" الفصل الستّون"
"ما انفك الأمر مُحيّرًا،.. كيف يصمُد الانسان أمام تلك الرياح العاتية؟.!"
_________________________________________________
توارت عن الأعين أجمع و وقفت في زاوية بعيدة، أخرجت هاتفها المحمول و هي تتلفت حولها بحذر شديد، ثم شرعت تنقر أزرارهِ و رفعتهُ إلى أذنها، و فور أن استمعت للرد أجابت بصوت خفيض:
- أيوة يا باشا.. يامن بيه عرف كل حاجة!
.............................................................
إنهُ الكابوس الأبشع على الإطلاق، كابوسًا لم يكن يتخيل أنه سيعايشه و سيطأ بقدميهِ بداخله يومًا، حتى يوم ذهابها لم يكن شعوره كذلك.. على الأقل لم يكن هنالك ندمًا، و اليوم ها هُو يجلد نفسه بسياطه.
ارتخى جسدهِ على المقعد الجلديّ و هو يصفع شاشة الحاسوب بعنف، شعر بكمّ الطاقة الغاضبة تندفع لخلاياه فاحتدم رأسه و استشعر سخونة تتغلغل لجسده بأكملهِ، أطبق على كفه المسنود أعلى المكتب و هو ينكس رأسه مشددًا على عضلات فكيه حتى ارتعش صدغاهُ.. ثم انفعل فجأة على الرغم من محاولاتهِ الجمّة، نهض عن محله و هو يطيح بطول ذراعهِ ما أعلى سطح المكتب مزمجرًا بعنفٍ حينما كان "يامن" يقف ببرود شديد مثير للأعصاب مرتكنًا بكتفهِ للحائط و هو ينفث الدخان من سيجارة أخرى أشعلها، تركهُ ينفعل و ينفجر و يهتاج و يبعثر الوسط بأكملهِ وسط صراخه المحتدم و زئيره المتعالي، حتى توقف فجأة.. انحرفت نظراته نحو باب الغرفة، ثم هتف بتشنج و هو يخطو نحوه:
- هقتلـه.. و رحمتها ليكون موته على إيدي!
دعس "يامن" سيجارته في المنفضة و هو يخطو نحوهُ ثم توقف أمامهُ ليسد عنه الطريق و هو يتهكم منه ببرود:
- قولي هتجيبه منين!
« عقب أن تمّ إيداعهِ في المشفى الخاص بالسجن لدى سوء حالته المفاجئة و فقدانهِ وعيه، و قد تلاشى أثر المادة التي تعاطاها كي يؤول به الحال إلى هنا من دمائهِ، دنا منهُ أحد الأطباء عقب أن اطمأنّ إلى هدوء الأجواء، و هزّ جسده برفقٍ و هو يدمدم بخفوتٍ تام محاولًا تنبيههِ:
- كمال بيه.. كمال بيه؟
فـ رمش "كمال" رمشتين، قبل أن يفتح جفونه التي أغلقها قسرًا منذ أن استعاد وعيهِ، فارتطم بصره بالإضاءة التي اخترقت عيناه، عاد يطبق جفونه من جديد، ثم فتحهما، فـ أزاح الطبيب و هو يتلفت حولهُ الغطاء عن جسدهِ و هو يحثّه على الوقوف:
- بسرعة يا كمال بيه، الجو أمان
و أعانهُ على النهوض.. ساندهُ الطبيب حتى الخارج و "كمال" يجرّ ساقيه جرّا، مستشعرًا ذلك الثقل الذي يقبض ذهنهِ، فسأل بخفوتٍ:
- الدوخة دي هتروح امتى؟.. أنا مش قادر أفتح عيني
فـ طمأنهُ بقولهِ الهادئ و هو يتلفت بحذرٍ من حوله:
- مش عايزك تقلق يا كمال بيه، كلها دقايق و كل ده هيروح
و اقتادهُ حتى تلك الغرفة المنعزلة، حيثُ استقبلهما أحد الضباط المرتشين، و الذي سيعين "كمال" على الفرار من محبسهِ، بيسرٍ بالغ»
وجههُ كان مصطبغًا بحمرة قاتمة و هو يرتد للخلف مشيحًا بذراعهِ:
- هجيبه و لو تحت طقاطيق الأرض، مش هسيبه.. مش هسيبه بعد ما قتلها!
قاطعهُ "يامن" بحزم مثير و هو يخطو نحوه:
- مش هتضيع نفسك عليه، و لا هسيبك تعملها، حسابه معايا أنا.. و أنا هصفيه
و أشار بكفهِ و قد ترك عنان انفعالهِ يطفو على السطح و هو يهدر بتوعد شرس:
- لا دم أبويا هسييبه و لا دم أمك.. و لا دم كل واحد راح ضحيّة في اللعبة الـ**** دي!
أطبق "فارس" كفيهِ و هو يدفعهُ من كتفه مردفًا باحتدام:
- حسابه معايا أنا.. أنا، أنا اللي عيشت طول عمري كاره سيرة أمي، عيشت طول عمري راسي في الأرض بسبب عملتها، و في الآخر تكون مقتولة! و مين؟ هو اللي قتلها!.. كل ده و حسابه مش معايا!
فدفعهُ "يامن" بعنفٍ أشد ليرتد جسده للخلف و هو يقول متشنجًا:
- أمك راحت ضحية بسبب قتله لأبويا.. انت مش هتدخل و لا هتوسخ إيدك بدمّه، مات الكلام
أقبل عليهِ "فارس" و هو يطبق على تلابيبهِ بعنف:
- قولتلك أنا اللي هخلص عليه، مش هرتاح غير لما روحها ترتاح!.. مش هدوق طعم النوم غير لما أخلص عليه بإيدي
ارتكز "يامن" بنظراتهِ المستعرّة عليه بدقائق عمّ فيها صمت مريب، قطعهُ "يامن" قولهِ الساخر:
- مش قادر تستحمل دقايق!.. غريبة، أومال أنا استحملت 17 سنة إزاي!
حملق "فارس" بوجههِ و قد تراخت تعبيراتهِ، زمّ شفتيه و هو يرخى قبضته عن ياقته رويدًا رويدًا، و لم يشعر بنفسه سوى و هو يجتذبهُ لأحضانهِ إحدى كفيهِ خلف عنقه، فظلّ "يامن" جامدًا لم يبادله عناقه، و لكنه بادله الشعور، حينما كان "فارس" يقول مطبقًا جفنيه:
- مش مصدق.. مش مصدق إن طول عمري عايش في كذبة غبية صدقتها! مش مصدق إن أبويا شيطان، مش قادر أصدق إنها خلاص مش موجودة معانا
و ابتعد قليلًا عنهُ ليردف بصوتٍ غلبهُ المرارة:
- ده أنا كنت بدور عليها زي المجنون! اللي محدش يعرفه إني كنت بدور عليها و مستني خبر واحد عنها، مقدرتش معرفش حاجة عنها و أنا عارف اللي عملته!
ثم أشار بسبابتهِ و هو يهدر بسخط:
- و في الآخر تكون مظلومة! اتاخدت بذنب انسانيتها، لو كانت شيطانة زيه و سكتت كان فاتها بيننا، لو كانت اتصرفت بأنانيّة مكنتش هتموت!
أشاح "يامن" بوجههِ عنه و هو يقول بلهجة قاتمة:
- حقها هيرجع.. صدقني!
نكّس "فارس" رأسه.. ثم خطى بين الشظايا المتناثرة نحو الأريكة و ارتمى بجسده عليها، دفن وجهه في كفيه و مرفقيه إلى ركبتيه، ترقرقت العبرات رغمًا عنه في مقلتيه و لكنهُ كبحهم بصعوبة جمّة، ثم التفت نحوه و هو يقول:
- يعني كمال دبّر كل حاجة.. و حسين نفذ، دي الحقيقة!
أومأ "يامن" و هو يدس كفيه بجيبيه مستندًا بجسده لمقدمة مكتبه مجددًا:
- بالظبط
فتنمّر "فارس" قليلًا و قد التوى ثغره ببسمة ساخرة:
- طبعًا مراتك فاتها هتبوس إيدك عشان تسامحها بعد ما اتأكدت إن أبوها قتل أبوك بإيده!
حكّ "يامن" صدغهِ و هو يشيح بنظراته المتوهجة عنه، ثم نطق بحزم:
- مش هتعرف
تغضن جبين "فارس" و هو يرمقه بعدم فهم و:
- إيـه؟
فأوضح "يامن" لهُ بثبات:
- مش هتعرف.. يارا مش هتعرف أي حاجة، مش هتعرف إن أبوها بنفسه اعترف لي قبل ما يموت
انعقد حاجبيه و هو يسأله بسخط:
- ازاي يعني؟.. مش كانت فاهمة إن أبوها ملاك
و صمت هنيهة ثم تابع:
- لازم تعرف كل حاجة.. مش هتفضل إنت الشيطان في نظرها و أبوها هو السبب في كل حاجة
و انخفضت نبرتهِ و هو يقول بتهكمٍ مرير:
- و أبويا!
فضرب "يامن" جوارهِ سطح مكتبه و قد احتـد:
- عايزني أقتلها بالبطئ عشان مكونش غلطان في نظرها!.. قولت مش هتعرف يعني مش هتعرف، خلصنا
و أشار بسبابتهِ محذرًا و هو ينطق بـ:
- و يا ريت تفكر تلمح بكلمة قدامها يا فارس!.. يا ريت بس تحاول تفكر في ده!
فتلوت شفتيهِ استهجانًا ثم قال بفتور و هو يحيد بنظره عنه:
- اللي تشوفه، انت حر
و همّ بالنهوض و قد شعر و كأن المكان يُطبق على أنفاسه، و أفضى إليه بشعورهِ و هو يتلفت حوله:
- القصر ده بلع دم ناس كتير!
تنهد "يامن" باختناق و هو يشيح بنظره عنه ثم أردف و هو ينفض خصلاته بعصبيّة:
- عارف.. و مش عايز يارا هنا، نرجع من السفر و هتصرّف
تغضن جبينه و هو يخطو نحوه متعجبًا:
- سفر؟.. انت رايح فين
عقد "يامن" ساعديه أمام صدره و هو يقول بينما ينظر نحوه من طرفهِ:
- روما.. مش هسيب حبيبة تموت! هي اللي باقيالها
ارتفع جانب ثغر "فارس" ببسمة هازئة و هو يقول:
- من قريب كنا واقفين نفس الوقفة.. في نفس المكان، و كنت بحاول أقنعك إن حبيبة ملهاش ذنب و النهاردة.....
و صمت هنيهة ثم تابع و هو يرفع كتفيهِ:
- النهاردة انت هتسافر مخصوص عشانها!
زفر "يامن" حنقًا ثم قال بغموض و أنظاره مرتكزة عليه:
- لأن مش حبيبة السبب في موته.. في سبب تاني خلى "حسين" يخطط مع "كمال" من أول ثانية لكل حاجة
و حكّ ذقنهِ و هو يحيد بنظره عنه مردفًا بتوعد:
- لكن هعرفـه!
و لم ينتبه إحداهما إلى شِقّ الباب الموارب.. الذي كانت تقف بهِ "يارا" منذ أن تناهى لمسامعها صوت التهشيم و التحطيم بالأسفل، و قد هالها أن يكون "يامن" من يفعل.. فاستمعت إلى حديثهما إينذاك، و لم تحتمل الوقوف أكثر و هي تُكمم فاهها بكفيها، و فرّت من هنا قبل أن يكتشفان وجودها.
في حين كان "فارس" يقول متنهدًا بحرارة و هو يحكّ عنقه:
- هتسافر امتى؟.. لأني كنت ناوي أروح، في دكتور عظام هناك كويس!
تغضن جبين "يامن" و هو ينظر نحوهُ مستفهمًا، ففسّر "فارس" و هو يحيد بنظراته عنه:
- اللي حصل لولاء دين في رقبتي، البنت مفكرة نفسها معاقة، و أنا عايز أخلص من الموضوع ده!
ارتفع حاجب "يامن" باستنكار و قد تلوت شفتيه سخطًا ثم قال:
- حصل لها إيه؟ مش خلصنا
فنظر نحوه "فارس" بحنق و هو يردف امتعاضًا:
- انت مش شايف إنها بتعرج مثلًا؟
فتنمّر "يامن" قليلًا:
- لا و الله مخدتش بالي.. سلامتها!
أطلق "فارس" زفيرًا حارًا و هو ينظر نحوه، ثم قال مغيرًا دفة الحديث:
- الصور دي جبتها منين؟.. عرفت ده كله ازاي؟
-Yes Mr Yamen.. this is me! «
انحرفت نظرات "يامن" الثاقبة نحوهُ و شملهُ بنظرة جابته من رأسه حتى أخمص قدميه، فضبط سترتهِ البيضاء و هو يقول بتكسّر واضح في لكنتهِ:
- دورت أليك "عليك" كتير مستر يامن
تغضن جبين "يامن" و هو يرمقه بحدة واضحة، في حين حمحم "مايكل" و هو يهمس قبل أن يرحل:
- يامن.. أنا بالداخل
و برح محله تاركًا إياهما بمفردهما، تتبعه الرجل بنظراته حتى اختفى، فالتفت نحو "يامن" الذي بادر بعدائيّة واضحة:
- انت مين بالظبط؟.. و عايز إيه؟
لفظ أنفاسهِ الحارة ثم قال بتريّث مستفز و متكسر:
- ينفع نعد و نتكلم على رواقة؟
فجأر "يامن" بنفاذ صبر و هو يخطو نحوهُ غارسًا نظراته النارية بعينيهِ:
- بقولك إيه.. أنا روحي في مناخيري، انطق و قول انت مين و خلص الليلة دي على خير
أومأ و هو يقول:
- هاضر "حاضر" مستر يامن.. هقولك على كل هاجة "حاجة"
و أحنى ناظريهِ قليلًا و هو يستطرد بسئم:
- أكيد انت بتدور على القاتل الحقيقي لأبوك السيد يوسف يأعقوب "يعقُـوب" الصيّاد!
توسعت عيناهُ و قد بزغت الشعيرات الدموية فيهما و بحركة مفاجأة كان يطبق بأناملهِ على تلابيبهِ و هو يقول محتدمًا:
- انت ميـن بالظبط؟ ميــن؟
حاول تخليص نفسه من قبضته و هو يقول بهدوء:
- اهدى شوية مستر يامن.. أنا آرف والدك من زمان
ضاقت عينا "يامن" و هو يرخى قبضته عنه، ثم تركهُ محررًا إياه، بينما كان هو يقول:
- و.. آرف "عارف" كويس مين اللي قتلهُ و أندي الإثبات
و أخرج من جيب سترته الداخلية مظروفًا مغلقًا و ناولهُ إيّاه، تناولهُ "يامن" و هو يحدق به و كأنه كنزًا ثمينًا، أطبق بأناملهِ عليه. ثم رفع نظراته إليه و هو يسألهُ بإيجاز يكمن خلفهُ الشراسة و قد انكمشت المسافة ما بين حاجبيه:
- ميـن؟
لفظ أنفاسه الحارة و هو يشيح بناظريه عنه:
- أمّك "عمّك".. " كمال الصيّاد"
« گانت زيارة مفاجئة منه لعُقر دارهِ ليحاول استشفاف من لهُ عداء ضد رفيقهِ الحديث "يوسف" الذي كان قتلهِ بمثابة صدمة لهُ، حتى أنه ترك موطنه "روما" فور أن أدرك موته و استقلّ أول طائرة لهُ تقله لأرض "مصـر".
و لم يكن هنالك حراسة مشددة حول القصر، كان هنالك مجرد بواب طاعن في السن أدلفه على الفور و قد تعرّف إلى هويتهِ، حيث أتى "يوسف" مرات عدة في زيارته السابقة لمِصر..
و لكنهُ لم يدخل من فورهِ، كان يعلم جيّدًا أن غرفة مكتب "يوسف" التي قتل بها لها حاجزًا زجاجيّا من الحديقة مباشرة و لكن ما لم يعلمهُ أن هنالك نافذة تُطل على زاوية أخرى من الحديقة أيضًا، و لم يكتشفه سوى و هو يخطو ماضيًا نحو الحائل.
توقف و قد تغضن جبينهُ و هو يراه "كمال" موليّا ظهرهِ له و قد ظهرت صورتهِ شبه مشوشة بسبب الستائر الباهتة اللون التي أخذت تتطاير بفعل الهواء، و لحسن حظهِ أن النافذة مفتوحة، فثبّت طرف الستار بأناملهِ و انحنى قليلًا مرهفًا السمع إلى مكالمتهِ الهاتفيّة، حتى وصلت زوجتهِ التي بدا أنها استمعت إليه من خلف الباب، كانت صدمة شديدة لهُ فور أن أدرك أن من أراق دماء "يوسف" ما هو إلا أخيهِ "كمال"، حقيقة عظيمة كتلك لم يكن يفوتها منتويًا التسجيل، فأخرج هاتفهِ حديث الطراز إينذاك..
و لكن توسعت عيناه و هو يراهُ يقبل على قتلها، فشرع يُسجّل مقطعًا مرئيًا له شبه مشوش، و لكنهُ كافيًا لإظهار ما يحدث كاملًا، و من ثُمّ التقط صورًا عدة و أغلق الهاتف نهائيّا، لم ينهض عن جلستهِ و هو يمر من أسفل النافذة العريضة و بقى منبطحًا، حتى استقام واقفًا و هو يفر من هنا قبل أن يعلم "كمال" أن هنالك شاهدًا آخر.. فيخسر روحهِ على الفور، و لكن بيد أنهُ أضاع الاتجاه و سار باتجاهٍ آخر يؤدي إلى ذلك الحاجز الزجاجيّ الفاصل بين الغرفة و الحديقة فرأى شخصًا متيبسًا محلهِ و..»
و اختتم سردهِ المرير و هو ينكّس رأسه خزيًا:
- مأرفتش أتكلم مستر يامن.. قتل مراته، مآك الفيديو، ممكن تتأكد بنفسك
كان على وشك الانفجار و كل كلمة يضيفها تجعل دمائهِ و كأنها على مرجل، و لم يمنع نفسه من أن يُطبق مجددًا على تلابيبهِ و هو يقول باحتدام:
- متعرفش إنك خليته يعيش 17 سنة بعد جريمته و يتمتع بالدنيا بسبب ****** دي!.. متعرفش إن روح أبويا بتتعذب في قبره بسببـــك!
فلم يرفع نظراته نحوه و كأنه متقبلًا خطأه، ثم همس من بين شفتيه بقنوط:
- مقدرتش أتكلم مستر يامن.. لو كنت أملت "عملت" كده كان هيخرج من السجن بكل سهولة، وقتها كان هيقتلني، و كل هاجة "حاجة" هتموت مآيا "معايا"
زمجر "يامن" محاولًا التنفيث عن نيرانهِ التي تشبّع صدره و ضجّ بها، ثم دفعه بعنفٍ للخلف و هو يدرك صِحة قولهِ، حينما كان يضبط هندامهِ و هو يقول رافعًا أنظارهِ نحوه متنفسًا بعمق:
- و أول ما إرفت إنك كبرت و كل السلطة بقت في إيدك.. دورت أليك في كل هتة "حتة".. جيت هنا و سألت أليك، قالولي إنك في مستشفى، و لمّا روحت هناك كنت اتنقلت مستشفى تاني مستر يامن، و بأدها "بعدها" بدأت أروه "أروح" كل مكان تروهه" تروحه".. و الفرصة الوهيدة اللي كنت هقدر أكلمك فيها لمّا "إرفت" خبر زفافك، و لكن بنتي تإبت فجأة و كان لازم أمشي لغاية ما فقدت أثرك.. حتى موت والدتك
و أشار للوسط من حولهِ و هو يقول متنهدًا بيأس:
- تمنيت لو اتقابلنا في ظرف تاني مستر يامن، و لكنهُ القدر مع كامل أسفي
أطبق "يامن" جفنيه بقوة و هو يعود خطوة للخلف، فأردف الأخير متابعًا عقب أن لفظ أنفاسهِ:
- في هاجة "حاجة" كمان لازم تِأرفها "تعرفها" مستر يامن.. شركة جدّك "جاكوب" في روما تنهار!
فتح "يامن" جفنيه و قد قطّب جبينه أكثر ثم قال متشككًا:
- جدي! احنا معندناش فرع في روما!
تغضن جبينهُ و هو ينطق متعجبًا:
- كيف مستر يامن؟ أنا متأكد من تلك المألومة، ده الفرع اللي أنا اتآرّفت فيه على والدك يوسف
نفض "يامن" خصلاته بعصبيّة و هو يشيح ببصره عنه حينما كان هو يتابع:
- و لكن.. لا آلم لمن ترك السيد جاكوب "يعقوب" الأسهم من بعده إن لم تكن أن تألم بذلك
نظر "يامن" نحوهُ بغموض، بينما صمت هو هنيهة و هو يفرك ذقنهِ بإبهامهِ، ثم قال فجأة و هو يرتكز بنظراته عليهِ:
- أنا آرف صديق يأقوب..هيكون آرف كل هاجة "حاجة" عن الفرع ده، و لكنهُ في روما، و مش آرف هيوافق يقولي و لا لأ مستر يامن، ههاول "هحاول" آرف منه و أقولك»
تنبّه "يامن" إلى فرقعة إصبعيّ "فارس" أمام عينيهِ فأخرجه من أوج شروده، التفت "يامن" نحوهُ عاقدًا حاجبيهِ فقال "فارس" بتعجب:
- هو أنا سؤالي صعب كده؟.. بسألك عرفت إزاي؟ مين اللي كان موجود و صور الصور دي؟
أشاح "يامن" بنظراتهِ عنه و هو يقول بلا اكتراث لإجابتهِ:
- مش مهم عرفت إزاي.. المهم إني عرفت و بس
تقلّصت المسافة ما بين حاجبيه و هو يهبّ واقفًا حين استمع إلى أصوات الصراخ القادمة للخارج، فتسائل "فارس" مجعدًا جبينه:
- هو في إيـه؟
خطى "يامن" للخارج من فورهِ حتى وجد "سهير" تخطو نحو غرفتهِ، قطع المسافة الفاصلة بينهما حتى التقيا في المنتصف فتوقف أمامها و هو يجأر:
- فـي إيــه يا سهير؟
فكانت تبكي بُكاءً مريرًا و شهقاتها تعلو شيئًا فشيئًا، حاولت التشبث بذراعهِ و هي تستنجد بهِ بصوت ممشوج:
- أمنية.. خدوا أمنية مني يا يامن بيه! هيقتلوها يا يامن بيه
نفض ذراعه بحركة عصبية عنها و هو يسألها باحتدام:
- ميـن؟
التقطت أنفاسها اللاهثة، ثم لفظت كلمة واحدة و أعينها محدقة في وجههِ المترقّب:
- كـ..كمال بيه!
أشاح بناظريه عنها و هو يتأفف بقوة، ثم أطبق أسنانهِ باغتياظ أشد، التفت ليجد "فارس" متسمرًا يبادلهُ نظرات قاسية، قطع التواصل البصري بينهما إمساكها بساعده مجددًا و هي تتوسله من بين نشيجها:
- الله يخليك رجعهالي، الله يخليك يا بيه، هعمل أي حاجة بس ترجعلي
التفت نحوها ليحدجها بنظرة ناريّة ثم سألها، على الرغم من كونهِ يدرك الإجابة جيّدًا:
- ليـه؟ خطفها ليه؟
أحنت ناظريها عنه و هي تقول بتلعثمٍ طغى على نبرتها الممشوجة بنحيبها:
- قالي انك عرفت كل حاجة، فاكر إن أنا اللي قولت!
ودّ لو بإمكانهِ الإطباق على عنقها كونها تحتفظ بتلك الأسرار في جبعتها حتى الآن، و لكنهُ كبح انفعالهِ عنه و هو ينزح كفها عن ذراعه متراجعًا خطوة للخلف مكتفيًا بنظراتهِ القاتمة، فرفعت "سهير" أنظارها إليه و هي تقول بلهجة مبحوحة:
- شايف يا بيه؟ أهو ده اللي خوفت منه!.. ده اللي سكتني طول السنين دي كلها، و برضو اتأذت
أطبق "يامن" على عضديها و هو يسألها بلهجة ثاقبة:
- مين قتل هـدى؟
تحجرت الدموع في عينيها و ارتخت ملامحها و قد ارتسمت الصدمة بخطوطها العريضة على سطح وجهها، حملقت بهِ بعدم استيعاب فهزّ "يامن" جسدها بعنف و هو يجأر بشراسة:
- هو اللي قتلها؟.. هو اللي قتل هدى؟ انطــــقي!
أحنت ناظريها منكّسة رأسها، ثم همست بصوت خفيض للغاية:
- أيوة
ارتخت قبضتيه عنها و عاد خطوة للخلف و هو محملقًا بوجهها، كان متأكدًا من تلك النقطة أيضًا، كي لا يكون عليهِ حرج إن ارتكب ما هو أسوأ بحقّهِ، و لكنه أراد لو يقطع الشكّ المسيطر عليهِ باليقين التام حكّ "يامن" عنقهِ بانفعال و هو يشيح بوجههِ عنها، ثم زمجر و هو يطيح بقدمهِ إحدى الطاولات الدائرية من حولهِ فسقطت و سقط ما فوقها مصدرة دوّيا مرتفعًا، تروس ذهنهِ تعمل دون توقف حتى توصل إلى محلّ بعينهِ، ثم التفت نحو "فارس" الذي وقعت الصدمة عليه وقع الصاعقة و هو يشير بسبابتهِ مستهجنًا:
- شايف أبوك الـ******، شايف أبوك اللي كنت واثق فيه أوي!
التفت و كاد يهمّ بالرحيـل، فاستوقفهُ "فارس" و هو يقف أمامهُ:
- هاجي معاك.. مش هسيبك تروح حتة لواحدك
نظرن نحوهُ بأعينه التوهجة، ثم زأر و قد بزغت عروق جبينه :
- و رحمة الغاليين كلهم ليكون موته على إيدي!.. اللي قتل أمي و أبويا محدش هيوسخ ايده بدمه غيري!
فشدد "فارس" من كلمتهِ و:
- مش هتضيع نفسك عليه، سيبني أنا
فدفعهُ "يامن" بعنفٍ للخلف و هو يجأر بـ:
- بقولك قتل أمي.. قتلها بدم بارد، قتل اللي كانت باقيالي!.. مش هسيبـه
و خطى للخارج مبتلعًا المسافات بخطاه الواسعة، فحاول "فارس" أن يتبعهُ و لكنه أشار بسبابتهِ محذرًا دون أن يلتفت:
- لو جيت ورايا يا فارس متلومش إلا نفسك
فتوقف محلّهُ و هو يسأله بجديّة:
- طب قولي بس انت رايح فين.. يا يامن
و لكنه كان قد تلاشى و قد عبر من الباب الرئيسيّ للقصر ليمضي نحو مصفّ السيارات، و ما هي إلا دقائق و كان يستقلّ سيارته و يخرج عن محيط القصر تمامًا و تعبيراتهِ لا تبشر بالخيـر.
............................................................
لم يكن لها سوى الوسادة التي ابتلعت دموعها المريرة بشراهة و طالبتها بالمزيد و المزيد، و لم تكن هي بالبخيلة، كتمت شهقتها الغير مستوعبة بكفها و قد شعرت و كأن قلبها يُقتلع من محلهِ، هي ابنة القاتل.. هو كان محقّا و كانت هي المُخطئة، لم تكن سوى ابنة قاتل مأجور أنهى مهمتهِ و تلقى أموالًا نظيرها، لذلك إذًا كادت ترتكب جريمتهِ، لذلك كادت تقتلهُ قبلًا و قد تذكرت كلماتهِ التي أخذت تتردد على أذنيها مرات عِدة.. ابنة قاتل، القتل يسري في دمائها، انبثقت أمام عينيها مشاهد عدة و كان أولهم حين تلقّت طعنة والدها بدلًا عنهُ، إذًا لم يكن ذلك مجرد غضب أعمى عينيهِ، بل هو معتاد على سفك الدماء، و لربما كانت تذهب هي ضحيّة فعلتهِ.
تقلبت على الفراش و قد تعالي أنينها الخافت محدّقة في سقفية الغرفة، شخصية زوجها ما كان أحد مسؤولًا عنها سوى والدها، و لم تكن والدتهِ كما اعتقدت سابقًا، هو السبب بمعاناتهِ بالفعل كما قال، و ما جعلها أكثر شجنًا هو أنهُ رفض حتى إخبارها، دفن سرّه بداخلهِ و رفض أن يشمت بها و بثقتها العمياء في والدها، تنبّهت لرنين هاتفها فنزحت دموعها و هي تحاول جاهدة التحكم بشهقاتها، نهضت لتجلس نصف جلسة و هي تبسط كفها لتسحب هاتفها، تغضن جبينها في البداية و لكنها أجابت بصوت مبحوح:
- عايزة إيه يا ولاء؟
كانت تجلس أمام والدتها المُمددة على الفراش ، و قد شعرت و كأنها ستثأر لكرامتها التي أُهدرت على يده بأن تخالف أمرهِ، لم تكترث لمشاعر شقيقتها، بل و الأكثر صحة أنها تعمّدت أن تجرحها جرحًا غائرًا لا تنساهُ.
أجابت "ولاء" و هي تحنى بصرها بتنهيدة حارة مصطنعة:
- طنط هوليا هتسافر تركيا قريب، كلمتني الصبح و قالتلي! تخيلي
تغضن جبينها و قد بدت تائهة و هي تسألها باهتمام:
- طنط هوليا!.. مين هوليا؟
ارتفع حاجبيها استنكارًا و هي تقول:
- أوبس.. هو يامن معرفكيش؟ أنا.. مقدرش أقول طالما انتي مش عارفة
تنهدت "يارا" بنفاذ صبر و هس تسحب منديل ورقيّ تمسح بهِ عبراتها، ثم قالت بسئم:
- ولاء لو سمحتي.. قولي اللي عايزاه تقوليه من غير لف و لا دوران
فاحتدت و:
- أنا لا بلف و بلا بدور.. أنا فكرتك عارفة بموضوع هوليا
فصرخت بها و قد فرغ مخزونها من الصبر تمامًا:
- ميـن هوليا؟
- مرات أبوكي!
گوقع الصاعقة، حملقت أمامها بشدوه بزغ من عينيها المتوسعتين و قد تلاحقت نبضاتها و هي تسألها بعدم استيعاب:
- مجنونـة.. انتي أكيد مجنونة، مرات بابا ميــن؟
أحنت "ولاء" بصرها بحزن زائف و هي تقول:
- مراته، اللي كان متجوزها على ماما من زمان.. حتى من قبل ما يسافر تركيا، عشان فلوسها
و تقوست شفتيها بتهكم حقيقيّ و هي تقول بمرارة ليست زائفة:
- مش أبوكي كان مليونير.. طنط ورثت بعد ما أبوها مات، و كتبت أملاك كتير و شركات باسمه! تخيلي
و تفاقمت مرارة نبرتها و هي تُفضي القول بـ:
- و احنا اللي عيشنا طول العمر راضيين بالفقر و فاكرين نفسنا على الحديدة! أبوكي عمره ما حبنا يا يارا، و لا عمره حتى فكر فينا و لو لثانية واحدة
و كأن عينيها أقسمتا ألا تجفان من العبرات، فهطلت الدموع بغزارة منهما و هي تتذكر تلك المعلومة التي لم يوضحها "يامن" كما أوضحتها لها "ولاء"، أنهت المكالمة بشكل مفاجئ و هي ترتمي بجسدها لتضُمّ وسادتها و دفنت فيها رأسها ليرتفع نحيبها المتألم، و من بينهما غمغمت بـ:
- كلـه كذب.. حياتي عبارة عن كذبــة، حياتي أنا اللي كذبة عايشة فيها، مش انت يا يامن، انت الصح و أنا الغلط، كنت صح في كل حاجة
..............................................................
كانت تعبث بهاتفها متفقّدة إحدى مواقع التواصل الاجتماعيّ، تركت مشروب الشاي جانبًا، و هي تمرر أناملها فوق الشاشة، حتى أجفل جسدها حين تلقّت رسالة من رقم مجهول و قد تبيّنت لها الكلمات الأولى في شريط الحالة العلويّ:
- " كيف حالك كستنائيّة؟"
رمشت عدة مرات غير مستوعبة، شعرت و كأنها مراقبة من قبله، صارت تستشعر الخطر أكثر و أكثر من ناحيتهِ، على الفور شرعت تنقر برسالة نصيّة إليه:
- "عرفت رقمي إزاي؟"
- "لم يكن عسيرًا مطلقًا"
- "انت عايز إيـه؟"
فـ أعرب عن رغبتهِ بها بصراحة مُطلقة:
- "أنتِ!"
و كأن قلبها سيقفز من بين أضلعها، ظلت مُحملقة بشاشة هاتفها و قد شعرت بالدماء تفرّ من أوردتها، و من فورها راحت تغلق الهاتف نهائيّا و قد بلغ ذعرها أوجهِ، ضمّت نفسها بذراعيها و هي تنهض عن جلستها، لم تعد تحتمل.. ستلجأ لـ "راشد" من فورها عساهُ يخلصها مما ارتكبت في حق نفسها، و لكنها فور أن خرجت من الغرفة وجدت الخادمة "مجيدة" تترك سماعة الهاتف الأرضي ثم التفتت لتناديها، و حالما وجدتها قالت:
- والله زين إنك موجودِة، تليفون علشانك يا ست رهيف
رمشت "رهيف" ثم قطبت جبينها و هي تسألها متشككة:
- عشاني؟
و خطت نحو الهاتف و هي تسألها:
- مين يعني؟
فأبدت عدم معرفتها و:
- معرِفش.. أنا رايحة أشوف الست الكبيرة
و برحت محلها حينما رفعت "رهيف" سماعة الهاتف إلى أذنها و هي تهمس بلهجتها العذبة و التي أصابتها رجفة طفيفة:
- ألو
- قفلتي موبايلك؟.. أوه، متقوليش اني خوفتك!
شعرت بالخوف يسري بخلاياها حقًا، ارتعشت شِفاها و قد شعرت بجفاف حلقها، و اصطكّت أسنانها ببعضها البعض فـ أطبقتهم لتردف من بينهم برعشة صاحبت نبرتها:
- انت.. وصلت للرقم ده ازاي؟
فكركر ضاحكًا بعبث متبعًا ذلك بـ:
- ما هذا الخوف؟.. مآقول كلمة واهدة تآمل كل ده! من غير هتى ما اقولها بلساني!
أطبقت "رهيف" جفنيها محاولة استعادة رباطة جأشها، ثم قالت باحتداد:
- احترم نفسك أفضل لك.. انت متعرفنيش! أنا واحدة اتخلت عن أرضها عشان خالها ميجبرهاش إنها تبيعها، احذرني
- خفت!
و أعقب كلماتهِ بضحكاتٍ أخرى ساخرة، فغزت الحمرة الغاضبة وجهها، و راحت تصفع سماعة الهاتف الأرضيّ بعنف، حينما استمعت إلى صوت خالها القادم من الخارج، التفتت يسارًا فانتفض جسدها مع تلك القبضة التي أطبقت بمباغتة على عنقها، حملقت عيناها و هي ترى تعبيرات "متولي" التي كانت كافية لإثارة الرعب في نفسها، حينما كان هو يجأر:
- بيعتي الأرض يا بت فؤاد؟.. بيعتي أرضك عشان مخدهاش؟
فأجابتهُ و قد احتدمت دمائها متجاوزة خوفها:
- أيوة بيعتها.. بيعتها عشان متجوزنيش غصب من إبنك! بيعتها يا خالي، عشان تفوق من أحلامك، أرض أبويا عمرها ما هتكون ليك
أطبق أكثر على عنقها حتى شعرت بهِ سيهشمهُ في قبضته، فتأوهت متألمة و هي تحاول خدش كفيه لتخليص نفسها منه حينما كان يردد بزمجرة عنيفة:
- و رحمة أبوي ما سايبك عايشة يا بت فؤاد، روحك عتطلع في إيدي!.. آآه
تأوه متألمًا حين غرست "رهيف" أظافرها في كفه بقسوة، فأفلتها رغمًا عنه و هو يتلمس تلك السحجة التي خلّفتها، حينما حاولت "رهيف" الفرار منهُ، و لكنه كان الأسرع منها، حيث أوفض من خلفها قبل أن تصعد السلالِم و اجتذبها من حجابها الذي لم يكن محكمًا فسقط أرضًا، تركهُ و اجتذب من بعدهِ خصلاتها ليجترها إليه و هو يردد بشراسة:
- مش هسيبك تتهني و لا تفرحي عاد يا بت فؤاد، هوديكي عند أبوكي!
تأوهت و هي تحاول تخليص شعرها من بين أناملهِ، ثم قالت مهتاجة:
- انت أكيد مجنون.. مجنـون!
- بـابـــا!
هبط "راشد" الدرجات من فورهِ ملتهمًا إياها حتى وصل إليهما، فخلّص "رهيف" من بين كفيّ والده و هو يعنفهُ قائلًا باستهجان:
- إيه اللي بتعمله ده يا بابا؟
احتمت "رهيف" بنفسها خلف ظهرهِ و هي تستنجد به و قد جلّ الهلع على ملامحها:
- الحقني يا راشد، المجنون ده هيقتلني!
التفت نحوها نصف التفاتة ليُبصر خصلاتها الكستنائيّة للمرة الأولى، أخفض بصره لوجهها، ثم وارها أكثر من خلفهِ و هو يقف في وجه والدهِ الذي حاول أن يطالها باهتياج و هو يقول:
- بت الـ**** راحت باعت أرضها عشان مناخدهاش يا راشد، سيبني أخلص عليها يا ولدي، سيبني
ردعهُ "راشد" بقولهِ المستهجن:
- تخلص على مين يا بابا؟ ايه اللي بتقوله ده!
- راشــد.. متولي، الحقوني بسرعة
صدح صوت "سهير" من الأعلى فتشبثت "رهيف" بقميص "راشد" و قد شعرت بقلبها يتواثب بين أضلعها و هي تستمع لقول والدتها الذي برز من غرفة جدتها:
- اطلب الدكتور يا متولي الله يخليك.. ماما مبتتنفسش، بسرعة يا متولي!
فتركهما و قد أصابه الهلع الشديد بارحًا محله، و شرع يبتلع الدرجات للأعلى و هو يهدر بـ:
- ايه اللي هتجوليه ده يا سعاد.. انتي اتجنيتي؟
تابعه "راشد" حتى اختفى طيفهُ و صوته بالداخل، فاجتذبها من عضدها ليجعلها تقف عنوة أمامهِ و هو يهدر بها معنفًا:
- روحتي عرفتيه يا متخلفة؟ انتي عارفة كان ممكن يعمل فيكي ايه و انتي لوحدك، لو مكنتش نزلت كان ممكن يحصل إيه؟
حملقت بوجههِ و هي تغمغم مشدوهة:
- انت.. معرفتوش؟
فتأفف و هو يقوس شفتيه:
- أكيد لأ يعني!
فحادت بنظراتها المذعورة عنه و هي تهمس و قد شعرت بصعوبة في التنفس:
- يبقى.. هو، أكيد هو، مفيش غيره!
انحنى "راشد" ليسحب حجابها عن الأرضية و هو يزفر في ضيق، و غضّ بصره عنها بصعوبة و هو يبسط كفه بهِ:
- امسكي
حدقت به و هي تقول ببلاهة:
- إيه ده؟
و شهقت مصدومة و هي تتراجع خطوة للخلف متلمسة خصلاتها عفويًا، في حين أحنى "راشد" بصره متحرجًا حتى اختطفت حجابها من بين يديهِ و هي تقول قهرًا:
- كفاية أوي اللي حصل لي على إيده.. كده كفاية أنا تعبت، أنا همشي من هنا و اللي يحصل يحصل
و قبل أن تهمّ بالحراك كان صوت "سعاد" المنهار يبرز من الأعلى و هي تخرج من حجرة والدتها:
- رهيـف.. جدتك ماتت يا رهيف، جدتك ماتــــت!
..............................................................
كان يصعد الدرجات الفاصلة بينهُ و بين الأعلى محيطًا لها بذراعيه و صوت ضحكاتها الرقيعة يبزغ في الوسط الهادئ في ذلك التوقيت و هو يهمس بكلماته الإيحائيّة في أذنها، حتى اقتادها نحو غرفتهِ الواسعة، و ما إن دلف حتى شهقت بميوعة و كأنها متخوّفة من تلك الظلمة التي تعمّ في الأرجاء، ثم همست لهُ بنعومة:
- مش هتفتح النور
فتحمّس أكثر لقضاء ليلة ترضيه معها و:
- نور إيه بقى!.. انتي تنسي النور ده خالص
ضجّ الوسط بصوت ضحكاتها الناعمة فأججت رغبتهِ فيها أكثر، و قبل أن يهمّ بها، كانت الإنارة الداخلية الصاحة عن المصباح الكهربيّ المجاور لمقعد ضخم تفتح و صوتهِ بزغ من خلفها:
- أفتحهولِك أنا.. و لا يهمك!
تجمدت تعبيراته تمامًا و قد وقع الصوت على أذنيهِ وقع الصاعقة، التفت كالملسوع ليجدهُ بالفعل، بشموخهِ و غطرستهِ و هيمنتهِ، يجلس رافعًا إحدى ساقيه فوق الأخرى، منتصبًا بكتفيه، مستندًا بمرفقيهِ لركبتيهِ و شابكًا كفيه معًا أمام صدرهِ و هو يحدجه بنظرات مُبهمة، فعقدت الفتاة ما بين حاجبيها و هي ترمش عدة مرات، التفتت نحو "نائف" و هي تسألهُ:
- مين ده؟
فبزغ صوتهُ البارد من جديد و نظراتهِ مسلطة عليه:
- تؤ..تؤ..تؤ، بوظتلك الليلة؟
حدجهُ "نائف" شزرًا ثم سأل بصوت قاتم:
- عرفت مكاني إزاي؟
هز "يامن" رأسهُ استنكارًا و هو يخفض ساقهِ لينهض عن الأريكة، ثم حكّ أنفه بطرف سبابتهِ و:
- ما انت كنت صاحبي في يوم.. و لا إيه؟
أطبق "نائف" أسنانهِ، ثم زفر و هو يحيد بنظرهِ عنه قائلًا برود:
- و انت خليتها عداوة.. استحمل بقى!
أشاح "يامن" بوجههِ بشئ من الضجر، و هو يستلّ سلاحه من ملابسهِ ليوجهه نحو الفتاة التي ترتدي ما يُظهر أكثر مما يستر، فشهقت بهلع و هي تتراجع للخلف حينما كان يردف و قد خلع قناع برودهِ:
- لو مش عايزة تتشاهدي على روحك اهربي!
فخرجت من فورها و دقاتها المتلاحقة تدوى في أذنيها، فسلط "يامن" فوهة السلاح نحو "نائف" و هو يردف بصوت خالي من الحياة:
- و أنا مندمتش على حاجة أكتر من إنك كنت في يوم صاحب!
نظر "نائف" نظرة للخلف و كأنهُ يحاول التفكير في تجاوزه ليحصل على سلاحه من درج الكومود، فقطع "يامن" عليه التفكير و هو يخرج سلاحهِ مرددًا بفتور:
- بتدور على ده؟
و بحركة أخرج منهُ الذخيرة لتسقط أرضًا، أطبق "نائف" عينيهِ بحنق شديد و هو يشدد من ضغطهِ على عضلات فكيه، فألقى "يامن" السلاح أرضًا، ثم ركلهُ بقدمهِ ليصل إليه و كأنهُ يثير أعصابه، فبادر "نائف" باحتدام و قد اصطبغ وجهه بالحمرة:
- عايز إيه يا يامن؟
- روحــك!
كلمة لفظها بمنتهى الجفاء و قد تصلبت تعبيراتهِ، فسخر منهُ "نائف" من فورهِ و هو يرفع حاجبه:
- روحي؟ هتقتل يا يامن؟
و حكّ صدغهِ و هو يتابع ببرود:
- ما أنا عارف كويس إنه مش أسلوبك
و باتت نبرته أكثر حنقًا و هو يتلمس ذلك التشوّه الذي أصاب جانب عنقهِ مغمغمًا بامتعاض شديد:
- مع إنك حاولت تعملها قبل كده!
فردد "يامن" بقسوة مشيرًا بعينيه:
- لو قصدك على اليوم إيّاه فمتقلقش.. ده كان مجرد تحذير مش أكتر
تغضن جبين "نائف" و هو يسأله:
- تحذيـر؟
فسخر "يامن" منه و هو يقول:
- أومال فاكر إنك طلعت كده لله في لله؟ ده أنا اللي مطلعك يا نائف!
« انسحب من الوسط موصدًا الباب من خلفهِ فيقطع عليه طريق الخروج، بجانب ما فعل رجالهِ من إغلاقهم كافّة الأبواب و النوافذ السُفلية التي قد تمكنهُ من الهرب، تاركًا فقط.. فقط نافذة واحدة، إن تحمّل النيران التي ستقاتل بضراوة لتنهش من جسده، أو السخونة المنبعثة من الداخل و كأن الجحيم قد اتخذ من شركتهِ الصغيرة محلًا، و حاول لمرة واحدة التفكير بذهنهِ.. لينجو ببدنهِ من تلك السخونة البشعة، و النيران المحيطة به من كل حدب وصوب، و التي بالكاد لن يخرج منها سالمًا، لو مهما فعل»
تشدّق "نائف" ساخرًا:
- كنت عارف إن حاجة زي دي مش هتفوتك
عقد "يامن" حاجبيهِ أكثر و هو يردد:
- عظيم
نظر "نائف" يسارًا مدققً البصر لجانب صدغهِ و هو يضيق عينيه ثم سأل متشفيًا فيه و هو يتلمس ذلك التشوهُ الذي أصاب جانب عنقهِ أيضًا:
- إيه ده يا مينو؟.. انت اتشوهت زي ما شوهتني و لا إيه؟ تؤ..تؤ، صعبان عليا أوي!
افترّ ثغر "يامن" عن ابتسامة ساخرة و هو يردد متهكمًا:
- تخيل يا نائف.. عاجبني أوي التشويه ده، لايق عليا!
و خطى نحوهُ لينقض على تلابيبهِ و قد فقد آخر ذرات صبره:
- اعمل حسنة في حياتك قبل ما تودعها يا دمنهوري.. كمال فيـن؟
انبعج ثغره بابتسامة واسعة و لم يمنع نفسه من مدحهِ:
- إيه ده.. إنت عرفت؟ لأ بصراحة.. ذكي
و تابع هازئًا:
- و لا أقول عظيم زي ما بتقول؟
حشرهُ "يامن" بينه و بين الحائط و هو يجأر بهِ:
- ذنبهم إيه؟ ذنبهم إيه تقتلهم كلهم يا *****؟ عملوا فيك إيه عشان تقتلهم؟.. دخلتهم في اللعبة الـ***** دي ليـه؟
فانفعل "نائف" خالعًا عنهُ أقنعة البرود و السخرية:
- كان لازم هي كمان تموت.. كان لازم أخلص عليها عشان تتعذب بموتها، كان لازم تدوق شوية من اللي دوقته لما قتلتها
فحّ "يامن" في وجههِ من بين أسنانه المطبقة:
- مراتي مش هسمح لحاجة تأذيها، مش هسمح لحد يمسّ منها شعرة طول ما أنا على وش الأرض يا دمنهوري، انسى
و أشار بسبابتهِ و هو يردد مستهجنًا و عضلات عنقهِ تتشنج:
- اتعذبت؟ اتعذبت من بعدها؟ عشان كده بتترمى في حضن كل واحدة شوية؟ انت كده بتريح روحها!
و جأر بكلماتهِ الأخيرة و قد تعالى صوته أكثر، فاستهزأ "نائف" بسخرية اختلطت مع المرارة التي لاحت في نظراتهِ:
- انت مجربتش.. لكن لما تجرب ده على إيدي أكيد هتعرف!
احتدمت نظراتهِ أكثر و قد بزغت عروق جبينه، فألصق فوهة السلاح برأسهِ و هو ينطق مُكشّرًا عن أنيابهِ:
- مش هتلحق يا دمنهوري.. انت لعبت بإيدك في عداد عمرك
و حرر كفهِ الآخر عن عنقهِ ليُطبق بأناملهِ الغليظة على فكّه و هو يردد من بين أنفاسهِ المتلاحقة بانفعال:
- انطق يا درملي، الـ***** اللي معاك فيـن؟ انطـــــق!
انبعجت شفتيّ "نائف" بابتسامة عريضة و هو يشير ببؤبؤيه لنقطة من خلفهِ:
- وراك
و قبل أن يهمّ "يامن" بالالتفات كان "كمال" يباغتهُ بضربة موجهة لمؤخرة رأسهِ.. تلك المنطقة الأكثر ضررًا بالرأس، و لكنهُ تحامل على ألمهِ الطاحن و هو يلتفت ليشملهُ بنظرة غلب عليها التشوش، فعاد "كمال" يكرر ضربتهِ بأكثر انفعالًا عن ذي قبل، و أتبعها بضربة أخرى حينها ارتخى جسدهِ تمامًا، و أظلمت الدنيا أمام عينيهِ و قد عجز تمامًا عن الحراك، و فقد قدرة الحفاظ على وعيهِ.
.....................................
......................................................
..............................
أنت تقرأ
في مرفأ عينيكِ الأزرق
Romantik" مُقَدِمة" أَقْسَـــمَ أن يُذيقَه من نَفـس الكَـأْس و حينَ حَانَتْ لـَحظة الأخذ بالثـَـأْر ظَهـَرَت هى أَمَـامــه كـمَلاك يَــرده عن خَطِيئة الانْتِقَام لـ ينْتَشلها منه عَنوَة فـ يـَحرِق رُوحُـه رُويدًا رُويدًا و لـكن.. لم يَـضَع المشاعر فى ال...