد ينظر نحوهُ حينما كان "يامن" ينفث دخان سيجارتهِ، و طالبهُ بتفسير موضّح و:
- يامن.. إنت مش هتقول كلمتك و تفضل ساكت، يعني إيه بعد السنين دي تقول عندنا عم.. عم إيه ده؟ دي أكيد نصباية
- تـؤ
فردد متسائلًا بفضول شابهُ الحنق:
- مين ده؟ مين اللي نعرفه و منعرفش إنه عمنا
فكانت كلمتهِ المقتضبة و المزدرية في نفس الآن وقعها كالشهب الثاقبة على ثلاثتهم دون استثناء:
- حسيـن!
حينها لم يتمالك "فارس" نفسهُ.. ضرب براحتهِ على سطح الطاولة غير مباليًا بمن حوله و هو يميل عليه و:
- حسين مين؟.. الحديدي!
- تـؤ.. الصياد، حديدي إيه بقى!
حينها رددت "يارا" المحلقة بأعينها و قد دوّى نبضها في أذنيها:
- انت.. أكيد مش في وعيك، حسين مين اللي يبقى عمك
وزعت "ولاء" أنظارها بينهم و هي تحل عقدة ساعديها حتى توقفت على وجه "فارس" الجالس جوارها و هي تسأل بعدم استيعاب:
- يعني إيه الكلام ده؟
- يامـن
كلمة خرجت من فاه "فارس" و هو يحدجهُ بنظرة ثاقبة، ثم سأله و هو يُطبق أناملهِ:
- أنا مش مصدق الهبل ده.. يعني إيه حسين الصياد؟ ده اللي هو ازاي يعني
تقوست شفتيّ "يامن" فتورًا عقب أن سحب سيجارته من بينهما، ثم أردف بامتعاض:
- جدك رفض يعترف بيه.. و أمه سجلته باسم جوزها، غفّلته يعني
فمالت "ولاء" لتهمس من بين أسنانها المطبقة و قد توهجت عيناها:
- خد بالك من كلامك
نظرة واحدة لها من طرف عينها أنبأت "يارا" أن الأسوأ سيحدث حتمًا، و بالفعل ضرب "يامن" الطاولة براحتهِ بعنف متفاقم و كأنه وجد الفرصة سانحة لينفث عن جزء و لو ضئيل من طاقته الهائلة المكبوتة:
- انتي هتعلميني أتكلم إزاي يا بت انتي؟
فناطحتهُ بالرأس بشكل أثار أعصابهِ أكثر و:
- مين دي اللي بت انت هتسوق فيها.. احترم نفسك و انت بتكلمني
و قبل أن يحدث ردًا عنيفًا من "يامن" كانت "يارا" تتحدث بصوتها الحانق:
- اسكتي يا ولاء لو سمحتي.. متتكلميش معاه
فنظرت نحوها نظرة مستهجنة و هي تقول:
- انتي مش شايفة بيقول إيه على جدتك؟ انتي اطرشتي
فـ أشار "يامن" لـ "فارس" و هو يحذرهُ بعينيهِ:
- شيل البت دي من قدامي بدل ما أصور قتيل النهاردة
فردد "فارس" و هو ينقل النظرات بينهم:
- ينفع تهدوا شوية و تسمعوا اللي بيتقال
و نظر نحو "ولاء" نظرة ذات مغزى ثم أردف:
- و انتي هدى اللعب شوية.. الجو في إشعال ذاتي مش محتاج توليع
فزفرت زفرة حانقة و هي تنظر نحوه بعتاب، ثم أشاحت بوجهها عنهم و هي تعقد ساعديها امام صدرها في حين كان "فارس" يُوجّه نظراتهِ و حديثه لـ "يامن" و هو يحاول أن يربط الأحداث:
- قصدك تقول إن أم حسين كانت على علاقة بجدي و هي متجوزة؟.. و كتبت حسين باسم جوزها و هو أصلًا ابن....
و قبل أن تهمّ "ولاء" بالانفعال و قد حلت ساعديها و تأهبت بالرد القاسي، كانت "يارا" تقول رافعة كتفيها و هي تنظر لكليهما باحتقان و قد بزغت شعيرات عينيها عقب أن اشمئزّت مما يقولان:
- انتو بتقولوا إيه؟.. لأ حقيقي إيه اللي بتقولوه ده؟ ازاي.. ازاي بتتكلموا ببساطة و لا كأنها حاجة عاديّة بجد! انتو مستوعبين معنى كلامكم
فنظر نحوها "فارس" حنقًا لمقاطعتهِ، حينما كانت "ولاء" تشير لشقيقتها بتشنج و هي تهتف بـ:
- نفس اللي كنت هقوله.. أنا مش فاهمة انتو ازاي بتتكلموا كده أصلًا
 فـ نفخ "فارس" باغتياظ و هو يشيح بنظراته عنها و:
- استغفر الله العظيم
ثم نقل نظره بينهما و هو يردد باحتدام مشيرًا بكفه:
- ينفع تسكتوا شوية بقى و تسمعوا
و نظر نحو "يامن" ثم أردف متسائلًا:
- هو ده قصدك؟
أومأ بحركة خفيفة لا تكاد تلحظ و هو يقول بصلابة:
- بالظبط
دلّك "فارس" جبينه و هو يهز رأسه استنكارًا، ثم نظر صوبهُ مجددًا و هو يسأل:
- عرفت ده كله إزاي؟
لوى "يامن" شفتيه و هو يلتفت ليحدق من خلال الزجاج.. ثم قال باقتضاب:
- إليچاه.. اللي كان بيدور عليا في كل مكان لأروحه، عرفني إن جدك ليه فرع في إيطاليا.. و دي حاجة أنا استغربتها، قابلت صاحب جدك اللي المفروض كنت أعرف منه الشركة دي أسهمها باسم مين
و التفت لينظر نحو "يارا":
- و طلعت باسم حسين.. جدك كان سايبهاله كتعويض عن  اللي عمله، لكن هو رفض إنه يديرها
حملقت بهِ غير مصدقة و قد فغرت فاهها، ثم أردفت و هي تنظر نحوهُ بتعمق شديد شابه الصدمة و هي تقول متفهمة :
- عشان كده.. عشان كده قالي انك ابن.. عمي!
و نظرت حولها غير مصدقة ما ستتفوه بهِ:
- يعني، أبويا قتل عمي عشان.. عشان فلوسهُ!
..................................................................
..........................................
..................................................................................
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن