"الفصل السادس و الخمسون"

791 19 0
                                    

"الفصل السادس و الخمسون"
و گأنها تحاول أن توقظ وحشهِ الكامن بداخله بتلك الثواني النادرة و قد كانت كلمتها تلك كجمرات انسابت في أوردتهِ، تقبضت ملامحه و انكمشت تلك المساحة ما بين حاجبيهِ تمامًا و هو يهبّ واقفًا على قدميه، تأمل ملامحها طويلًا بنظرات ممتعضة فكانت تبادله نظرات باردة، فنطق مستهجنًا و قد توهج وجهه أكثر و الذي أُصيبت جانب وجهتهِ اليسرى بحرق سطحيّ.. ربما يزول أثره قريبًا:
- دا ردك؟.. أطلقك؟
حادت بأنظارها بعيدًا عنه لتتسلط على والدتها المسجاة بين الحياة و الموت أمامها، ثم قالت هازئة و قد باتت أشبه بالتائهة:
- كنت أغبى واحدة في الدنيا.. كنت واحدة مبتفكرش غير بقلبها
ثم ارتفعت نظراتها نحوه و هي تهمس بصوت خفيض ساخر:
- بس متشكرة.. انت الوحيد اللي علمتني أفكر بعقلي
و انخفضت نظراتها على الفور فنطقت بنفور و قد تقلصت ملامحها:
- اطلع برا.. مش طايقة حتى أبص في وشك بعد اللي عملته!
و ما زاد ذلك سوى من سخطهِ، أطبق على أسنانه بحدة ثم نطق حانقًا من بينهم:
- هطلع.. لكن طلاق مش هحيصل
و نقر بسبابتهِ على جانب رأسها بحدة و هو يحذرها:
- و حطى ده كويس في دماغك
أطبقت جفنيها بفتور حينما كان قد استدار و تهيأ لمغادرة الغرفة، فإذ برئتيهِ تنقبضان، شعر  و كأنهُ غير قادرًا على التنفس، و كلما خطى خطوة كان الظلام الدامس يلتهم ما حولهُ، و لم يكن بهِ أي طاقة للمقاومة، فاستسلم سريعًا لذلك الخدر الذي أصابهُ بالخـور.. و سقط أرضًا، تزامنًا مع فتح "فارس" باب الغرفة، فحملقت عيناه بشدوه و هو يهدر:
- يامــن؟
تنبهت لصوتهِ الهادر فالتفتت لتجد ذلك المشهد، وقفت على قدميها بتلكؤ مصدوم حينما كان "فارس" ينحني نحوهُ بتلهف شديد محاولًا مساعدتهِ:
- إيه اللي حصل لك؟ انت كويـس؟، تعالى أنا هـ..
دفع "يامن" كفهِ المبسوط بالمساعدة و هو يقول بنفور:
- مش عايز مساعدة من حـد
تراجع "فارس" و هو يتأمل ما حلّ بهِ باشفاق، استند "يامن" بكفيه على الجدار، و نجح بعد محاولاتٍ جمّة في الوقوف محاولًا التغلب على ذلك التشوش اللعين، و آلالام جلد ظهرهِ التي تتفاقم بمرور الثواني.. حتى نجح و أخيرًا في الوقوف، فاستند بجبينه للجدار و هو يُطبق على أناملهِ و ما هي إلا ثوانٍ و كان يسقط من جديد فاقدًا آخر ما تبقى من وعيهِ، و قد التقمت الظلمات ما لهُ علاقة بالحياة من حولهِ.
.................................................................
گان ممددًا على بطنهِ تلك المرة و قد كشفت الممرضة الشاش المغلف لظهرهِ بأكملهِ، ذلك المشهد لن تنساهُ ما حييت.. و سيظل عالقًا بذاكرتها كذكريات أخرى ليست أقلّ منه سوءً، مُنذ كتفيه و حتى نهاية ظهرهِ حروق رهيبة غائرة نهمت طبقة جلدهِ و كشفت من خلفها عن طبقات الجلد السفلية المتوارية، تذكرت تلك الندوب و الحروق البازغة السطحيّة و التي لم يعد لها وجود.. إذ التُهمت تلك الطبقة تمامًا ليحل ذلك التشويـه المروّع محله، تلاحقت أنفاسها و هي تراهُ يقبض على كفيه أعلى الوسادة المنخفضة و لم يكن ظاهرًا سوى شطر وجههِ الشبه مشوّه أيضًا، أسنانهِ تنغرس في تلك الوسادة في محاولة منه لكتم صراخهِ الناجم عن تلك الآلام الطاحنة التي لا يحتملها بشر، و من فرط إطباقهِ كانت عروق جبينه بازغة ظاهرة لها.. كانت تقف ملتصقة بأقصى ركن في الغرفة، حتى استمعت إلى صوت "فارس" القريب و هو يُطبق أسنانه غير محتملًا ما يمر بهِ رفيقه:
- شايفة جوزك حصل له إيه؟.. شايفة حصل له إيه عشان كان بيلحق أبوكي و لا اتعميتي؟
رمشت عدة مرات و نظراتها مسلطة عليهِ فتابع مجبرًا لها أن تحيد بنظراتها إليه هـو:
- لسه مصممة إن هو اللي عمل كده؟ لسه مش عايزة تفهمي إنه ملوش يد في حاجة
و كادت نبرتهِ تتعالى و لكنهُ تحكم بها بصعوبة و هو يهمس استنكارًا:
- المفروض يعملك إيه أكتر من كده عشان تصدقيه؟
أحنت بصرها عنه و قد أصابته كلماتها بتشوش شديد، ثم عادت تتابع ما يجرى..
 بينما تلك الممرضـة تغلف بحذر شديد حروقه بدهان ما فشعر بهِ و كأنهُ يفاقم نيرانهِ أكثر، و ما إن لم يعد يحتمل حتى دفع كفها بعيدًا فسقط الأنبوب من كفها و تراجعت تلقائيًا حين استمعت لزئيرهُ:
- كفايــة ، اطلعي برا.. بـــــرا
زاغت نظراتها و هي تنحني لتلتقط الأنبوب، ثم أشارت إليه و هي تحاول التبرير:
- يا فندم لازم أ...
فجأر و هو يضرب بقبضته المتكورة على الفراش:
- سمعتي اللي قولته.. بـــرا
ففرّت على الفور من الغرفة منتوية إبلاغ الطبيب المختص المسؤول عنه، بينما كان "فارس" يدنو منه محاولًا تهدئتهِ و هو يقول بلهجة مترفقة بحالهِ:
- اهدى بس يا يامن.. حاسس بإيـه؟
فأعرب عن شعورهِ الذي لا يُوصف بقولهِ المحتدم:
- نـــار.. نار بتاكل فيا من برا و من جوا و مش قادر أطفيها!
و دفن جبهتهِ في ساعدهِ أعلى الوسادة و هو يصرخ بزئير مزمجر، أطبق "فارس" عينيهِ مستشعرًا ذلك الثقل الذي جثى على صدرهِ عقب أن دقق النظر لظهرهِ المشوه الذي صار أحمر اللون تمامًا، كلما أن يحاول تخيل مدى الوصب الذي يمر بهِ ينتابه شعورًا بالألم الساحق، فقال قبل أن ينسحب:
- ما أنا مش هفضل واقف أتفرج.. أنا هخليهم يجيبوا أي زفتة مهدئة و لا أي حاجة تخفف عنك
و انصرف بارحًا محله عقب أن تقبّضت رئتيهِ بما يكفي، بينما هي تقف منزوية على نفسها لا تقوى حتى على الاقتراب، ظلت ثوانٍ متجمدة بمحلها.. إنها حتى لا تكاد تستوعب ما يحل فوق رأسها واحدًا تلو الآخر، لم تبكِ والدها الفقيد.. لم تدمع عيناها عليهِ، تدرك جيّدًا أن "يامن" لم يقم بذلك، و تعلم حق العلم من المسؤول عنها، شخصان لا ثالث لهما.. إمّا "نائف" الذي كان مقصدهُ واضحًا.. أن ينتقم من إهانتها و استخفافها بهِ عن طريق عائلتها أجمع، و الشخص الآخر لا تريد حتى التفكير بهِ، وقفت مترددة لا تدرك أتخطو نحوه أم لا، و في النهاية حسمت أمرها..
استجمعت شتاتها المبعثر.. أو جزءً ضئيلًا منه لتخطو للأمام، تقدم ساقًا و تؤخر الأخرى، حتى و أخيرًا وقفت أمام فراشه، بيد أنه لا يرها و لم ينتبه لها في خضم ما يعانيهِ، انحرفت نظراتها رغمًا عنها لتشمل ظهرهِ بنظرة متمعنة فانتابتها رغبة في التقيؤ و قد شعرت بمعدتها تضطرب من فرط قسوة المظهر.
 تهاوى جسدها على المقعد القريب و قد تعاطفت معهُ إلى حدٍ كبير، و لكنها ظلّت جامدة خارجيًا بدرجة غريبة  تذكرت تلك الليلة التي أوشكت فيها على الموت إثر المرض المفاجئ الذي جعلها قعيدة في الفراش لأسبوع كامل أو ما يزيد عنهُ، تذكرت كيف كان مترققًا معها على غير العادة، و محاولاتهِ الجمّة للتخفيف من آلامها، و ها هو اليوم يعاني.. و لكنها متبلدة لا تحاول التخفيف عنه بكلمة واحدة، و كأنها تدرك أن كلمتها لن تُسمن و لن تغني من جوع.
 و لكنها لم تنطق.. إذ بكفها يسحب كفهِ الخشن عقب أن تلمستهُ بأناملها فبسطه عقب أن كان مُكورًا و هو يرفع عينيهِ المشبعتين بالشعيرات الدموية البارزة شرعت تتلمس كل إصبع لديه على حدا برفق بالغ، و كأنها في تلك اللحظة بكماء لا تفقه من لغة الحديث شيئًا، لمساتها  لم تكن لتخفف من حدة آلالامهِ الخارجيّة، و لكنها كبلسمًا ملطفًا لقلبهِ المتأجج من الداخل.
 ترك رأسه مجددًا للوسادة مستسلمًا للألم و للمساتها الرقيقة على كفه.. و كأنها تحاول عدّ خطوطهِ، و ما إن انتهت حتى احتوت فراغاتهِ و ملأتها بأناملها ثم أحنت رأسها على ساعد نفس الذراع و استندت بوجنتها عليه و هي تتنهد بحرارة.. عبرتين فقط سالتا على وجنتيها حتى تغلغلت بين شعيرات ذراعهِ الخشن، ثم انطبقت جفونها في حالة ارتخاء عجيبة لم يستوعبها فورًا و ظلّ محدقًا بها.. مرّت دقائق و هي هكذا حتى تيقن من انتظام أنفاسها فاضمحلت تلك المسافة التي بين حاجبيه باستنكار شديد لسرعة انغماسها في سباتها العميق ذلك.. و لكنهُ شعور لذيذ أيضًا أن تركن إليه فتستكين هكذا، يعترف تلك المرة أنهُ فشـل في حل شفرات أفعالها المتناقضة، و فشل للمرة الأولى في فهم ما يدور بخلدها.
 كانت عينهِ تتفحصان ملامحها و تدرسها بتمعن شديد عن ذلك القرب و لم يمنع نفسه من اختطاف تلك القبلة العابرة أعلى خصلاتها، و بصعوبة خلص كفهُ منها حتى يُخلل أنامله بينهما، تقوست شفتيه متألمًا و هو يُطبق على أسنانه مانعًا نفسهِ من التأوّه تخوفًا من استيقاظها فتحرمهُ متعة تلك اللحظات بينما يتحرك ليدنو منها بجسدهِ مقلصًا المسافة، ثم التصقت رأسه برأسها متشمّمًا عبقها و قد ارتخت ملامحه المتشنجة قليلًا  بينما أنامله لا تكفّ عن العبث بخصلاتها، ضايقتهُ تلك الرباط الخاصة بها، فانتزعها برفقٍ و تركها جانبًا حتى يتسنى لهُ التغلغل بأنامله في خصلاتها المنسابة، و لم يدرك حتى كم مضى من الوقت و هو في حالة ارتخاء عجيبة داهمته حتى انطبق جفنيهِ رغمًا عنه عقب وهنٍ طاله و حرمهُ النوم الظالم فرصة التنعم بلحظات إضافيّة تمضى فتُريح تفكيره الشائك و المتداخل، و تُخمد و لو لبضع ثوانٍ لُظى أضلعهِ، بينما أناملهِ لا تكفّ عن الحركة حتى أثناء نومه.
 توقف "فارس" محملقًا بوضعهم على أعتاب الغرفة و قد وقف الطبيب إلى جوارهِ، افترّ ثغره بابتسامة لم تصل لعينيه، ثم لاشاها ليقول للطبيب بلهجة خفيضة:
- خلاص.. معتقدش انه محتاج حاجة، مش المفروض تسيب المسكن لما يفوق أحسن
فقال الطبيب بجديّة:
- مينفعش ضهره يتساب كده يا فارس بيه، لازم نغطيه
زفر "فارس" بقنوط ثم أومأ.. و قبل أن يدلف الطبيب استوقفهُ "فارس" هامسًا:
- أنا مش عايزه يفوق.. اديله المهدئ يا دكتور و لا اي حاجة
أومأ الطبيب برأسهِ متفهمًا و هو ريبت برفق على كتفهِ، ثم دلف و تتبعتهُ الممرضة، في حين ولج "فارس" خارجًا، مرّ أولًا على المقهى الخاص بالمشفى.. ثم مضى نحو غرفة "حبيبة" التي ترابط "ولاء" أمامها.
 وقف من بعيد يراقبها خلسة، فكانت تضمّ ساقيها لركبتيها دافنة رأسها فيهما، و قد وصل إليهِ نحيبها الخافت، تنهد "فارس" بحرارة ثم طفق يدنو منها.. يُقدم ساقًا و يؤخر الأخرى حتى توقف أمامها مباشرة، فمد كفهُ بالكوب البلاستيكيّ الذي يتصاعد منه البخار، ارتفعت عيناها المغرورقتان بالعبرات إليه لتنظر نحوه نظرة متحسرة،  شعر بها تخترق صفحة فؤادهِ فتدميه.
 طرد زفيرًا حارًا من صدره حين عادت تدفن وجهها في ركبتيها و قد تعالى نشيجها و امتزج مع شهقاتها المتتالية المقهورة، ضمّ "فارس" شفتيه بضيق ثم جلس جوارها و هو يترك الأكواب البلاستيكيّة أرضًا، ثم قال برفق محاولًا تهدئتها:
- عارف إنك مصدومة.. و لسه حتى مش مستوعبة إنك خسرتيه
فرفعت نظراتها إليه و هي تعرب عن شعورها بالغ التيه:
- أنا مش فاهمة حاجة! مش عارفة أزعل عليه و لا أزعل منه
و نظرت أمامها بشرود و العبرات لا تجفّ، رفعت كتفيها و هي تقول بتحسّر:
- أنا حاسة إني تايهة أوي، مش مصدقة إني خسرته قبل ما يبرر أي حاجة، مش مصدقة إني خسرته قبل حتى ما ألحق أعيش معاه!
ارتفع جانب ثغرها بابتسامة ساخرة شابهتها المرارة و هي تقلب عينيها ضجرًا:
- أساسًا كل اللي وثقت فيهم خانوا ثقتي.. كل اختياراتي كانت غلط
و أحنت بصرها و هي تغمغم بندمٍ جل على وجهها الحزين:
- يا ريتني اختارت ماما.. مخترتوش هو
تغضن جبينهُ بعدم فهم لما تقول، و نظر نحوها مستفهمًا، فانحرفت نظراتها المكلومة نحوه و هي تردف:
- انت مش عارف أنا عملت إيه فيها.. أنا عيشتها أسوء أيامها، مكتفيتش باللي بابا عمله و وقفت في صفه، أنا كنت غبية أوي معاها في كل حاجة
عضت على شفتها السفلى محاولة كظم انهيارها و هي تلتفت برأسها لتنظر حيث باب الغرفة، و لكنها لم تتمكن.. حيث راحت عبراتها تنزلق على وجهها و خصلاتها المتناثرة بعشوائية عليه و هي تردف من بين بكائها بلهجة ممتزجة بالنشيج الحارق:
- أنا مش عايزة غير تسامحني، أنا عايزة أبوس إيدها و أقولها أنا آسفة.. عايزاها تسمعني يا فارس
و نظرت نحوهُ بتيه و هي تسأله متشككة:
- هي هتسامحني؟.. ممكن تسامحني؟
لاحظ أن انهيارها لم يكن يتعلق بموت والدها فقط.. هي ليست كأي ابنـة فقدت سندها الأوحد، تبيّن إليه أن حبها له سطحيّا للغاية، و حبها لوالدتها تعمّق بمراحل عنهُ..
 لربما لأنها لم تعش معهُ مدة طويلة تكفي لتعلقها بهِ، أو لربما أنها ليست عميقة المشاعر.. تتخلى عمن تحب من أجل آخر، حتى أنها تخلّت عن شقيقتها بسبب حبها السطحيّ_ أو مجرد إعجابها_ لزوجها.. تُسمى أي من تقع نظراتها عليه و تنجذب إليه حبيبًا، إنها شخصية متبلدة الحس قليلًا من الداخل، و ليست رقيقة كشقيقتها.
كان يتأمل ملامحها بنظرة ثاقبة مطولة كاشفًا عن أغوارها، حاد بنظراته عنها و هو يقول بضيق أطبق على صدرهِ مانحًا إياها إجابة جافّة لم تكن تتوقعها:
- معرفش
فتقوست شفتيها بتألم و هي تحنى بصرها عنه، فأردف و هو ينظر نحوها نظرة متهمة:
- إنتى بتجرحي اللي حواليكي من غير ما تحسّي، و بتبيعي شخص عشان شخص تاني
لم تقوَ على رفع نظراتها إليه.. حينما كان يتابع بلهجة قويّة آملًا أن تأخذ بنصيحتهِ:
- خدي بالك يا ولاء.. لأنك إنسانة طايشة و مش عارفة إنتي بتعملي إيه.. لا في نفسك، و لا في اللي حواليكي
و نهض عن محلهِ تاركًا الأكواب البلاستيكيّة بارحًا الردهة بأكملها تتابعهُ نظراتها الشجيّة، حادت بعينيها المكتظة بالدموع عنهُ و قد تشوشت رؤيتها لتتسلط نظراتها الغير واضحة على الأكواب، مستشعرة قسوة كلماتهِ و وقعها على نفسها، ثم دفنت وجهها مجددًا في ركبتيها تاركة العنان لدموعها لتتساقط واحدة تلو الأخرى و كأنهُ فيضانًا.. عسى أن تنجح إحدى عبراتها بأن تنزح و لو مثقال ذرة من لهيب قلبها.
..............................................................
هـو بالأصل مخالفًا لأي قاعدة، و لكنهُ لم يكن يتوقع أن يفعل ذلك في خضـم آلامهِ و عذابه الجسديّ.
نفخ "فارس" بقنوط شديد و قد فرغ صبره من تعنّدهِ الزائد و تصلّب ذهنهِ و هو يتجاهل محاولاته الجمّة لمنعهِ، حينما كان "يامن" يجلس على طرف فراشه و هو يحاول أن يرتدى قميصه ففشل في كل مرة، تأوّه بصوت خفيض من تلك الآلام التي أخذت تتفاقم مجددًا على الرغم من كمّ المسكنات التي تعاطاها حتى يتمكن من الخروج ذلك اليوم تحديدًا.. و على الرغم من ذلك كان يُكمن ألمه خلف قناع الجمود و الثبات الذي يرتديه، تأملهُ "فارس" مطولًا بنظرات آسفة، ثم تقدم منه.. حاول أن يساعده في ارتدائهِ و لكنه زجره دون أن يمنحه نظرة واحدة:
- مش عايز مساعدة من حد
جلس "فارس" جواره و هو يقول متنهدًا بحرارة محاولًا ردعهِ:
- يا ابني حرام عليك اللي بتعمله في نفسك ده!.. انت بشر يا يامن، مش انسان خارق عشان تخرج في حالتك دي
 تمكّن "يامن" أخيرًا من إدخال ذراعه الأيمن بكمّ القميص.. و لم يتبقَ سوى ذراع واحد، كانت حركة ذراعيه وحدهما كافية لإشعال آلامهِ حيثُ يتسبب ذلك بتحريك عظمتيّ لوح الكتف من الخلف، تنهد بانزعاج شديد لعجزه المقيت ذاك و قد شعر في تلك اللحظة أنهُ ضعيف.. ضعيف للغاية كسائر البشر لا يتمكن حتى من تحمّل بضع آلام لا تستحق من وجهة نظرهِ، عاد يحاول أن يُدخل ذراعه الأيسر بحذر و هو يقول بامتعاض:
- فــارس.. أنا مش ناقص، سيبني في حالي
و فجأة داهمهُ ذلك الهاجس.. أيعقل أن يكون ابن عمهِ أخًا لزوجتهِ؟ تلاشت المسافة ما بين حاجبيه و هو يلتفت نحوه لينظر له نظرة مطوّلة مُبهمة، زوجتهِ التي تزوجها رغمًا عن إرادتها للانتقام من والدها "المنفذ"، فـ إذ بهِ ينتقم من والدها "المُخطط"!.. إنه لا يكاد يستوعب تلك الحقيقة التي أُجبر على معايشتها، و للحق أنهُ لم يصدق بعد كلمات "حسين" الغير منطقيّة بالمرة.. و إن كان ما يقول حقيقة، فـ هل زوجتهِ كانت على علاقة محرمة بعمّه؟ أم أنها أيضًا ليست والدتها؟.. إنها دوّامة تبتلع ما حولها بنهم شديد، و هو عالقًا لا يقوى حتى على محاولة حل تلك الأحجية.
حتى تغضن جبين "فارس" من نظراته الغريبة نحوه، فسألهُ متحيرًا:
- مالك؟ بتبص لي كدا ليه؟
حاد "يامن" بنظراته عنه ليقول مفجرًا قنبلتهِ بعد صمت دام دقائق:
- انت عارف إني متأكد من اللي هقوله ده.. لكن كنت بكذب نفسي بكل الطرق
تفاقمت ريبة "فارس".. طالبهُ بتفسيـر بقوله المتشكك و هو يضيق عينيهِ:
- قصدك إيـه؟
تقوست شفتيّ "يامن" و هو يلفظ كلمة واحدة مُشبعة بالكثير من مشاعر المقت و الضغينة:
- كمال
فسألهُ "فارس" و هو يبتلع ريقه:
- ماله؟
نظر "يامن" نحوهُ من طرف عينه ثم نطق بـ:
- هو اللي أجر حسين
و كأن قلبه سيقفز من بين أضلعهِ من فرط دقاته و قد تنبأ بما سـ يقول "يامن"، و على الرغم من ذلك انعقد حاجبيه أكثر و هو يقول متظاهرًا بعدم فهمهِ:
- مش فاهمك.. أجره لإيه
فحاد "يامن" بنظراته عنه و هو يقول بخشونة:
- لأ فاهم كويس، متعملش فيها غشيم
فانفعل "فارس" فجأة و هو يهب واقفًا:
- أنا عارف.. كنت متأكد انه هيعمل كدا و هيقول أبويا!
ارتفع حاجب "يامن" الأيسر استنكارًا فـ أردف "فارس" و هو يزفر حانقًا محاولًا كبت انفعالهِ:
- شوف.. أنا معرفش في إيه بالظبط بينهم، لكن كمال و حسين بينهم تار
و أشاح بكفه و هو يقول موضحًا:
- كمال عايز ينتقم من حسين.. ليه؟ معرفش، و طبعًا حسين هيتهمه عشان تخلص عليه
و مسح على وجهه بعنف و هو يحيد بنظره متأففًا:
- كنت متأكد إنه قالك حاجة قبل ما يموت
و نظر نحوهُ مستهجنًا و هو يتوسط خصره بكفيه:
- اللي مش فاهمه انت ازاي صدقته!.. كمال هيقتل أخوه، انت مستوعب الفكرة بس؟ و هيعمل كدا ليه أصلًا
أشاح "يامن" بنظراته عنه و هو يحكّ صدغهِ الأيمن بإبهامه ثم تحدث بلهجة جافة:
- انت عارف ليه كويس!
صمت "فارس" و قد استشاط غيظًا، أطبق أسنانه و هو يؤنبهِ بنظراته ثم قال:
- أه.. قصدك إن بابا قتل يوسف عشان فلوسه.. عشان جدي كتب كل حاجة باسمه، مش كدا؟
فنهض "يامن" متحاملًا على آلامهِ و قد توهج وجهه.. أقبل نحوه و هو يشير بكفهِ:
- لأ كدا يا فارس.. أبوك قتل أبويا عشان كل حاجة باسمه، و كان متوقع إنه هيورث من بعده و لو جزء من الثروة
و ابتسم مُستخفًا و هو يتابع:
- لكن للأسف.. اتضح إن أبويا كاتب في الوصية إن كل ممتلكاته ليا من بعده
و تيبس وجهه مجددًا و هو يزأر بـ:
- صح و لا غلط يا فارس؟
فهدر "فارس" بانفعال محتجّا بضراوة:
- غلط.. غلط يا يامن، لأن لو صح مكنش أبويا سابك عايش لحد دلوقتي
اتسعت ابتسامة "يامن" القاتمة فتجعّدت تلك المنطقة المحترقة بجلد صدغهِ الأيسر قليلًا و هو يقول:
- و اللي متعرفوش إنه حاول يقتلني أكتر من مرة .. و أنا سكتت زي ما سكتت على حاجات كتير عشان خاطرك و عشان خاطر أخويا
تغضن جبين "فارس" و هو يسأله بعدم تصديق:
- نعم! حاول يقتلك يعني إيه؟ امتى الكلام ده
و هز راسهُ بالسلب و هو ينفي ما يقول:
- مستحيـل.. مستحيل يا يامن، مستحيل أبويا يعمل كده
حكّ "يامن" جلد عنقهِ بانفعال و هو يشيح بأنظاره عنه و كأنه لم يستمع لقولهِ:
- كنت غبي.. كنت متأكد منه و سكتت.. كنت متأكد و بكذب نفسي، كنت زي اللي بيحاول ينفي الحقيقة اللي أصلًا واضحة زي الشمس
نهج صدره علوًا و هبوطًا و هو يطبق على أنامل كفهِ:
- كنت بقول طبيعي لما يقتل ابن أخوه.. لكن أكيد مش هتوصل بيه إنه يقتل أخوه.. قولت يمكن عارف حاجة عن الموضوع و مخبي
و أشار بسبابتهِ إلى صدره و هو يتابع بتشنج واضح:
- و أنا من جوايا متأكد إن هو ليه يد في ده
حاول "فارس" أن يغير تفكيره الذي يبدو أنهُ تصلّب على تلك الفكرة و هو يعود للخلف خطوة مشيرًا بكفه:
- يامن.. افتكر مين اللي قالك كده يا يامن و ارجع لعقلك.. ده حسين، هتكذب أبويا و تصدق حسين؟
فجأر و قد بزغت عروق جبينه بوضوح:
- حسين مبرأش نفسه عشان يبقى غلط.. حسين قال زي ما اتوقعت بالملي، أبوك دبّر و حسين نفذ
- الحكاية مش كدا.. الحكاية إن حسين عايز ينتقم من كمال زي ما كمال حب ينتقم منه قبل كدا، عشان يوقع العيلة في بعض! انت مش فاهم؟
فابتسم "يامن" ابتسامة جانبيّة ساخرة تُناقض لهيب وجههِ:
- طب ما أنا عارف إن هو اللي ولع في البيت عشان يخلص عليه
توهجت عينا "فارس" و هو يقول مستهجنًا:
- و ليـه أصلًا؟.. هيبقى ايه اللي بينهم عشان يعملوا كدا
فسخر "يامن" بلهجة حالكة و هو يلوى شفتيه:
- مش عارف ليـه؟ عشان كمال الـ**** راح بلغ عن حسين عشان ميديلوش مليم من المبلغ اللي اتفقوا عليه!.. عرفت ليه و لا لسه؟
فهدر "فارس" محذرًا بسبابته:
- يامن.. اللي بتتكلم عنه أبويا، مش هسمح لك تغلط فيه و أسكت
فجأر "يامن" محتدمًا و قد بلغ غيظهِ أوجه:
- و اللي اسمه أبوك قتل أبويا!
و أشار بكفهِ و هو يتابع باهتياجٍ بلغ ذروتهِ:
- عايش طول عمري بتعذب بموت أبويا و بدور عليه في العالم كله.. و في الآخر يطلع العقل المدبر معايا، بيتنفس الهوا اللي بتنفسه، مشغله في شركتي، مسكنه في قصري، سايبه يبعتر فلوسي و يـ***** بيها زي ما هو عايز و يخون أمي بيها! يدبر لقتلي و سايبه يعمل اللي عايزه و ساكت، انت حاسس بالنار اللي فيا؟
و أشار لظهرهِ و هو يقول بجفاء مكشرًا عن أنيابهِ:
- صدقني يا فارس النار اللي شوهت جسمي متجيش حاجة جمب النار اللي شوهتني من جوايا!
ازدردت "فارس" ريقه و قد تقبّضت رئتيه و هو يسأل:
- قصدك إيه؟
أشار بسبابتهِ لصدره و هو يردف:
- الجحيم اللي عيشت فيه هطلعه عليه، تاري مش هسيبه و مش هسيب دم أبويا يروح هدر، هاخد حقي بإيدي.. حتى لو كنت هوسخها بدمه!
هز "فارس" رأسه بهستيريّة و هو ينفي قولهُ رافضًا إياه رفضًا قاطعًا:
- لأ.. مش هسمحلك يا يامن
ثم تعالت نبرته و هو يهدر باستهجان:
- حتى لو هو اللي قتله مش هسمحلك تحرمني منه، مش هسيبك تاخد الشخص اللي باقي لي في الدنيا، مش هخسر أمي و كمان أبويا يا يامن
و همّ بالخروج.. خطى بانفعال نحو الباب فاستوقفهُ "يامن" بجفاءٍ تام و هو يحكّ ذقنهِ:
- و لو قولتلك إن أبوك اللي بتدافع عنه قتل أمك!.. هتعمل إيه؟!.
تيبّس، و كأن رئتيهِ انغلقتا فلم تسمح بمرور الهواء إليها.. وقعت كلماتهِ عليه وقعًا عنيفًا و حطّت گشهاب ثاقب على أرض قلبهِ، انحرفت نظراته التائهة نحوهُ فكان "يامن" يوليه ظهره، فهتف "فارس" بعدم استيعاب:
- مين اللي مات؟
التفت "يامن" نصف التفاتة و هو يقول بنزق:
- مش ماتت، اتقتلت، أبوك قتلها، ومكتفاش.. راح طعن في شرفها و كتب جواب وهمي إنها سابته عشان عشيقها، خلاك تعيش السنين دي كلها مفكر إن أمك خانت أبوك، و الحقيقة إنها اطعنت في ضهرها و اتقتلت
و التفت برأسهِ بالكامل نحوها و قد تقوست شفتيه بازدراء مردفًا:
- يا ترى عرفت إيه يا فارس خلاه يقتلها بدمّ بارد و هو عارف بحملها!
توسعت عيناهُ غير مصدقًا ما يلقيهِ:
- حمـل؟
فـ أشاح "يامن" بناظريه عنه و هو يتشدق بـ:
- آه حمل.. تخيل، مش بس قتل مراته.. لأ ده قتل ابنه اللي في بطنها
و نظر نحوه مضيقًا عينيه و هو يسأل بلهجة هازئة:
- تفتكر اللي قتل ابنه اللي لسه مشافش النور ميقتلش أخوه!
فلم يجد ما ينطق بهِ سوى:
- كـدب.. كل اللي قولته كدب
فكان "يامن" جافّا للغاية و هو يردف بلهجة صارمة:
- حقيقة.. و عندي الاثبات
و نظر حوله متأففًا من تواجده هنا بينما لديه الكثير و الكثير لفعلهِ، ثم قال بحزم:
- نرجع القصر بس و كل حاجة هتبقى قدامك.. ساعتها هتشوف إذا كان كدب و لا لأ
مضى "فارس" نحوه و هو يهدر باستهجان و قد برزت عروق جبينهِ:
- انت مصدق نفسـك؟ مصدق اللي بقوله
فجأر و قد فرغ مخزونه من الصبر:
- ما تفهم بقى أبوك قاتــل، قاتل.. قتل أخوه و لما ريم عرفت قتلها و ابنه في بطنـها! افهم بقى، افهــم!
و قال كلمتهِ الأخيرة و هو يدفعه بقبضته بعنف من كتفهِ فدنا "فارس" منه مقلصًا المسافة و هو يقول باحتدام:
- مستحيل يعمل ده
و ضاقت عيناهُ و هو يجأر بـ:
- و حتى  لو قتل يوسف؟ اشمعنى هتقتله؟.. ها؟ اشمعنى هتقتله و انت سيبت حسين اللي انت متأكد منه
فاحتقنت الدماء في عينيهِ و هو يشير بسبابته و يُفيض القول لديه بما خطط لهُ في النهاية و للمرة الأولى يتحدث باستفاضة:
- و مين قالك إني مكنتش هقتل؟.. كنت هقتله يا غبي، لكـن بعد ما أعذبه في الدنيا و أسرق كل حاجة من إيده واحدة واحدة و البداية كانت "يارا".. من بعدها "هوليا" و " حبيبة" و طبعًا لما بنته التانية  تعرف اللي عمله هيبقى مالوش حد، و بعدين أسحب منه كل ما يملك واحدة واحدة و بدأت بقصره اللي في تركيا و اللي مراته كاتباه باسمه.. لغاية أقل حاجة عنده، كل ناوي أقتله مليون مرة في دنيته و أعذبه ألف مرة في اليوم زي ما كان سبب في عذابي السنين دي كلها، و بعدين أقتله.. أقتله للمرة الأخيرة و أقضى عليه نهائي.. كنت ناوي يكون أول واحد ألوث إيدي بدمه
و انطبقت أسنانهِ مشددًا من الضغط عليها، ثم فرقهما ليقول باستهجان و هو يضرب بقبضته المتكورة أعلى الكومود و قد تذكر تباعًا ما حدث.. حين سقط "حسين" متأثرًا بالاختناق الذي أصابه.. فلم يكترث "يامن" إلى استنشاقه تلك المادة السامّة بكثرة مفرطة و هو يقف متشفيّا بعذابه و النيران تلتهم من جلدهِ بضراوة مُفجعة، و رائحة احتراق جلده تتسلل لأنفهِ، و لم يُبالي بما أصابه.. فما إن استصعب التنفس إلى أقصى حدّ و قد شعر أن رئتيهِ فرغا من الأكسجين، كان الأوان قد فات.. حيث أصابهُ التشوش اللعين و شرع الظلام يلتهم كل ما حولهِ، استفاق من ذكرياتهِ تلك و هو يردف من بين أسنانه مفرقًا إياهم بصعوبة:
- لكن اللي حصل له نجاه مني.. مستكفيتش أشوفه بيتحرق قدام عيني و النار بتاكل فيه، كان نفسي يموت في اليوم ألف مرة.. كان نفسي يتمنى الموت و ميلاقيهوش! لغاية ما أقرر أنا أريحه من العذاب ده و أخلص عليه بإيدي!
- يامن
نطق بها "فارس" محذرًا و نظراته مسلطة على نقطة ما من خلفهِ، التفت "يامن" و قد تغضن جبينه فتنهد بضيق شديد أجثم على صدره حين رآها تقف أمامه و قد بدا استمعت لحديثهِ المطول الأخير الذي ينطق بهِ للمرة الأولى في حياتهِ محاولًا بذلك إخماد حدة النيران التي تلتهم خلاياه بنهم قليلًا.
 و لكن حظه العثر الذي اقتادها إليهِ في تلك اللحظة تحديدًا.. جامدة، عيناها لا تُدمعان و لا تحفّهما الدموع حتى، و كأن قلبها تيبّس من فرط قسوة ما لاقتهُ و ما عايشته تباعًا حتى اليوم، لو كان غيرهُ لأدرك أنها لا تكترث لأي شئ.. و لكن لم يفُته تلك النظرة المؤنبة التي شابها الجفاء التام التي انبثقت من زرقاوتيها، و كأن جانب ثغرها ارتفع بسخرية وارت المرارة بين طيّاتها، قبل أن تشمله بازدراء واضح و هي تستدير، فخطى نحوها و هو يقبض على عضدها مديرًا لجسدها إليه و هو يردد حانقًا:
- يارا.. اسمعي
فسحبت ذراعها منهُ بجفاء و هي تردف و نظراتها تنحرف بين عينيه:
- هتقول مقتلتش.. و عارفة ده، لكن كفاية عليا اللي سمعته منك
و منحتهُ نظرة قاسية، ثم انصرفت بارحة محلها و صفعت الباب من خلفها بعنف، فتزامن ذلك مع زمجرتهِ الغاضبة و هو يلكم الجدار بقبضتهِ المتكورة:
- أوف
ثم انحرفت نظراتهِ نحو "فارس" و هو ينطق بامتعاض:
- اللي اسمها ولاء فيـن؟
تقوست شفتا "فارس" باستهجان و هو يجيب بتمقُّط واضح:
- و عايز ولاء في إيه؟ مالك و مالها؟
نفخ "يامن" بانزعاج شديد ثم أجابه مستهجنًا:
- هعوزها في إيه؟ هاخدها بالحُضن! شوفهالي فين و ابعتهالي
أطبق "فارس" أسنانهِ و قد شعل برأسه يغلي غيظًا.. تزايدت سخونة جسده فجأة فتحرك من أمامهِ و هو يزفر متأففًا، مضى "يامن" نحو الفراش ليلتقط سترتهِ الملقاة، ثم شرع يحاول ارتدائها و هو يكبت تأوهاتهِ الخفيضة عن طريق الضغط على فكيهِ.
حينما كان "فارس" يخطو نحو غرفة "حبيبة".. حتى وجدها تجلس أمامها و قد جفّت دموعها فلاذت بالشرود في نقطة ما بالفراغ، نفخ بامتعاض أطبق على صدرهِ ثم تحرك نحوها قائلًا بلهجة آمرة:
- يامن عايزك.. قومي معايا
و كأن الورود تفتحت في وجهها الذابل، نظرت نحوهُ بتلهف شديد و هي تنطق و قد برقت عيناها:
- عـ..ـايزني؟
حاد "فارس" بنظراته المتوهجة عنها دون رد.. فوقفت على قدميها لتقف أمامه مباشرة و هي تنطق بعدم تصديق:
- بجد عايزني؟.. ليه؟
و شرعت الأفكار الورديّة تتملكها.. حتمًا قد سئم شقيقتها من فرط ما أصابه بسببها، و أدرك أنها أكثر مناسبة إليه منها، انبعج ثغرها بابتسامة أضوت صفحة وجهها الكئيبة حينما كان هو يُطبق يشملها بازدراء واضح، نفخ بنفاذ صبر ثم تحرك تاركًا إياها.. فتبعتهُ بخطوات بعثت فيها أملًا جديدًا، عسى أن يكون السوء الذي أصابها و موت والدها المفاجئ سببًا في سعادتها.. و طوال طريقها إلى غرفته تتأمل نفسها تنعم بدفء أحضانهِ، حتى بلغ الحجرة، و دلف "فارس" برفقتها حينما كان "يامن" يوليهما ظهره و هو يحاول إدخال ذراعهِ الأيسر في كمّ سترته، و كالهوجاء كادت تخطو نحوه لتساعده و قد أشفقت عليه، و لكن أطبق "فارس" بأنامله على ساعدها فالتفتت إليه مستفسرة و قد تغضن جبينها، تعجبت نظراته المُضطرمة فبادلته بنظرات مستوضحة، حتى قطع "يامن" التواصل البصري حالما انتهى و هو يقول دون أن يلتفت:
- اطلع برا يا فارس
انطبقت أناملهِ أكثر على ساعدها دون وعي و هو يرفع نظراته إليه، فهمست إليه بصوت خفيض متألم:
- انت بتوجعني.. سيب إيدي
أفلتها و نظراته مسلطة على "يامن" ثم منطق بانفعال:
- ليه؟ هتقولها سر و لا إيه؟
 فهدر "يامن" بحزم و هو يلتفت نصف التفاتة:
- اطلع بـرا يا فارس
و ما زاد ذلك سوى من سرورها و إشراقها، و لم تمنع تلك الابتسامة المبتهجة من التسلل لأطراف شفتيها، في حين زمجر "فارس" غيظًا ثم انسحب من الوسط صافقًا الباب بعنف من خلفه، حينما مضت "ولاء" نحوه حتى توقفت خلفه مباشرة، ثم سألته بوداعة مرققة من نبرتها:
- انت كويس دلوقتي؟
كم يكره حتى الاستماع لصوتها و يثير أعصابه و استفزازهِ منذ أن استمع إلى كلماتها حين نقلتهُ والدتها لمنزلهم.. حينما كانت تتحدث بضغينتها تجاه شقيقتها و لم تعلم أنه يستمع إلى كلماتها بالحرف، زفر زفيرًا حانقًا و هو يلتفت نحوها بكامل جسده، ثم نطق بلهجة قاتمة:
- اللي قالته هوليا يارا مش هتعرف منه حرف واحد.. أظن كلامي مفهوم
تلاشت بسمتها و هي ترتفع حاجبيها و هي تسأله بشدوه:
- انت.. تعرف؟
فتجاهل سؤالها و أكّد من قوله ضاغطًا على كلماته:
- سمعتيني.. يارا مش هتعرف حتى  ان في هوليا
رمشت عدة مرات و قد أُثبط حماسها، ثم سألته بسئم:
- ليـه؟
فقال بلهجة جافة و هو يحدجها بنظراته الثاقبة:
- حسين راح.. مش لازم تعرف هو كان إيه، كفاية حزنها عليه!
ثم تابع متعمدًا الضغط على جراحها النازفة:
- لأني ممكن أهد المعبد على اللي فيه عشانها.. لو بس عرفت إنك لمحتيلها عن الموضوع ده أو جيبتي سيرته
لم تتخذ من ضمن كلماته سوى تلك الكلمة البازغة و التي وقعت قعًا عنيفًا على قلبها، انطفأ وجهها و تبددت إشراقة قلبها، و أعتم و قد حلّ عليه الظلام الدامس و هي تسأله بهسيس غير مستوعب:
- عـ..ـشانها؟
فقال و هو يومئ برأسه متعمدًا التشديد على أحرف كلمته:
- أكيد عشانها.. مش مراتي؟
انطبقت أسنانها بغيظٍ شديد و قد توهجت وجنتيها بالحمرة، اعتنقت الصمت الذي يخفى خلفه الكثير.. فكان يسبر أغوارها و هو ينظر لعينيها بنظراته الثاقبة ليقرأ سطور عينيها بسهولة، فنطق بلهجة اشتدت فجأة:
- كلامي اتفهم و لا مخك تخين؟
أومأت بتوعد و هي تقول من بين أسنانها:
- لأ اتفهم، عن إذنك
و برحت محلها لتنصرف من تلك الغرفة التي أطبقت على قلبها و أدمتهُ.. و فور أن فتحت الباب و جدته يتجول جيئة و ذهابًا في الرواق، تنبّه "فارس" لخروجها فأوفض نحوها و هو يسألها باحتداد:
- كان عايز إيه منك؟
رمقته بنظرة بائسة حملت من الكآبة ما تكفيها و تفيض.. ثم تجاوزته لتمر من جواره بخطاها المتعرجة مبتعدة، لحق "فارس" بها و توقف أمامها مستوقفًا إياها و هو يسألها بنفاذ صبر:
- ما تنطقي.. هو عايز إيه منك
فأجابتهُ بلهجة خالية من الحياة:
- أنا مش هقدر أحضر الدفن.. أنا هفضل هنا مع ماما
و سارت مبتعدة بخطى خالية من الحياة، تتابعها نظراته و قد تفهّم نوعًا ما أنهُ صدّها عنه بقسوة.. ألقى  بها من سابع سماء إلى سابع أرض حتى لا تهيم كثيرًا بين سُحُب الحب الوهميّة التي اختلقتها لنفسها.
...........................................................
رفض أن يحمل نعشهِ و ظلّ فقط متيبسًا، بملابسهِ السوداء و ملامحهِ الحالكة، بذلك الحرق الذي بزغ من جانب وجنتهِ اليُسرى، و أخفى عينيه المتوهجتين خلف زجاج نظارته القاتمة .. هو أصر على الحضور على الرغم من حالته المتدهورة، و لكن لديه سببان، حيثُ لم يكن ليضيّع تلك اللحظة الثمينة التي سيُشيع فيها مثواه الأخير، و السبب الآخر.. هي و قد تنبأ بحدثٍ ما، و بالفعـل حدث ما تكهن بهِ.
حيث كانت جامدة ملامحها كالصخر المتيبس كما هي و لكن.. فور أن رأت تابوتهِ يحمل و يهبطون بهِ شعرت بقلبها يُجتثّ بين أضلعها، نظرت حولها كالتائهة، ثم صدمت الجميع بسؤالها الأبله:
- انتو.. بتعملوا كده ليه؟ انتو هتودوا بابا فين؟
و شرعت خلايا ذهنها تتنبه بالأمر مرسلة الإشارات لحواسّها أجمع، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تهز رأسها بعنف و هي تقول:
- انتو مش بتردوا ليه؟ واخدينه على فين؟
هطلت دموعها التي ظلّت محتبسة منذ وقت كالأنهار و فاضت بهما وجنتيها و هي تنطق باستهجان:
- لأ.. مش هسيبكم تاخدوه، سيبوا بابا، سيبوه، هو هيفضل معايا
و كادت تتبعهم و تهبط للأسفل.. خلع "يامن" نظارتهِ ثم تحرك نحوها، و قبل أن تهمّ بالهبوط للأسفل كان يطوق ظهرها بذراعيه و هو يلتفت ليقف أمامها فسد عنها مجال رؤيتهِ و هو يُقتاد حيث منزلهِ الأخير، تشنجت بين ذراعيه و هي تبكي بتشنج هادرة برفضٍ تام لما يحدث:
- لأ.. لأ، مش هتسيبني يا بابا.. قولهم إنك عايش، قولهم يا بابا، بابا متسيبنيش، يا بـابــا
أطبق "يامن" بذراعيه عليها أكثر و قد تقلّصت ملامحه متألمًا حين داهمته تلك الوخزات العنيفة بظهرهِ، فكز على أسنانه و هو يضمّ رأسها إليه بإحدى ذراعيه حينما كانت تهتاج أكثر و هي ترفض قربه منها و تحاول التملص منه:
- حاسب سيبني.. سيبني، يا بابـا تعالى و خليه يسيبني، تعالى و قوله انك بتحبني يا بابا.. بـابـــا
تعالت شهقاتها و هي تنتحب بأنين مرتفع، صرخت صرخة تمزق نياط القلوب و هي تتبعها بقولها الممشوج:
- أنا مقولتلكش اللي عرفته، مطلبتش منك لسه توضح لي، مسألتكش ليه عملت كده، ارجع يا بابا و قولي انك بتحبني، ارجع و برر لنفسك يا بابا.. آآه!
أسند "يامن" جبينها على صدره و هو يطبق جفنيه بقوة ثم نطق محاولًا تهدئتها و هو يضع كفه على مؤخرة رأسها محاولًا التحكم في حركاتها المتشنجة:
- شـشـش
فهزت "يارا" رأسها بهيستيرية واضحة و هي تصرخ باستهجان:
- أنا معيشتش معاك.. أنا سيبتك عشانك، سيبتك عشان تعيش و بردو سيبتيني.. طب ليـه يا بابا ، ليــه؟
و هزت رأسها نفيًا و قد انخفضت نبرتها قليلًا و هي تقول بقنوط من بين شهقاتها:
- ملحقتش أشبع منك.. ملحقتش أتهنى بوجودك يا بابا
و ما جعلها أكثر اهتياجًا و تشنجًا حين أبصرتهم بطرفها يوصدون مقبرتهِ، فحاولت مجددًا الفكاك من حصاره و هي تقول متسائلة بعدم استعياب:
- بتعملوا ايه؟ انتو هتسيبوه لوحده، لأ.. أنا.. أنا هروح معاها
و ماجت بين ذراعيه بانفعالٍ تامّ و هي تهدر بـ:
- سيبني يا يامن.. سيبني أروحله مش هيفضل لوحده، سيبني
و لكنهُ أطبق أكثر عليها و ضمها إليه أكثر محتويًا جسدها بصعوبة، لم يقوَ حتى على حملها، فاقتادها متحركًا بها للخارج، فتتبعهُ "فارس" و هو يعرض عليه:
- سيبها يا يامن.. انت مش قادر تتحرك، سيبها و أنا هخرجها
و قبل أن تمسّ أنامله ذراعها ليحاول انتشالها منه كان يردعهُ بقوله:
- متجيش جمبها
و اصطحبها للخارج محاولًا احتواء تشنجاتها المستمرة.. كلما ابتعد خطوة تكاد تشعر بروحها تُقتلع من جسدها، فصرخت صرخة مُشبّعة بوصبها المرير:
- لـــــــــا.. بابــا!
....................................................................
............................
............................................................................
 
  
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن