"الفصل التاسع و العشرون"
" اترُكي شباك الحُـب مواربًا.. عساهُ يهتدي لقلبكِ"
كانت الشمس تبعث خيوطًا برتقالية ناعمة اخترقت الحاجز الزجاجيّ بغرفة المعيشة الواسعة فـ أضفت ضوءً ربانيّا مريح للنفس، كانت تغلق الأضواء لتستمتع فقط بذلك الضوء الفريد في ذلك التوقيت المُبكّر، ناسبها كثيرًا ذلك الثوب الخوخيّ اللون الذي يصل لقدميها، و الذي يضيق قليلًا عند الخصر و ينسدل للأسفل، بينما من الأعلى ذو فتحة صدر دائرية كشفت عن طول عنقها البضّ و لم تبرز مفاتنها، و أضفت إليه الشال الخاص به من ذات اللون ليمنحها بعض الدفء، كانت ترص بعض الأطباق على الطاولة حينما أتاها صوته الذي أفزعها من خلفها:
- صحيتي امتى؟
انتفضت و هي تلتفت نحوه فكادت تُسقط الطبق لولا أنه احتضن كفها فمنع ذلك و هو يقول محذرًا بصوته الأجشّ:
- خدى بالك
تلامس كفاهُما فتعلقت أنظارها بهِ لثوانٍ قبل أن تسحب الصحن من بين أصابعه و هي لتضعه على الطاولة و هي تغمغم متذمرة:
- خضيتني
فتغضن جبينه و هو يمرر أنظاره على الطاولة متسائلًا باستنكار:
- بتعملي إيه؟
غضنت جبينها و هي تلتفت نحوه مفسرة بتبرم:
- هفطر..إيه؟ ممنوع؟
هل كان دومًا بهذه الوسامة؟ أم أنها فقط كانت تحجب عينيها عن رؤيته، أطبقت جفنيها بينما عطره الرجوليّ يتسلل لأنفها فيُنعش حاسة الشمّ لديها، عادت تفتح عينيها فتفاجأت بعينيه تقتنصاها و هو يقف على مقربة منها لتلك الدرجة، فاحت رائحة سائل الاستحمام المنعش منها بينما بضع قطرات الماء ظلّت عالقة بعنقها و خصلاتها المبتلة تجمعها على شكل كعكة أسدلت بضع خصلاتٍ رقيقة منها على جانبيّ عنقها المكشوف، ازدرد ريقه و هو يمرر نظراته على طول عنقها بينما هي التفتت غير منتبهة لهُ لتنظر نحو الصحون محاولة تذكر ما تشعر أنها تناسته، و لكنها التفتت على حين غرة حين شعرت بأنفاسه تلفح عنقها، فوجدت المسافة بينهما تكاد تكون منعدمة، انحصرت بينهُ و بين الطاولة من خلفها فلم تتمكن من التراجع، سرت قشعريرة أرجفت جسدها و شفتيها و هي تقول بينما أنفه تكاد تلامس أنفها:
- في.. إيـ..ـه؟
تفاجأت به يتلمس وجنتها فكادت تدفعهُ بشراسة منتوية التصدي لهُ، و لكن ضاعت كل خيالاتها هباءً حينما رفع إصبعهُ أمام عينيها و هو يبتعد قليلًا متشدقًا بسخرية:
- في.. رمش على خدك!
و ابتعد تمامًا و هو يلعن انصياعهِ خلفها، بينما أنفاسها تتهدج و هي تطبق جفنيها، ثم رمشت عدة مرات محاولة السيطرة على حالها، التفتت نحوه بينما كان يلتقط سلسلة مفاتيحه و هاتفه، و علبة أخرى مغلفة لم تتدقق بماهيّتها، ثم عاد إليها و هو يردد بحزم مشيرًا للعلبة:
- امسكي
تغضن جبينها و هي تخفض نظراتها مغمغمة بتهدج:
- إيه ده؟
و ارتفعت أنظارها المتعجبة نحوه، فأشار إليه دون تعقيب، ظلّت أنظارها معلقة به لتحاول استكشاف ماهيّته حتى انفرجت شفتاها غير مصدقة:
- موبايل؟
فتح "يامن" العلبة و تركها بجوارها على الطاولة بينما يسحب منها الهاتف، و أسلمهُ لها و هو يقول بنبرة ذات مغزى:
- أكتر الوقت مش هكون معاكي.. سجلت رقمي عليه، خليه معاكي عشان لو احتاجتيني
فغمغمت ساخرة و هي تعقد ساعديها أمام صدرها متعنّدة:
- لأ إن شاء الله مش هيحصل
أشار بعينيه للهاتف و هو يقول بحسمٍ:
- امسكي يا بنت حسين
تشنجت نوعًا ما و هي تقول بضجر:
- تاني؟
تأفف و هو يقول محنيًا نظراته المحتدة:
- اخلصي معنديش اليوم بطوله
فـ حل ساعديها لتتخصر بينما تقول متبرمة:
- لأ مرسي، مش عايزة
و كادت تمر من جواره ، فـ سحب مرفقها برفق نوعًا ما و هو يقرب جسدها إليه غارسًا نظراته الحازمة بين عينيها، أثناء قولهِ الجاد:
- متعودتش أكرر كلامي مرتين
و فتح كفها ليضعه بها، فكادت ترفضه مجددًا و هي تحاول سحب كفها أثناء قولها المستنكر:
- أنا مش محتاجة منك حاجة
شدد من قبضته على مرفقها و هو يرفع نظراته الحاسمة إليها مجددًا بينما يقول بصوت محتد متعمدًا الضغط على أحرف كلماته:
- اسمعي كلامي و بلاش تعانديني
و مرر نظراته بين عينيها الضائقتين و هو يقول بلهجة ذات مغزى:
- ده أفضل ليكي
زفرت حانقة و هي تحنى بصرها عنه زامّة شفتيها، فترك الهاتف بقبضتها، امتثلت له و أخذت تتفحصه بنظراتها الحانقة، ثم ارتفعت أنظارها إليه متمتمة بحذر:
- عايزة أكلم ماما!
أتاها صوته المحتد بينما يبتعد قليلًا منتويًا المغادرة:
- كلميها
تهللت أساريرها قليلًا، فقالت و قد انشرح صدرها:
- طب مش هتفطر؟
ظلّ جبينه مجعدًا و هنو يتوقف محله، ثم التفت ليرمقها بنظرات مبهمة، فأشارت للطاولة و هي تقول مقوسة شفتيها بمناغشة عفوية:
- بس أنا مش بعرف أطبخ.. هو مجرد بطاطس قليته، و كمان مش هتلاقيه حلو!
و شابت السخرية نبرتها و هي تشير لإبريق الشاي قائلة:
- ممكن تشرب شاي بس لو عايز!
تحرك ليخطو نحو الطاولة و هو يسحب مقعدًا له، ثم خلع سترته ليتركها على ظهره و اعتلى كرسيه و هو يقول باقتضابٍ:
- مبحبش الشاي
ارتفع حاجبيها بحركة شبه متعجبة و هي تحسب مقعدًا لها و جلست أعلاها و هي تقول باستغراب:
- ايه ده هو انت في حاجات مش بتحبها!
نظر نحوها و هو يقول ساخرًا بينما يسحب قطعة من الصحن:
- أكتر إنسانة فضولية شوفتها!
و أشار بقطعة البطاطس المقليّة في يده بينما يقول:
- خلينا نشوف أكلك اللي مش مقتنعة بيه!
.....................................................................
تلك المرة الألف تقريبًا منذ أن غادر زوج ابنتها تحاول الاتصال به أو الوصول إليه، و لكنهُ كان يتجاهل أي مكالمة صدرت منها، تهدل كتفيها بيأس و هي تدلك جبينها و قد أدمعت عينيها، تنبهت إلى جلوس ابنتها مجاورة لها و هي تسحب جهاز التحكم لتشعل التلفاز غير مبالية بها، و كأنها سراب لا وجود له، فرددت "حبيبة" مغضنة جبينها:
- انتي بتعملي إيه؟
أجابتها "ولاء" بينما تتناول بضع حبّات الذرة "الفشار" الذي صنعته بنفسها:
- هتفرج.. في مسلسل جديد هييجي النهاردة و هتابعه!
انحلت العقدة ما بين حاجبيها ليرتفعا و هي تتأمل ابنتها التي بدت لها شخصًا آخر تمامًا بينما تقول بعدم استيعاب:
- انتي.. انتي ازاي باردة كده؟
تأففت "ولاء" و هي تترك الصحن جانبًا ملتفتة نحوها بينما تقول مستنكرة:
- عايزاني أعمل إيه يعني؟ أعد أعيط و أولول! أنا زهقت من الوضع المقرف ده!
فـ أشهرت" حبيبة" بهاتفها بينما تقول بسخط و قد تهوجت بشرتها:
- انتي مبتحسيش..ده أبوكي مش عارفة أوصل له و انتي..
قاطعتها "ولاء" و هي ترفع كتفيها ببرود تام:
- و الله انتي اللي عملتي كده في نفسك!.. مش ذنبي
هزت "حبيبة" رأسها استنكارًا بينما تحدق بملامح ابنتها ثم سألتها متشككة:
- انتي تعرفي عنه حاجة؟ مستحيل تكوني باردة كده و انتي مش مطمنة عليه
زفرت "ولاء" بنفاذ صبر بينما تشير لساقها:
- باردة.. باردة.. باردة! انتي أصلًا حاسة بيا و باللي أنا فيه؟ مش شايفة حالتي؟
رقّت "حبيبة" قليلًا و هي تتلمس كفها بتربية محتوية بينما تقول بتنهيدة مطولة:
- يا حبيبتي اصبري بس و انتي ترجعي زي الأول و أحسن.. اصبري، الدكتور قال إن الحكاية هتطول شوية، لكن احمدي ربنا هترجع يا ولاء!
نهضت "ولاء" متشنجة من جوارها قائلة بالنفي القاطع:
- مفيش حاجة بترجع زي الأول يا ماما
و سحبت جهاز التحكم لتغلق الشاشة بعنف و هي تقول بعصبية ساخطة:
- و أدي التلفزيون اللي نكدتي عليا عشان فتحته
و تركتها تتابعها بنظراتٍ مشدوهة بينما تغمغم بسخط مسموع طوال سيرها المتعرج:
- حاجة تزهق، لا مع بابا مرتاحين و لا من غيره مرتاحين، أنا تعبت، أوف!
دلفت لحجرتها موصدة الباب خلفها، و راحت تجلس على طرف فراشها، لم يكن لديه الكثير من الصور التي تجعلها تحظى بتأمل ملامحه في كل حالاتهِ، و لكنها ارتضت ببضع صورهِ و فقط، مررت أناملها على الصورة التي بيدها، و كأنها تتلمس وجهه فشعرت و كأن النيران تندلع في صدرها و هي تتذكر ذلك المشهد المتقارب بينهما، صرّت على أسنانها و توهج لون بشرتها و هي تقول ببغض غريب:
- اشمعنى انتي؟ اشمعني انتي بقى عندك كل ده!
و انحدرت نظراتها نحو الهاتف مجددًا و هي تقول بنبرة ناقمة:
- مستحيل يكون ليّا!.. عارفة، لكن لو مش هيكون ليا، مش هيكون ليكي!
بهتت قليلًا حين انبثقت الشاشة باتصال هاتفيّ فأخفت صورة ذلك الوسيم المتجبّر، و قد شعرت و كأن المتصِل قد كشف أمرها، ازدردت ريقها مسيطرة على ارتباكها الغير مبرر، ثم راحت تجيب على اتصالهِ:
- ألو.. أيوة يا حبيبي، لا متعرفش حاجة، انت متأكد إنك كويس يا بابا؟..خد بالك من نفسك، متقلقش!
.................................................................
كان الجو مشتعلًا ما بين مناقشتهما التي احتدت فجأة، يكاد يجزم أنهما لا تمضي عشر دقائق بينهما بهدوء، بينما كانت تضع قدحها بحدة على الطاولة و هي ترغي و تزبد:
- تاني هتقولي غبية؟ هو انت قاصد تستفزني!.. مش عشان أنا وافقتك امبارح و قولت عن نفسي غبية ده يسمح لك انك تقولي كده كل شوية! ده انت بتقول غبية أكتر من بنت حسين! أنا مش فاهمة يعني بستفيد إيـه لما تسـ...
فهمّ بالنهوض و هو يزجرها ساخطًا و قد ضجر من ذلك الجدال الذي بني على الكثير بينهما:
- لما تعدي تدوريلي على أسباب تبرري بيها لمرات خالك يبقى مش بس غبية، ده انتي متخلفة!
أشارت إليه بإصبعها لتستوقفهُ مغمغمة باحتدام:
- أنا مخلصتش كلامي
فاستقام ساحبًا هاتفه و متعلقاته و هو يقول مستهجنًا:
- أنا لو سمعت كلمة زيادة منك هصور قتيل النهاردة، حاسبي!
و تركها تكاد تنفجر من شدة غيظها ساحبًا سترته معه، حتى صار خلفها تقريبًا و هو يمرر أنامله بين خصلاته، فالتفتت في جلستها لتواجه ظهره قائلة بانزعاج:
- أنا مغلطتش.. و هي كمان مغلطتش، كل الحارة عارفين ده من اليوم اللي شافوك شايلني فيه على السلم، ولاء قالتي كده! يعني الحارة كلها كانت بتتكلم عليا، و أكيد الكلام وصل لمرات خالي، و بعدين مش تراعي انك قتلت ابنها!.. الكلام اللي قالته كان من حرقتها عليه
نيرانًا.. فقط نيرانًا تتغذي على خلاياه رويدًا رويدًا بكلماتها التي تجعل الجمرات تسير في أوردتهِ المضطرمة دونًا عن الدماء، لم يلتفت نحوها و هو يتابع خطواته المتشنجة نحو الباب، فنهضت عن مقعدها لتتبعه بينما تقول بضيق جليّ محاولة تبرير موقفها:
- انت ليه دايمًا شايفني الغلطانة مع إن كلامي منطقي؟
و لم يتوقف أيضًا، فراحت تقف أمامه محاولة أن تسد عليه الطريق و هي تقول باحتدام و قد توهجت بشرتها البيضاء بحمرة غاضبة فبدت أكثر إغراءً، بينما شفتيها تتحركان لتنطق بـ:
- رد علـ...
انقطع صوتها تمامًا حين استدار و اجتذب رأسها إليهِ، ليطبع بشفاههِ قبلة على أطراف شفتيها، فتيبّس جسدها محله، و جحظت عيونها، حاد بصرها إليه حالما ابتعد، و غمغمت بصوتٍ متقطع غير مستوعب ما حدث توًّا:
- انت عملت إيه؟
فكان يقول متشدقًا بتهكم لا يعبر عن دواخله مطلقًا:
- كان لازم أصدمك يمكن تعرفي تفكري بعقل شوية بعد كده!
و تركها ليمضي مارًا من جوارها بينما يتابع حديثه الساخر الذي يحمل في طيّاتهِ تهديدًا بإعادة الكرة:
- و تبطلي رغي شوية!.. لأني بصدع بسرعة
و حلما فتح الباب التفت ليتأملها فوجدها كما هي.. لا تنبس ببنت شفة بينما ملامحها تعبر عن هياجها و قد بدت و كأنها ستنفث نيرانًا، فـ ارتفع ثغره ببسمة جانبية ساخرة ، و انصرف صافقًا الباب من خلفهِ، و هي گالبركان الثائر تكاد تنفجر في أي لحظة، اشتدت من ضغطها على أسنانها المطبقة و هي تضرب الأرض بقدمها بعصبية لاعنة حالها:
- غبية.. غبية، ازاي تسيبيه يعمل كده
و تلمست موضع قبلتهِ، فشعرت و كأن نيرانها تتأجج أكثر و أكثر، راحت أنظارها تتجه نحو الباب و هي تشعر بدمائها تغلى في أوردتها، و لم تملك إلا أن ضربت الأرض مجددًا بقدمها و هي تزمجر غاضبة فاصطدمت قدمها بإحدى التحف، فتأوهت متألمة و هي تسحبها إليها قليلًا، ثم قالت باستهجان:
- لو ده اللي بتفكر فيه يا يامن، فمش هتطوله أبدًا!
..........................................................................
غيّر وجهته من مصف السيارات لـ "فارس" حالما رآه أمامه، فـ تغضن جبينه و هو يسأله بصلابة:
- إيه اللي جابك هنا؟
تمتم "فارس" بينما يتجنب النظر لعينيه بتوتر:
- في حاجة حصلت و لازم تعرفها!
تقلصت المسافة ما بين حاجبيه أكثر إثر قوله:
- حاجة إيه دي؟
ازدرد "فارس" ريقه بينما يرفع عينيه لمواجهته، ثم ألقى حديثه في وجهه دفعة واحدة و هو يلفظ كلماته واحدة تلو الأخرى:
- الواد إيّاه.. هرب!
.........................................................................
انقضّ على تلابيبهُ ليقرب وجهه منه بينما يجأر بـ شراسة:
- يعني إيـه فك الحبل و هرب؟ ليــه؟ بهايم؟
ازدرد الحارس ريقه م هو يحاول تبرير موقفه بارتباك متفاقِم:
- و الله يا بيه احنا احنا مكناش سايبينه، احنا سيبنا معاه "معاذ" و خرجنا ناكل، و لما رحعنا ملاقيناهوش!
فصل "فارس" بينهما بصعوبة و هو يزيح كفيه عنه، ثم وقف حائلًا بينهما و هو يقول بنبرة جادة:
- اهدى يا يامن بس شوية
و أشار بكفه للحارس و هو يقول بلهجة آمرة:
- امشي انت دلوقتي
تفاقم تشنجه و هو يحاول دفعه بعنف عن طريقه بينما يهدر محتدمًا:
- مين اللي يمشي؟ هو مين ده اللي يمشي، ابعد عن طريقي!
تشدد كفهُ على كتفه و هو يحاول الحفاظ على اتزانه أمام دفعات الأخير لهُ بينما يقول بلهجة صادقة:
- طريقي هو طريقك يا يامن
انحرفت نظرات "يامن" نحوه فـ طمأنه بنظرة من عينيه بينما يقول بلهجة جادة متعمدًا الضغط على أحرف كلماته:
- و حق مراتك هترجعه!..تمام
و غمغم مستأنفًا:
- الواد ده شكل حد زاقه عليك، و شكله مسنود من فوق أوي! ، و الواد معاذ ده طالما اختفى من بعدها يبقى معاه! .. خد بالك
أشار "فارس" خلسة بإصبعيه للحارس من خلفه فامتثل له ليفر من أمامهما و كأنه يفر من عرين، مرر "يامن" نظراته المتوهجة بين عينيه فتمكن من إدراك ما يحاول ابن عمه فعله، فـ دفعهُ عن طريقه بعنفٍ بينما يردد بتشنج واضح:
- حق مراتي أنا هجيبه بنفسي.. مش محتاج مساعدة من واحد زيّك!
فـ احتج "فارس" مما يلقيه دومًا على عاتقه:
- طب و أنا ذنبي إيه؟
حذره "يامن" بسبابته بينما يقول مكشرًا عن أنيابه:
- أنا مراتي سيبتها معاك أمانة، و انت عملت إيــه؟ هي دي الأمانة اللي سلمتهالك! مفيش لسان مبيتكلمش عليها!
و تقلص ما بين حاجبيه و هو يقول هادرًا باستهجان ساخط:
- و لو متت؟ و لو كنت متت كنت هتعمل إيه؟ كنت هترميها ورا القبضان!
صر على أسنانه ليجيبه من بين أسنانه المطبقة:
- أنا مش فاهم مالك يا يامن.. مش عارف هامك سمعتها أوي كده ليه؟ مش فاهم هي نفسها هاماك كده ليه؟ انت بتعمل إيه بالظبط؟
دفعهُ من كتفه بعنفٍ بيّن ليزيح جسده بالكامل عن طريقه بينما يردد بخشونة جافّة:
- متشغلش بالك باللي بعمله، خليك بس مع أبوك و ابقى افتكر تزوره في سجنه إن شاء الله
و مضى منصرفًا بينما تيبس جسد "فارس" بمحله و هو ينظر نحوه بعدم فهم، ثم تبعه بخطوات حثيثة متسائلًا باضطراب اختلط مع غضبه المكبوت:
- يعني إيه؟ إوعى يكون اللي في دماغي!
فـ أجاب بينما يسير نحو سيارته ببرود:
- محاكمته بكرة.. و أنا متعودتش أخسر قدامه!
و استقل سيارته منصرفًا بها فخلّف سحابة من الأتربة تاركًا "فارس" خلفه مبهوتًا
..........................................................................
تقضم أظافرها بشراهة و كأنها تتغذى فقط عليها، ارتفعت أنظارها المرتبكة نحو الجالسة أمامها، فشرعت تغمغم بخفوت متوتر:
- هو.. هو مقالش هييجي امتى؟ صدقيني الموضوع مستعجل
عبست السكرتيرة في وجهها معربة عن ضيقها من تكرار نفس السؤال:
- يا فندم قولت لحضرتك معرفش.. كفاية إنى سمحت لك تفضلي لهنا لغاية ما ييجى بنفسه، مع العلم إن مفيش ميعاد بينكم عشان أسمح لك تقابليه!
كانت ضجرت منها بالفعل.. و للغاية، و من إصرارها على مقابلة "يامن الصياد" دون موعد مسبق، و لكنها بعدما سئمت تركتها هنا، خاصة حينما أخبرتها أن الموضوع خاص بعائلته، فقررت آسفة أن تسمح لها بالبقاء.
......................................................................
كان يعاونهُ على السير بينما أفراد الحراسة ينقلون حقائب أغراضه للأسفل، استند "عمر" عليه بثقل جسده و هو يسير متعرجًا برفقته، فلاحظ صمته و وجومه البادي، و ذلك القنوط الذي يلوح في عينيه حالما ينظر إليه، فـ أحنى نظراته المتضايقة و هو يهمس بصوت شبه متحشرج:
- متحملش نفسك الذنب، عارف إنه مكانش هيسمع لك!
لم يكن قد لأفصح له عن ذلك، و لكن "عمر" ليس بالغباء الذي لا يجعله يتفهم الأمر من ملامحه، واصل "فارس" معاونته على المضى قدمًا بينما يهتف بنتهيدة مطولة:
- متقلقش يا عمر، هحاول معاه تاني و تالت و عاشر، مش هسمح لده إنه يحصل
- سيبني يا فارس!.. سيبني، أنا تعبت من الأرض دي، و حاسس إني خلاص ، مبقاش ليا مكان فيها، سيببني أسافر و أشوف ناس جديدة بدل خنقة أمي و تقلبات أخويا، سيبني أعيش يا فارس!
توقف به "فارس" أمام المصعد و هو يحرر أسر ذلك الزفير الحارق لصدره، ثم نقر زر إستدعائهِ و هو يهمس ناظرًا له فقط من زاوية عينه:
-كان نفس إحساسي يا عمر، كان نفس إحساسي و أنا أصغر منك حتى، فكرت إني هلاقي اللي بحلم بيه و هرتاح، لكن صدقني يا عمر، هتتعب أكتر!.. مفيش راحة في الغربة
فـ كان صوته قانطًا في أعماقه بينما احتفظ بالجدية في ظاهره:
- أنا غربتي في بلدي يا فارس، أنا عمري ما لاقيت نفسي هنا!
و نظر نحوه مشيرًا له بعينيه محاولًا التفكّه:
- و بعدين انت مثلي الأعلى.. و أهو بقيت مهندس قد الدنيا، و أسست شركتك مع صاحبك في أمريكا، سيبني بقى أعيش زيك!
تهدل كتفي "فارس" إحباطًا، و لم يجد ما يرد به ليشرح معاناتهِ الداخليّة، فقط منحه نظرة مبهمة، حتى انفتح باب المصعد، فخطى به نحو الداخل، ليُقلهم للأسفل.
.............................................................
بالرغم من محاولاتها الجمّة للتماسك و التظاهر باللامُبالاة، إلا أنها و بحق كانت تشعر و كأن ثمرة الرعب التي زرعها في قلبها قد نضجت ثمارها الخبيثة بهِ، انعقد ساعديها أمام صدرها و هي تحدق به بتبرم محاولة تجاوز ارتجافة جسدها بينما تقول بتماسك ظاهريّ:
- جاي هنا ليه يا باشا؟ مكفاكش اللي عملته فيا قدام رجالة الحارة! جاي تهييني تاني؟
خرج صوت "يامن" مستنكرًا و هو يمط شفتيه بينما يدس كفيه بجيبيه:
- تؤ.. تؤ، حاشا لله يا ست ميرفت!
صرّت على أسنانها بنفاذ صبر:
- جاي ليه يا باشا؟
ها هو يُسقط قناع البرود عنه لتتجلى لعينيها نظرات الشراسة البادية في عينيه، و تلك القسوة البادية على صفحة وجهه حينما كان يقول بلهجة مشتدة و نظراته الملتهبة مسلطة عليها:
- جاي أقولك إنك غلطتي لما فكرتي تعملي عملتك مع مراتي!
أخرج إحدى كفيه ليستند به على الجدار المتهالك و بجوار حافة الباب و رأسها تحديدًا ليمسل عليها قليلًا بينما يقول بشراسة متفاقمة:
- انتي متعرفينيش يا.. يا ست ميرفت، و الأحسن لك مكونتيش تعرفيني طول حياتك إللى مفاضلش فيها كتير إن شاء الله لأنك للأسف هتموتي بحسرتك على ابنك!
هنا تركت لجام الفجع ليطفو بتعبيراتهِ المبهوتة على صفحة وجهها فأزالت حدتها الظاهرية تمامًا، وجهها قد شحب لونه، و شفتيها ارتعشتا، بينما أذنيها تطنان إثر دوي نبضاتها فيهما، انفرجت شفتها السفلي للأسفل إثر تدلى فكها من تأثير كلماته عليها، و بصعوبة بعد مرور عِدة دقائق انتشى فيها من رؤية تلك التعبيرات على صفحة وجهها_و خاصة عقب كلمات زوجته "الغبيّة"_ فتيقن من وصولها رسالتهِ التهديديّة الصريحة، تمكنت أخيرًا من تجميع بضع أحرف بلا مأوى فكونتهم بتلعثم:
- قـ..صدك.. إيـ..ـه؟
- ماما!
تعالى صوت الصغيرة الخائفة من خلفها و هي توفض نحوها بركضها الطفوليّ خوفًا من ذلك المهيب و قد خشت تواجده، فـ احتضنت ساقيّ والدتها و هي تنظر نحوه بنظراتٍ زائغة، و كأنها بالرغم من هلعِها البادي إلا أنها تحاول حماية والدتها، انخفضت نظراته المتوهجة نحوها قليلًا فبدا لهُ الذعر جليًا على صفحة وجهها، بينما "ميرفت" تحاول جاهدة إعادتها للخلف خوفًا من بطشهِ، بينما تقول بهلع:
- ابني.. ابني مالوش ذنب في حاجة يا بيه، هعمـ..هعمل لك أي حاجة بس ترجعهولي!
كانت نظراته مسلطة نحو صغيرتها فجعلت قلبها يهوى بين قدميها، و هي تضمها أكثر إليها مخفية وجهها في ساقيها، اصطكت أسنانها ببعضها البعض حين ارتفعت أنظاره المتقدة إليها، و كلماتهِ القاسية الشبه مُبطنة تتوافد على لسانهِ فتكوي قلبها الملتاع أكثر و أكثر:
- الحي أبقى من الميت يا.. يا أم خالد!
و انحنى ليفحّ في أذنيها بلهجة خفيضة شيطانية مضيفًا بضع كلمات كانت كافية لاقتلاع روحها، و حالما ابتعد و قد افترّت شفتيه القاسيتين عن ابتسامة صقيعيّة منتشية، و ألقى نظرة أخيرة على صغيرتها المدفونة فيها، ثم استدار منصرفًا بعدما فجّر قنبلته، و ما هي إلا ثوانٍ كانت بها شاخصة تكاد لا تستوعب ما قيل لها، و حالما شرعت تروس ذهنها بالعمل الدؤوب، إنهار جسدها متراخيًا على الأرضية و هي تصرخ بالتياع حقيقي:
- ابني... لــأ!
...............................................................
متجمدًا.. مبهوتًا.. أبصارهِ شاخصة و كأنهُ مقبل على موت محتم، كانت تلك حالتهِ عقب أن رآه يدلف عليه في مواجهة غير متوقعة إطلاقًا بالنسبة إليه، لم ينتظر "يامن" خروجه من شدوههِ ذاك، فراح يجلس بأريحية فارضًا سيطرته و هو ينتصب بكتفيه فبدا أكثر شموخًا، بينما يرفع ساقًا فوق الأخرى، تسلطت نظراته الشرسة عليه، تتناقض تلك النيران المندلعة بين عينيه مع نبرتهِ الساخرة و هو يدس سيجارتهِ التي أشعلها توًا بين شفتيه بينما يقول و السيجارة متدلية من جانب فمه:
- ما.. ما تقعد يا أستاذ..
و كأنهُ لم يكن على علم مسبق باسمه، فتعمد أن يخفض نظراتهِ نحو المجسم الخشبيّ الصغير الذي حُفر اسمه عليه، سحب نفسًا عميقًا من سيجارتهِ ثم رفع أنظاره إليه و هو يسحبها من بين شفتيه بإصبعيّ السبابة و الوسطى، و أراح ساعده على سطح المكتب، فخرج صوتهُ تزامنًا مع لفظهِ لدخان سيجارته:
- يا أستاذ نجيب.. اقعد اقعد متتكسفش
ظل متجمدًا بمحله لا يقوى على الحراك بينما يتابعه بالنظرات المشدوهة من بين عينيه المتوسعتين، فـ ضرب "يامن" براحتهِ على سطح المكتب و هو يهدر تاركًا سخطهِ يطفو على السطح:
- ما تقعــــد!
انتفض جسد الأخير و قد تنبهت خلاياه تمامًا فغمغم بخنوع و هو يجلس محاولًا الحفاظ على ارتعاشة جسده إثر تلك المفاجأة الغير متوقعة إطلاقًا، راح يعبث في الأوراق و المستندات أمامه و هو يتظاهر بترحابهِ و قد شعر باهتزازة أحبالهِ الصوتية:
- أهـ..أهلًا و سهـ..ـلًا يا فندم، حـ..مد الله على السلامـ..ـة، نـ..ورت الجـ..
اقتطع حديثه المطول بقولهِ الصارم الشبه خفيض:
- شـشـش!
ازدرد الأخير ريقه بارتباك مضاعف بل بهلع و هو يبتلع كلماته، بينما كان "يامن" يقول ببرود ملبك للأبدان و هو ينظر نحو سيجارتهِ التي بين إصبعيه:
- الواد فيـن؟
ارتعشت شِفاه حينما أقدم على القول:
- حضرتك تقصد مين يا فندم؟
نفسًا آخر مطولًا سحبه من سيجارته و هو يرفع أنظاره إليه، و زفره أثناء قولهِ المقتضب:
- فهـد!
شعر و كأن هنالك شوكة عالقة بحلقهِ، فشحب لون وجهه أكثر و هو يحني أنظاره عنه، محاولًا ابتلاع لعابه، ثم امتدت أنامله ليغلق شاشة حاسوبه و هو يقول محاولًا إزاحة التحشرج عن صوته:
- فهـد.. خد.. خد إجازة يا فندم، أقدر أساعدك لو محتاج حاجة!
انفلتت آخر ذرات إتزانهِ و ثباته الإنفعاليّ من تظاهر الرجل بالغباء، فتبدلت تمامًا تعبيراته، من الارتخاء الظاهريّ للتشنج الواضح الذي امتزج بالشراسة المنفعلة، أخفض ساقه و ينهض مستقيمًا في وقفته، ثم مال بجذعه عليه و هو يضرب براحتهِ بعنفٍ أشد سطح المكتب و هو يجأر بصوته:
- إنت هتستهبل، الـ****** ده فيـن؟
ازدادت ارتعاشة جسد الكهل و قد شعر بإنخفاض مُعدل ضغط دمه، حاول جاهدًا الحفاظ على توزان صوته و هو يقول:
- يا.. يا فندم صدقني، فهد.. فهد خد إجازة من تلات أيام تقريبًا، و محدش عارف مكانه حاليًا!
شدد "يامن" من ضغطهِ على عضلات فكيه و هو ينظر نحوه بعينين متوهجتين، ثم استقام فبدا أكثر هيبة و هو يدور حول المكتب ليدنو منهُ أثناء قوله الهادئ المنافي تمامًا لتعبيراته:
- عظيم، هعمل نفسي مصدقك
يكاد قلبه يخترق أضلعه من شدة خفقاته، ردد العجوز و هو ينحنى قليلًا ليفتح أحد الأدراج باحثًا في الأوراق بأيدٍ مرتعشة للغاية بينما يقول بجزع:
- أقـ..أقدر أوري لحضرتك ورق الأجازة بتاعته لو عايز، ثانية واحدة
كان قد استند بجسدهِ إلى المكتب بجوار كرسيّه تمامًا، بينما التفت العجوز و هو يبحث في عدة أوراق بينما يضبط عويناته على عينيه مدققًا النظر في ما بين يديه، فسحب "يامن" بقبضته المتكورة كومة الأوراق التي بين يديه ليكورها أكثر فتتجعد حتى ألقاها على الأرضية بلا اكتراث، أُجبر الكهل على النظر إليه و دقات قلبه تكاد تصم أذنيه، بينما كان "يامن" يميل بجذعه عليه قليلًا و عيناه الخضراء الشرسة كـ عيون قط متلونة في الظلام تزيد ارتعابهِ أكثر، اصطكت أسنانه ببعضها البعض حين كان "يامن" يقول:
- انت تعرف أنا بعمل إيه في اللي ييجي على اللي يخصني؟
حاول التحدث و التبرير:
- أنـ..ا..آآ..
و بشراسة متفاقمة:
- بوريه جهنم على الأرض تبقى عاملة ازاي!
هز الأخير رأسه عدة مرات نفيًا و هو يقول من بين تهدج أنفاسه:
- و.. و الله يا يامن بيه أنا.. أنا مكنتش ناوي أبدًا إني.. إني أتعرض لحادثتك، لكن.. لكن فهد هو.. هو اللي أقنعني، أقسملك إني مكنتش هعمل كده
ابتسم "يامن" ابتسامة شيطانية برزت من خلفها أنيابهِ الشرسة و هو يرد:
- بس عملت.. و لا إيـه؟
نفى بهستيرية برأسه و هو يقول محاولًا التبرير:
- أنا.. أنا كنت ...
و كأنهُ تحول شخصًا آخر، عادت تعبيراته تتشنج و المسافة ما بين حاجبيه تتقلص و هو يقبض على تلابيبهِ بعنف جلي فألصق ظهره بالقعد المهتز، حتى أنهُ كاد يسقط به بينما الأخير يجأر محتدمًا:
- كنت إيــه؟ كنت إيه انطق؟ كنت إيــــه؟
- أ..أنـ..أنا..
اجتذبهُ "يامن" بعنف مجبرًا إياه على الوقوف على ساقيه الهلاميتين، ثم دفعه بعنفٍ للجدار من خلفه مطيحًا بالمقعد بحركة من قدمه، حشرهُ بينه و بين الحائط و هو يود لو بإمكانه إبراحه ضربًا لتشويه وجهه، و أعرب عن رغبتهِ تلك بينما أنفاسه الهادرة تلفح وجه الأخير:
- قسمًا عظمًا لو مكنتش مكحكح كده لكونت موريك شغلك تمام!.. بس ملحوقة!
و تفاقمت شراسته أكثر و هو يهمس بفحيح مريب:
- الجريدة الـ***** اللي مفكر نفسك وصلتها للسما على حساب كرامة مراتي.. أنا هطربقها فوق دماغك و أوقعهالك سابع أرض!
شعر بالخوف يتسرب في أوردته و قد بدا للعيان أسنانه المصطكة ببعضها البعض من فرط إرتعاده، بينما كان "يامن" يفحّ في أذنه بصوت شيطاني:
- هتجيبلي أصل الوسخ التاني من الألف للياء و تحكيلي على عملتك دي بالحُسنى و لا...
هز رأسه عدة مرات هلعًا و هو يقول مبادرًا:
- لا.. أنا.. أنا هحكيلك على .. على الموضوع كله!
.............................................................................
..........................................
......................................................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...
