"الفصل التاسع"

799 17 0
                                    

"الفصل التاسع"
و أحيانًا أتساءل.. أتعجز الشمسُ عن إذابة ثلوج قلبي و نزح الصقيع عنه؟
_____________________________________________
ڪتمثالٍ خاوٍ من الحياة .. كانت حالتها عقب أن قصّت عليها ما قاسته ، لم تكن لتترك تفصيلةً لا تقصها عليها بالرغم من تلعثم نبرتها و اختلاطِها مع نشيجها ، شَخِص بصرها نحوها فلم ترمش عيناها ، حاولت أن تستوعب كمّ الأحداث التي أُلقت على مسامعها فشعرت بصعوبة في ذلك ، و كأن تروس ذهنها قد أصابها الصدأ المُفاجئ ، استغرقت بالفعل العديد من الدقائق حتى تحركت شفتيها المنفرجتين من الشدوه أخيرًا لتهتف بذهولٍ :
- معقولة .. كل ده حصل معاكي !
أومأت برأسها و دموعها لا تتوقف عن الانسدال من حدقتيها :
- أنا .. أنا مش عارفة عملت ده ازاي ، أنا .. أنا ارتكبت جريمة ، بقيت قاتلة ، أنا .. أنا لسه مش مصدقة ان كل ده حصل
تغضن جبينها و هي تنظر نحوها بإشفاق ، ثم نطقت بتوجس :
- انتي متأكدة انه مات؟
فأجابتها بمرارة و قد شرع صوت شهقاتها يعلو من جديد :
- أيوة
ضمّت شفتيها معًا و هي تنظر نحوها بارتياع ، ثم نهضت عن الأرضية لتجلس بجوارها على الأريكة ، اجتذبتها لتسكن أحضانها و شرعت تمسد برفقٍ على كتفها و هي تردد بصوتٍ حاني :
- طب عشان خاطري كفاية عياط ، أنا مش عارفة أعمل ايه عشان أساعدك
دفنت " يارا" وجهها في عنقها ثم تمتمت من بين شهقاتها :
- أنا خايفة أوي يا رهيف ، بعد ما عرفت انه لحقني مش السبب في اللي حصل لي يموت !
فـ أبعدتها " رهيف" قليلًا عنها و هي تُعنفها متمتمة بنبرة مستنكرة :
- و انتي كمان غبية يا يارا ، يعني ايه هو اللي هيدبر للي حصل لك ، ده جوزك مهما كان
حاولت الدفاع عن حالها فـ أردفت مبادرة و قد استخدمت محرمة ورقية تنزح بها دموعها:
- انتي مش فاهمة حاجة يا رهيف ، و مهما حكيتلك مش هتفهمي ، لا هو بيطيقني و لا أنا بطيقه
أصرت الأخيرة على رأيها :
- و لو يا يارا ، انتي رسميًا و شرعًا مراته
فرددت بترحٍ مصوبة خطأها :
- قصدك كنت !
أحنت بصرها عنها و قد أدمعت عيناها تأثرًا لحالتها ، ثم أردفت بصوتٍ خافت :
- طب انتي هتعملي ايه دلوقتي ؟
فـ أجابتها ضياع تام و هي تدفن وجهها بين كفيها :
- مش عارفة .. مش قادرة أفكر و لا قادرة أعمل حاجة ، حاسة ان أنا في كابوس ، مش قادرة أصدق اني بقيت مجرمة
انتشلت كفها لتحتضنه و هي تقول محاولة مؤازرتها :
- انتي تعبانة أوي .. حاولي تنامي شوية و الصبح نشوف هنتصرف ازاي !
هزت رأسها نفيًا و هي ترفع كتفيها متابعة هذيانها:
- مش مصدقة اني عملت كده ، أنا .. أنا مكنش قصدي أقتله
فـ أحكمت قبضتها على كفها و قد تلوت شفتيها بآسى مردفة :
- طب اهدي شوية عشان خاطري
دفنت وجهها بين كفيها وهي تنتحب بالبكاء المرير متمتمة باختناق :
- مش عارفة اعمل ايه !
- لا حول و لا قوة إلا بالله ، قومي حاولي ترتاحي شوية يا يارا ، و الصبح يحلها الحلال !
هزت رأسها نفيًا و هي تقول بإحباط :
- مفيش حاجة بتتحل يا رهيف ، كل حاجة بتتعقد أكتر و أكتر
فـ حاولت أن تُبشرها و هي تلوي شفتيها بابتسامة عذبة باهتة :
- ما ضاقت إلا ما فرجت .. طالما ضاقت بيكي أوي كده يبقى الفرج قريب ، استبشري !
بالرغم من عدم اقتناعها لما تتفوه بهِ ، إلا أنها لم تكن تملك القدرة على الرد ، أحاطت " رهيف" كتفيها و هي تنهض و تحثها على النهوض ، و عاونتها لتخطو نحو غرفة والدتها ، كانت تتكئ عليها بكامل جسدها و قد شعرت بساقيها رخوتين لا تقوَ على السير ، فتلكأت خطواتها بعض الشئ ، و لكنها أخيرًا وصلت بها حتى الفراش ، انحنت قليلًا لتسند جسدها عليه ، و عاونتها على التمدد بجسدها ، ارتكنت "يارا" برأسها للوسادة، التي تعلم أنها جوعةً و ستتلذذ بالتهام ما تذرفهُ عيناها، و أثناء ذلك كانت "رهيف" تسألها باهتمام :
- طب و عيلتك عملت ايه ؟
أجابتها بقنوطٍ بثقل جثى على لسانها :
- معرفش .. معرفش عنهم حاجة ، و معتقدش انهم عارفين حاجة عن اللي حصل
زمّت " رهيف" شفتيها و هي تردد باضطراب :
- بس جوزك رجل أعمال مشهور و ..
اقتطمت كلماتها قبيل أن تتفوّه بها ، كادت أن تخبرها أن بالتأكيد الخبر قد انتشر كـ النار في الهشيم ، و لكن الأخيرة لم تكن بها طاقة لتتلقى خبرًا كذلك ، صمتت و هي تُدثرها فوجدتها قد أطبقت جفنيها ، مسدت برفقٍ على خصلاتها المنسابة على جبينها ثم تمتمت بتريث :
- متخافيش .. صدقيني كل حاجة هتتصلح
تقوست شفتيها بترحٍ وقد جلّ القهر على ملامحها ، ظلت مُطبقة الجفنين فانسابت الدموع من بينهما بشكلٍ عمودي ، أشفقت عليها " رهيف" فتجمعت الدموع في مقلتيها تأثرًا ، كبحتهم بصعوبة و هي تلوى شدقها بابتسامةٍ باهتة متمتمة بمرحٍ زائف :
- يارو أجيبلك تاكلي ، خاصةً إني أنا اللي طابخة النهاردة ، و كنت عاملة بروست انما إيه ، هتاكلي صوابعك وراه أنا عارفة انك تموتي في الأكل
ارتفع جانب ثغرها بابتسامة ساخرة ثم أردفت بتهكم مرير :
- أه .. ده كان زمان ، قبل ما يدخل حياتي !
تخلل شعور الندم إليها و قد استشعرت أنه ليس الوقت المناسب لمحاولاتها التافهة بالتخفيف عنها ، تلاشت بسمتها لتقوس شفتيها بحزن ثم استطردت باستياء:
- هسيبك تحاولي ترتاحي شوية ، تصبحي على خير
خير! أي خير تتحدث عنه بينما جرفتها الرياح نحو المجهول ، ألقت بها إلى حافة المنحدر و ها هي تهوي من أعلاهُ تنتظر اليد التي تمتد إليها عساها تتلقفها قبل أن تبلغ السفح و ينتهي أمرها ! أي خير قد تستيقظ إثرهُ و هي بحالتها تلك ، و أي تفاؤل تحُثها رفيقتها عليهِ و هي بين المطرقة و السندان !
انحنت لتطبع قبلة على جبينها ، ثم مسحت برفقٍ على كتفها ، و تحركت مبتعدة  و هي تترك زفيرًا حارًا ألهب صدرها ، و فور أن استمعت إلى صوت إغلاق الباب دفنت رأسها في الوسادة تاركة لشهقاتها المكتومة العنان و هي تنتحب بأنين شبه مكتوم ، شعرت بأنها قد تيتمت و والديها قيد الحياة ، حتى والدها الذي ألقت بحالها في عرين الأسد من أجلهِ قد أعلن انسحابه عن حياتها ، لم تجد لها جذعًا تستند عليهِ ، كانت كـالغصن الذي تحدب اثر الرياح العاتية و اصطدامها به ، كزهرةٍ اجتُثَّت بتلاتها في غير أرضها ، لم تعلم كم من الوقت مر عليها حتى داهمها سُلطان النوم فأعلنت استسلامها له ، فانطبق جفنيها ، و انتظمت أنفاسها ، و تُركت دموعها الحارقة على وجنتيها ، دموعٍ لم تعلم كيف انسالت بتلك الكثرة ، و لم تُجتَث برفقتها ذرةً من حُرقةِ فؤادها .
........................................................................
ألقى ذلك الكهل بهاتفهِ على مكتبهِ عقب أن أصابهُ اليأس الممتزج مع الحنق ، أطلق زفيرًا من بين شفتيهِ و هو يردد قائلًا للجالس أمامه :
- و بعدين ! الناس مبقتش تشتري جرايد زي زمان ، السحب على الجرايد في النازل!
حكّ الأخير ذقنه النابتة قليلًا بسبابتهِ قبل أن يميل بجذعهِ للأمام متمتمًا:
- الناس عايزة حاجة تشدها للجرايد عشان تقراها ، مش مجرد أحداث ثقافية و فنية !
تغضن جبين الأخير و قد حازت كلماتهِ على قدر من تفكيرهِ :
- قصدك إيه؟
ارتسم اللؤم على ملامحه و هو يردد بخبث :
- قصدي ان في مليون موضوع ممكن نتكلم عنه يوصلنا فوق السحاب ، و يخلي اسم الجريدة يبقى الأول على الجمهورية !
أصابهُ الضجر من مراوغتهِ فردد بنبرة حاسمة :
- ما تتكلم يا فهد و تقول قصدك ايه .. انت هتكلمني بالألغاز كتير ؟
قال "فهد" و هو يقوس شفتيه بعبث:
- فضايح مشاهير المجتمع و الفنانين مبقاش يجذب الناس .. خلاص اتعودوا عليه ! ممكن تتكلم عن رجال الأعمال مثلًا
ضيّق عينيهِ و هو يتسائل باهتمام :
- انت عندك حاجة مُعينة و لا بتتكلم و خلاص
نهض عن جلستهِ و قد رفع رأسه بشموخ ثم تشدق بغطرسة :
- طبعًا عندي .. عندك الموضوع اللي شغل عقول كل الناس !
تضاعف فضولهِ فقال و قد اضمحلت المسافة بين حاجبيه:
- موضوع ايه ده ؟
أجابهُ و قد رفع إحدى حاجبيهِ:
- رجل الأعمال " يامن الصياد" مليون في المية سمعت عنه
أومأ برأسهِ و هو ينظر نحوه مُترقبًا:
- أكيد.. غني عن التعريف
لوى "فهد" شفتيه هازئًا و تهكّم منه قائلًا:
- و لما هو غني عن التعريف معرفتش اللي بيتقال عنه
تغضن جبينه و هو يردف بلا اكتراث :
- ايه يعني؟
- فاكر الحكاية بتاعة أبوه اللي اتقتل زمان .. و اتقبض على واحد اسمه " حسين الحديدي" بس طلع براءة
حكّ الكهل ذقنه بسبابتهِ، ثم قال و هو يرف كتفيه بسلاسة:
- أكيد.. هي دي حاجة تتنسي
فتمتم بنبرة متهكمة  مُشيرًا بعينيه:
- طب فاكر الجريدة اللي غطت الواقعة دي بقت إيه و لا وصلت لفين ؟
امتعض وجهه و هو يجيبه مغتاظًا ، و مستخدمًا كفه في التلويح متأففًا:
- مش لازم تفكرني .. كان بيننا دقائق .. دقائق بس كانت هتفرق و جريدتنا كانت هتكون مكانها !
فـ بسط كفه و هو يميل على مكتبهِ مستندًا بمرفقيهِ عليه :
- ما الفرصة جتلك لحد عندك و انت اللي سايبها
- يا ابني كلمني زي ما بكلمك ، انت هتفضل تكلمني بالألغاز و سايبني مش فاهم حاجة
انتصب في وقفتهِ ليمضي نحو النافذة و ابتسامةً تعلو شفتيهِ ، و قف محدقًا للخارج ثم ردد بصوتٍ ثابت:
- وصلتني أخبار بمليون جنيه
فسخر من قولهِ:
- هه .. منين ؟
شعّت عينيهِ خُبثًا و هو يردف:
- ما انت متعرفش يامن الصياد ده أعدائه قد إيه
تنهد قائلًا بصوتٍ جاد و هو يلتفت نحوه:
- طب اتكلم .. أما نشوف
حكّ "فهد" صدغهِ، حانت منه نصف التفاتة نحوه، ثم قال:
- بيقولوا يامن الصياد اتجوز بنت " حسين الحديدي "
ارتفع حاجبهُ الأيسر غير مصدقًا و هو يردف باستنكار:
- معقول !
ثم التوى ثغرهُ بابتسامة عريضة مستطردًا بحبور:
- ده الخبر ده رهيـب ! ممكن يوصلنا لفوق.. فوق أوي
التفت نحوهُ و الابتسامة لا تُفارق شفتيهِ ، حتى أنهُ كركر ضاحكًا و هو يُتابع بلؤم :
- مش ده الخبر اللي هيوصلنا لفوق ! أنا عرفت حجات مش بس هتوصلنا لفوق ، دي هتخلي اسم الجريدة فوق السحاب
فتحفّز الأخير لما سيُلقيهِ على مسامعه :
- اتكلم بسرعة .. هات اللي عندك
- بيقولوا الاتنين مش بيطيقوا بعض ، تقريبًا كده متجوزها غصب عنها ، شكله مصدقش إن الراجل أبوها برئ
فتفهم مقصده بحاجبين معقودين بغرابة :
- قصدك انه بينتقم منه في بنته ؟
حك الأخير طرف أنفه بسبابتهِ  مرددًا:
- تقريبًا كده ، بس كان في واحد رايدها .. بيقولوا ابن عمها.. ابن خالها ، حاجة زي كده ، المهم قريبها ، كانت هتهرب معاه باين و لما جوزها عرف و رجعها مسابوش في حاله ، حبسه هو و اللي معاه في مخزن من مخازن شركاته القديمة !
ومضت عينا الكهل و قد لاح فيهما بريق غريب، و تفاقم فضولهِ لمتابعة سير تلك القصة التي بدت لهُ كفرصة ذهبيّة:
- ها.. و بعدين ؟
- تاني يوم المخزن ولع ، بس الظاهر انهُ مسابش دليل واحد وراه ، الشرطة قلبوا المخزن ، مفيش أثر للجثث !
توسعت حدقتاهُ قبل أن يردف مذهولًا :
- الكلام اللي انت بتقوله ده كبير أوي !
- لسه الكبير جاي .. البنت مراته دي مش بتطيقه زي ما بقولك .. الله أعلم حصل ايه ..فقتلته!
ارتفع حاجبيهِ و هو يردد غير مستوعبًا سلاسة نبرته و بساطة طريقة حديثه:
- ايه !
اتسعت ابتسامة الأخير فأبرزت أسنانهِ من خلفها و هو يقول بظفر :
- زي ما بقولك كده ! الله اعلم هيعيش و لا لأ
ظلّ فاغرًا شفتيهِ و هو محملقًا بهِ حتى تحركت عضلات لسانهِ ليسألهُ متشككًا :
- انت عرفت كل ده منين .. متأكد من اللي بتقوله ؟
- بقولك حبيايبه كتيـر !
تحفزت خلاياهُ تمامًا و تحمّس و هو ينهض عن جلستهِ متقدمًا منه ، ربت على كتفهِ و هو يردد متفاخرًا :
- عفارم عليك يا فهد ، ليك مُكافأة مني
فـ أزاح كفهُ برفقٍ و هو يردد مستنكرًا:
- انت عايز تكتب اللي أنا قولتلك عليه كده ؟
قلب عينيهِ بفضول و تسائل :
- قصدك إيه ؟
اتسعت ابتسامتهُ الخبيثة حتى كادت تصل لأذنيه ، ثم قال غامزًا :
- لازم نضيف البُهارات على الأكلة عشان نستطعمها ، و إلا هتكون ماسخة ملهاش طعم .. و لا إيه ؟
كركر الأخير ضاحكًا بثقلٍ حتى أدمعت عيناهُ ثم أردف من بين ضحكاتهِ :
- ده انت مُصيبة يا فهد !
فضحك الأخير و هو يتمتم بنبرةٍ شيطانية متغطرسًا بحالهِ:
- أومال ! ده أنا فهد الإمام مش أي حد !
............................................................................
احتشد الجمع من الصحافة و الإعلام أمام بوابة المشفى الخاص عقب انتشار خبر إصابة " يامن الصيّاد" رئيس شركات الصيّاد للحديد و الصلب ، حاول حرس المشفى إبعادهم و لكن لكثرة العدد فشلوا بذلك ، و لكنهم على الأقل استطاعوا منعهِم من الدلوف فظلّوا بالخارج يتقاتلون لمحاولة انتشال أخبار عن تلك الجريمة ، حتى خرج إليهم نجل عائلة الصياد الأصغر ، فتعالت الأصوات التي اختلف ترددها ما بين الرجال و النساء ، توالت الأسئلة على مسامعهِ و قد وُجهت أجهزة الكاميرا و الميكروفون نحوهُ ، التُقِطت لهُ العديد من الصور بهيئتهِ المزرية وجههُ شاحبًا و جفناهُ منتفخان حمراوان ، وجههُ بدا الذبول جليًا عليهِ ، بإلاضافة إلى تلك المسحة الساخطة التي اعتلت صفحة وجهه ، رفع ساعدهُ أعلى عينيهِ و هو يرمش بهما عدة مرات محاولًا تفادي تلك الإضاءة التي غزتهما على حين غرةٍ ، حتى دنا منهُ ميكروفون كانت تتسائل صاحبتهُ بصوتٍ مرتفع :
- عمر بيه .. ممكن حضرتك تحكيلنا ازاي الجريمة دي حصلت
- عايزين نعرف إزاي قدر مجرم يدخل قصر عائلة الصياد بالرغم من الحراسة المُشددة
- هل لزوجة " يامن الصياد" دخل باللي حصل ؟
- هل يامن الصياد و زوجته بينهم عدواة فعلًا ؟
- يامن الصياد عرف بالعلاقة السرية بين زوجته و عشيقها ؟
هل .. و هل .. و هل ، آلاف الأسئلة أُلقيت على مسامعهِ لم يلتقط معظمهم بسبب تداخل الأصوات ، حازت الكلمات الأخيرة التي التقطتها أذنيهِ على اهتمامهِ و حفّزت خلاياهُ و أشعلت فتيل الانتقام بداخلهِ لأخيه ، مرر النظرات بين من أمامهِ ثم أزاح ساعده مبعدًا لهُ عن عيناه و قد شرع يعتاد الإضاءة الصادحة ، و فور تحدثهُ انخفضت الأصوات من حولهِ لتُلتقط كلماتهِ بوضوح :
- يارا الحديدي مرات أخويا هي اللي قتلتهُ !
تعالت الهمهمات بين الصفُوف حتى تابع و هو يهدر بصوتٍ جهوري بجرأة مريبة:
- كل اللي بيتقال صح ، لما أخويا عرف بالعلاقة اللي بين مراته و ابن خالها.. قتلتهُ !
لم تكف الألسن عن الأسئلة الفضولية الشرهة التي طالبتهُ بالمزيد ، كـ كِلاب شرهة لم تستوعب أنها وجدت قِطعة لحم أمامهم فشرعوا يتقاتلون للحصول عليها و النهش منها علّ جوعِهم يُشبع ، و لكنهُ كان قد اكتفى بتلك القنبلة التي ألقى بها في الوسط ، و تركهم .. اخترق الصفوف بصعوبة متجاوزًا ذلك الكمّ الهائل من الأجساد البشرية ، فعاونهُ على ذلك الحرس الخاص بالمشفى ، حتى و أخيرًا تمكن من الفرار من تلك الملاحقات ، توقف مبتعدًا عن المُحيط بأكملهِ ، ثم دس كفه بجيبه مخرجًا هاتفهِ البديل ، نقر على شاشتهِ حتى أتاهُ الرد ، فـ رفعه إلى أذنهِ و هو يردد بصرامة غريبة اكتسبها.. و كأنهُ بات نسخةً طبق الأصل شبه مُصغرة عن أخيه :
- ثواني و تكون عندي
...............................................................................
كانت قد غفت ، جسدها الصغير متكورًا على الأرضية الصلبة بجوار الباب فبدت و كأنها كانت تُحاول استراق السمع إلى حديثهن ، و لكن سُلطان النوم لا يقوى أحدهم على ردعهِ ، تنهدت بحرارةٍ و هي تنحني عليها ، ثم حملتها بين ذراعيها برفقٍ موصدة الباب خلفها بقدمها ، تأملت ملامحها الملائكية فلم تجد نفسها سوى و هي تُغرق جبينها قبلًا ، خطت نحو الفراش ثم تركت جسدها عليه ، تذكرت كلماتها عن والدها قبل قليل و تردد صداها على أذنيها فشعرت بجرحٍ نازف بقلبها يكتوى اثرها ، دثرتها جيدًا نظرًا لبرودة الجو ، احتلّت فكرةً ما ذهنها ، فـ تغضن جبينها و هي تستقيم بوقفتها ، شرعت تبحث عن هاتفها و قد انتست أين تركته ، حتى وجدتهُ فوق منضدة الزينة ، سحبتهُ سريعًا و عادت تجلس على طرف الفراش ، و ما لبثت أن فتحت  حسابها على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة ، فكانت الصدمة حين ما رأته ، العديد من العناوين و الآلاف من المواقع تتحدث عن الخبر و كأنهُ خبر الموسم:
" رجل الأعمال الشهير رئيس شركات الصيّاد الحديد و الصلب على فِراش الموت "
" زوجة رجل الأعمال الشهير " يامن الصياد" اختفت في طروفٍ غامضة عقب اتهامها بمحاولة قتل زوجها "
" العَداء بين رئيس شركات الصيّاد للحديد و الصلب و زوجتهِ قد بلغ أشُدّه " انقر لمعرفة المزيد
" انتشار خبر زواج " يامن الصياد" من ابنة عدوهِ الذي اتُهِم سابقًا بارتكاب جريمة قتل والده المتوفي" يوسف يعقوب الصياد" تزامن مع إصابته بطعنة نافذة قد تودي بهِ إلـ..." انقر لقراءة المزيد"
" زوجة " يامن الصيّاد " تقتل زوجها عقب اختفاء عشيقها المُحرم "
" اتقدّت النيران باحدى مخازن " يامن الصيّاد" القدامى بحريقٍ هائل قبل إصابتهِ بساعات"
فغرت شفتيها و أصابعها تنقر على احدى المواقع لتجد الأحاديث قد انتقلت باستفاضة عن ذلك الحدث ، بل و ليتها اقتصرت على تلك الواقعة ، بل أنها تطرفت إلى أحاديثٍ تمسّ رفيقتها و تتحدث بالسوء حِيالها ، تلاحقت أنفاسها المتوترة و هي تضرب بكفها جبينها ، احتلّ الجزع ملامحها و هي تزدري ريقها بصعوبة جمّة فشعرت بهِ كشوكةٍ انغرست في مرّيئها ، تعالت دقات قلبها و هي تضغط على الزر الجانبي رافضة رؤية أو قراءة المزيد ، ثم رفعت أنظارها لتُحدق بنقطةٍ في الفراغ متمتمة بتوجس :
- مُصيبة ، دي مصيبة حرفيًا !
....................................................................................
خلل أصابعهُ في خصلاتهِ و هو يتلفت برأسهِ يمينًا و يسارًا ، لا يعلم أين اختفى هكذا في جنح الليل ، ما اعتقدهُ أن يكون بطريقةٍ أو بأخرى بإحدى الأروقة بالمشفى .. و لكن تفاقم قلقه حين لم يعثر عليهِ ، خرج من الباب الرئيسي للمشفى ، فتفاجئ بذلك الحشد المُتجمّع ، سُلطت الكاميرات على وجهه و انبعثت الأسئلة من أفواههِن إليهِ ، امتعض وجهه و  احتل قسماتهِ التجهم ، زفر حانقًا و هو يدفع بحركةٍ عنيفة تلك الأجهزة " الميكروفونات" المقتربة منهُ ، ثم تحرك بينهم مخترقًا الصفوف محاولًا التجاوز ، ساعدهُ على ذلك الحراسة الخاصة بهِ التي تبعتهُ إلى هنا ، حاول أن يصمّ أذنيهِ عن أي كلمةٍ تُقال قد تنتزع فتيل قنبلتهِ الثائرة ، و لكنهُ تصلّب بمحلهِ و تخشبت ساقيهِ حين اخترق سؤالًا من إحدى النِساء أذنيهِ :
- إيه ردك على كلام " عمر الصياد " و إن زوجة " يامن الصياد" قتلته بعدما عرف بعلاقتها مع ابن خالها ، و ان ....
توهجت حدقتاه فباتتا ڪجذوتين متّقدتين تمامًا ، بعثتا شررًا و هو يُسلط نظراتهُ عليها فدبّ الذُعر في قلبها فـ أُجبرت على ابتلاع كلماتها ، كوّر قبضتيهِ حتى ابيضت مفاصلهما ، ثم تركها مُخلفًا ورائه رُعبًا احتلّ وجهها و تجلى في ارتعاشة كفيها ، مضى مبتعدًا متجاوزًا الصفوف دافعًا بعنفٍ الرجال منهم و النساء بلا تفرقة ، حتى ابتعد عن ذلك المُحيط ، أشار لفردين من الحُراس قائلًا بنبرة آمرة :
- انتو بس اللي هتيجوا معايا ، الباقي يفضل هنا
أومأ كلاهما ثم مضيا من خلفهِ و عاد الباقون للمشفى لحراسة رب عملهم ،خطى نحو سيارتهِ المصفوفة بالجراج المُلحق بها ،و من خلفهِ استقل الحارسان السيارة الأخرى ، استقل سيارتهِ و أدار المحرك و انطلق مخلفًا صوت احتكاك الإطارات بالأرضية ، اقتاد السيارة خارج الجراج ثم انعطف يمينًا و أصابعه تُنقر على شاشة هاتفهِ محاولًا الاتصال به ، و يعلم أنهُ لا جدوى من ذلك ، اضطربت أنفاسهُ و جلّ التوتر المُمتزج بالقلق على تقاسيم وجهه ، تحركت شفتيهِ ليهمس حانقًا :
- هتكون روحت فين يا زفت ؟ أنا ناقص
زفر متأففًا و تروس ذهنهِ تعمل بلا توقف ، حتى أتتهُ تلك الفكرة ، سارع بالاتصال بأرقام جميع السائقين ، و كانت الإجابة من أجمعهم أنهُ لم يحادثهم مُطلقًا ، تهدل كتفيهِ قانطًا و هو ينقر على آخر الأرقام ، و لكن سريعًا ما تحفّزت خلاياه حين كان يُبلغه:
- أيوة يا فارس بيه ، عمر بيه اتصل بيا
اعتدل في جلستهِ مُتحفزًا و قد عقد حاجبيه متمتمًا باقتضاب :
- كمل
فـ استطرد الأخير حديثهُ :
- عمر بيه كلمني و قالي آجي على المستشفى .. و لما وصلت أمرني اني أرجع البيت مواصلات ، و خد العربية
تشربت وجنتيهِ بحمرةٍ غاضبة و هو يردد مستنكرًا :
- نعم..!
زمّ الأخير شفتيهِ و هو يتمتم بخفوتٍ متلعثم :
- أنا آسف يا بيه ، حاولت أتصل بحضرتك أبلغك بس تليفونك مقفول و مقدرتش أوصل لك
فانفجر في وجههِ كـ البركان و قد أطلقت حدقتيهِ شررًا :
- غبي .. ازاي تعمل كده و انت عارف ان معهوش رخصة حتى
فكرر اعتذراهُ و قد نكّس رأسه :
- أنا آسف يا بيه
استفزّهُ اعتذارهِ و كأن ما افتعلهُ أمرًا هيّنًا لا يستحق ، فتوهج لون بشرتهِ أكثر و قد استشعر رأسهُ يغلي من فرط الغضب ، هدر به محتدمًا :
- أعمل إيه بأسفك دلوقتي ، لو حصل له حاجة أنا مش هرحمك !
أغلق المكلمة في وجههِ قاذفًا هاتفه بلا اكتراث على المقعد المُجاور و هو يزفر ساخطًا فبدا و كأنهُ يُنفث نيرانًا ، أدار المحرك لينعطف بالسيارة لإحدى الطرق الجانبية ثم صفها يمينًا ، عاد برأسهِ للخلف مُطبقًا جفنيه و قد شعر بالوهن المفاجئ اثر الأحداث المتلاحقة ، كما كانت تلك الشائعات التي انتشرت كـ النار في الهشيم بمثابة بنزين سُكب فوق نيرانهِ المتأججة ، لم يكن ينقصهُ سِوى ما قالهُ " عمر" مؤكدًا ما قِيل ،  شعر بأنهُ غير قادرًا على استيعاب كمّ المصائب التي أُلحقت بهِ منذ عودتهِ إلى الأراضي المصرية ،  بدت لهُ أرضًا ملعونة لا وطنًا وُلد بها ، لم يتوقف كثيرًا ، حاول استجماع شُتاتهِ حتى يقوَ على اجتذاب زمام الأمور ، فـقد بات لزامًا عليه تحمّل ما يقع من أحداث منذ غياب ابن عمهِ عن الواقع ، فرك جفنيهِ و هو يعتدل في جلستهِ ، أمال عنقه للجانبين فصدر صوت طقطقة عِظامهِ ، سحب شهيقًا عميقًا زفرهُ على مهلٍ قبل أن يُردف ساخرًا:
- اجمد .. ده انت لسه في الأول
أدار المحرك و ابتسامة متهكمة تحتلّ شدقيه ، ضغط دوّاسة البنزين و هو يقتاد السيارة و للمرة الأولى .. لا يدري إلى أين الوجهة المحددة ، سيان وجهته بالسيارة للبحث عن ابن عمهِ ذو الرأس المتحجر ، أو الوجهة المجهولة التي تجرف الرياح الجميع إليها ، و كان هو من ضِمنهم و إن لم يكن على رأسِهم .
............................................................................
- اللهُ أكبرُ .. اللهُ أكبر ، لا إله إلا الله
صوت صدح في الارجاء بعث الطمأنينة  في  نفوس البشر.. وما كان صوتًا غيرهُ يقشعُ ذلك الكمّ الهائل من غيومٍ تزاحمت بأرواح اناسٍ اهلكتهم الفواجع و اصابت أفئدتِهم بصقيعٍ لفحها و تساقطت ثلوج تموز بين اروقتها فكان صوته كشمسًا اذابت بخيوطِها الحريرية التي نسجتها بدفئِها تلك الثلوج التي تراكمت فوق السُطوح .. آذان الفجر ، گمُعجزةٍ هبطت على أهلِ الكوكب ، و صوت المؤذن العذب أوحى إليك و كأنك في الجنة تنعمُ بنعيمها الأبديّ عقب اجتيازُك ذلك الاختبار ، و ما هو إلا الحياة الدُنيا .
بعدما يُقارب الساعة .. كان الظلام قد انقشع و لكن ظلّت الغيوم تغزو صفحةِ السماء و احتبست قُرص الشمس بداخلها ، فما بُعِث منها سِوى إضاءة باهتة كانت تكفي بالكاد لتقشع ظلام الليل ، كانت الممُرضة الشابة تتفحص ذلك التقرير الطبي فوق اللوح المعدني ، ثم أسندتهُ على طرفِ الفراش ، دنت من جسدهِ لتتأكد من الأجهزة الطبية ، و شرعت تقوم بضبط بعضها ، سلطت نظراتها على المحلول الطبي لتجدهُ قد شارف على الانتهاء ، زمّت شفتيها معًا قبل تنحني بجِذعها عليه متنزعة طرفهِ من " الكانيولا" ، تحركت لتُحضر آخرًا ، ثم دسته بها و علقتهُ  ، تأكدت أن المحلول يتصل بجسدهِ مُغذيًا أوردتهِ ، تغضن جبينها و هي تضبط تلك البكرة المتحكمة بسرعة المحلول ، و ما ان انتهت حتى تحركت منتوية الخروج من الغرفة و لم تنتبه هي إلى حركة جفنيهِ المتتابعة و كأنهُ يرمش بهما ، أو همسه المُتقطع باسم احداهُن ، بدا و كأنهُ يُجابه كابوسًا لم يكن ليترك عقلهُ الباطن سِوى بأسوء حالاتهِ ، تسارعت دقّاتهِ و بدا ذلك من صوتها الصادح عن جِهاز النبضات ، تلاحقت أنفاسهِ حتى  نهج صدرهُ علوًا و هبوطًا ، تسمّرت الممرضة بمحلِّها و التفتت لتخطوَ نحوهُ ، ارتفع حاجبيها و قد تجلى القلق بوضوح على ملامحها و شَحِب وجهها ، انحنت قليلًا عليهِ و كأنها تتفحصهُ عن كثبٍ ، كادت أن تتحرك مبتعدة منتوية مُناداة الطبيب المُختص بحالتهِ ، و لكنهُ استوقفها و هو يقبض بعنفٍ على معصمها و اجتذبها مديرًا جسدها إليهِ ، دبّت ارتعاشةً ملحوظة بجسدها و قد تلاحقت أنفاسها من المُفاجأة ، ازدردت ريقها و قد أصابها الهلع ، و ماهي إلا ثوانٍ و كان يفتح جفنيهِ لتتبين نظراتهِ القاتمة من خلفهما ، نظراتٍ مُتأججة من عينين أقل ما يُقال عنهما أنهما قدحا شُواظًا ، و كأنهُ لم يكن منذ سُويعات يواجه موتًا محتمًا ، انتفض جسدها و شهقت بفزعٍ اثر صوتهِ الجهوري و هو يهدر:
- انتي ميـــن ؟ فين مراتي ؟
...................................................................................
..................................
............................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن