"الفصل الرابع عشر"

947 29 0
                                    

" الفصل الرابع عشر"
ك

ان يذرع الغرفة جيئة و ذهابًا و قد ارتفعت نسبة التوتر لديه حتى طفت على ملامحهِ المُجعدة ، احدى كفيهِ مكورًا و الآخر مبسوطًا و يضرب كل منهما بالآخر مع كل خطوةٍ يخطوها ، حتى أصاب الجالس أمامه _و الذي كان جليًا عليه الضيق و الحنق _ بالامتعاض، فبادر "فهد":
- ما تقعد بقى خيلتني ، مش عارف أفكر
توقف اثر كلماته الجاحدة و هو يرمقه بنظراتٍ نارية ، مرددًا بسخط:
- دلوقتي مش عارف تفكر ، أومال مين هيلاقي حل للمصيبة دي؟.. أنا؟!
نفض خصلاتهِ الملتوية بعصبية جلية قبل أن يهتف و هو يعود بظهره للخلف:
- مكنتش عامل حساب ده ، أنا مش عارف ازاي قام منها ، يخربيته!. ده بيقولوا الطعنة كانت قريبة من القلب جدًا ! مكنش في أمل أصلًا انه يعيش
فـ أشاح الكهل بكفهِ هادرًا باحتدام:
- و أهو عاش ، و قام منها و من تاني يوم كمان!. تقدر تقولي هنتصرف ازاي
استند بمرفقه إلى سطح المكتب و عبث بأناملهِ بلحيته النابتة قليلًا و التي تضفي إليه وسامةً ثم ردد بلؤم ارتسم على ملامحه:
- بقولك ايه ، احنا ممكن نوديه في داهية بالفيديو اللي معانا ، ده الواد كان هيروح في شربة مايه!
ضرب براحتهِ على سطح المكتب و هو يعنفه قائلًا:
- بس يالا مسمعش صوتك تاني
تأفف الأخير و هو يزفر حانقًا ناظرًا له شزرًا من زاوية عينه ، فـ ردد الأخير مفكرًا و هو يحك جبينه :
- مينفعش حتى ننشر خبر عن حياته ، مينفعش ننشر أي حاجة تاني عنه!.. احنا نسحب ايدنا لحد ما نشوف هيعمل ايه
تغضن جبين الأخير و هو يردد مغتاظًا:
- انت خايف منه كده ليه ؟ مش فاهم أنا
فأشار اليه ثائرًا ڪالبركان في وجهه:
- مش انت يا غبي اللي خوفتني منه؟ دلوقتي جاي تقولي خايف ليه؟. مشوفتوش عمل إيه في الواد عشان سأله سؤال عن مراته ؟ أومال هيعمل فينا إيه؟
أشاح "فهد" بكفه غير مباليًا :
- و لا يقدر يعمل حاجة ، احنا ممكن نرفع عليه قضية بعدم التعرّض، و نبقى كده في المضمون
فلم يقوَ على كبح انفعالهِ، حيث أشار إليه بسبابتهِ، زائرًا باستهجانٍ آمر:
- امشي يا فهـد، امشي من هنا الوقتي، امشـي!
زفر "فهد" متأففًا، ثم نهض عن جلسته و هو يضبط هندامهِ قائلًا:
- يا أخي يعني هتطردني من الجنة، أديني ماشي!
و ولج خارجًا، صفق "فهد" الباب من خلفهِ، ثم أخرج هاتفهِ ليجري مكالمة ما، و حالما أتاهُ الردّ قال "فهد":
- أيوة يا باشا!.. هنعمل إيه الوقتي، خلاص، أيوة فاهم!
......................................................................
انها ذات الكلمات التي رددها من قبل على أذنيها ، و طريقة افاقته لها ذات الطريقة ، انهما سيّان ، و لكنه حتمًا ليس هو ، ما زالت تهذي معربة عن عدم تصديقها:
- انت.. انت متت ، انت متت ، أنا شوفتك بعيني ! أنا قتلتك بإيدي!
فـ حك بطرف سبابتهِ أنفه و هو يقول:
- محتاجة نضارة يعني!. متقلقيش هنشوف الموضوع ده بعدين
انفرجت شفتاها غير مستوعبة ما يتفوه به:
- هاه!
انتزع الغطاء عن جسدها و قد استعاد صلابتهِ آمرًا إياها:
- مفيش وقت نضيعه يا بنت حسين ، قومي معايا
و أحاط ظهرها بذراعهِ معينًا لها على السير ، و كأن وحشيّتهِ و شراستهِ تلاشت أجمع فور رؤيته لها ، استشعرت تجمد ساقيها إلى جانب تجمد ذهنها و تيبسه ، فلم تتمكن من أن تخطو خطوةً واحدة ، تحامل " يامن" على نفسهِ و آلام جرحه الغائر الذي لم يبرأ بعد ، و انحنى و بحركةٍ خاطفة كان يمرر ذراعه الآخر خلف ركبتيها ، و شدد من احكام ذراعهِ الأول حول ظهرها حتى حملها بين ذراعيهِ مستشعرًا ثقل جسدها للمرة الأولى ، كزّ على أسنانهِ و هو يمضى متقدمًا من الباب حتى فتحهُ بطرف كفهِ و بدون أن يضطر لإنزالها ، كانت گالبلهاء تمامًا ، فاغرة لشفتيها ، أعينها متسعة و هي تحملق بجانب وجهه ، انخفضت نظراتها حتى عنقهِ لترى بوضوح تلك الندبة البارزة التي تركها لهُ ابن خالها البغيض" خالد".. مما جعل شكوكها تتحول رويدًا رويدًا ، و رغم ذلك لم تصدق ، عبر " يامن" من باب الغرفة فـ عطفت" يارا" نظراتها نحو تلك المتسمرة ، اتسعت عينيّ " رهيف" و هي تحملق بوضعهما غير مصدقة ، فأول ما خطر ببالها أنهُ سيتطاول حتمًا عليها أمام توحشهِ الذي رأتهُ بأم عينيها ، و لكن الآن .. يخرج إليها حاملًا إياها بين ذراعيه ، على الرغم من جرح صدرهِ التي تسببت بهِ ، كل ذلك جعل ما تراهُ يكاد يكون حلمًا عجيبًا تراهُ بيقظتها ، لم يوليها " يامن" اهتمامًا ، و كاد يخرج من المنزل بأكمله لولا أن استوقفتهُ تلك المشاغبة و هي تقف عقبةً في طريقه مهللة بابتهاج و هي تصفق:
- انا عرفت ، أنا عرفت انت مين
و سحبت كف "يارا" البارد فـ استثارتها للنظر نحوها ، ثم رددت و هي تصيح:
- يارا ده جوزك صح! ، و جه هنا عشان يصالحك !. خلاص مش تزعلي منه يارا
ثم التفت قليلًا حول ساقهِ و اجتذبت بنطالهِ للأسفل و هي تردد مبتهجة:
- عمو .. مش تزعّل يارا تاني ، ماشي؟
أخفض "يامن" نظراتهِ الثاقبة نحوها ففغرت شفتيها و هي تنقل نظراتها بين عينيهِ متجاهلة تلك الحدة الواضحة :
- واو ، عمو عينيك حلوين أوي ، بس انت بتخليهم وحشين!
عقد حاجبيه و هو يحدجها بنظرة ناريّة و قد فرغ صبره تمامًا، فأشارت" رهف" بـ بإبهامها و سبابتها المنفرجين إلى شفتيها المنبعجتين عن ابتسامة عريضة و هي تجيبهُ بـ براءة:
- شوف عمو ، لما بضحك عيني بتكون حلوة صح؟ عشان ماما قالتلي ان العين كمان بتضحك
 و أشارت لشفتيه  الغليظتين البعيدتين عنها كل البعد:
- و انت كمان لو ضحكت عينيك هتبقى واو ، جرب كده؟
لم يحل "يامن" عقدة حاجبيه و تركهُ مجعدًا ، زفر بنفاذ صبر و هو يمضى مارًا من جوار الصغيرة موجهًا كلماتهِ لأختها:
- ابعدي البت دي عني
حمحمت حرجة و هي تنتقل بخطواتها لتسحب أختها التي كادت تتبعه ، فـ حاولت  الصغيرة ان تفر من حصارها و هي تقول:
- عمو عمو ، مش تنسى أنا قولتلك إيه ، ماشي
و لوّحت بكفها لـ "يارا" مودعة إياها:
- باي باي يارا!
حدقت " رهيف" بـ " يارا" المحملقة بها من خلف ذراعه بنظراتٍ مستفسرة مشدوهة و كأنها تحثها لإجابتها و انكار ما يحدث ، أو أن تأتيها لتوقظها من منامها العجيب ، و لكن تلك النظرة المتخاذلة التي انبثقت من عينيّ " رهيف" جعلت الشكوك تترسخ أكثر بذهنها ، حتى ابتعدت عن مرمى بصرها تمامًا اثر ولوجهِ للخارج و قطعه المسافات حتى سيارته ، انحنى " يامن" قليلًا و هو يفتح الباب بطرف كفه، ثم ترك جسدها برفقٍ أعلى مقعدها ، فتراخى جسدها عليه و كأنها فاقدة لوعيها ، تأمل حالتها المريبة تلك بنظراتٍ مختلسة ، ثم أوصد الباب برفقٍ و هو يدور حول مقدمة السيارة  متلمسًا بأطراف أناملهِ صدره الذي اشتدت آلامهِ به، استقل مقعده بجوارها ، لم تنكمش على نفسها ككل مرة يجلس جوارها ، بيد أنها حتى لم تره ، زفر مستثقلًا ما يعتمل في صدره ، ثم أدار المحرك و هو ينطلق بالسيارة مختلسًا من حين لآخر النظرات نحوها.. فـ كانت كما هي متيبسة ، ساكنة ، لم تتفوّه ببنت شفة ، بالإضافة إلى شحوبها ، مرت دقائق طويلة حتى و أخيرًا التفتت اليه متأملة ملامحه المتجهمة ، حتى تحركت شفتيها لتنطق بتوتر رهيب و قد شعرت بمعدتها تتقلص:
- انت .. مستحيل تكون حقيقة
لم يلتفت إليها  هو يرد بثقة قاتمة مديرًا المقود لينحرف لإحدى الطرق الجانبية:
- انا الحقيقة بعينها ، صدقتي خير ، مصدقتيش.. فـ أحب أقولك مقدامكيش حل غير انك تصدقي
ابتلعت لُعابها بصعوبة فـ استشعرت تلك الغصة العالقة بحلقها ، حتى رددت بعدم استيعاب و قد اضطربت ملامحها بالكامل:
- انت كنت بتموت ، أنا شوفتك، انت ..انت كنت.
اقتطع كلماتها بنبرة جافة ذات مغزى و قد حانت منه التفاتة نحوها:
- ساعات العين بتكذب يا.. يا بنت حسين!
برقت عيناها بوميضٍ غريب و انفرجت شفتاها بابتسامةٍ غير مصدقة ، تهدجت أنفاسها و هي تعتدل في جلستها لتواجهه:
- أنا.. أنا مقتلتكش ، انا مش قاتلة صح؟
ارتفع جانب ثغره بسخرية متهكمة قبل أن يصرف نظره عنها مسلطًا لنظراتهِ على الزجاج الأمامي ، فـ تنفست الصعداء و قد شعرت بانشراح صدرها ، دفنت وجهها بين كفيها و قد تلاشت بسمتها لتردف بارتياح:
- الحمد لله ، الحمد لله ، أنا مقتلتش حد!
و أزاحت كفيها عن وجهها و هي تنظر نحوه بشدوه قبل أن تردد متوجسة:
- أو..أومال ايه اللي حصل ؟
ارتفع حاجبه الأيسر و هو يسألها بسخرية:
- انتي فاكرة ايه؟
انبعجت شفتاها بابتسامة و هي تهتف بتهكم تام لما ستلقيه على مسامعه:
- لو قولتلك هتصدقني؟.. أنا فاكرة اني قتلتك! أيوة متستغربش!انا.. أنا حاسة اني اتجننت ، مش عارفة ايه اللي حصل خلاني أفتكر ده ، و.. و انت،.. انت كنت في المستشفى ، و كنت بتـ..
و تلاشى ارتياحها تمامًا مع حركة كفهِ التي كانت تفتح أزرار قميصه حتى كشفت عن صدرهِ بالكامل ، ثم أزاح طرف سترتهِ ليتبين لها جرحهِ المُغلف بالشاش الطبي:
- و ايه رأيك في ده؟
لحظات من الصمت المطبق ران عليها و نظراتها المصدومة معلقة بجرحه ، دوت نبضاتها في أذنيها كالطبول و هي محملقة به ، شعرت بالدماء تنسحب من أوردتها ، و بشئ يُطبق على صدرها و يسلبها أنفاسها.. ارتفعت نظراتها نحو جانب وجهه حيث كان مسلطًا لنظراته على الطريق ، و فور أن أدرك بث رسالته ، ترك سترته تواري جرح صدره غير مباليًا لأزرار القميص المفتوحة ، هزت رأسها نفيًا محاولة الإنكار بصوتٍ خفيض:
- لأ
فحكّ بظهر إبهامهِ ذقنه، و هو يهتف بصلابة قاتمة و قد توهجت حدقتاه:
- مش وقت دهشتك يا بنت حسين
و التفت ينظر نحوها بنظراتهِ الحالكة قبل أن يردف بامتعاض:
- لازم تتقبلي اللي حصل ، لكن كله هيفضل هنا
 و أشار بسبابتهِ نحو جانب رأسها مستأنفًا حديثهُ:
- محدش هيعرف حرف من اللي حصل!
و أزاح كفه عنها ليقبض على المقود محاولًا التنفيث عن غضبهِ المكبوت متظاهرًا بالجمود التام:
- باستثناء "عمر" و "فارس" ، و دول أمرهم سهل
رمشت عدة مرات و قد خبى بريق حدقتيها ، و ارتسمت الكآبة بخطوطها العريضة على ملامحها ثانية ، قطبت و عبس وجهها و هي تحاول جاهدة التحكم بعبراتها التي تصارع للفرار من مقلتيها ، و لكنها كبحتها بصعوبة و هي تلتفت لتعتدل في مقعدها ، بينما كان يختلس النظرات نحوها من زاوية عينه ، كان صوت واحد في داخلهِ يهتف بتوعد شرس:
- و كل واحد هياخد جزاؤه، حتى لو كان ميـن!
...................................................................
اليوم الأول لهُ من دونهِ!..يحق لهُ حتى الاحتفال بذلك الانتصار الذي أحرزه ، بالرغم من كون صوت في ذهنه يهتف لهُ بأنه على قيد الحياة ، و ردًا على ذلك.. تعمّد ألا يتفحص مُطلقًا وسائل التواصل الاجتماعية ، توجسًا من أن يكون ذلك الصوت على حق ، و بينما حدسهُ يخبره بأنه تخلص منه تمامًا و انقضت أسطورتهُ ، اتبع الأخير متجاهلًا ذلك الأول ، كانت " مروة" سكرتيرة المكتب الخاص بـ " يامن" تجلس في مكتبها الخاص حتى دلف إليها ، متظاهرًا بالترح المرير، و لم يتكفِ بذلك ، حيث أنه قبل دلوفهِ تعمّد استخدام قطرات مسيلة للدموع لتنطلي عليها تمثيلتيه ، وقفت فور رؤيته و قد انعقد ما بين حاجبيها فتقلصت المسافة بينهما و هي تهتف متعجبة:
- مستر كمال؟
تهاوى جسده على أحد المقاعد متظاهرًا بالبكاء الحارق فانتفضت و هي تهرول ناحيته مرددة بقلق جلي:
- مستر كمال.. حضرتك كويس؟
جثت أمامهُ على ركبتيها و هي تتمعن ملامحه ، فكان دافنًا وجهه بين كفيه و هو يردد بمرارة:
- حبيبي يا ابن أخويا، معرفتش أحافظ على الأمانة ، سامحني يا ابني ، سامحني يا يامن
 و تظاهر بأنه انخرط في نوبة من البكاء الحارقة ، فـ تقوست شفتيّ "مروة" بحزنٍ بالغ و هي تنهض عن وضعيتها ، ثم التقطت بضع مناديل ورقية و عادت إليه لتقدمهم له أثناء قولها المتحسر:
- احنا عرفنا باللي حصل يا مستر كمال ، السوشيال ميديا اتقلبت من امبارح!
خفق قلبه بعنفٍ في صدره ، و شعر بأطرافه گالثلوج المتجمدة ، حتى استمع إلى قولها القانط بعدما تهدل كتفيها:
- و للأسف مفيش أي خبر حلو !..ربنا يرجعه بالسلامة يا مستر كمال
تنفس الصعداء و هو يحاول ضبط تعبيراته ، تناول المناديل منها ثم استطرد بصوتٍ جاهد لخروجه بائسًا:
- شكرًا يا أميرة ، ربنا يسمع دعائك
زمّت شفتيها و هي متسمرة أمامه حتى تظاهر بأنه يحاول كبح نوبة بكاء مريرة تالية أثناء نزحهِ لدموعه الحارقة ، ثم رفع نظراته إليها متمتمًا بصوتٍ متهدج:
- كنت بحبه أوي يا مروة ، خايف يحصل له حاجة ، ده اللي باقي لي من ريحة توأمي!
أحنت بصرها عنه متنهدة بحرارة حتى تفاجأت بهِ يسحب كفها إليه ، فشهقت و قد توردت وجنتيها محاولة أن تجتذب كفها من قبضته و هي تتلفت حولها لتضمن عدم وجود غيرها:
- مستر كمال!.. إيه اللي حضرتك بتعمله ده؟
فشدد من قبضته على كفها و هو يردد بتوسل:
- أرجوكي يا مروة تدخليني مكتبه ، ده المكان اللي قضى فيه نص عمره ، خليني أدخل أقعد وسط ريحته !
فاجأها بتوسله ، فـ حملقت به غير مصدقة ما يتفوّه به ، رمشت بعينيها عدة مرات و قد اجتذبت كفها بصعوبة من كفهِ المطبق على أناملها ، مبررة لنفسها بأنه غير واعيًا لما يقوم به ، تراجعت "مروة" للخلف خطوتين محاولة الحفاظ على أكبر قدر من المسافة بينهما بينما كانت تقول مشدوهة:
- إيه بس اللي حضرتك بتقوله ده يا مستر كمال!..مينفعش أبدًا ، مينفعش أدخل حد غير مستر يامن و بس!
فبسط راحته فوق صدرهِ و هو يناظرها بتوسل متمتمًا:
- أرجوكي يا أميرة ، أرجوكي ، اعتبريني والدك و بطلب منك طلب ، مش هتحققيهوله؟
هزت رأسها عدة مرات و هي تقول بنبرة آسفة قاطبة جبينها :
- آسفة يا كمال بيه .. صدقني مينفعش
دفن وجهه بين أحد كفيه مستندًا بمرفق نفس الذراع على ركبته و قد تهدل كتفيه يائسًا متمتمًا ببؤس تام:
- ما انتي لو كنتي مكاني بس!. كنتي هتعرفي شعوري آآه يا يامن يا ابني ، آآه!
أثرت بها كلماته بشكلٍ غريب ، فـ طأطأت رأسها و كلماته تدوي في أذنيها ، ضمّت شفتيها معًا و هي تعيد التفكير ، حتى أنهت تلك المعركة الناشبة بذهنها بقولها و هي ترفع نظراتها إليه محاولة التهدئة من روعه:
- خلاص يا مستر كمال ، اهدى لو سمحت.. أنا .. أنا هدخلك المكتب ، لكن أرجوك ، لما يامن بيه يرجع ، ميعرفش ان ده حصل
صرّ على أسنانه محاولًا ضبط انفعالته ، و كور قبضته الأخرى كاتمًا سخطه بداخله ، سيعود.. سيعود.. سيعود ، الجميع يؤمن بعودته و كأنها أمرًا مسلمًا به ، مما أجج نيران غضبه حتى كادت تطفو على ملامحه ، و لكنه تماسك بصعوبةٍ و هو يرفع نظراته اليها و قد افتر ثغره عن ابتسامة باهتة :
- شكرًا يا مروة ، مش هنساهالك أبدًا يا حبيبتي!
.............................................................................
لم تتفوه ببنت شفة بعدها ، تركت نظراتها تتفحص_ ظاهريًا_ الطريق من خلال الزجاج الأماميّ، بينما هي لا تعي أبدًا معالم الطريق أمامها ، شعرت و كأن دوّامةً ابتلعتها بداخلها فلم تعد تدرك ما يدور حولها ، فقط الحقيقة الوحيدة التي تدركها أنه هنا، لم ينتشل ملك الموت روحه ، و ها هو يعود فارضًا عليها سيطرته، لم تنتبه حتى إلى صفّهِ للسيارة ، و لم تنتبه إلى ترجله ، لم تعِ ما يحدث حولها عندما فتح بابِها ، و امتد كفه ليلتقط ساعدها مجبرًا لها على الترجل ، تحاملت بصعوبة لتقف على قدميها الرخوتين و قد تحركتا مقلتيها لتنظر نحوه بشدوه فاغرة لشفتيها:
- إيـه؟ في ايه؟
أوصد الباب ثم نظر نحوها و هو يقول بصوتٍ آمر:
- امشي معايا
قلّصت المسافة ما بين حاجبيها و هي تعقدهما مستفسرة:
- امشي فيـن؟ مش فاهمة حاجة
تنهد و هو يمضي للأمام ساحبًا لها من خلفه مرددًا بحنق:
- مش قولتلك مش وقت غبائك ده!. ركزي شوية
ازدردت ريقها و هي تحدق بالطريق أمامها فـ اتسعت عيناها غير مصدقة ، راح عقلها يحاول تفسير سبب تواجدهما هنا تحديدًا ، فـ التفتت و هي تردد متوجسة:
- انت.. انت هتسجنني!
..........................................................................
رؤيتهِ مسطحًا هكذا كان بمثابة الضربة القاصمة بالنسبة إليه ، سحب لنفسه مقعدًا و راح يعتليه بينما نظراته مثبتة عليه ، امتدت أنامله ليتلمّس جلد كفهِ القمحاوي البشرة ، ازدرد ريقه فاستشعر غصة عالقة بحلقه، و فور تلمسه لكفهِ استشعر برودته فسحب كفه كالملسوع ، تنهد بحرارة محررًا زفيرًا ألهب صدره ، و ترك نظراته تتجول بحريّة على تقاسيم وجهه المختفي منتصفها خلف قناع التنفس الطبيّ ، دفن وجهه بين كفيه لدقائق تُعد على الأصابع ، ثم عاد بظهره للخلف مزيحًا كفيه ، مخرجًا هاتفه من جيب بنطاله ، و حاول الاتصال بـ"يامن" للمرة الألف منذ أن عَلِم بتلك الحادثة التي أصابت أخيهِ الأصغر بينما هو يسعى خلف تلك التي تسببت بتلك الكوارث المتوالية التي تتناثر فوق رؤوسهم الواحدة تلو الأخرى.
فَرِغ مخزونه من الصبر ، فكز بعنفٍ على أسنانه مشددًا على عضلات فكيه ، استشاط غضبًا ، و تجلى ذلك من احمرار بشرتهِ البيضاء بحمرة فاقعة ، أزاح الهاتف معتصرًا له بقبضته و هو يقول ساخطًا:
- رد بقى ، رد!
ترك هاتفه أعلى الكومود و هو يزفر حانقًا محاولًا التنفيث عما يعتمل في صدره ، و لكنه فشل.. فـ تسلطت عيناه على "عمر" و هو يردد متهكمًا بنبرة شابها الحنق:
- أخوك مبقاش أخوك! معرفش البت عملت له ايه!
..................................................................................
تصميم الغرفة كان مختلفًا و بعيدًا كل البعد عن باقي غرف الشركة، حيث الفخامة المتجلية للناظر ، و بتصميمها المميز، جعلته يتمنى لو يمتلكها اليوم قبل الغد .
كان يتجوّل بأريحية جمة في غرفة مكتبه و كأنها تخصه هـو ، يتلمس كل ما تراه عيناه و تسقط أنظاره عليه ، حتى انتهى بهِ الأمر جالسًا فوق مِقعده الجلدي الضخم الأسود اللون ، غاص فيه و هو يشمل الغرفة بنظراتٍ منبهرة و كأنه يراها للمرة الأولى في حياته، تلمس سطح المكتب أمامه، و حاسوبهِ الخاص بالشركة ، حتى انتهى بهِ الأمر إلى ذلك المجسم الصغير الخشبي المحفور عليه اسمه بشموخ ، قست نظراته و احتدت تعبيراته و هو يسحب المجسم ، و أداره إليه ليتبين إليه الاسم و كأنه يتحداه ، فكشّر عن أنيابه و هو يقول باحتداد:
- قريب!.. قريب أوي هيتمحى اسمك من كل حاجة يا يامن ، و هتبقى ذكرى منسية ، زي أبوك بالظبط!
و ترك المجسم حانقًا و هو يردف و قد افتر ثغره عن ابتسامةٍ شرسة:
- و اسمي بس هو اللي هيفضل!.. " كمال يعقوب الصياد"
..................................................................................
إلى الآن لم تتفهم ما يدور ، حتى أنها لم تنتبه إلى الشخص الذي يقف بالخلف متتبعًا لهما و هو محنيًا نظراته، صعدت الدرجات القلائل برفقته ، أو بمعنى أكثر صِحة كان هو من يحثها على السير ساحبًا لها خلفه ، و فور أن وصل لباب المخفر ، تعمّد أن يُطوق خصرها بذراعه و قد التقط من زاوية عينهِ نظرات الحارس المسلطة عليهما ، انتفضت من لمستهِ الغريبة تلك ، و توسعت عيناها و هي تنظر نحوه مشدوهة ، و لكنه لم يبالى بها أو بدهشتها ، و لم يحنِ بصره و هو يخطو بقدمه للداخل ، حتى لاحظت النظرات المسلطة عليهما ، و تلك التهامزات و التلامزات الموجهة نحوهما ، حاولت الفكاك من حِصاره و هي تهمس بذهول مستهجن:
- ايه اللي بتعمله ده؟ انت اتجننت !
لم يكلف نفسه محاولة الايضاح أو التفسير لها، و تركها هكذا گالقادمة من كوكب آخر ، لا تعي ما يدور ، حتى تقدمه المحامي " مهدىّ" و هو يشير بكفه مرددًا بصوتٍ جاد:
- اتفضل يا يامن بيه، من هنا!
و تقدمه ليسير  "يامن" في أعقابهِ بينما هي تتلفت حولها و قد تضرجت وجنتيها بحمرة الخجل ، ازدردت ريقها و هي تعيد النظر إليه ، و احتدت و هي تحاول تخليص نفسها من قبضته المحكمة:
- الناس كلها بتتفرج!.. انت متعمد تفضحني ، صح!
ارتفع حاجبه الايسر استنكارًا و قد اصطبغ وجهه بالحمرة ، أخفض نظراته نحوها ليمرر لها سيل نظراته النارية و هو يردد من بين أسنانهِ المطبقة:
- انتي مراتي يا غبية!
أُلجم لسانها للحظات و هي ترمش بعينيها و قد ظلّت نظراتها معلقة بخضراوتيهِ ، حتى شعرت بدوارٍ يجتاح رأسها ، أحنت بصرها عنه و قد أصابها بارتباكٍ قبل أن تردد بتوتر:
- مـ..ده مش يديك الحق انك!.. انك تـ..!
تيبست قدماهُ للحظاتٍ بـ الأرضية فتوقفت بدورها، شدد من قبضتهِ حول خصرها ليجبرها أن ترفع نظراتها نحوه ، فـ تفاجأت بنبرتهِ اللاذعة و نظراته الحانقة مسلطة عليها:
- بنت حسيـن!. في حجات كتير حصلت انتي متعرفيهاش !
و قست نبرته و هو يقول متابعًا، متعمدًا الضغط على الأحرف:
- أنا مبعملش كده حُبًا فيكي!.. كل اللي عايزك تفهميه انك تخصيني ، من وقت ما اسمك اتحط جمب اسمي بقيتي تخصيني!
و أخفض رأسهِ حتى أذنها متعمدًا ان تلفح أنفاسهِ الدافئة عنقها و هو يهمس بـ :
- و أنا بطبعي مبسامحش في اللي يخصني!.. و اللي بيتجرأ و ييجي جمب اللي يخصني أنا بنسفه، بخليه يتمنى الموت! لكن ميطولوش!
قشعريرةً سرت گكهرباءٍ في أوصالها ارتجف جسدها اثرها ، رمشت عدة مرات و هي ترفع نظراتها المشدوهة نحوه محاولة الابتعاد عن أنفاسهِ التي تلفح جسدها ، حرفت نظراتها بين عينيه و قد شعرت بأطرافِها تتثلج ، منحها نظرة مبهمة تعسّر عليها تفسيرها ، ثم التفت ليحدق أمامه و هو يستكمل سيره مجبرًا لها السير معهُ ، حتى بلغ الباب المنشود و محاميهِ يردد:
- هنا يا باشا ، من فضلك تنتظر ثواني
أومأ برأسه بحركة خفيفة لا تكاد تُلحظ دون التفوه بحرف ، بينما كانت هي تعاني من ذلك الدفء المنبعث من جسده فينتقل لها ، و من خفقات قلبهِ القريبة للغاية من أذنيها ، و من ذلك الوضع الغريب لهما ، ازدردت ريقها بتوتر رهيب و هي ترفع نظراتها نحو المحامي الذي أخذ يتبادل أطراف الحديث مع العسكري الرابض أمام الباب ، حتى و أخيرًا تركهم ليدلف ، شعرت بأنفاسها تتلاحق و بأن الرؤية تتشوش أمامها رويدًا رويدًا ، إلا الآن لم تفهم لمَ هي هنا ، و تفكيرها بأنه سيستغل ما ارتكبت ليزجها بالحبس يُناقض تمامًا كلماته لها ، رفعت نظراتها المتسائلة نحوه فلم يحنِ بصره إليها ، بل كان مسلطًا على باب الغرفة ، بينما النيران تتأجج في صدرهِ ، أظلمت نظراته و هو يجتزّ بعنفٍ أسنانه مشددًا على عضلات فكيه ، محاولًا التحكم بانفعالاته ، حتى و أخيرًا خرج العسكري مبلغًا لهم بالدخول ، فـ أشار "مهدي" لهُ أولًا :
- اتفضل .. اتفضل يا يامن بيه
تخطاهُ ليدلف قاطعًا المسافة لداخل الغرفة فشعرت بصقيع يغلف أوصالها ، حتى استمعت إلى صوت الضابط و هو يهتف مهللًا:
- يامن بيه ، و الله نورت يا يامن بيه ، حمدلله على السلامـ..
اقتطع صوته و قد تغضن جبينه و هو يبصر تلك الجميلة أمامه ، و التي يعرفها حق المعرفة من صورها التي اكتظت بها المواقع ، فـ شمله "يامن" بازدراء و هو يمضي نحو احد المقاعد أمام المكتب ، و انحنى قليلًا بجذعهِ ليترك جسدها أعلاه ، مستشعرًا ارتجافة جسدها ، حتى سقط أنظاره على شحوب وجهها ، فـتعمد أن يسحب كفها إليهِ ممرًا أصابعه على أطراف بنانها ، و هو يهتف بنبرة ثابتة متعمدًا أن يمرر سيل نظراته الجامدة نحوها:
- متخافيش
تغضن جبينها بعدم فهم و هي تنظر نحوه بذهولٍ مضاعف ، فقابل نظراتها بنظراتهِ المبهمة تلك ، و التي يتعسّر عليها فهمها ، نقلت نظراتها بين عينيه ، حتى اقتُطع التواصل البصريّ ، حيث دلف " مهدي" موصدًا الباب خلفه ، انتصب "يامن" في وقفته و هو يواجه الضابط الذي افترّ ثغره عن ابتسامة مرحبة و هو يشير بكفهِ على المقعد المقابل لـ"يارا" :
- اتفضل يا يامن بيه ، ارتاح
استند "يامن" بكفيهِ على سطح المكتب و انحنى قليلًا بجذعه ليسلط نظراتهِ الحالكة عليه ثم أجابهُ من بين أسنانه المطبقة :
- مش جاي عشان أرتاح ، أنا جاي عشان أسحب البلاغ المتقدم في مراتي!
اندفعت الدماء مجددًا في عروقها عقب تجمدها تمامًا اثر حالة الهلع التي عايشتها منذ قليل ، رفعت عينيها المتوسعتين نحوهُ و هي ترمقه بعدم استيعاب ، و لكنه لم يمنحها نظرةً واحدة.
تلاشت البسمة عن وجهه و هو يردد بعد أن زمّ شفتيه:
- يا يامن بيه .. المدام موقفها صعب ، خصوصًا بعد ما أخو حضرتك أكد اللي اتقال قدام الصحافة ، و مش بس كده ، ده كان شاهد رئيسي في القضيّة ، و جه هنا عشان يقدم أقواله و....
تغضن جبين "يامن" و قد تحول وجهه إلى كتلةٍ من الجمر ، و برزت عروق جانبيّ رأسه ، استشعر ذلك الغليان الذي يصيب أوردته و هو يضرب براحتهِ سطح المكتب أمامه فـ اقتطع حديث الأخير ، بدت عروق نحره ظاهرة للعيان و هو يردد بنبرة محتدمة:
- سمعني كده تاني!
ازدرد الأخير ريقه ثم ردد بتوتر:
- حضرتك متعرفش ان.. ان عمر بيه أدلى بأقواله كشاهد عيان ، بما انه كان الوحيد المتواجد في مسرح الجريمة
كاد يهشم أسنانه من فرط اطباقهِ عليها ، اول جاهدًا التحكم بنفسهِ و لكنه لم يشعر بحاله سوى و هو يزمجر غاضبًا دافعًا المجسم الصغير المدون عليه اسم الضابط فسقط أرضًا مصدرًا صوتًا مزعجًا، و من ثم كوّر قبضته و هو يلكم سطح المكتب بعنف ، أحنى نظراته مشددًا من قبضته على فكيه ، محاولًا التحكم بانفعالاتهِ المبررة ، حتى استمع إلى صوت الضابط و هو يهتف محاولًا تهدئته :
- كنت أعتقد ان حضرتك عرفت باللي حصل ، بعتذر لحضرتك يا يامن بيه...
رفع نظراته القاتمة إليه مقاطعًا بلهجة حاسمة و هو يبسط كفه لينقر بسبابته على سطح المكتب:
- اسمع!.. البلاغ المتقدم في مراتي تتصرف و تسحبه
تنهد ضائقًا و هو يحنى بصره عنه:
- يا يامن بيه، البلاغ اللي مقدمه هو كمال بيه عم حضرتك ، و لازم عشان يتسحب ، اللي مقدمه يسحبه
فضرب براحته مجددًا سطح المكتب و هو يردف بنبرة أكثر صرامة:
- مات الكلام
استدار ليخطو نحوها ، ثم سحبها من ساعدها ، فـ نظرت نحوه بتيه و هي تسير معه مستسلمة ، كاد يخطو نحو باب الغرفة لولا أن استوقفهُ " هشام" عقب تنهيدة مطولة صدرت عنه:
- يا باشا حضرتك بتصعب الموقف ، قواتنا كانت بتبحث عن المدام ، و فور ظهورها هيتم استدعائها عشان النيابة تحقق معاها في الحالة دي مش هنقدر نـ..
تركها "يامن" ليستدير مقلصًا المسافات بينهما منقضًا عليه و هو يجتذبه من تلابيبه و هو يجأر بـ:
- في الحالة دي أنا هدلّ عزرائيل على روحك!
كانت نظراته المسلطة عليه و المنبثقة من جُمرتيه كافية لإثارة توتره ، و لكنه حاول جاهدًا أن يتحكم بتعبيراته ، فـ عقد حاجبيه و هو يحاول تخليص نفسه من قبضتيه و هو يردد محاولًا التبرير:
- يا يامن بيه اهدى و احنا هنحاول نـ..
هز جسده هزة عنيفة و هو يهدر بشراسة و قد انتفخت أوداجه و برزت عروق جانبيّ رأسه:
- متقولش هتحاول!.. معنديش حاجة اسمها محاولة! انت تنفذ و بس!
انتفض " مهدى" و هو يمضى محاولًا الفكاك بينهما ، حتى توقف في المنتصف و هو يوجه كلماتهِ لـ "يامن" متوسلًا إياه:
- يا يامن بيه هو ملوش ذنب ، أرجو ان حضرتك تهدى و صدقني الموضوع هيتحل!
ظلّ مسلطًا لنظراته الشرسة المشبعة بالتوعد على " هِشام" دون أن يحيد عنه ، حتى تمتم " مهدي" مجددًا برجاء:
- أرجوك يا يامن بيه
مرّت دقائق معدودة قبل أن يتركه دافعًا له بعنفٍ للخلف ، فضبط الأخير من هندامه بحركاتٍ منفعلة متأففة ، بينما زمجر "يامن" حنقًا و هو يكور قبضته مشددًا على أصابعه حتى ابيضت مفاصلها ، و مجددًا لكم سطح المكتب أمامه ، ثم و بكفهِ الآخر أخذ يخلل أصابعه بين خصلاتهِ ، سحب شهيقًا عميقًا زفره دفعة واحدة و ما زال التجهم عن وجهه ، حتى جبينهُ ترك مجعدًا اثر تقطيب حاجبيه ، ران الصمت المطبق لـ ثوانٍ قبل أن يأتي صوت " هِشام" على هيئة بنزين سُكب فوق نيرانهِ المتقدة:
- يا يامن بيه ، بما ان حضرتك و المدام موجودين ، فـ الأفضل ان النيابة تستجوبها ، و صدقني ده هيكون في صالحنا ، لأن.....
أشهر سبابته في وجهه و هو يدمدم ساخطًا بنبرة تشبعت بالتوعد:
- مراتي محدش هيوجهلها حرف!
فـ احتجّ على قولهِ:
- يا يامن بيه....
فـ جأر حينئذ بصوتٍ دوى كـ الرعد:
- مراتني محدش هيستجوبها و لا هيوجهلها اتهـام! فـاهم؟
لم يكن أمامه سِوى الصمت و هو ينكس رأسه زامًا شفتيه ، فـ حاول "مهدي" أن يمسك العصا من منتصفها:
- أنا عندي حل أفضل يا يامن بيه
تُرك جبينه مجعدًا و هو يلتفت نحوه مستفسرًا ، فـ أومأ "مهدي" بحركة خفيفة و هو يردف بصوتٍ جاد:
- كمال بيه يسحب البلاغ
و حرف نظراته نحو " هِشام" و هو يستوضح:
- و أظن كده هشام بيه عليه الباقي؟.. و لا إيه يا هشام بيه
فـ أومأ الأخير مؤكدًا و هو يتنفس الصعداء و قد تهللت أساريره:
- صح ، كمال بيه بس يسحب البلاغ ،و المدام محدش هيقدر يتهمها بحاجة!.. ضابط غيري هو اللي ماسك القضية ، بس متقلقش يا يامن بيه ، ده حبيبي ، و أنا هتصرف!
ضاقت عيناه و هو ينظر نحوه متشككًا ، ثم كشّر عن أنيابهِ و هو يردد بشراسة:
- و لو محصلش؟
فـ بسط الأخير كفه و هو يضرب براحتهِ على صدره عدة مرات مرددًا بجدية تامة:
- اعتمد عليا يا يامن بيه و متقلقش
حانت منه التفاتةً نحوها ليجدها متسمرة حيث تركها هو ، فـ كان "هِشام" يستطرد حديثه :
- لكن هنحتاج استجوابك يا يامن بيه ، و بما ان حضرتك موجود ، فـ اتفضل معايا عشان كل حاجة تبان منطقية!
رمشت بعينيها عدة مرات تحت وطأة نظراتهِ الثاقبة المسلطة عليها ، لم يبد عنه أي رد فعل ، فـ نظر "هِشام" نحو "مهدي" متسائلًا ،رفع الأخير كتفيهِ معربًا عن عدم فهمهِ ما يدور ، حتى و فجأة خطا "يامن" نحوها ، فـ نقلت نظراتها الحائرة بين عينيه و هي تهمهم بعدم فهم:
- أنا مش فاهمة حاجة!
 تغضن جبينها حين سحب ساعدها إليه مطوقًا كتفيها ، أثناء قولهِ الصارم:
- مش مهم تفهمي يا بنت حسين!
مضي بها نحو المقعد مجددًا ،أدارها.. بحيث صارت في مواجهتهِ و أمامه ، و انحنى قليلًا و هو يضغط على كتفيها ضغطةً خفيفة ليحثها على الجلوس مردفًا بصوتٍ صلد:
- خليكي هنا ، مش هتأخر
كان وجهه متجهمًا و هو يتأمل ملامحها ، استشعر تلك الاهتزازة في كفيها و تلك الرعشة التي اجتاحت جسدها ، فضيّق عينيه و هو يحتوي كفها بضغطةٍ خفيفة مجبرًا لها على رفع نظراتها لعينيه:
-  مفيش حاجة تستدعي خوفك ده....
تبعثرت الكلمات عن أطراف لسانه أثناء تحديقها بهِ بماستيها هاتين و اللتان تحتضناهما أهدابٍ كثيفة ، و كأن العالم خلا إلا منهما ، نظراتها المتشبثة به و كأنها تستنجده ،  استشعر أنه يُقتاد إلى ذات المنحدر ، كانت تعبيراته قد ارتخت بنسبةٍ بسيطة، و لكنه سريعًا ما لملم شتاتهِ، انتشل نفسه بصعوبة من حالته تلك و قد غضّن جبينه مجددًا مقلصًا المسافة بين حاجبيه ، و اكفهر وجهه و هو يردف بصوتٍ خرج محتدًا:
- و انتي معايا!
و كاد ينتصب في وقفتهِ و لكنها استوقفته و هي تتشبث بكفه ، فـ أجبرته على حرف نظراتهِ إليها مجددًا ، نقلت "يارا" نظراتها التائهة بين خضراوتيه و هي تتمتم:
- مش عارفة آمن لك و لا أخاف منك و من غدرك!
التوى شدقيهِ بشبح ابتسامة ساخرة و هو يردد:
- مفيش خيار يا بنت حسين!.. انتي مجبرة تآمني لي!
سحب كفه من قبضتها برفقٍ و هو يتأمل ملامحها الذابلة ، و تلك الهالات السوداء أسفل عينيها ، فـ أطبق جفنيه بضجر ، و عاد يفتحهما و هو يردد بنبرة متسلطة:
- تشربي إيـه؟
فغرت شفتيها و هي تهمهم:
- هاه!
تعمّد أن ينتقي لها مشروبًا مُهدئًا فـ التفت نحو "هشام" و هو يأمره:
- اطلب لها نعناع!
أومأ برحابة صدر و هو يمضى خلف مكتبه ، و ردد و هو يسحب سماعة الهاتف:
- ثواني و يكون عندها
اعتدل قليلًا في وقفته ليخلع عنه سترته بعدما استشعر تلك البرودة التي تسري بأوصالها ، ثم انحنى عليها مجددًا ليتركها أعلى كتفيها ، ثم ضمّ حافتي السترة محاولًا أن يصرف بصره عن نظراتها التائهة المسلطة على وجهه ، و حالما وضع "هِشام" سماعة الهاتف ، انتصب معتدلًا في وقفته ، ثم استدار و هو يوجه نظراته نحو "مَهدي" فـ أومأ الأخير بحركة خفيفة واثقة، تقدمهم "هِشام" الذي أردف و هو يشير بكفه:
- اتفضل يا يامن بيه
خطا نحو الباب و لكن تيبس جسده بمحله حين رددت و كأنها استوعب كلماتهِ توًا فقط:
-  و انت من امتى خليتني أختار؟.. من امتى سيبتلي مجال للاختيار ، و من امتى مكنتش مجبرة على كل حاجة معاك!
حانت منه نصف التفاتة نحوها و هو يجيبها بصوتٍ كالجليد :
- مش دايمًا اختياراتنا بتكون صح يا .. يا بنت حسين!
..............................................................
....................................................................................
...................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن