"الفصل الخمسون"

1.3K 24 0
                                        

"الفصل الخمسـون"
"الحُب يربح دائمًا؛ و إن كان المحبّ ضمن الخاسرين"
لـو أنه يرى تلك النظرة التي اختزنت كمّا من المشاعر، لو أنه فقط يفهم ما يفتك بقلبها من أحاسيس لا تدرك حتى كنهها، أو أنها ترفضُ الاعتراف و قد تعهّدت لنفسها قبلًا.. تعهّدت ألا تكنّ له أي نوعٍ من المشاعر سوى البغض و النقم، و الآن تقف أمامهُ، تتمنى فقط لو تنحدر نظراتهِ إليها، و إن كانت تدرك أنها سترى بها كمّا هائلًا من النيران المحتدمة، و إن كانت  نظرتهِ ستُشبّع بالحقد، يكفيها – في تلك اللحظة فقط- أن يمنحها نظرة واحدة.. نظرة تشكّ في أنها قد تنبثقُ من مقلتين لم ترَ فيهما سوى الجحيم المستعرّ النيران، نظرة حُـبّ.. ألا تستحق؟.!
و لم يكن هو متفهمًا لما يجول بخاطرها من تشتتٍ فكريّ، و عصف لقلبها، ما كان يضمرهُ في تلك اللحظة هو سخطًا إن ترك زمامهِ لن يكون مسؤولًا عن عواقبهِ، لم ينتبه "يامن" في ظلّ ما يتناطح في رأسهِ من أفكارٍ مدمّرة سؤالها الأخير و لم يعبأ بهِ، إلا أنهُ استشعر ملمس أناملها لصدرهِ، فـ أطبق أسنانهِ و هو يبعد بنفور كفيها عنهُ، دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها و هو يقول بجفاء:
- خيـر يا بنت حسين؟ شايفك منورة أوضتي!
رمشت عدة مرات مستشعرة طريقته القاسية، لفظت زفيرًا حارًا من صدرها، و هي تسحب كفيها إليها، ثم قالت و عينيها لا تحيدان عن وجههِ:
- خفت أرجع أوضتي بعد اللي حصل لي فيها
فكان ردّهُ و كأنه يطردها بشكل غير مباشر:
- و يا ترى مفيش في القصر كله غير أوضتي!
 رمقته بنظرة مؤنبة، تُقرّعه عمّا يبدر عنه دون حتى أن يكلف نفسه مشقّة احتوائها عقب ما عانتهُ صباح اليوم من هلعٍ لا يوصف، ثم همّت بالهروب من حصارهِ و هي تقول بتشنج:
- آسفة يا يامن بيه، حالًا هطلع
و قبل أن تمرّ من جواره كان يجتذب عضدها إليهِ، رفعت نظراتها إليه لتتقابل نظراتها المعاتبة مع نظراتهِ القاسية الناريّة، أفلت دون عمد، و دون أن يملك الحقّ في ذلك عنان غضبهِ المتّقد، تجوّل بنظراتهِ الحامية على وجهها، حتى ارتكز بصره لدى زرقاويها، ثم سأل و قد تشنجت عضلات وجهه:
- تعرفيـه منين؟
حادت ببصرها عنه لتقول بشئ من نفاذ الصبر:
- قولتلك أخته الله يرحمها كانت زميلتي،.. كان عنده أختين توأم و الاتنين كانوا زمايلي، ممكن تسيبني أمشي
فسألها بسخريّة بالرغم من قسوة نبرتهِ و تقاسيمهِ:
- و يا ترى تعرفي أخته دي ماتت إزاي؟ تعرفي انها اتقتلت بسببه؟
رمشت عدة مرات و هي تنظر نحوه عقب أن تكان تتهرب بنظراتها منه، ثم كررت مُضيقة عينيها:
- بسببه؟
فسألها متجاهلًا تعقيبها و هو يشدد قبضته على ذراعها مستهجنًا:
- نائف.. تثقي فيه اكتر مني؟
و ارتفعت نبرتهِ أكثر و قد بزغت عروق جبينهُ:
- تتحامي فيه مني؟
كانت نظراتها قويّة گلهجتها تمامًا و هي تقول:
- على الأقل مش قاتل.. ايده متلوثتش بالدم!
- تعرفي منيــن؟ عرفتي منين إنه مقتلش؟
ابتلعت ريقها في تخوّف لكلماتهِ التي لا تحتمل سوى معنى واحد أرادت انكارهِ، رمشت مرتين تقريبًا قبل أن تسأل بعدم استيعابٍ:
- قصدك إيـه؟
التوى شدقيهِ بقسوة و هو يقول مشيرًا بسبابته:
- قصدي ان اللي وثقتي فيه مش بس قاتل.. لأ ده نصاب!.. و باني فلوسه بالنصب و التزوير
حدّقت فيه مشدوهة مما ألقاه على مسامعها توّا، فشعرت كم أنها كانت ساذجة، أسقطت نفسها في إعصارٍ بيد أنه سيلتقمها في جوفهِ، شخص بصرها، و لم ترمش حتى عيناها و بقت عالقة عليه حينما كان يقرب وجهه منها و هو يقول بفحيح مُضيفًا إليها تلك المعلومة التي نوّه إليها مسبقًا:
- غير إنه بتاع نسوان زي ما قولتلك.. يعني الله أعلم كان ممكن يعمل فيكي إيـه!
و ترك ذراعها دافعًا لها بعنفٍ للخلف و هو يعود لوقفتهِ الأولى الباردة تلك، و كأن ما قالهُ هيّنًا لا ينهشُ كالسعير من أضلعهِ، و بينما يدس كفيه بجيبيه ردد بلهجة صقيعيّة، شابها سخريّة ذات مغزى صريحٍ غير مُبطن:
- اختياراتك كلها غلط يا.. يا يارا، عايزة تنتقمي مني كنتي فكري في طريقة تانية!
وقفت متيبسة بمحلها تنظر لظهرهِ غير قادرة على النطق، فـ سحبت شهيقًا حبستهُ في صدرها و هي تشيح بوجهها عنه، ثم قالت محاولة الدفاع عن نفسها أمامهِ:
- أنا منتقمتش.. و معملتش حاجة معاك أندم عليها
حينها التفت و قد استشعر تلميحًا مبطنًا في كلماتها هادرًا باستهجان واضح:
- و أنا عملت إيه أندم عليــه؟ عملت إيه معاكي أندم عليه؟ انـــطقي!
لم تنعطف نظرات "يارا" نحوه، و قد افترّ ثغرها عن ابتسامة ساخرة، تزامنت مع كلماتها المريرة و هي تُتمتم:
- و لا حاجة يا يامن.. معملتش معايا أي حاجة!
فدنا منها و هو يطبق بأناملهِ الغليظة على فكها مجبرًا لها على النظر لعينيهِ:
- بصيلي و أنا بكلمك.. قولي عملت إيــه؟
و راح يجيب هو و هو يشير بسبابتهِ مُضيقّا عينيه:
- اتجوزتك غصب؟ مغصبتكيش على حاجة، معملتش زي أي راجل نـ** كان ممكن يعمل فيكي و منعت نفسي عنك، منعت نفسي عن مراتي، منعت نفسي عن حقي الشرعي اللي محدش يقدر يمنعني عنه!
ارتكز بصرها لعينيهِ مباشرة، و قد تبددت السخرية عن وجهها، بزغت حمرة طفيفة على وجهها و تشبّعت وجنتيها بها و هي تردد باستنكارٍ شابهُ السخط المتولّد داخلها:
-و اللي حصل كان إيـه؟ كان إيـه قولي.؟!
فـ شدد من قبضته على فكها دون وعيّ منه، و هو يهدر باهتياج واضح:
- برضاكــي، اللي حصل كان برضاكي، أنا مغصبتكيش
فحذرتهُ محاولة اخفاء تأوهاتها و هي تطبق جفنيها هامسة بوهنٍ نفسيّ تملك من روحها:
- انت بتوجعني!
كزّ على أسنانه و هو يشملها بنظراته المتقاذف منها حممًا متوقدة، أرخى قبضتهِ عنها رويدًا رويدًا، ثم أطبق على أناملهِ مقبّضًا كفه، استدار ليلكم زجاج الشرفة بقبضتهِ و هو يزمجر زمجرة عنيفة، أبدت ما يتفاقم في داخلهِ من مشاعر سخطٍ مكبوتة، رمقته "يارا" بنظرة قويّة و قد ضاقت عيناها المتوهجتين، و رددت تعاتبهُ بقسوةٍ تامة:
- انت ناسي؟ انت بجد مش حاسس بذرة ذنب ناحيتي؟ ناسي انت عملت فيا إيه من أول ما شوفتك! ناسي انك هددتني بأبويا
فقال و مازالت قبضتهِ عن زجاج الشرفة و هو يلتفت نحوها نصف التفاتة:
- بكرة تشوفي أبوكي اللي بتدافعي عنه كان إيـه، بكرة هتيجي تشكريني اني نجدتك منه يا.. بنت حسين
و بلحظةٍ واحدة.. اندفعت الدماء بكمّ غزير في أوردتها، فصرخت في وجههِ ثائرة بشكلٍ مفاجئ:
- متقولش بنت حسيـن
- ليـه؟
هدر بها بصوت جهوريّ مستنكر و هو يستدير بجسدهِ، ثم دنا منها مجددًا و هو يستأنف:
- ليــه؟ مش ده اللي بتموتي فيه و بتدافعي عنه، مش هـوَ؟
انحرفت نظراتها بين عينيه للحظات ثم حادت بهما عنه و هي تقول بفتور راغبة في التهرّب من ذلك الطريق الذي يقتادها إليهِ:
- معرفش
- ليــه؟ متعرفيش ليه؟ متعرفيش ليـه؟.. انطقي
و لم يتمكن في لجم لسانهِ في تلك اللحظة تحديدًا.. فشل كليّا في أن يحتفظ في ظلّ ما يعانيه من احتدامٍ بما يُكنّه و يواريهِ.. ضاقت عيناهُ فـ أضحتا أشدّ احتدادًا، و سأل متعمّدًا التلميح لنقطة لا تدركها:
 - تقدري تقوليلي أبوكي عايش منيـن و هو مش لاقي شغل يا يارا؟، تقدري تقولي ده؟
رمشت عدة مرات غير متفهمة مغزى سؤالهِ تحديدًا، و لكنها أحنت بصرها عنه و هي تقول بتردد:
- أكيد.. أكيد من فلوس السفر، أو.. استلف و ..
أومأ "يامن" و كأنه تفهم مقصدها، و لكنهُ كان يتشدق بجفاء تام مقاطعًا ما تهمّ باستئنافهِ:
- آه، و فلوس السفر دي مبتخلصش؟
سئمت من كلماتهِ الغير مفهومة و المُبطنة فراحت تسأله بامتعاض:
- انت قصدك إيه بالظبط يا يامن؟
فتصلبت تعبيراته و هو يقول:
- تقدري تقوليلي الخرابة اللي معيشكم فيها دي في وسط ناس ******، معيشكم فيها ليـه؟
أطبقت أسنانها و هي تنظر نحوهُ باشتدادٍ، ثم قالت و هي تقوس شفتيها في نقمٍ:
- لأننا مش زيك للأسف.. معندناش شركات و قصور و خدم و لا كأنهم عبيد، تؤمر تجاب يا يامن بيـه، عرفت ليه؟
فـ افترّ جانب ثغرهِ عن ابتسامة هازئة و هو يحيد بعينيهِ عنها، فاحتدت و هي تسأله باستنكار:
- تقدر تقولي أنا قولت إيه يضحك؟
فتلاشت بسمته و كأنها لم تكن و هو يصرف بصره تلقاء وجهها من جديد، و تصلّب وجهه بجمودٍ مريب، و هو يردد متعمّدًا التشديد على أحرف كلماتهِ:
- أبوكي مليونير، عنده شركة استيراد و تصدير في اسطنبول أسهمها باسمه، و فروعها في باقى العالم يا.. يارا!
و تركها.. برح محلهِ و مضى من أمامها تاركًا لها وسط صدمتها، و عدم استيعابها لما يقول شاخصة أبصارها، انحنى "يامن" ليلتقط سترتهِ و أخرج منها قداحتهِ و علبة سجائره ثم تركها أرضًا مجددًا و شرع يُشعل سيجارته، ترك قداحتهِ أعلى الكومود، ثم راح يدس سيجارته بين شفتيه ليُعبّأ صدره بمادة النيكوتين، سحبها من بينهما بالسبابة و الوسطى، ليطرد من بين شفتيه زفيرهُ، بينما كانت هي تحرف أنظارها نحو ظهرهِ لتسأل مضيقة عينيها:
- مـ..إيــه، مليونيـر؟، انت.. مستوعب انت بتقول إيـه؟
و نفت برأسها عدة مرات و هي تحاول إطلاعهِ على:
- مستحيــل، مستحيل اللي بتقوله ده، انت متعرفش احنا عيشنا ازاي؟ هو.. هو فقير أوي، كان بيشتغل و يتعب طول اليوم عشان فلوس قليلة جدًا، و كان بيبعت معظمها و..و يعيش هو على مبلغ قليل، انت.. انت أكيد غلطان
التوى جانب ثغره بابتسامة ساخرة و هو يدس كفه الآخر بجيبه، نظرة واحدة منهُ بنصف التفاتة و هو يقول:
- متعودتش أثبت لحد كلامي.. لكن معلش، عملت عشانك حاجات كتير معملتهاش لغيرك!
و مضى نحو خزانتهِ تاركًا سيجارته بين شفتيه، فتحها لتظهر تلك الخزنة المغلقة بكلمة سريّة، فراح ينقر على الأزرار حتى انفتحت فسحب منها ظرفًا ما.. و أغلقها من فورهِ، ثُم دنا منها، ألقى نظرة شموليّة على وجهها الذي حمل تعبيراتٍ مشدوهة دلّت على استيعابها بعد، فبسط يُسراه بالظرف المغلّف، و بأنامل كفهِ  الأيمن كان يسحب السيجارة من بين شفتيهِ لينفث دخانًا بدا كدخانِ لهيبًا متأججًا، كادت أسنانها تصطك ببعضها البعض و هي ترفع نظراتها المرتابة إليه:
- إيـ..ـه ده؟
فـ أمرها بإيجازٍ مشيرًا بعينيهِ:
- افتحيـه
تناولتهُ منه، و هي تزدري ريقها بتوجّس مرتاب، و بأناملٍ غلب عليها الارتعاش، فتحت الظرف و أخرجت منه الورقة المزيّلة بتوقيعٍ ما، فغرت شفتيها و عينيها تمرّان على الكلمات، فارتعش كفها الآخر.. أسقطت الظرف الفارغ منها و شددت على تلك الورقة التي بحوزتها و التي لم يحاول ذهنها تفسير تواجدها مع "يامن" تحديدًا ، و كيف تمكن من الوصول إليها، دوّى نبضها في أذنيها، و لمحاتٍ من حياتها تلوح أمام ناظريها، ارتفعت أنظارها نحوه و أعينها متوسعة عن آخرها، غير قادرة على استيعاب صدمتها، و بلحظة كاد جسدها يتهاوى أرضًا محاولة الغياب عن واقعها لولا ذراعيهِ اللذان أحاطاها و هو يقول محذرًا بصوتهِ الأجشّ:
- إيّاكي
ذراعهِ طوّق ظهرها، و لتحافظ على توازنها تشبّثت بعضدهِ العاري، المسافة بينهما قد تلاشت تقريبًا، حدّقت في عينيهِ القريبتين منهُ و قد تركت الورقة تسقط أرضًا، طلّت من عينيها نظرة تائهـة، و كأنها لا تجد لها طريقًا عقب تلك الحقيقة التي أدركتها مؤخّرًا، كونها قد وضعت نفسها أمام جحيمهِ منذ البداية فقط كي تصدّ شره عن والدها الذي لم يكن لا حول لهُ و لا قوة كما كانت تظنّ، نقلت بصرها بين خضراويهِ المسعّرتين، ثم همست محاولة نفي تلك الحقيقة المثبتة:
- مستحيل يا يامن.. مستحيل!
أزاح إحدى كفيهِ عن ظهرها، و وازن جسدها بقبضهِ على مرفقها، و هو يلقي عقب سيجارتهِ أرضًا، و دعسهُ بقدمه، ثم حرف نظراته بين عينيها و هو يقول بلهجة مُشتدة:
- افهمي بقى.. افهمي، أبوكي ده أ*** خلق الله
جذوة تولّدت نيرانها بين جوانحها، و هي تقف أمامهِ تتلقى صراخه المحتد، مستشعرة قبضة أناملهِ المُشددة على مرفقها و كأنها تطبق على عنقها، نهج صدرها علوّا و هبوطًا بانفعالٍ و قد تلاحق نبضها، بشرتها التي أصابتها صُفرة مفاجئة، اصطبغت من جديد بالحمرة الغاضبة، اشـتدت ملامحها و تقلصت و هي تجتذب ذراعها من قبضتهِ بتشنجٍ، و بحركة لا إرادية دفعتهُ من صدرهِ بكلا كفيها لتدحرهُ عنها، و هي تصرخ في وجههِ:
- انت كداب.. كـــداب، كلكم كدابين، كلكم أسوأ من بعض، كلـــكم!
دنا منها فابتعدت خطوتين للخلف من جديد، لتحافظ على مسافة محددة بينهما و هي تشير بكفيها نحوهُ محذرة إيّاه من الدنوّ:
- ابعد عني، متلمسنيش، متلمسنيش!
و راحت تخطو للخارج مستوفضة لتبتعد عن غرفتهِ، تلـوذ بالفرار من واقعٍ رسمه القدر لها، لتكن في النهاية لُقمة سائغة، ظنّت أنها الملاذ لوالدها، و السبب الأوحد في حمايتهِ من بطش زوجها، فـ ها هي تستشعر كمّ سذاجتها، حميمًا سرى و انساب انسياب الدماء في أوردتها، تغذّى بشراهةٍ عليها و اجتثّها، و هي تصغى لصوتهِ الهادر من خلفها حين خرج من غرفتهِ ليتبعها، و قد بزغت عروق جبينه بوضوحٍ:
- يارا!
درجة تليها درجة تهبطها برشاقةٍ و خفّة، بينما تهدر باستهجانٍ شمل لهجتها تمامًا و تشعّب فيهِ السخط المكبوت:
- أنا حياتي كلها كذبـة، حياتي كلها عبارة عن كذبة!.. اللي ضيعت عشانه حياتي و فاكراه أطيب واحد في الدنيا يعمل فيا كده! أكتر راجل حبيته يعمل كده فيا، طب ليـه؟ ليـــه؟
و راحت تدفع إحدى التماثيل الرخامية فور أن أنهت الدرجات ترجّلًا، هرعت للخارج و هي تستكمل كلماتها الغير مستوعبة و المستنكرة في آن واحد، حتى قصدت الاسطبل.. و هو من خلفها، و ما إن خطت بقدميها داخله، اجتذب عضدها بعنفٍ فور أن بلغها مديرًا لجسدها إليه و هو يجأر بها:
- هتعملي إيــه؟ هتعملي زي كل مرة؟ أي حاجة تعرفيها هتأذي فيها نفسـك؟ أومال لو عرفتي الباقي هتعملي إيــه؟
تلوّت بذراعها محاولة سحبهِ من بين أنامله المطبقة، و هي تهدر به باهتياج:
- سيبني.. سيبني في حالي، سيبــني
و راحت تحاول دفعهِ من صدرهِ و هي ردد بصراخ، دون أن يحاول مقاطعتها:
- سيبوني بقى، سيبوني في حالي، سيبوني حرام.. حـــرام!
ترقرقت العبرات في مقلتيها و انسدلت لتشق طريقها على وجنتيها و هي تهز برأسها نفيًا مستنكرة:
- انتو مبتحسوش؟ مش بني آدميـن؟ انتو شيطاين، أكيد شياطين استحالة تبقوا بني آدمين أبدًا، مستحيـــل!
و فر أن باءت محاولاتها بالفشل الذريع في محاولة الفكاك منه، كانت قواها قد خارت، فتركت ذراعها الذي كانت تسخدمه في دفعه أعلى صدره و هي تحنى رأسها في وهنٍ تملّك منها، ثم همست من بين نشيجها متوسلة إيّاه:
- سيبني بقى، سيبني الله يخليك، سيبني
و رفعت نظراتها نحوهُ و قد استعادت هياجها و هي تردد معترضة على ما كُتب لها من قدرٍ أُجبرت على معايشتهِ لحظة بلحظة دون أدنى وجه حقّ:
- كفاية.. كفايــــة!
كان جامدًا.. ملامحه متصلبة للغاية و هو يرمقها بنظرات جافّة، تاركًا لها تفرغ ما بجبعتها، و فور أن انتهت.. تلاحقت أنفاسها في انفعالٍ و قد بات وجهها متوهجًا بحُمرتهِ القانية، شمل "يامن" وجهها بنظرة واحدة، ثم أشاح بوجههِ بعيدًا، ثم راح يجتذبها من ساعدها بعنف و ملامحهِ لا تعبر عن شئٍ مُطلقًا.
..............................................
و بين ظُلمة الليل الحالكة، و تلك الأجسام الضخمة المُلتهبة التي تقع على مسافة شاسعة عن هُنا تضوي و گأنها مُجرد نقاط ضئيلة، ذلك الجسم المعتم الذي عكست الشمس ضوئها عليه بسخاء راح يُقدم منهُ موزعًا إيّاه على تلك البقعة.
صوت حدوتهِ تقرع الأرضية من أسفلهِ، وجسدها يرتدّ علوًا و هبوطًا بمسافة ضئيلة متماشيًا مع حركة الجواد أسفلها بينما هي تقبض على اللجام بين كفيها حتى ترك آثارًا بكفيها المُطبقين عليهِ، نظراتها المحتدمة، أسنانها المُنطبقة، و صدرها الذي ينهج علوًا و هبوطًا و شريط حياتها تُعاد أمام عينيها و گأنه عرض سنيمائيّ، كم عانت و عانت والدتها من حرمان، تذكرت حين مرضت يومًا و لم تجد والدتها مالًا لزيارة الطبيب، و لم تتمكن حتى من شراء أدوية لها، و أكثر ما أوغر صدرها حين تذكرت حلمها الأول.. حلمها الذي شيّدت عليه حياتها گكُل منذ نعومة أظافرها، أن ترتدي المئزر الطبيّ، أن تضع السماعة الطبيّة حول رقبتها، أن تبتسم في كل من يواجهها كاشفة عن أسنانها اللؤلؤيّة و هي تمرّ من خلال رواق المشفى، تتنفس هوائها الذي لا يطيبُ لها سوى كونها طبيبة لا كونها مريضة مُحتجزة بها، حتى أنها كانت تضع في حسبانها بأحلام الطفولة تلك أن تكون رفيقة مع الفقراء، سـ تُعالجهم دون حتى نظير ماديّ رمزي، و كأن ما عانتهُ من حرمان عقب تلك الحمى التي أصابتها و ارتفعت حرارتها لما بعد الأربعين حتى كادت تخسر حياتها إينذاك.. جعلها تفكر في من حولها، في من هُم أكثر منها فقرًا و احتياجًا،.. و لكن ضاع كل شئ هباءً حين قررت شقيقتها الكُبرى أن تختار ميولها العلميّ، ما اختنزتهُ والدتها من ذلك المبلغ الضئيل الذي يبعثهُ إليهم نهاية كل شهر ضاع أجمع على دروسها الثانوية و في النهاية تمكنت من أن تنضمّ لكلية الفنون التطبيقية عقب مجهود مُضني و أموالًا أُنفقت في دروسها الخصوصيّة لتتمكن من أن تحقق حلمها.. و تكتسب لقب مهندسة و لكنها كانت عابثة لدرجة أنها لم تكترث فور انتهاء فترة جامعتها أن تبحث عن وظيفة، و كأنها كانت تثق أن وهنها و انهاكها في العمل سيكون نظير أموالًا ستضطر لمشاركتها مع والدتها حتمًا.. فلم تكترث حتى، كان آخر حلمها أن تصبح "مهندسة" لقبًا، و تحمل شهادتها الجامعيّة و فقط.
 و هي.. عبثت الرياح بحلمها الأول، و شتتهُ ليضيع بين بقاع الأرض، كلما حاولت أن تتشبث بهِ كان يتركها ليفرّ من بين أناملها الرقيقة، اضطرت أولًا أن تخالف ميولها و تنتقى القسم الأدبيّ، و كان هذا أبشع ما مرت بهِ حينئذ، حيث أنها تكره ما يسمى بالحفظ و التلقين، و لا تعشق سوى الفَهم،.. لم تكترث لأي شئ بعد ضياع حلمها، رغم أنها كانت ستتمكن بكل يُسر إن حاولت و لكنها تقاعست عن المحاولة، لم تكن حتى تفتح كتابًا إلا بشِقّ الأنفُس، و بالرغم من ذلك كان مجموعها مناسبًا لكليّة السياحة و الفنادق التي دلفتها غير راضية عنها، و لكنها كانت مجبرة لا مخيّرة، و كانت تلك أولى انتكاسات حياتها، حينها بكت كما لم تبكِ من قبل، حينها بالفعل أدركت أن  شقيقتها الأنانيّة ساهمت في تدمير حلمها، و لكنها لم تكن ناقمة عليها، بل على العكس.. كانت هي رفيقة حياتها التي تثق بها دونًا عن غيرها، و لم تكن تدرك سوى الآن أن حياتها بأكملها سـ تُدمر و ليس فقط حلمها على يد والدها الأكثر أنانيّة و تفكيرًا في ذاتهِ فقط.
أنفاسها تتلاحق و زرقاويها أُحيطت بشعيرات دموية بارزة و قد احتقنت الدماء فيهما، وجنتيها بعثتا حرارةً إليها، و لكنها لم تكفّ..  گأنها تحاول التنفيث عن طاقتها السلبيّة بتلك الطريقة، و بعد صمتٍ طويل دام لم تستمع فيه سوى لصوت قرع الأرضية حتى خفت الصوت و الخيلان يمرّان من بين تلك الحشائش فصار الصوت مغايرًا قليلًا، بجوارها.. مُلتصقًا بها تمامًا تحسبًا لأي خطر، لولا أنهُ هو من شارف على تدريبها طوال الأسبوع منذ الحفل و بعد محاولات منها و توسلاتها اضطر أن يفعل، لولا ذلك فقط.. لما كان تركها تمطى صهوة جوادها في حالتها تلك.. أو في أيّ حالة أخرى حتى، بادرت هي بقطع الصمت المهيب و دون أن تحرف نظراتها إليه و هي تعقد حاجبيها لتحتجّ على واقعها:
- يعني إيـه؟ حياتي كلها كانت كذبة؟ حياتي كلها مبنية على كذبة
و صمتت هنيهة لتتابع بنبرة أشدّ استنكارًا:
- أبويا مليونير.. و احنا اللي عيشنا حياتنا كلها في حرمان! مهموش؟ مفكرش للحظة احنا عايشين ازاي؟
و اختنقت نبرتها و هي تغمغم:
- ده أنا كنت بمـوت! كنت بموت و مش عارفة أكشف من كتر الفقر! كنت بموت و مش لاقية حتى تمن العلاج!
و ابتسمت بسخرية مريرة من جانب ثغرها، و هي تتابع:
- لولا إن جارتي سلفت ماما حق علاجي كان فاتني ميتة!
 و تلاشت بسمتها تمامًا لتصيح باستهجان:
- و كل ده و هو مليونيــر! ضيع أحلامي كلها و ضيع حياتي اللي ضحيت بيها عشانهُ، و هو مليونير ممكن يدافع عن نفسه!.. ممكن يدافع عن نفسه قصادك بكل سهولة! كنت فاكراه ضعيف و ساندته و هو مسندنيش للحظة
حرد صدره أكثر و أكثر، و بالرغم من ذلك كان وجهه أشبه بجدار فولاذيّ و هو ينظر أمامه لا ينحرف بنظراتهِ نحوها، فقط نظراته هي التي تعكس ما بداخلهِ، نظراته التي باتت و كأن الحمم البركانية تتقاذف منها و حاجبيه المعقودين دومًا باتا گمسطرة مستقيمة.
تركها تخرج ما بجبعتها حتى صمتت قليلًا و هي تطرد أنفاسها الملتهبة عن صدرها، فسألها حينئذ بصوتهِ الأجشّ:
- هديتي؟
فكان ردها قاطعًا مُشبّعا بالسخط المفرط:
- و لا عمري ههدى، و لا عمري ههدى بعد اللي عرفته!
فـ أشار بعينيهِ لجوادها و هو يأمرها بـ:
- وقفي شوية
خضعت لهُ غير راغبة في أن تجادله، سحبت اللجام بينما عيناه تتابعان حركة كفيها  حتى توقف الجواد، كانت أنفاسها متهدجة و كأنها هي من كانت تعدو، في حين توقف "يامن" أمامها تحديدًا.. كلا الجوادين في مقابلة بعضهما البعض، و هو في قبالتها فأجبرها على النظر إليه، تعلقت أنظارها بهِ فسألته مُغضنة جبينها بتهكمٍ ساخر:
- إيه تاني اللي ممكن أعرفه عنه يا يامن؟
حاد ببصره عنها ليقول بلهجة قاتمة:
- حجات كتيــر، و قبل ما تسألي مش هتعرفي منها حاجة
و نظر نحوها مجددًا و هو يقول بغموض:
- غير في وقتها
- أنا تعبانة
أعربت لهُ عن إنهاكها النفسيّ مع إدراكها أنه سيعتقده إنهاكًا جسديّا، و لكنه كان يتفهمها جيدًا، نظرة واحدة نحوها لم تتمكن من تفسيرها، و لكنهُ أعقب نظرتهِ بكلماته:
- عارف
و كأنها فقدت كلّ طاقتها، و ظلّ فقط ذلك الوهن النفسيّ الذي سيشرع في السيطرة على جسدها و احتلالهِ، فيتسبب بركودٍ و كأنها في فترة نقاهة من مرضٍ لم تبرأ منه، ارتخت عضلاتها بالفعل، أحنت بصرها عنه في ضعفٍ و هي تبتلع غِصة عالقة في حلقها، ثم بادرت من جديد و هي تطلب منهُ:
- خلينا نمشي
- يارا
ندائهِ باسمها مجردًا حاز على انتباهها الكامل و ادراكها التامّ، ارتقت نظراتها إليهِ و حدقت في وجهه، مستقبلة نظراته التي لم تفهمها في تلك اللحظة و لم تتمكن من تفسيرها، أو أنها لم يكن لديها طاقة تكفي لمحاولة قشع الغموض عن نظراتهِ لتدرك ما يُكنّه خلفه، أطبقت جفونها بتعبٍ و هي تهمس بما بقى لديها من جفاءٍ:
- نعم؟
أشار "يامن" بمقلتيهِ لجوادها أولًا و هو يُردد بصوتهِ الآمر الخشن قبل أن يترجل هُـو:
- انزلي
فهبطت.. فعلت دون نقاش، توقفت أمامه بوجهٍ ذابل، و هي تتطلع إليهِ بنظرات واهنة مقت أن يراها في عينيها، زفر زفيرًا حانقًا و هو يحيد بوجههِ عنها، ثم دنا خطوة منها و هو يعيد نظراتهِ إليها، بسط يُمناه ليتناول كفها، و احتواهُ في قبضتهِ، و أنظاره القاتمة تتجول على صفحة وجهها، اعتقد أنها سترفض لمسته، ستحتجّ، و لكنها كانت ثابتة.. لم تصدر رد فعل سوى أنها أحنت أهدابها بقهر دفين، فزفر أنفاسه الملتهبة و هو يقبض على فكها بنوع من الرفق فرفع نظراتها تجاههُ، فعبّرت لهُ عن شعورها:
- أنا تعبانة فعلًا.. تعبانة أوي، حاسة اني في كابوس مش هيخلص، حاسة إني تايهة، تايهة أوي، مش عارفة نفسي.. مش عارفة أنا مين، وحيدة أوي، مش لاقية حد في ضهري، مش لاقية حد يسندني، الشخص اللي كل ما أقول هييجي.. هيساعدني، هييجي يوم و هيسندني زي ما سندته، كل يوم عايشة على أمل كذاب، و في الآخر طلع بايعني، بايعني حرفيًا، عمري ما كنت حاجة في حياته، عمري ما كنت حاجة في حياة حد، وحيــدة... أكتر من أي وقت!
و تحت ضوء القمر.. ومضت الزُرقة البحريّة إثر اغروراقها بالعبرات المتلألأة، و كأنهُ سقوطًا لأشعة القمر على سطح مياهٍ فجعلتهُ يُضوّي كحبات اللؤلؤ المنثور في ظلّ الحالكة القاتمة، عبراتها لم تفتؤ في عينيها مُطولًا، بل سارعت بالانسدال لتلقى مُستقرًا جديدة عقب أن مرت على وجنتيها؛ كفهِ.
انعطف بصرها الوامض في عينيهِ، ثم أجفلت أهدابها من جديد، حين تلقّت تلك النظرة حالكة في ظاهرها، و لكنها تحمل الكثير في باطنها،.. أرخى قبضته عن فكها فـأشاحت بوجهها لتطبق جفنيها بشجن و دموعها الصامتة تنساب على وجنتيها، و كأنها تحاول بشتى الطرق ألا تنهار، و لكنها فشلت مع دعوتهِ لها و كفهِ يتخذ محلهِ خلف عنقها مجتذبًا لرأسها إليهِ:
- تعالي
و لم تكن لتقاوم، شبّت على أطراف قدميها لتدفن وجهها في عنقهِ، فشعرت بذراعيه القويين احداهما يحيط ظهرها، و الآخر مثبّتًا لأسفل عنقها أعلى خصلاتها، تركت العنان لشهقاتها لتتصاعد في انتحابٍ غير مكتوم و هي تحيط عنقه بكلا ذراعيها مُطبقة عليهِ، تشبّثت بهِ بكل ما أُوتيت من قوة، فـتعالى نشيجها و اختلط مع شهقاتها مستنكرة حالة الضعف التي انتابتها أمامهِ من جديد، في حين كانت تودّ ألا تظهر سوى بمظهر القوة أمامهِ، فدمدمت من بين انتحابِها:
- أنا مش لاقية حد غيرك ليـه؟ ليه أذلل للدرجة دي قدامك؟ ليه لازم أنهار قدامك بالشكل ده! ليه كل مرة لازم أضعف قدامــك؟ ليـــه؟
خصلاتها القريبة منه للغاية اخترق عبقها أنفهُ حتى أثارت حواسهِ أجمع و هيّجتها من أجل استرداد حقّها منهُ، التفت قليلًا و هو يزيح خصلاتها الحاجبة عن جانب جيدها، و دفن فيهِ شفتيه ليطبع قبلة مطولة، فكانت تدمدم بنشيج  اختلط فيه الاستنكار مع التيه:
- ليه لما كنت هموت مكانش في غير اسمك على لساني؟ و كأني شخص مهم عندك و هتيجي تنجدني!.. مش مجرد هامش زي ما قولت قبـ..
- شـشـش
و ابتعد قليلًا و هو يزيح إحدى كفيه عن رأسها ليزيح خصلاتها المبتلة عن عينيها ماسحًا برفق بكفه الخشن على بشرتها الرقيقة، تجول بنظراتهِ على صفحة وجهها، ثم علق ببصره على عينيها اللامعتين، أثناء قولهِ:
- انسي كلامي.. انسيـه، انتي مراتي
و كأنهُ مسح على جرحٍ فُتق توّا بملطفٍ للجروح، فخفف من حِدة وقع الحدث عليها، أذاب -ببراعة و ببضعة كلمات لم يصُغهم حتى بطريقة مناسبة أكثر ما قد يتراكمُ على قلبها من ثلوجٍ باردة، و لفظ ما خطر ببالهِ مُمتصّا بذلك ما قد يتسبب في حالة أخرى ستعايشها.. خبت شهقاتها و هدأ بكائها، شبّت أكثر على قدميها مُطبقة جفونها، و قد شعرت بروحها تستكين قليلًا عقب هياجٍ طال، لتستند بجبينها على مقدمة رأسهِ، فتقابلت أنفاسهما الدافئة، عبث "يامن" بيُسراه في خصلاتها، بينما يتابع حديثهُ المُشتدّ و الذي لا تتناسب فيه نبرته مع كلماتهِ الصادقة:
- انتي مش بس مهمة عندي، اللي يتجرأ بس يمس شعرة منك أنا ممكن أمحيـه، اللي يأذيكي يبقى فتح على نفسهُ طاقة جهنم
و گأنهُ الخــور.. مطرًا حطّ على نيران قلبها المشتعلة فأخمدها، أزاحت رأسها عن جبينه، و راحت تقف بباطنين قدميها عقب أن آلمتها أصابع قدميها فصارت أقصر، تلك المرة دفنت رأسها في صدرهِ العاري.. و صادف ذلك أن تكون أذنيها بجوار دقاتهِ الثابتة، و ذراعيها يُطوقان صدره متشبثة به، دموعها الصامتة انحدرت على صدرهِ.. انحدرت على ندبتيها، بينما ذراعيهِ المعضلان تحتويانها، فظلّت أسيرة لهُ.. و تلك المرة أسيرة لأحضانه.
...........................................................
لم تتمكن من نوم ليلتها و التفكيـر خليلها، فهجدتهُ، و ظلّت متقوقعة على نفسها تفكر في المجهول، و ذكريات حياتها تُعاد نصب عينيها، ما تعلمه.. و ما تخبئه في جحرها إن علم ابنه بها فماذا سـ تكون النتيجة؟ ماذا سيفعل بها؟ لا تدري، حتمـًا ستكون نهايتها على يده، و لكنها في النهاية حسمت أمرها.. سـ تفعل، و دون أن تتراجع تلك المرة من جديد.
گانت الشمس قد بزغت من المشرق منذ بضع دقائق لا تتعدى الخمسة عشـر، آشعتها الرقيقة شرعت تطرق نافذة حجرتها، و لكنها لم تفتح لها، تركتها تنتظر حتى تخللت عبر زجاج الشرفة الشفّاف و الستائر القاتمة بصعوبة، فشرعت الغرفة تُنير بذلك الضوء الهادئ، حينما كانت تنهض عن نومتها، و برحت الغرفة بأكملها بحثًا عن "سهيـر"، لتجدها ساجدة، تهمس بهمسات في باطن الأرض فلا يسمعها سوى من بالسماء، اقشعرّ بدنها.. زُلزلت الأرض من تحت قدميها، توارت عن عينيها و كأنها تفعل جرمًا حين استقامت "سهير" في وقفتها و هي تغمغم بصوتٍ قويّ ثابت:
- اللهُ أكبـر
استندت بظهرها للجدار و قد شعرت و كأنها لا قيمة لها بجوارها.. تلك التي أتت عليها الحياة و الفقر فانتهى بها المطاف خادمـة، و هي مثلها.. و لكن الفارق الأوحد، أن المطاف انتهى بها سيـدة لها.
هي نفسها لا تعلم كنه شعورها، و لكنه ليس شعورًا سارّا بالمرة، بل أن الاكتئاب تملك منها أكثر و أكثر، راحت تمضى لغرفتها مجددًا، و توقفت أمام منضدة الزينة، تنظر عبر المرآة لهيئتها.. الهالات السوداء متكونة أسفل عينيها، بشرتها قد زحفت إليها التجاعيد فباتت أكثر بشاعة، جمالها انجلى تمامًا، حتى خصلاتها الشقراء التي صبغتها قبلًا شرع الشيب يُشعلها و هو يجاهد للظهور،.. شعرت بأنها مسخًا
و لم يكن ذلك سوى أمرًا في باطن عقلها فجعلها ترى نفسها بتلك البشاعة، و لكنها كما هي تمامًا بالرغم من التغيرات الظاهريّة على صفحة وجهها، و جمالها لم يتلاشَ تمامًا كما خُيل إليها، فمازالت محتفظة ببقاياهُ، و لكنها خسرت بقاياها هي.
............................................................................
لم تعلم كيف زحف النوم لجفنيها في أحضانهِ و هي مستكينة تمامًا، و هو كذلك.. يُطبق بذراعيهِ على جسدها و كأنه يوشك على خسارتها، و لكنه كاد يسحق جسدها بين ذراعيهِ و هنالك شيئًا في باطن عقلهِ، استشعرت "يارا" ذراعيهِ الذين تشددا أكثر على جسدها، ففتحت عيناها و استيقظت متأثّرة بذلك، و قد انتُشلت من أوج هدوئها النفسيّ، حدقت في وجههِ القريب، فلاحظت تلك الحبّات المتلألأة على جبينهِ، انعقد حاجبيها في عدم فهم لما يجرى، و ما إن كادت تستوعب، حتى صرخت بفزعٍ انتابها حين انتفض من نومتهِ مستقيمًا في جلستهِ، و قد حرر ذراعيهِ تمامًا عن جسدها، أجفل جسدها و قد أصابها الهلع، فاعتدلت في جلستها و هي تردد بذعرٍ:
- في إيـه!
 نهج صدرهُ علوًا و هبوطًا و هو يخفض ساقيهِ مستندًا بمرفقيه لركبتيهِ و دافنًا وجهه بين كفيه، أطبق جفنيه و هو يُشدد على قبضهِ فكيه، فلم ينتبه سوى مع لمستها الرقيقة على كتفهِ و هي تسأله من جديد في ارتيابٍ، و قد تلاحقت أنفاسها:
- في إيـه؟ إيه اللي حصل؟
أزاح إحدى كفيهِ، و تحرك كفه الآخر ليدلك جبينهِ المجعّد بتقطيبة أبرزت خطوطهِ، و هو يقول باقتضابٍ دون أن يلتفت:
- مفيـش، كملي نومك
دققت في وجههِ، ثم سألت مخمّنة و هي تضيق عينيها ممعنة أكثر النظر لتقاسيمهِ:
- شوفت كابوس؟
تنهد بضيق مستشعرًا ذلك الثُقل الذي جثى فوق صدرهِ، و هو متيبسًا بمحلهِ، فغيرت هي وضعيتها لتجلس جوارهِ و هي تسألهُ بقلق:
- انت كويـس؟
حينها أزاح كفه لينظر نحوها، فتقابلت نظراتهِ الجافة مع نظراتها العميقة القلقة و هي تتجول بينهما في عينيهِ، حتى انتبه إلى رنين هاتفه، فتأفف و هو يمرر أنامله في خصلاته مشيحًا بوجهه عنها، ليسحبه عن الكومود، و تفاقم ما بهِ من ضيق حين رآى الشاشة تنبثق باسمها، فأجاب بفتور واضح:
- في إيه تاني على الصبح؟
أطبقت "هدى" جفنيها و هي تقول بوهنٍ بزغ في صوتها:
- أنا.. هقولك على كل حاجة يا يامن
و صمتت هنيهة ثم تابعت:
- بس تعالى
فردد ممتعضًا و هو يقوس شفتيه:
- بقولك إيـه! الطرق دي مبتجبش نتيجة معايا، أنا مش مغفل عشان أصدقك!
زمت "هدى" شفتيها بينما الدموع تنساب على وجنتيها، ثُم قالت بقهر:
- معاك حق.. معاك حق متصدقنيش، لكن أرجوك يا يامن، أرجوك تصدقني،  حاول تسامحني و تعالى، تعالى و هاتها، تعالى و أنا هقولك كل حاجة تعالى نبدأ من جديـد
و كأن كلمتِها كسائلٍ قابلٍ للاشتعال، سُكب فأجج من لهيبهِ، افترّ جانب شفتيه كاشفًا عن شبح ابتسامة ساخرة، و هو يُدمدم متهكمًا:
- متأخر.. متأخر أوي يا هدى هانم
و نهض مستقيمًا في وقفته كمن لدغهُ عقرب توّا و قد اهتاج فجأة:
- بعد إيه نبدأ من جديد؟ بعد إيــه؟
- عشان خاطري يا يامن تحاول تسامحني، أرجوك يا ابني
ضيق عينيهِ و قد تقلصت المسافة بين حاجبيه و هو يقول مستهجنًا:
- ابنــك؟
أومأت و هي تقول متلهفة و قد شعرت و كأنهُ سيلين:
- أيوة ابني.. انت و عمر ولادي، ولادي اللي فرطت فيهم سنين.. لكن جه الوقت اللي عرفت فيه غلطي، أنا بعترف لك بده
بزغت عروق جبينه و قد توهج وجهه بالكامل عقب احتقان الدماء فيهِ بينما يجأر:
- ابنك ميــن؟ ابنك اللي مهانش عليكي تاخديه مرة في حضنك، ابنك اللي مهانش عليكي تطبطبي عليه مرة؟ ابنك ميــن؟ مين يا هــدى؟
و ضيق عينيهِ و هو يستأنف:
- يا ترى كون إنك جبتيني للدنيا كافي عشان يبقى اسمك أُم.. كافي عشان أبقى ابنك
شهقاتها تعالت و هي تغمغم من بين نشيجها بقهر:
- أيـوة.. أيوة، ابني اللي خبيته في بطني تسع شهور، ابني اللي شاركت معاه المدة دي كلها، ابني اللي خدتهُ في حضني يوم ما ولدته، ابني اللي سمعت صوته بيقول ماما لاول مرة، الكلمة اللي انت مستخصرها فيا
فقاطعها مزمجرًا و هو يضرب بقبضتهِ المتكورة الجدار:
- متستحقيهاش.. مستحقيش أقولهالك، لسه مش قادرة تفهمي ده!
أطبقت جفنيها و هي تقول بتنهيدة حارّة من بين نشيجها:
- أنا عارفة، عارفـة إني قسيت عليك كتير.. لكن صدقني ده كان عشانك، عشان مصلحتك، عشان الدنيا متدوسش عليك، عشان تقدر تعيش يا يامن، عشان تبقى يامن الصياد.. اللي محدش يقدر يواجهه، اللي يؤمر يجاب، اللي محدش يستهون بيه، اللي الناس كلها تخاف منه، عشان تقدر تعيش كان لازم أعمل كـده، كان لازم أربيك صح!
تشنجت عضلات نحرهِ و هو ينطق بـ:
- و أديني أهـو.. يامن الصياد اللي حتى مبيعترفش بيكي، انتي كده مبسوطة؟
- لأ
كشّر عن أنيابهِ و هو يقول مجيبًا على سؤالهِ:
- لكن أنا مرتاح.. كفاية إني بنيت لنفسي حياة انتي مش فيها، و لا عمرك هتكوني!
فحاولت التبرير من بين شهقاتها:
- كنت عايزاك تعيش، و الله كنت عايزاك تعيش
فكانت لهجتهِ متصلبة و هو يقول من بين أسنانه المطبقة:
- بس انتي قتلتيني من غير ما تحسي!
و اشتدت لهجتهِ و هو يقول مقوسًا شفتيهِ بقسوةٍ:
- متجيش دلوقتي و تقولي أسامح.. لأنك علمتيني إني مغفرش في يوم!
- أرجـوك.. عشان خاطر عمر
أشار بسبابتهِ و هو يقول و قد التهبت عيناهُ:
- أنا عشان عمر عملت كتيـر، و صدقيني مش مستعد كمان أسامحك عشانه!
و صمت هنيهة يستمع لنحيبها الممشوج بشهقاتها، ثُم أردف بازدراء مضيقًا عينيه فباتا أكثر احتدامًا:
-  كان ممكن أسامح يا هدى، كان ممكن.. مش فارق معايا نفسي، كان ممكن أسامحك على أي حاجة، لولا إني شوفتك بعيني!
فتعالى نشيجها المكتوم و قد شعرت بكلمته تجثو على صدرها، بينما هو.. طوال استماعهِ لصوتها لم يكن يرى سوى ذلك المشهد، فوق فراش والده الذي أحرقه فيما بعد.. أضرم فيه النيران و وقف منتشيًا و هو يرى الألسنة تنعكس في مقلتيهِ، أطبق جفنيه ليمحو ذلك المشهد عن عينيهِ، ثُم قال بلهجة باتت أكثر شراسة:
- لو نسيتي أنا منسيتش.. أنا عيشت طول عمري عشان أبويا، و صدقيني، لو شميت خبر إنك جوزك الـ***** ليه يد في موته، و رحمته لاكون موسّخ إيدي بدمه!
و أنهى المكالمة.. تاركًا لها في انهيارها، وجههُ كجمرة ملتهبة، و عيناه تنطقان بالكثير.. بينما هي عيناها مسلطتان على ظهرهِ.. ذلك التشويه الذي يبزغ منه آثارًا طفيفة، اعتصر قلبها ألمًا، حتى أن العبرات ترقرقت في مقلتيها، انتفض جسدها مع ركلهِ للمنضدة الصغيرة التي أمام الأريكة فـ أطاح بها.. تهشمت و تناثرت الشظايا مُصدرة دوّى هائل، نهج صدره علوًا و هبوطًا و هو يمرر أناملهِ في خصلاته محاولًا تهدئة حالة الهياج التي انتابته، و لكنه لم يتمالك نفسهِ مطلقًا.. حيث التفت ليلكم  باب الشرفة الزجاجيّ بقبضته المتكورة، ، و لم يكتفِ أيضًا.. فراح يضرب بنفس كفهِ مجددًا الجدار، حتى انتفضت و هي تحاول تهدئتهِ، مضت نحوهُ و هي تسحب حذائها لترتديه فتمنع تلك الشظايا من اختراق قدميها، و لم تمنع نفسها من ذلك.. ضمّته من الخلف محيطة ظهره بذراعيها محاولة تهدئتهِ و هي تغمغم:
-  اهدى.. أرجوك تهدى شويـة
لم يستجب لمحاولتها، و راح ينفض ذراعيها عنه و هو يدفعها بعنفٍ هادرًا باحتــدام:
- حاسبي
ارتد جسدها، و لكنها تماسكت في اللحظة الأخيرة مستشعرة ذلك السائل الدافئ على ذراعها، أحنت بصرها نحوه فقرعت نبضاتها في أذنيها، ازدردت ريقها و هي تتلمسه مستشعرة دفئهِ، ثم ارتفعت أنظارها نحوه، فكان قد تصلب بمحله ينهج صدره علوًا و هبوطًا، حتى رأت الدماء التي تقطر من إحدى كفيه المتكورين بجانبه، عضت شفتها السفلى و هي تمضى نحوه بحذر، حتى توقف أمامه، و لكنه تركها دون أن ينظر نحوها، و راح يتجول في الغرفة يمينًا و يسارًا و هو يبحث عن سترتهِ الملقاة هنا منذ البارحة، حتى وجدها، فانحنى ليلتقطها و شرع يبحث في جيوبها عن مبتغاه، فلم يجده، فثار أكثر و هو يلتفت نحوها و هو يجأر مستهجنًا:
- علبة سجايري فيــن؟
- رميتها!
لم تكترث لما قد يبدر عنهُ عقب كلمتها الباردة تلك، بينما كان "يامن" يطبق أسنانهِ حتى ارتعشت عضلات صدغيه و هو يدنو منها ملقيًا السترة جانبًا بعنف، لم تخشَه، و لم تتحرك قيد أنملة، حتى حينما أشرف عليها بقامته متوقفًا أمامها و هو يسألها مضيقًا جذوتيهِ فاستشعرت الشرر المتطاير منهما و هو يقول:
- عملتي إيــه؟
أومأت برأسها و هي تجيب بتشنج مُشددة على كلماتها الأولى لتعني نفس المقصد دون تراجع:
- أيوة رميتها، انت مش شايف بتعمل إيه في نفسك! انت مبقيتش قادر تعيش من غيرها!
امتد كفهُ ليطبق بأناملهِ على عضدها و هو يهدر بها مستنكرًا:
- و انتي مالك؟
تلك المرة كانت نبرتها أشـد بأسًا و هي تحدجهُ بنظرات قوية:
- لأنك جـــوزي!
لم ترتخِ عضلة واحدة في وجههِ، و لكنهُ أرخى قبضته عن ذراعها عقب تحديق طال بها، لفحت أنفاسهِ المهتاجة بشرتها في حين كانت تسحب ذراعها إليها و هي تقول بلهجة ذات مغزى:
- لأنك الوحيد اللي وقفت جمبي، لأنك متخليتش عني في الوقت اللي أبويا اتخلى عني فيه، عرفت ليـه؟
و صمتت هنيهة تنقل نظراتها بين عينيهِ و هي تقول بلهجة ثابتة:
- لأني بثق فيك يا يامن، لأني عارفة إنك مش هتأذيني
و نقرت بسبابتها على صدره العاري و هي تتابع:
- لأن لو كنت هتأذيني مكنتش سيبتني بعد ده.. مكنتش سيبتني بعدها
و گأنهُ استشعر ما يجول بخاطرها، هو يعلم جيّدًا كم هي شخصية تعيش بقلبها لا بذهنها قط، فحذرها منهُ و قد تصلبت ملامحهِ، و لكن عيناهُ مازالتا مضطرمتين مرابطين عليها:
- متنتظريش مني أكتر من حمايتك و من إني أوفرلك الأمان.. لأني مش هضعف زي ما هو ضعف قدامها!
و كأن كلماتهِ كانت تحمل مغزى واضحًا للغاية.. و كأنه يعرب لها أنه لا يُكنّ لها أي شعور سوى المسؤولية تجاهها و فقط، و ذلك لم يكن عليها يسيرًا، حتى أنه تركها و انصرف بعدها، و لكنها لم تتابعه بناظريها، ظلّت محدقة بطيفه الذي تلاشى من أمامها حتى بعد صفعهِ العنيف لباب الغرفة، أطبقت جفنيها بعنفٍ لتنهمر الدموع من بينهما و هي تشيح بأنظارها عن طيفهِ المتجسد أمامها و كأنه لم يغادرها، و گأنهُ خطّ بكلماتهِ وشمًا على قلبها، وشمًا لن يزول أثره، فستظل تعاني منه، لم تشعر بنفسها حتى و تلك الهمسة تنفلت من بين شفتيها:
- يا ريتني كنت أقدر.. يا ريت!
.................................................................
لكمة تليها أخرى و كأنهُ يحاول التنفيث عن غضبه المكبُـوت، زمجر و هو يسدد لكمة أخرى لكيس الملاكمة الذي يتدلى من السقفية، لا يعلم كمّ مضى من الوقت، حتى استمع لرنين هاتفهِ، فـ سدد اللكمة الأخيرة، ثم خلع عنهُ قفازين الملاكمة الذي تخضب أحدهما بالدماء من الداخل، غير مباليًا بما أصاب كفهِ مطلقًا، و مضى نحو الطاولة الصغيرة، سحب أولًا إحدى الزجاجات و تجرع تقريبًا نصف ما بها، ثم تركها أعلاها، و سحب هاتفهِ، تغضن جبينه و هو يجيب بصوتٍ أجشّ جاف:
- أيوة يا سهير، خيـر؟، ليه؟
و صمت قليلًا يستمع إلى ردها المتبعثر و الذي بدا لهُ كاذبًا لحد كبير:
- صدقني هدى هانم اتغيرت.. أنا شايفة ده بعيني، الله يخليك يا ابني.. لو اعتبرتني في يوم قريبة منك، أمانة عليك لتيجي تشوفها، دي مقطعة نفسها من العياط
صمت هنيهة و هو يطرد أنفاسهِ الملتهبة عن صدرهِ، ثم أنهى المكالمة في وجهها دون إجابة واضحة، ثم خرج من غرفة الأجهزة الرياضية و حبات العرق تتلألأ على صدرهِ و جبينه، و خصلاتهِ قد تشبعت بها و ابتلت، فراح ينفضها قليلًا و هو يخطو نحو الغرفة، دلف فوجدها تتصنّع النوم.. و أدرك ذلك جيدًا مع ارتعاشة جفنيها اللتان تغلقهما قسرًا، و لكنه لم يكترث، فمضى نحو الغرفة الداخلية المرفقة بغرفتهِ، و راح ينتقى ثيابهِ، ثم خرج منها و ولج المرحاض صافقًا الباب من خلفهِ، منتويًا أن يحظى بحمامًا باردًا، علّهُ يُبرد نيران أضلعهِ المتقدة.
.............................................................
صفع حاسوبهِ الشخصيّ و قد شرع القنوط يتخذ من بواطن ذهنهِ محلّا، فرط "فارس" جفونهُ بإنهاكٍ و هو يزفر في ضيق، ثم نهض عن جلستهِ دافعًا المقعد للخلف، سار حتى بلغ شباك غرفة مكتبهِ بالفرع الرئيسي لشركات "الصيّاد".. تلك المجموعة التي أسّسها جدهِ "يعقوب"، و اختار أحد توأميهِ ليورّث لهُ أسهمه دونًا عن الآخر، و ليس بالتساوي بينهما كما ينبغي، و من ثُم نقل "يوسف" كافّة أملاكهِ التي ورثها سابقًا لابنهِ الأكبر "يامن"، فـ أضحى "يامن" رئيس مجلس الإدارة، و بات هُو و كأنهُ فردًا إضافيّا بها، لا من يستحق أن يكون له مكانًا فيها.
و لم يكن ذلك ما يجول بخاطرهِ، إلا من فِكرة عابرة عصفت على ذهنهِ، إنه ليس بمكانٍ ينتمي إليـه، و لكن للحق يُقال أنه كان في أشدّ احتاجٍ لأن يكرس وقتهِ للعمل، محاولًا بذلـك التهرّب عن حقائق يدرك أنها متوارية و ستتجلّى عمّا قريب، و كم يخشى أن يكون ذلك ذو عواقبٍ غير محمودة.
وضع "فارس" يمناهُ بجيب بنطالهِ، و هو يحرر زفيرًا حارًا عن صدرهِ، عقب أن أزاح بيُسراه الستائر فكشفت عن الأفق، بدى و كأنهُ ينتظر أمرًا على أحرّ من الجمر، و بالفعـل.. ما هي إلا دقائق من التحديق الشارد عبر زجاج النافذة، و كان يُصغى لرنين هاتفهِ، فاستدار ليخطو نحو المكتب موفضًا، و تناولهُ عنه مجيبًا بتلهّف المنتظر على الاتصال:
- ها.. وصلتوا لإيـه؟
فـ تغضن جبينهِ، و عبس وجههُ و غزا الامتعاض بجيوشهِ ملامحه، زفر "فارس" طاردًا عن صدره نفسًا ملتهبًا، و ردد مستنكرًا و هو يشيح بكفهِ:
- يعني إيه ملهاش أثر!.. إزاي يعني؟
و أطبق جفونهِ و هو يتابع بسخطٍ مقاطعًا حديث الطرف الآخر:
- تدور تاني و تالت و رابع، متسيبوش حتة في مصر كلها غير لما تلاقيها!
و قبل أن يصغى لردّه، كان "فارس" ينهى المكالمة تاركًا هاتفهِ و قد تهدّل كتفيه، أحنى "فارس" رأسه و هو يستند بكلا كفيهِ على سطح مكتبهِ، و من بين أسنانه نطق و كأنه يرجوها:
- انتي سيبتيني و مسألتيش فيا.. لكن أنا مش هسيبك
و لفظ زفيرًا محمومًا من صدرهِ تعبّأ بما يحمل على كاهليهِ و هو يرفع بصره ليحدق بنقطة في الفراغ، حتى ارتكز بصرهِ من جديد على الهاتف الذي انبثقت شاشتهِ باتصالٍ هاتفيّ وارد، فتلقّاه "فارس"، تبدلت ملامحهِ، و اشتـد وجهه و هو ينهي المكالمة عقب بضع كلمات، ثم سحب سلسلة مفاتيحهِ، و همّ يخرج و هو يهمس بحنقٍ:
- أنا مش ناقص أشيل همك انتي كمان، خلينا نخلص من الحكاية دي
........................................................
خرج "يامن" من المرحاض مرتديّا بنطالٍ أسود ذو خامة الجينز، و تاركًا صدره عاريّا، و فور أن خطى خارجه وجدها تجلس مستقيمة بظهرها على طرف الفراش مقابلة لهُ مخفضة ساقيها عاقدة حاجبيها و مكتفة ساعديها أمام صدرها، لم يكترث لها.. و راح يسحب قميصهِ و همّ في ارتدائهِ و هو يوليها ظهرهِ، و لكنها نهضت عن الفراش لتمضى نحوه و هي تقف أمامه دون أن تحل عقدة ساعديها، زفر أنفاسهِ الملتهبة و هو يحرف نظراته نحوها، و سألها في النهاية، محطّمًا الصمت السائـد:
- عايزة إيه يا يارا؟
رمقتهُ بنظرة لائمة ، أتبعتها بسؤالها المعاتِب:
- هتسيبني؟
فكان جوابهُ موجزًا للغاية و فاترًا و هو يحيد عن عينيها:
- راجع
- امتى؟
فـ انعطفت نظراتهِ إليها من جديد و هو يُكشر عن أنيابهِ، مرددًا:
- يارا!
لم تتخلّ عن موقفها، حلت ساعديها و قد احتدت ملامحها و نظراتها نحوه، ثم قالت باتهامٍ صريح:
- أنا مش مهمة عندك.. زي ما قولت بالظبط قبل كده، لو كنت مهمة عندك مكونتش سيبتني و انت عارف انه ممكن يقتلني
و كات تمرّ من جواره و لكنهُ قبض على عضدها مجتذبًا له إليه و هو يترك قميصه أرضًا، نظرت لعينيه مباشرة و هي تهدر باهتياج مفاجئ لا يعلم سببهِ:
- إيـــه؟
فهدر بها مستنكرًا:
- إيــه انتي؟
حاولت جذب ذراعها و هي تقوس شفتيها استهجانًا:
- امشي يا يامن.. امشي و سيبني!
فشدد من قبضته و هو يسألها بلهجة محتـدمة:
- انتي عايزة إيــه؟
- عايــزاك!
هدرت بها دون أدنى تردد أو تفكيـر، حتى أن صدرها نهج علوًا و هبوطًا و أنفاسها تهدجت و هي تنقل نظراتها بين عينيهِ ثم استطردت:
- عايزاك جمبي.. عايزاك انت، لكن انت.. انت حتى مش قادر تعرف ده!
انحرفت نظراته بين عينيها، ثم أفلتها لتنتقل من أمامهِ، و مضت نحو فراشه، جلست على طرفهِ محنية أهدابها، فحرر زفيرًا ملتهبًا من أسره بين أضلعهِ، التفت لينظر إليها ثم قال:
- لازم أمشى
- امشي
فاهتاج و:
- يـــوه!
ارتفعت أنظارها نحوه و هي تقول بتشنج:
- قولت امشي مش عاجب.. افضل مش عاجب، أقول إيه يعني؟، انت عايزني أقولك إيــه؟
أشار بسبابتهِ و هو يعاتبها بجفاء قائلًا:
- شايفة آخرة غبائك وصلك لفين؟ شايفة و لا لأ
فنهضت و هي تقول باختناق مؤنبة إيّاه:
- انت هتفضل تذلني كل شوية.. ما كفاية بقى!
أقبل عليها و هو يقول بلهجة محتدة:
- انتي شايفاني بذلك، لكن أنا بحاول أعقلك.. بحاول أخليكي تفكري بعقلك مش قلبك
و أشار بعينيهِ نحو صدرها و:
- قلبك ده هيوديكي في داهيـة، كنتي اديله الزفتة و خلصيني!
فـ احتجّت عقب قولهِ و قد توسعت عيناها في اغتياظٍ:
- انت أكيد مش طبيعي! يعني الحق عليا إني ضيعت فرصة زي دي من إيدي عشان خاطرك
فجأر و قد بزغت عروق جبينه:
- انتي فاكرة ان حتة صفقة لغيتها من سنة أصلًا هتفرق معايا! انتي مجنـونة؟
و حكّ جلد عنقه بانفعالٍ و هو يكشر عن أنيابه، ناطقًا من بينهم:
- مكنش هيهمني حاجة قد ما الـ*** ده يبقى انتصر في جولـة، لكن كنت هندمه الجولة اللي بعدها!
ارتفع حاجبيها و قد شُدهت من ذلك القرار المفاجئ، ثم عقدت جبينها و هي تدنو منه:
- لغيتها؟، اللي أعرفه إنك.. موقع العقد
نظر لعينيها مباشرة و هو يقول بلهجة صقيعيّة:
- دفعت الشرط الجزائي.. مش حاجة صعبة
و مضى من أمامها و هو يسحب قميصه مجددًا عن الأرضية التي تولى الخدم تنظيفها من كافّة الشظايا التي كانت تعجّ بها، ثم ارتداه و قبل أن يشرع في إغلاق أزراره كانت تقف أمامه قائلة:
- بس.. بس أكيد كان كتيـر أوي و....
قاطعها بلا اهتمام:
- 6 مليون مش كتيـر، كنت سايب له الساحة و أشوف شطارته و اللي هيعمله
و نظر نحوها مباشرة و هو يقول بامتعاضٍ:
- لكن انتي بوظتي كل حاجة
ضاقت عيناها فجأة و هي تهدر به مُستنكرة:
- كام..؟ 6 مليون جنيه؟!
فصحح خطأها اللغوي و هو يشرع في إغلاق الأزرار:
- دولار
- انت أكيد مش طبيعي!
فحذرها من التمادي و هو يناظرها باحتداد:
- يارا
زفرت و هي تنظر نحوه باحتقان، ثم هزت رأسها استنكارًا و هي تفر من أمامه بوجه متجهم أثناء غمغمتها الساخطة:
- غبيـة.. أنا أساسًا غبية، فاكرة إني هقدر أنتقم منك بحاجة تافهة زي دي!
و توقفت محلها و هي تنظر نحوه باستنكار:
- و في الآخر تكون دافع مبلغ زي ده!
ناداها من جديد بصوتهِ الغليظ:
ـ يارا
ـ نعـم
فعاد يُكرر بلهجة أشد حزمًا و هو يسحب سُترته:
ـ لازم أمشي
ارتداها تحت أنظارها المعاتبة التي تخترقه، ثم التفت ليضبط خصلاتهِ بالمرآة، و أنهى ما يفعل بنثره من عطره الرجوليّ الذي راح يخترق حواسها قبل أنفها، سحب ساعة معصمهِ و شرع في ارتدائها و هو يلتفت نحوها مجددًا.. ثم تحرك من أمام المرآة و عينيه تحيدان عن نظراتها، كانت تقف بجوار الباب مباشرة، عليه أن يمر من جوارها فـيتمكن من العبور، و قبل ان يفعل كانت تسد الباب بجسدها و هي تنظر نحوهُ بحزم:
ـ مش هتمشي يا يامن
زفر أنفاسه الملتهبة بضيق، و قبل أن يمتد كفه لإقصائها عن طريقه، كانت تبعد ذراعها قليلًا و هي تبرر بنظرات معاتبة:
ـ مش هتسيبني يا يامن.. أنا مش هعيش الكابوس ده تاني! مش هشوف الكابوس ده تاني لوحدي و انت متبقاش جنبي
و اختنقت نبرتها و هي تتابع باختناقٍ مكتوم:
ـ انا كنت هموت من الخوف.. بدور عليك في كل حتة و انت مش موجود، بناديك كأنك هتيجي و اتأخرت.. اتأخرت أوي، مش عارفة كان ممكن يحصل لي ايه لولا انه.. انه كان مجرد تهديد، أنا كان فاتني ميتة
و هو يتابعها بصمت.. نظراته الجافة لا تعكس شيئًا، حتى نجح.. ازاحها بهدوء عن طريقه فوقفت خلفه مولية ظهرها له و قد ترقرقت العبرات في مقلتيها، و قبل أن يدير المقبض كانت تقول و هي تلتفت معاتبة إيّاه:
ـ مش انت قولتلي مستناش منك غير الحمايـة؟ أنا بطلب منك تحميني!
تيبس جسده بمحله غير قادرًا على الثبات.. و غير قادرًا على الرحيل، حتى شعرت بأنها تكاد تستميله، فأردفت محاولة العبث بذلك الوتر:
ـ أكيد يوم ما تتحط في اختيار بيني و بينها هتختارها
و أحنت نظراتها بقنوط زائف و هي تدمدم:
ـ امشي يا يامن.. عارفة إني عمري ما هقدر أقنعك، و عارفة كمان انها أهم بكتير مني عندك،.. امشي
حينها التفت إليها.. تحرك ليدنو منها أثناء قوله المُحتد و هو يضيق عينيه:
ـ عايزة توصلي لإيه بالظبط؟
كانت مفاجأة حقيقيّة لهُ.. حين توقف أمامها مباشرة فنقلت نظراتها بين عينيه، شبّت على اطراف قدميها لتكون اقرب اليه، أحاطت عنقه بإحدى ذراعيها و هي تقلص المسافة بينهما متجولة بنظراتها على صفحة وجهه، ثُم همست بهسيس مثير أمام شفتيه:
ـ أنا مهمة بالنسبة لك؟
فقابل سؤالها بسؤال ساخر شابهُ التحدي:
ـ انتي قد اللي بتعمليه ده؟
ضاقت عيناها و هي تشدد من قبضة ذراعها حول عنقه لتقول بلهجة قويّة على الرغم من خفوتها:
ـ جاوب على السؤال
فحذرها مما سـ يحدث:
ـ احذريني!
ـ فات الأوان
و راحت تُطبق بشفاهها على شفتيه و هي تعبث بأطراف أناملها في خصلاتهِ منفضة قطرات المياه عنها، تركها تؤجج نيران رغبتهِ التي لم و لن تخمد بها، حتى ابتعد عنه بضع سنتيمترات و قد شعرت بالخدر يتسلل لخلاياها، نظرت نحوهُ بنظرات نصف مفتوحة ناعسة و كأنها دعوة لهُ، و لم يكن هو برادٍ لها، و قبل أن تنسل من بين ذراعيهِ كان يحيط خصرها ملصقاً لصدرها بصدره، و هو يحتضن شفتيها بانفعالٍ عاطفيّ، حتى ابتعد فتقابلت انفاسهما بينما كان يهمهم:
ـ قولتلك قبل كدا يا بنت حسين! متلعبيش بنار مش هتعرفي تطفيها
فكانت نظرتها الضائقة متحدية و هي تحيط عنقه بكلا ذراعيها هامسة امام شفتيه بإغراء:
ـ المرة دي انا عارفة كويس هطفيها ازاي يا.. عاقد الحاجبين!
  گانت واعيـة بالكامل و هي تختبر تلك المشاعر المُلتهبة معه من جديد، و تعيشها لحظة بلحظة و ثانية بثانية، و بـ كامل ارادتها، لا تعلم ما ذلك المنحدر الذي تقتاد نفسها إليه، و حقًا لا تدري أين المفـر منه.
  ‏گانت رأسها أعلى صدرهِ.. الجانب الأيسر منه، و قد غطت في سبات عميق، بينما هو متيقظًا، مستندًا بظهره للوسادة من خلفه، بينما انامله تعبث ذهابًا و إيابًا بخصلاتها، انفاسها الدافئة التي تلفح صدره.. و خصلاتها التي يطبق عليها، و عبقها الرقيق الذي يكفي ليوقظ كافة حواسهِ يتخلل أنفه، كان يحدق في نقطة ما بالفراغ، و لكن سريعًا ما حادت نظراته نحو ساعة الحائط، تنهد بضيق أطبق على أضلعه، ثم التفت ليشمل وجهها بنظرة خاطفة، و لم يمانع في اختطاف قبلة عابرة من طرف شفتيها ، و كانهُ أيقظ مشاعرها التي لم تغفل بعد.. فالتوت شفتيها بابتسامة مغرية و هي تنظر نحوه بنصف عين، ثم استندت بكفها على موضع قلبهِ مستشعرة دقاته المنتظمة، قبل أن ينطبق جفنيها فلم تستشعر شيئًا، كانت مُطبقة عليه و كأنها تخشى رحيله، نهض بصعوبة من بين أحضانها مقاومًا رغبته المحمومة لمعايشة تلك اللحظات من جديد، و لكنهُ كبح جماحه بصعوبة جمّة، و دثرها جيّدًا ثم تركها،.. أوفض نحو المرحاض متعجلًا و قد شعر أنهُ سقط في فخها الذي نصبتهُ له كي لا يرحل، فخها الذي لا يُقاوم.
.............................................................
خطى عبر الرواق المؤدي للمطبخ حتى توقف في منتصفهِ و قد وجد "سهير" أمامه بوجهها الشاحب تغضن جبينهُ أكثر و هو يقبل عليها، فـ أشرف بقامتهِ عليها، استشعر خطبًا فسألها من فورهِ بصوته الرجولي و نظراتهِ الثاقبة تسبر أغوارها:
- خيــر؟ أمنية جرالها حاجة؟
هزت رأسها نفيًا و هي تحاول السيطرة على تلك الرجفة التي تحيط جسدها بأكملهِ، و لكنها لم تتمكن و نظراتها تحيد نحو غرفتها.. المفتوح بابها على مصراعيـه، تقلّصت المسافة ما بين حاجبيه و نظراتهِ تستقر هناك، ثم عاد ينظر نحوها و هو يسأل بصوتٍ غليظ:
- سهيــر، اتكلمي، في إيــه؟
و لكنها لم تنطق، فلم يتمكن من الانتظار.. راح يوفض نحو باب الغرفة و قد استشعر خطبًا ما، حتى تيبس على عتبة الباب.. توقف و قد شعر ببرودة تسرى بأوصالهِ، حُلّت عقدة حاجبيهِ و خطّت الصدمة فوق ملامحهِ، و لكنها لم تأخذ منهُ الكثير، فـ ما هي إلا بضع ثوانٍ و كان يجأر بصوت دوى في أرجاء القصر بأسرهِ:
- هُــــــــدى
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن