-حمزة! في الحقيقة أنا...
نظرت في كل مكان تقع عليه عينيها إلا عينيه، إلا أنه لاحظ توترها البالغ فشابك كلتا يديه معًا وهو ينظر لصفحة وجهها الباهي قائلًا:
-أشعر بكِ.
رفعت مقلتيها الزرقاوين بتؤده وقد جعلتها جملته البسيطة تشعر بأنها في أمان بحضرة وجوده، وأنه لا خوف قد يقتنص منها بعد اليوم. ابتسم لعيناها التي سرعان ما أخفضتها وأكمل حديثه يبثها الأمان من خلاله قائلًا:
-أعلم أن ما مررتِ به ليس بالأمر الأَبطح، فقدانك لعائلتك بصورة مفاجئة لهو الواقع المرير الذي تتجرعين مرارته. لكنني أريد مشاركتك حزنك قبل سعادتك، اكتئابك وعُزلتك قبل عنفوان مشاعرك، أريد أن أكون جزءًا منكِ يا رهف. ولن يحدث هذا سوىٰ بسماحكِ ليا بالدلوف إلى روحك وتطيب جروحها.
وضعت يدها على حقيبة ملابسها وسمحت لمقلتيها بذرف بعض الدمعات الحبيسة وهي تردف بحزن أثقل قلبها:
-بعض الجروح تترك ندوبًا لا تندمل يا حمزة، وبعضها الآخر وإن طاب إلا أن أثرهُ لا يزول.
اقترب ممسكًا بيديها إلا أنها سحبتها سريعًا فقال بحرج:
-اتركِ أمر تطيب الجروح عليّ ولا تبالي.أخذ حقيبتها ووضعها لها في إحدى الغرف وتبعته هي بخطواتٍ متباطئة يثقلها الفقد ويكسوها الحزن. التفت لها بما وضع الحقيبة بجوار الخزانة قائلًا بهدوء:
-هذه غرفتكِ، لن أقترب من هذه الغرفة لا تتوجسي، إن احتاجتي لشيء فأنا في الخارج.
خرج من الغرفة كما دلف ساحبًا الباب خلفه برفق. وقفت تنظر حولها تحاول أن تتقبل بيتها الجديد وحياتها الجديد، أصبح الأمر بين ليلة وضحاها أن تكون زوجة لرجلٍ لتقدم لخطبتها ولم تعلم عنه الكثير بعد. موت والديها المفاجئ هو ما جعلها هنا تحت كنفه.
تتذكر اللحظات الأخيرة لوالدها في المشفى وهو يتلفظ بأنفاسه الأخيرة موصيًا إياه عليها قائلًا بصوته الذي أوشك على الانسحاب النهائي وهو يوجه حديثه لها: "تزوجيه، فوالله ما دخل بيتي طلبًا ليدكِ رجل مثله"
طال صمتها إلا أن عينيها لم تجف نظرت إليه مطولًا وهي تعي أنها لحظاتِ صغيرة وتفقده هو أيضًا كما فقدت والدتها منذ دقائق. مد يده لها فأمسكتها بقوة كأنها تخشىٰ عليه الذهاب وتركها بمفردها في عالمٍ لا تفقه فيه شيء، مسد على يدها الممسكة بيده بكل ضعف قائلًا: "تعلمين أبيكِ جيدًا يا رهف. لن يضعك في مكان ليس مناسب لكِ يا ابنتي، أنا ارتضيت حمزة زوجًا لكِ، وإن كنت باقٍ معاكِ فلن أُزوجكِ لرجلٍ سواه"
أفقت للواقع وأنا أنظر حولي علني أتلمس وجوده "أبي" جالت عيناي في الغرفة بحثًا عنهما "أبي، أمي"
هبطت دمعاتي بقوةٍ عندما أيقنت أنني حتمًا أصبحت وحدي. وأنني في سن مبكرة اختبرت معنى الفقد الأبدي.
نظرت إلى السماء من شرفة الغرفة وأنا أبكي بحرقة وأنعي قلبي المكلوم. شعرت بيدٍ موضوعة على الباب فنهضت من مكاني وأنا أقف خلف الباب وأنفاسي تتسارع، لاحظ وجودي كما لاحظت وجوده من زجاج الباب فأردف قائلًا بقلق حقيقي:
-هل أنتِ بخير؟
"لا" أردت البوح بها إلا أن الصمت استحوذ عليّ. فقال بهدوءٍ حذر:
-لا تبكي.
هل يستطيع الإنسان إيقاف دمعاته وقتما يقال له توقف؟
ياليت هذا كان بالأمر السهل.
ياليته كان.
أنت تقرأ
خبــايـا الحــب
Short Storyمجموعة قصصية القلوبُ لا تعرف التيمُّم ... إمّا أن ترتَوي بمن تحبّ أو تعطش حتى تجف. 🥀❤️