" الفصل الحادي و الثلاثون"
"إنهُ الضلال.. ذلك الطريق الذي سلكتهُ و أنا أدرك جيّدًا كنهه.. هو الضلال بعينه"
- حاضر يا موسى.. جاي يا ابني في إيـه؟ أول مرة تخبط بالشكل ده!
كانت تلك كلماته التي بعثرها بينما ينهض عن الفراش، مضى نحو الباب ليفتحهُ.. فكانت الصدمة التي لم يتوقعها، و لكنهُ لم يترك المجال لدهشتهِ لتحتل تعبيراته، فقط السخرية بينما يعقد ساعديه أمام صدره:
- أهلًا.. و الله ليك وحشة
نفث "يامن" دخان سيجارتهُ في وجهه مكونًا سحابة رمادية بينهما بينما يتشدق ساخرًا:
- عارف يا حمايا، عارف!
و تخطاه ليدلف بينما يجوب الغرفة بأنظارهِ الشمولية، فـ صفع "حسين" الباب بينما يقول:
- شايفك واقف على رجليك و لا كأنك كنت بتموت!.. مش قولتلك انت عامل زي القطط، بسبع أرواح!
تقوست شفتي "يامن" معربًا عن اشمئزازه بينما يلتفت ليدس كفه الآخر في جيبه:
- بقى تسيب بيتك و تيجي تقعد هنا بسببي يا حديدي!.. ده كلام.
كزّ "حسين" على أسنانه و قد سئم ذلك فهدر:
- انت عايز ايه؟
كان صلبًا و هو يسلط نظراته المُبهمة عليه بينما يسحب نفسًا عميقًا من سيجارته و ينفثه ببطءٍ ثم دمدم مستنكرًا:
- بقى عايز تهج و تسيب بلدك تاني يا سِحس؟ تؤ.. تؤ.. تؤ!... فاجأتني بصراحة!
شخص بصره من وقع كلماته تلك بينما يقول مشوهًا:
- عرفت إزاي؟
افتر ثغره عن ابتسامة شرسة و هو يخطو منه بروية حتى توقف أمامه مباشرة، ثم ربت على كتفه عدة مرات و هو يقول ببرود:
- مش ده المهم يا حديدي، المهم إني عرفت حاجات تانية لو كشفتها.. هوديك ورا الشمس
عيناه جاحظتين بينما "يامن" ينفث دخانهِ ببرود مستمتعًا بذلك التغير الملحوظ في تعبيراته، شعر "حسين" بمعدته تتقلص بينما يقول:
- قـ..صـ..دك إيـه؟
فـ بدت نبرته غامضة و هو يتجاوزه ليرفع أنظاره عاليًا بينما يتنهد:
- يــا .. يا حماتي!.. ربنا ابتلاكي بأوسخ إنسان على وش الأرض!
التفت "حسين" ليقف أمامه مباشرة بينما يهدر و قد فرغ مخزونه من الصبر:
- اتكلــم.. انطق.. عرفت إيه؟ قصدك إيه؟
افتر ثغره عن ابتسامة صقيعية غامضة بينما يحدق به بنظراتهِ الشرسة المناقضة لبروده:
- متقلقش يا حديدي.. ده سر بيني و بينك، و صدقني.. بعون الله محدش هيعرفه!
فنهرهُ "حسين" بعنف و قد شعر بقلبه يكاد يخرج من أضلعه:
- ما تقول و تخلصني، قصدك إيه بكلامك
باتت تعبيراته أشبه بجدار فولاذيّ و هو يزيح السيجارة عن شفتيه مائلًا عليه ليهتف بصلادة:
- قصدي تبعد عن مراتي تمامًا.. تنساها، لو في يوم افتكرت إن عندك بنت اسمها "يارا" يبقى جنيت على نفسك!
فهدر مستهجنًا:
- يعني إيه؟ دي بنتي! عايزني أرميها بالسهولة دي؟
فسخر منهُ قائلًا:
- ما انت سايبها من زمان يا حديدي
و تظاهر بأنه ينزح ذرة تراب عن كتفه، مردفًا بنبرة ذات مغزى لا يدركه الأخير بعد:
-متعملش فيها الأب اللي خايف على مصلحة بنته يا حديدي، محدش فاهمك قدي!
فـ واجههُ بالقول الغامض بينما يتأمل تعبيراته، و قد ضاقت عيناهُ:
- اشمعنى أنا يا يامن؟ اشمعنى أنا اللي متأكد منه أوي كده؟
لثوانٍ مسلطًا لأنظاره التي تجمدت عليه بينما يخفض كفه ليدسه بجيبه، ثم أجابه بنبرة ذات مغزى و قد توهجت شعيرات عينيه:
- ما أنا لو قتلتك هتعرف السر يا حديدي و مش هتكرره!.. زي غلطتك في المستشفى كده!
فـ زفر "حسين" و قد سئم ذلك:
- بردو حاطط في دماغك إن أنا اللي حاولت أقتلك في المستشفى
ها هو قطع شكّه باليقين التام بالرغم من كونه لم يكن متشككًا بالأساس، و لكن ليمحو أي ذرة شك قد تخالطه في أي لحظة، تيبست ملامحه بشكل غريب و هو يرمقه بنظراتهِ التي تفاقمت شراسة، بينما كفه يتقبض في جيبه، حينما ردد "حسين" و هو يعقد حاجبيه بلهجة عابثة متعمدًا إثارة تفكيره:
- اشمعنى متأكد مني أوي كده مع إن في مليون واحد حواليك ممكن بسهولة يرتكب جريمة زي دي!
فسخر "يامن" منه، و قد تقوس طرف شفتيه ببسمةٍ هازئة:
- قصدك ميـن؟ كيمـو؟
و تضاحك بتهكم تام بينما يقول بجمودٍ يناقض ضحكتهِ الساخرة:
- طب ما أنا عارف!
لم يرف لهُ جفن و هو يسألهُ متشككًا و قد شخّص بصره:
- عارف!.. عارف إيـه؟
بثانية واحدة.. تلاشت بسمتهِ و كأنها لم تكن، و تصلبت تقاسيمهِ و قد احتلّها الجمود التام، أخرج "يامن" كفه من جيبه ليربت على كتفه عدة مرات بعنفٍ و هو يقول بلهجة قاتمة:
- متشغلش بالك يا حديدي، خليك بس في نفسك و في اللي هتشوفه!، و أكيد سمعت عن اللي حصل له؟ خد بالك بقى عشان متلحقوش!
- الحرب دي مش هتخلص؟
- الحرب لسه مبدأتش يا حديدي!
و مضى متجاوزًا إياه ليقف أمام باب الغرفة، ثم توقف و هو يشير بالسبابة و الوسطى اللذين بينهما سيجارتهِ مودعًا، قبل أن يدير المقبض بلهجة ذات مغزى عميق للغاية.. لا تُظهره بضعة الكلمات التي قالها، و لن يفقهها "حسين" مهما حاول:
- سلام يا.. يا حديدي!
....................................................
كان يقف أمامه مباشرة بوجهه الملئ بالكدمات البنفسجيّة إثر ذلك الضرب الذي تعرض لهُ، بينما ملابسه تلك تخفى الكثير مما يكتظ به جسده، تحرك بخطوات متلكئة متعرجة نحو المقعد الأقرب لهُ ، ثم ارتمى بجسدهِ عليه و هو يتأوه مرددًا:
- آه.. مبقاش في جسمي حتة سليمة!
و نظر صوبه بينما يقول محتجًا:
- احنا متفقناش على كده يا بيه!
بـ طولهِ الفارع أولاهُ ظهره لينفث دخان سيجارته بينما يقول بنبرة محتدة:
- ما كله بحسابه يا فهد!.. و لا إيه؟
وارى "فهد" امتعاضه أثناء قوله:
- ماشي يا بيه، إن كان كده ماشي
و بدا التعجب في نبرته و هو ينظر نحوه من جديد:
- بس انت مقولتلش إنك حاطط جواسيس عنده!.. ده الواد معاذ هراني ضرب، و في الآخر جه يهربني! ده أنا مكونتش مصدق و فكرته فخ!
بدت الشراسة في نبرته و قد التهب وجهه بحمرة قاتمة و هو يبعد سيجارته عن شفتيه:
- قريب أوي هوقعه!.. أسطورة الصياد هتنتهي، و على إيدي!
...........................................................................
اليوم الأخير لهُ ها هنا و قد هاتف أخيه "فارس" ليُعلمه بموعد طائرتهِ صباح الغد، كان يضبّ أغراضه بصمت بينما "سهير" تساعده و قد أدمعت عيناها تأثرًا، و "فارس" يتابعه بقنوط شديد و هو يجمع ملابسه من الخزانة ليسلمها لـ "سهير" التي تكفكف دموعها من حين لآخر لتدسها في الحقيبة الخاصة به، حتى انفلتت شهقة منها، فـ رقّ حاله لأجلها، دنا منها ليربت على كتفها و هو يقول بهدوء:
- يا سهير متحسسنيش بالذنب بقى، كفاية عياط
تعالت شهقاتها و هي ترفع أنظارها إليه لتتقوس شفتيها بألم بالغ:
- ده أنا اللي مربياك يا ابني! مستكتر عليا أبكي على فراقك
انحنى "عمر" ليُقبل كتفها و قد ترقرقت العبرات في عينيه، ثم انتصب و هو يربت عليه:
- و انتي زي أمي و أكتر يا سهير، و دموعك دي بتقهرني، كفاية بقى عشان خاطري
حاولت جاهدة التحكم بنوبة بكائها، فأطرقت و هي تقول بقهر مُختنق:
- حاضر يا ابني
بينما "فارس" يُتابعه، متى كان مشابهًا لـ "يامن" لتلك الدرجة في صموده و تماسكه أمام الجميع بينما من داخله ينهار؟.. لا يعلم، حرر زفيرًا حارًا من صدره و هو يستند بجسده لمنضدة الزينة مهدلًا كتفيه بقنوط، بينما يردد و هو ينظر لساعة يده:
- ارجع لعقلك يا يامن.. ارجع لعقلك قبل ما يفوت الأوان.
و تذكر شيئًا ما فـ حملق في الساعة لثوانٍ، ثم نهض متعجلًا و هو يسحب سترته، فناداه "عمر":
- على فيـن؟
ردد بينما يرتديها و هو يسير على عجل:
- مشوار مهم، متاخدش في بالك
..........................................................
كانت قد حضرت طعام الإفطار بالرغم من تأخر الوقت لذلك، و لكن الشقيقتين لم يستيقظا بعد، بينما هي متيقظة منذ البكور، تركت آخر الصحون لتتلمس عنقها الذي آلمها على حين غِرة، أطبقت جفنيها و هي تتأوه، و لكنها عاودت فتحهما و هي تسير على عجل حالما استمعت لطرقات عليه، كانت تتوقع أن تجد زوجها، و لكنها بدت مشدوهة و قد تراخى كفها عن المقبض حال رؤيته، فهمست بعدم تصديق:
- إنت!
.....................................................
كادت تنحني على قدمه لتقبلها بينما تقول ببكاء مرير:
- أبوس رجلك يا حاج فتحي، أبوس رجلك تسيبني أبلغ عنه!
نهرها بحدة على ما تهمّ بفعله و هو يتزحزح بجسده في الفراش:
- بــس، مش كفاية مكنتش أعرف حاجة عن اللي حصل بنت أختي!.. إزاي متقوليليش حاجة زي دي
فـ هدرت به مستشاطة و قد احتقنت الدماء في وجهها و من بين نشيجها:
- و ده اللي هامك يا حاج متولي!.. البت دي هاماك و ابنك لأ!
تلبس قناع القسوة، فـ حاد ببصره بعيدًا عنها ليردد بجفاءٍ مبطّن:
- ذنب ناس و بيخلص من ناس! الأيام بتدور يا ميرفت، الأيام بتدور
فصرخت بهِ مستهجنة:
- يعني إيه يا حاج فتحي؟ يعني إيـه؟.. مش هتعمل حاجة؟ مش هتجيب حق ابنـك!
انخفضت نبرته و هو يقول بتخاذل:
- مفيش حاجة هترجع تاني، اللي بيروح مبيرجعش!
و اندس بجسده أسفل الغطاء بينما لسانهِ لا يكفّ عن القول:
- اللي بيروح مبيرجعش يا ميرفت.. اللي بيروح مبيرجعش
نهضت من جواره بأعينها المنتفخة التي تنهمر الدموع منهما كـ الشلالات، بينما الهالات السوداء تكونت أسفل عينيها، احمرار أنفها و توهج بشرتها، كان يدل على حالتها، لم تجد ما تقول إثر تخاذله ذاك، فصرخت بلوعة قلب أم مهتاج على ولدها:
- حسبي الله و نعم الوكيل.. حسبي الله و نعم الوكيل!
و مضت بارحة محلها تاركة إياه ينزح تلك العبرة التي هبطت من مقلتيه بينما يغمغم:
- انت اللي عملت كده في نفسك يا خالد! الله أعلم عملت إيه بالظبط، لا حول و لا قوة إلا بالله.. لا حول و لا قوة إلا بالله
..................................................................................
عقد "فارس" ساعديه أمام صدره و هو يرمقها بنظرات شبه محتدة، ثم قال بنبرة غامضة:
- يامن هنا؟
هزت رأسها نفيًا و هي تزدري ريقها بتوتر:
- لأ
أومأ "فارس" برأسهِ، ثم قال بغموضٍ قاتم:
- كويس!.. عشان اللي هقوله ده عايزك انتي و بس اللي تسمعيه
حملقت به بارتباك واضح و هي تترك كفها فوق المقبض مشددة من قبضتها عليه، و كأنها تتشبث به، بينما كان يحرر زفيرًا حارًا من صدره قائلًا بامتعاض:
- طبعًا انتي عارفة اللي هيحصل في عمر بسببك
ضمت شفتيها و هي تحني بصرها عنه، ثم تركت المقبض لتعبث برابطة خصلاتها باضطراب مُتفاقم، بينما كان يقول بلهجة مُشتدة:
- و بصراحة معرفش انتي عملتي فيه إيه!.. من ساعة ما فاق و هو بيعمل أي حاجة عشانك!
ارتعشت شفتيها تأثرًا و هي ترفع نظراتها المشدوهة نحوه، فلم يبالي بها و هو يقول مستندًا بكتفهِ لحافة الباب:
- للأسف.. مضطر أطلب منك ده، اقنعيه، اقنعيه بأي شكل يسيبه
تماسكت.. لململت شتات نفسها ، و استجمعت ذاتها المُبعثرة، تنفست "يارا" بعمقٍ، ثم قالت و هي ترفع ذقنها:
- مش أنا اللي طلبت منه ده! و قولتله ان أنا مسامحاه و إني مش عايزة ده يحصل، لكن هو موافقش
و كادت تغلق الباب في وجهه و قد تضايقت كثيرًا:
- و للأسف مضطرة أقفل، مينفعش وقفتنا دي!
استوقف الباب بحركة من قدمه بينما ينتصب في وقفته و قد تلون وجهه بحمرة فاقعة و هو يقول:
- انتي مبتحسيش!.. بقولك هيسفر واحد مكملش 18 سنة غصب، و طيارته بكرة و ...
- فـــــارس
ابتلع كلماته ملتفتًا ليجده خلفه بشموخهِ المعتاد، بيد أنه استمع لكلماته الأخيرة فـ نفخ مغتاظًا و هو يقول عاقدًا حاجبيه:
- أنا قولت حاجة غلط؟.. مش ده اللي هتعمله!
تقدم "يامن" بخطواتهِ ليقف أمامها فسد عليها مجال رؤية الأخير و هو يقول باحتدام و قد احتقن وجهه بالدماء:
- لو جاي عشان كده يبقى تمشي يا فارس، الموضوع منتهى، و كلامك فيه مش هيفيد
ازداد توهج بُنيّتيه و هو يقول مشيحًا بكفه:
- ما أنا مش هسيبك تضيع أخوك عشان واحدة زي دي، كفاية أبويا!
بثانية كان كف "يامن" يمتد ليقبض على مؤخرة عنق "فارس" من الخلف فيجتذبهُ إليه بحركة عنيفة فلفحت أنفاسه المحتدمة بشرة الأخير ، بينما يجأر بصوتهِ:
- خد بالك من كلام يا فارس، مش كل مرة هحذرك!
كزّ على أسنانه و قد برزت تلك الشعيرات الحمراء بعينيه بينما يناظره باحتداد واضح، فغرس"يامن" نظراته الملتهبة بين عينيه و هو يشير بكفه الآخر هاتفًا باستهجان:
- أبوك اللي بتدافع عنه ده أنا اللي ساتر عيوبه!.. أبوك اللي بتدافع عنه ده أنا كان ممكن في تكة أرميه في الشارع و أنا عارف وساخته، أبوك اللي بتدافع عنه عايش من جيبي ، أبوك ده كان ممكن أخليه ياكل من الزبالة لكن عيشته في قصري و سيبتهولهم يولعوا بيه! و كل ده كرمالك لكن انت مش حاسس بحاجة!
و ارتفعت نبرته أكثر و هو يجتذب مؤخرة عنقه للأمام أكثر بعنف حتى كادت أنفهِ تلامس أنف الأخير و قد بدت عيناهُ كجمرتين مستعرتين، و وجهه ككتلة متقدة من النيران المهتاجة، بينما يهدر ساخطًا:
- فـوق يا فارس و اعرف مقام أبوك كويس، فــوق!
و ارتفعت نبرتهِ الآمرة أكثر حين ردد كلمتهِ الأخيرة، فانتفضت "يارا" في وقفتها و قد تسلل الخوف في خلاياها من تطور الوضع، كادت أن تمر من جواره لتتدخل محاولة الفصل بينهما و هي تضع كفها على كتفه، مستنكرة بشدّة تعنّفه الزائد في التعامل:
- انت بتعمل إيه؟ مينفعش تتفاهم بالراحة!
بسط "يامن" ذراعه بعنفٍ ليحول دون اقترابها و هو يلتفت نصف التفاتة ليرمقها بتوهج أثناء قوله الآمر:
- ادخلي جوا
هزت رأسها نفيًا و هي تهم بالاعتراض فلم يملها الفرصة و هو يجأر بها و قد برزت عروق جانبي رأسه بوضوح، و تشنجت عضلات عنقهِ:
- اخلـــصي!
أجفل جسدها من صراخه، فأنّبته بنظراتها الجافة و هي تحرر زفيرًا عميقًا من صدرها، ثم دلفت مجبرة للداخل، التفت "يامن" نحو "فارس" الذي تجمّد، و بدت القسوة جليّة على ملامحه بينما يحاول تخليص كفه عن أسفل عنقه و هو يردد بجفاء و قد تفهم كلماته على نحو آخر:
- القصر اللي بتاعيرني بيه ده أنا معيشتش فيه، و فلوسك اللي مغرقنا بيها دي أنا مخدتش منها مليم.. أنا بنيت نفسي بنفسي يا .. يا باشا، و ورقة استقالتي هتوصلك بكرة!
أرخى "يامن" قبضته عنه فـ شيّعه "فارس" بنظرات لائمة، ثم تركه و هبط الدرجات غير مباليًا حتى بانتظار المصعد، بينما هو يقف كمن على مرجل، كز على أسنانه مشددًا على عضلات فكيه حتى ارتعش صدغيه، تكورت قبضته و قد برزت عروقهما الخضراء فراح يضرب بها الجدار محاولًا التنفيث عما يجيش بصدره، و استدار ليدلف باحثًا عنها بعينيه حتى وجدها بنفسها تتقدم منه، صفع الباب صفعة عنيفة و قبل أن يتحدث كانت تقول مستهجنة:
- أنا مش فاهمة انت بتحاول تعمل إيه! إزاي هتسيب أخوك يسافر و هو في سن زي ده؟
فـ زأر ساخطًا:
- و انتي بصفتك إيه بتدخلي؟ بصفتك إيه بالظبط بتدخلي بيني و بين عيلتي ؟ إنتي مالك!
كزّت على أسنانها و قد اتقدت زرقاويها، ثم أجابته من بين أسنانها:
- لأن ده حصل بسببي
دنا "يامن" منها، حتى أضحى على بُعد خطوة منها، أحنى رأسه عليها قليلًا، ليردد بحزمٍ و قد بدت نظراته و كأن الحُمم البركانية تتقاذف منها:
- قولت الموضوع ميخصكيش، الموضوع بيني و بين أخويا!.. بصفتك إيه بتحاولي تتدخلي فيه؟
غرست نظراتها بين عينيه المتوهجتين و قد صمتت هنيه و هي تجتزّ بعنف أسنانها، اتّقدت النيران في أضلعها، و هي تواجه نظراته المُسعرّة، تهدجت أنفاسها بانفعال و قد نهج صدرها علوًا و هبوطًا، ثم قالت أخيرًا باحتدام عميقٍ:
- صفتي اللي بتتكلم عنها أنا مخترتهاش.. إنت بنفسك اللي أجبرتني عليها يوم ما غصبت عليا أتجوزك!.. بصفتي مراتك، تمام؟
لم ترتخِ عضلة واحدة من عضلاته المتشنجة بينما يهتف بجفاء ينضح من نبرته، متشبثًا بكلمتها:
- كويس انك فاكرة ده، غصبتك، أحسن لك متنسيش نفسك.. أحسن لك متنسيش يا بنت حسيـن!
و استدار ليهم مجددًا بالمغادرة بينما هي تقف و كأنها تقف على أطلال كبريائها، ترقرقت العبرات في مقلتيها و لكنها ألجمتها و منعت هطولها و هي تلملم شتاتها، كان قد ولّاها ظهره بينما هي تحدق به بنظراتٍ مجروحة ، ما لبثت أن تحولت لسخط تام و هي توفض نحوه لتقف أمامه مستوقفة إياه بنفس الوضع الهجوميّ مستندة بساعدها أفقيًا أسفل نحره، بينما تقول من بين أسنانها المُطبقة و هي تشمخ بذقنها:
- أنا منسيتش نفسي.. لكن إنت اللي بتنسى باللي بتعمله يا يامن! تمام.. إنت اللي بتنسى
توقف محله ليواجهها بلهجة مُحتدة و قد كشّر عن أنيابهِ:
- اتكلمي عن نفسك، أنا منسيتش حاجة!
لم تستحِ و هي تشير إلى شفتيها بسبابتها لتهتف باستهجان مُضيقة عينيها:
- و ده كان إيـه؟
تلقائيًا أخفض نظراته نحو شفتيها المرتعشتين من فرط غضبها، بينما كانت تهدر بتمقّطٍ:
- كان إيه، قولي؟
- كان حقي!
و أطبق "يامن" بأناملهِ على عضدها الذي كانت تستند بهِ لصدره، ليجتذبها إليهِ و هو يغرس نظراته الحالكة في عينيها، ثم غمغم من بين أسنانه بخشونة جافّة:
- انتي مراتي شرعًا، عارفة ده معناه إيه
رمشت مرتين تقريبًا و أعينها مسلطة على عينيه، حينما كان يعتصر بقبضتهِ ذراعها و هو يردد بلهجة ذات مغزى أشعرها بحقارتهِ:
- يعني من حقي أخد اللي عايزه منك في الوقت اللي أحدده!
خفقة تلو الأخرى عبثت بقلبها و جعلتهُ يثور في اهتياجٍ متمرّد و هو يسلط أنظاره من جديد على شفتيها المرتعشتين في وجلٍ، و كأنه يتعمد أن يثبت لها أن ما يقول ليس مجرد تهديدًا عابرًا، لملمت شتاتها، و استجمعت شجاعتها التي فرّت منها لثوانٍ، لتقف على أطراف قدميها فتكون أقرب إليه، ثم غمغمت و قد التهب وجهها بحمرة غاضبة:
- كون أي حاجة يا يامن.. كون بارد، كون متسلط، كون مستبد برأيك، كون صارم، كون ظالم، كون أي حاجة،.. لكن متكونش حيوان يا يامن!.. متكونش حيوان معايا!
و هزت رأسها بحركة تكاد لا تُلحظ مؤكدة كلماتها، و تركت بين عينيه نظرة أخيرة معبرة عما يعتمل في صدرها، ثم أفلتت ذراعها من قبضتهِ بتشنجٍ لتخطو من أمامهِ بخطى منفعلة مختفية في إحدى الغرف، بينما هو يتابعها بنظراته المتوهجة، شعر و كأن الأرض ضاقت عليه بما رحبت، فـ انسحب من مكانٍ أطبق على صدره أكثر بينما الدماء تشتعل في أوردته، انصرف ليلجأ لمكانه الذي هجرهُ منذ أيام، للمكان الأوحد الذي يشعر بهِ بالسكينة تتسلل لنفسه الملتاعة.
.......................................................
عينان متوهجتان بنيرانٍ لا تتمكن مهما حييت من تجسيدها، و انقضاضٍ مريب منه لينال من فريسته مدميًا إياها، فتتناثر دمائها هنا و هناك، لم تجد نفسها سوى و هي تعبث بقلمها مكونة خربشاتٍ لا معنى لها حتى وجدت ذهنها يعطي إشارات لكفيها دون حتى أن تنتبه، حتى تنبهت لما تفعل و هي تخربش ريشه بقلمها، و لكنها توقفت عند نقطة محددة لتصنع الجرح به في اللحظة الأخيرة، و تلك المرة الجرح كان غائرًا بقدر استشاطتهِ، تنبهت إلى كف صديقتها الذي احتل كتفها و هي تلقي بأسئلتها للمرة الألف في وجهها و قد تعذر عليها إدراك ما ترسُم:
- يا بنتي سيبي الحاجات الغريبة اللي بترسميها دي و ركزي معايا، انتو اتخانقتوا ليه؟ ده أنا قومت مفزوعة من صوتكم!
لم تترك "يارا" قلمها، بل أنها قالت و تركيزها الكامل مُنصب على ما ترسُم:
- عادي يا رهيف.. مش أول مرة!
تهدل كتفي "رهيف" بيأس و هي تسألها باستياء:
- انتي متأكدة إنه مش بسببي و لا بسبب وجودي هنا
تلك المرة تركت "يارا" القلم مجبرة فوق الأوراق و هي تلتفت إليها، و تصنعت الابتسام بينما تقول و هي تربت على كفها مؤنبة:
- ده كلام يا رهيف!.. أكيد لأ يعني
هزت "رهيف" رأسها بعدم اقتناع لما تقول:
- واضحة زي الشمس يا يارا!.. أكيد اتخانقتوا بسبب وجودي، كفاية إنه منامش في البيت بسببي!
قوست "يارا" شفتيها و هي تحيد بأنظارها عنها قائلة بغموض:
- صدقيني مش عشان كده خالص، انتي ملكيش دخل، دي حاجة تخص عيلته!
تغضن جبين "رهيف" أثناء تأملها ملامحها، و قالت بتعجبٍ:
- عيلته؟
أومأت "يارا" متنهدة بحرارة و هي تلتفت نحوها مسترسلة:
- أخوه تحديدًا!
فضيقت "رهيف" عينيها و هي تستشف:
- اللي افترى عليكي!
زفرت "يارا" بانزعاج شديد معقبة:
- أيوة.. هو
فلم تتفهم "رهيف" مقصدها، ضاقت عيناها و هي تسأل مطالبة بتوضيحٍ أشمل و أدقّ:
- ماله؟
زمت "يارا" شفتيها ثم أردفت و هي تنظر لعينيها مباشرة:
- عايز يسفره برلين.. عشان يكمل دراسته هناك، كعقاب عشان اللي عمله! ابن عمه جه النهاردة و يامن مش موجود، عشان يقولي أحاول أقنعه يغير رأيه، و يامن جه و هو هنا، مسكو في خناق بعض، و لما حاولت أتدخل و أقنعه يقولي انتي ملكيش دخل! و الموضوع ميخصكيش
حلت "رهيف" عقدة جبينها لترفعهما متعجبة بينما تقول:
- بجد عمل كده عشانك؟
زفرت "يارا" أنفاسها بضيقٍ و هي تنطر نحوها من طرفها، ثم غمغمت مُوضحة:
- لأ ، عشان حاسس ان تربيته لأخوه راحت هدر! فحب يعاقبه
فـ أشاحت "رهيف" قائلة بشماتة واضحة:
- ما تسيبيه يا يارا، كفاية الكلام اللي قاله عليكي! يستاهل اللي يجراله
و شددت على كلماتها حالما رأت التردد في عينيها:
- كفاية إنه طعن في شرفك يا يارا! سيبيه يتربى
أطبقت "يارا" متنهدة بانزعاج واضح، ثم أحنت رأسها و هي تسحب قلمها لتستكمل خربشتها على الأوراق قائلة بشرود:
- أنا مكنتش عايزة ده يحصل، مكنتش عايزة أبقى السبب في التفريق بين أخين
ربتت "رهيف" على كفها و هي تردد برقة:
- يا يارا هو السبب في اللي حصل له!.. عايز ينتقم منك يقول إنك حاولتي تقتلي جوزك، يقول اللي حصل يا يارا! مش يفتري عليكي بالشكل الحقير ده، سيبيه يا يارا، سيبي جوزك يتصرف مع أخوه بالشكل اللي شايفه هو مناسب
لم تقتنع بقولها "يارا" بقولها، و لكنها كانت قد صبّت جم تركيزها بما تفعل، فأومأت محاولة التخلص من ضوضائها، و كم تود لو أنها تأخذ أوراقها و تنفرد بذاتها في تلك اللحظة فتسكب تلك المواجهة المحتدة على تلك الأوراق، دقائق مرت كانت "رهيف" تنظر بها للأوراق مغضنة جبينها بعدم فهم، ثم سألتها و قد اشمأزت قليلًا من المشهد الداميّ:
- إيه اللي بترسميه ده؟ ملقتيش حاجة أحسن شوية ترسميها
تنبهت "يارا" لقولها فتوقفت قلمها و هي تحدق لرسمتها بتركيز شديد بينما تقول بلا اكتراث:
- ماله يا رهيف؟ ما هو جميل أهو
فـ أشارت "رهيف" لنقطة ما مستوضحة بنفور:
- هو إيه ده اللي حميل؟ و بعدين ايه ده كمان؟ صقر؟.. و في صقر بالشكل الغريب ده، و لا غراب دا و لا ايه دا؟
و كأنها تعمّقت النظر لعينيهِ المرسومتين باحترافيّة فتشبهتا للغاية بعينيهِ، فنطقت "يارا" بشرودٍ غير منتبه من بين شفتيها بصوتٍ خافت هامس:
- غُـداف!.. إسمه غـداف!
كادت أهداب "رهيف" تلتصق سويّا و هي ترتكز ببصرها عليها، متعجبة ذلك الشرود الذي يلوح كوشمٍ في ظاهر اليد على صفحة وجه الأخيرة، ثُم سألت مستوضحة باستنكارٍ شاب لهجتها:
- أيوة يعني إيه غداف ده؟
بدأت "يارا" تنزعج بالفعل من انتشالها لها من أوج شرودها و أفكارها، بأسئلتها و حديثها اللامتناهي، فزفرت في ضيقٍ، ثم أجابتها باقتضابٍ:
- نوع من الجوارح
و كادت تهم باستكمال الخربشة مجددًا، فاستوقفتها "رهيف" بضجر و هي تسحب القلم من بين أصابعها:
- سيبك بقى من رسمك الغريب ده و خليكي معايا
تركت "يارا" الأوراق جانبًا و هي تعتدل في جلستها لتكون في مواجهتها و قد شعرت بحبل أفكارها قد انقطع تمامًا بالفعل، فرددت "رهيف" بإنهاك عقلي من كثرة التفكير:
- أعمل إيه؟
زمت "يارا" شفتيها ثم قالت موضّحة رأيها:
- مش عارفة يا رهيف.. لكن مينفعش تفضلي هربانة من بيتك
نفت "رهيف" بهسترية و هي تسأل بفزع اختلط مع لهجتها المستنكرة:
- انتي عايزاني أرجع!.. مستحيل، مستحيل يا يارا، ده مش بعيد أرجع ألاقي راشد مستنيني هناك، لا لا لا!
تنفست "يارا" بعمق و هي تقول مربتة على كفها:
- و لو راح بيتك ملقاكيش هناك هتكون فضيحة، فضيحة ليكي يا رهيف!.. هيقولو هربتي من بيتك ليه؟
ترقرقت العبرات في مقلتيّ "رهيف" و هي تنظر نحوها بقهر متفاقِم، فمسحت "يارا" بلطف على وجنتها و هي تقول بضيق:
- الناس مش بتلاقي حاجة أحسن من الأعراض تتكلم فيها يا رهيف! أنا عمري ما كنت هفكر كده غير بعد تجربتي
و أخفضت كفها لتقول بحنق شابهُ التوجس:
- و انتي أهلك دمّهم حامي يا رهيف! أنا خايفة عليكي
كبحت "رهيف" دموعها بصعوبة ثم قالت و هي تحيد بأنظارها عنها باختناق واضح:
- كله بسبب ماما! لو كانت وقفت جمبي مكنش ده حصل
اعترضت "يارا" على قولها و هي تتنهد بانزعاج:
- مش هتقدر ترفض طلب جدتك طالما تعبانة كده
التفتت "رهيف" نحوها گالملسوعة و قد توسعت عيناها، فقالت بارتعاد:
- يعني إيه يا يارا!.. خلاص كده؟ هيتحكم عليا أتجوز واحد مش بطيق أشوف خلقته عشان أرضي جدتي اللي مش بتحبني أصلًا!
فاستنكرت "يارا" ذلك قائلة:
- يا حبيبتي مين قال انها مش بتحبك بس؟ أكيد جدتك...
قاطعتها " رهيف" بينما تطبق جفنيها بحنق:
- متقوليش حاجة يا يارا، انتي مش عارفة أهلي زيي!
استشعرت "يارا" ذلك الجذب ببنطالها القماشيّ ذو اللون الفيروزيّ للأسفل فـ أخفضت نظراتها لتجد الصغيرة العابسة تقول بشفتين مقوستين بحزن:
- يارا، هو يامن بيزعقلك كده على طول؟
أجبرت "يارا" شفتيها على الابتسام حين نجحت " رهف" في تلفظ اسمه، ثم مسحت على وجنتها برفق و هي تقول كذبًا:
- لأ يا حبيبتي، بس يامن كان مضايق النهاردة شوية
فـ أفضت "رهف" القول بما لديها بتوجس طغى على نبرتها:
- أنا كنت عايزة أصالحه.. بس خوفت منه أوي و كنت خايفة يضربني.. هو بيضربك؟
نفت "يارا" برأسها و ابتسامتها لا تكاد تصل لعينيها:
- لأ يا حبيبتي
فتسائلت "رهف" بقهر و قد كادت العبرات تترقرق في مقلتيها:
- هو يامن كان بيزعق عشان قولتله يجيب لي شيبسي و هو جاي؟
أُدمي قلب "يارا" من كلمتها، فعبست و قد تقوست شفتيها بحزن و هي تلتفت لتنظر لأختها التي غامت عينيها بألم بالغ، ثم اجتذبها "يارا" لتجلسها فوق ساقيها بينما تقول و هي تعبث بخصلاتها الكستنائيّة مرتبة لها:
- لأ طبعًا يا حبيبتي، بس يامن حصل معاه مشكلة بسببي عشان كده كان متضايق
فتساءلت "رهف" بإحباطٍ و هي تنظر لها من زاوية عينيها و قد شوشت دموعها رؤيتها:
- هو يامن مش هيحبني تاني؟
مسحت "يارا" على وجنتها بلطفٍ بالغ و هي تقول و قد هشّ قلبها:
- لأ طبعًا يا حبيبتي، هو بيحبك، و مش زعلان منك خالص
رمقتها بنظرة متوسلة بينما تقول برجاء:
- أنا عايزة أكلمه، ينفع أكلمه عشان أسأله؟
تنهدت "رهيف" بضيق و هي تمد ذراعيها لتسحب "رهف" فتجلسها بجوارهما في المنتصف على الاريكة ذات الملمس الناعم بغرفة "يارا" بينما تقول مؤنبة:
- كفاية يا روڤي بقى، عمو مش فاضي
مطت " رهف" شفتيها للأمام بشجن و هي تقول:
- بس أنا عايزة أقوله مش يزعل مني
حاولت "يارا جاهدة التخفيف عنها و هي تلوى ثغرها ببسمة باهتة:
- يا حبيبتي صدقيني هو مش زعلان منك و لا حاجة
عقدت "رهف" ساعديها أمام صدرها و هي تقول بعبوس:
- لأ يا يارا، انتي بتضحكي عليا!
فـ حدجتها "رهيف" بنظرة صارمة و قد سئمت ما تفعل ثم قالت بحزمٍ:
- رهف.. كفاية بقى تزهقي يارا، بطلي دلع شوية!
نظرت "رهف" نحوها و قد انسدلت الدموع من مقلتيها، و كانت على وشك الانفجار بالبكاء لولا "يارا" التي عنفت رفيقتها:
- في ايه يا رهيف؟ بالراحة شوية
ثم قرصت وجنة" رهف" برفق و هي تقول مناغشة على الرغم من بهوت نبرتها:
- يعني انتي عايزة تكلمي يامن؟
ارتفعت أنظار "رهف" العميقة نحوها و هي تومئ برأسها، فـ احتفظت" يارا" ببسمتها الباهتة بينما تلتفت بجذعها لتسحب هاتفها و هي تقول بينما تمرر أناملها على شاشته:
- خلاص يا روڤي و لا تزعلي، هكلمهولك
و كأنها وجدت حُجة مقنعة لتحادثه ، نهضت عن محلها مبتعدة قليلًا بينما تستنع للرنين، فتتبعتها "رهف" و هي تتشبث ببنطالها المنسدل و تنظر نحوها بترقب، قضمت "يارا" أظافرها بتوتر و هي تكاد تتأكد من تجاهله لاتصالها، و لكنها تفاجأت حين اهتزّ الهاتف بخفة دلالة على الإجابة على الاتصال، تغضن جبينها بينما تبعد الهاتف قليلًا عن أذنها لتتأكد حين رأت عداد المكالمة، ارتبكت أكثر و هي تعيد وضع الهاتف على أذنها محمحمة بحرج و هي لا تجد ما تقول، فـ أتاها صوته الساخط:
- هتتكلمي و لا أقفل!
حمحمت مجددًا لتزيح التحشرج عن صوتها ثم قالت محاولة الحفاظ على تماسك نبرتها:
- مراتك عايزاك
و انحنت لتجثو على ركبتيها أمام "رهف" لتسلمها الهاتف، و اقتربت أكثر لتستمع لما يقول، فراحت "رهف" تصيح مهللة فور استماعها لصوته:
- يامن!
تراخت قليلًا تعبيراته بينما ينحرف لإحدى الطرق الجانبية بعد عودتهِ من مكان والده المفضل:
- نعم؟
فتجلى القلق في نبرتها الطفولية و هي تعقد حاجبيها باسترابةٍ:
- يامن.. هو انت زعلان مني؟
تقلصت المسافة ما بين حاجبيه أثناء قوله المستنكر:
- ليه؟
فغمغمت الصغيرة و هي تحنى أبصارها:
- عشان قولتلك تجيبلي شيبسي امبارح، و عشان أنا قاعدة في بيتك، صح؟
لم تتبدّل ملامحه الجامدة، و هو يجيبها باقتضابٍ موجز:
- غلط
فتشبثت الصغيرة بكلمتها:
- لأ صح يا يامن، مش تضحك عليا، أنا سمعتك الصبح و انت كنت بتزعق ليارا، انت كنت بتزعق لها بسببي، صح؟
تنهد بضيق بالغ و هي يقول:
- تـؤ
فـ تغضن جبين الصغيرة و هي تقول بقنوطٍ:
- حتى مش راضي ترد عليا كويس، انت بس بتقول كلمة واحدة!.. يبقى انت زعلان!
فلم يجد مجددًا ما يقول سوى:
- تـؤ!
دمدمت "رهف" مستنكرة:
- شوفت!
ضجر "يامن" من ذلك، و شرع مخزونهِ من الصبر في النفاذ، فراح يسألها مستوضحًا:
- انتي عايزة إيه؟
غمغمت "رهف" أسفًا:
- مش عايزاك تزعل مني
فردد بامتعاضٍ جليّ:
- مش زعلان ، حاجة تانية؟
ابتهجت الصغيرة و قد افتر ثغرها عن ابتسامة واسعة:
- قولي انك بتحبني زي ما أنا بحبك بالظبط!
زفر "يامن" حنقًا، ثم ردد بإيجاز مختصر عساهُ يتخلص من ثرثرتها:
- بحبك
فلم تقتنع الصغيرة و راحت تردد بتصميم:
- قول زي ما بتحبيني بالظبط
هز رأسه استنكارًا من تسلط تلك الصغيرة، ثم ردد مجبرًا و هو يحرر زفيرًا عميقًا من صدره:
- زي ما بتحبيني
- بالظبط؟
فتأفف و:
- يــوه!
بصعوبة كتمت "يارا" ضحكاتها و هي ترى تلك الصغيرة و كأنها تحاصره فتحشرهُ بالزاوية، بينما أصرت "رهف" قائلة:
- قول بالظبط
أجابها "يامن" بحنق واضح و هو يقوس شفتيهِ استهجانًا:
- بالظبط.. حاجة تانية؟
حكت "رهف" بطرف سبابتها ذقنها و هي تمط شفتيها مفكرة، ثم افتر ثغرها عن ابتسامة واسعة:
- ممممم، لأ، مش فاكرة حاجة دلوقتي، لما افتكرت هبقى أكلمك تاني، خد يارا، باي!
و بحركة مباغتة منها، أسلمت الهاتف لـ "يارا" التي ارتبكت بشكل كبير و هي تتسلمه منها، ازدردت ريقها، ثم نهضت عن الأرضية و هي تحاول اختلاق بعض الجمل:
- رهيف.. ممكن تضطر تقعد.. معايا النهاردة، لكن حاسة إنها مش هتوافق، و هتعوز تمشي
غمغم "يامن" باقتضاب واضح:
- عقلي صاحبتك
عبثت بأظافر كفها الآخر باضطراب بنما تغمغم:
- انت قصدك...
قاطعها بصلابة بيّنة:
- سلام
استمعت إلى الصفير الدال على انتهاء المكالمة، فتنهدت بضيق و هي تبعد الهاتف، ثم التفتت لتوجه بصرها نحو الصغيرة التي بدت مبتهجة، عكس ما كانت عليه منذ قليل، فغمغمت بنظرات ضائقة:
- لحقتي تموتي فيه للدرجة دي!
و أخفضت نظراتها نحو الهاتف بينما تدمدم ساخطة و هي تمط شفتيها بضيق:
- واضح إنك شغال سرقة قلوب!.. على إيه ، مش عارفة
...................................................................
.................................................
......................................................................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romance" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...