بارت 60

25 0 0
                                    

في غرفة الفحص، كان الضوء الخافت يحيط بالمكان، ليمنح الجو هدوءًا مريحًا. جورج جلس بجانب ماري على الكرسي، يده ممسكة بيدها، بينما نظراته كانت تحمل مزيجًا من الترقب والحنان. ماري بدت متوترة قليلاً وهي تستلقي على السرير الطبي، تنتظر اللحظة التي تظهر فيها صورة جنينها على الشاشة.
الطبيبة كانت تضع جل الفحص على بطن ماري بحركات مهنية وهادئة. حسنًا، دعونا نلقي نظرة على صغيركم اليوم، قالت بابتسامة لطيفة بينما كانت تضبط الجهاز. بدأت الشاشة تعرض صورة ضبابية في البداية، قبل أن تتضح أكثر فأكثر، مظهرة جنينًا صغيرًا يتحرك برفق.
جورج لم يستطع كبح ابتسامته، كان ينظر إلى الشاشة بإعجاب، وكأنها تعرض أغلى كنز في
حياته. أخذ نفسًا عميقًا، ثم تنهد برفق وقال
بصوت منخفض: رائع، سأصبح أبًا لولدٍ آخر. التفت إلى ماري بابتسامة هادئة وأضاف مازحًا: كنت
أتمنى لو كانت فتاة، لكن لا بأس، الأهم أنه بصحة جيدة.
ماري ضحكت بهدوء على مزاحه، ثم مدت يدها لتضغط على يده بلطف، وقالت: أنت دائمًا تقول
هذا، لكنني أعلم أنك سعيد بغض النظر عن جنس الطفل.
جورج ابتسم، وواصل حديثه بنبرة دافئة: بالتأكيد. لكن، ماري، لا تنسي أنني أمتلك بالفعل ثلاث فتيات جميلات ولطيفات يشبهن والدتهن كثيرًا.
كان حديثه مليئًا بالحب والحنان، مما جعل ماري تشعر بالراحة والطمأنينة. عيناها امتلأتا بالعاطفة وهي تنظر إليه، بينما كانت الطبيبة تتابع عملها بهدوء. بعد لحظات، توقفت الطبيبة عن الفحص، ونظرت إليهما بابتسامة عريضة.
سيدة ماري، الجنين بصحة جيدة جدًا. نبضه قوي ووضعه ممتاز. وأنتِ أيضًا تتحسنين بسرعة كبيرة. من الواضح أن الدعم الذي تحصلين عليه من زوجك وعائلتك يساهم في هذه التحسنات.
ماري أومأت برأسها وهي تبتسم بخجل، وقالت: شكرًا لكِ، دكتورة. نعم، هذا صحيح. دعم جورج وعائلتي هو ما يجعلني قوية. لا أستطيع أن أتخيل ما كنت سأفعله من دونهم.
جورج وضع يده على كتف ماري بلطف وابتسامه هادئه.
الطبيبة نظرت إليهما بإعجاب، ثم قالت: سيدة ماري، فقط استمري في اتباع التعليمات والحفاظ على مواعيدك معنا، وكل شيء سيكون على ما يرام.
أومأت ماري مرة أخرى، ثم نظرت إلى جورج بابتسامة صغيرة.
       ___♡♕_____♡♕_____♡♕___

كانت إليف تلهو كعادتها داخل القصر الكبير، تبحث عن أندرو كما اتفقا في لعبة الاختباء. ركضت بحماس من غرفة إلى أخرى، تصرخ باسمه بصوت طفولي مليء بالفرح: أندرو! أين أنت؟ لا تختبئ مني أكثر، سأجدك بالتأكيد! قفزت على الأريكة في غرفة الجلوس، ثم هبطت بسرعة لتفحص تحت الطاولة، لكنها لم تجد شيئًا سوى وسائد متناثرة. عبست ملامحها، وضعت يديها على خصرها، وقالت بنبرة مداعبة لنفسها: أين يمكن أن يختبئ هذا الرجل الطويل؟
دخلت المطبخ، فتحت الخزائن الصغيرة وألقت نظرة على الثلاجة، ثم تنهدت بخيبة أمل: ليس هنا أيضًا! لقد بحثت في كل مكان. وبينما كانت تفكر، خطر ببالها فجأة غرفة في نهاية الممر السفلي، الغرفة التي طلب منها أندرو مرارًا عدم الاقتراب منها. توقفت إليف لثوانٍ، مغمورة بشعور من الفضول والخوف. تمتمت لنفسها: لا، بالتأكيد ليس هناك. لو كان في الداخل، لما كانت الغرفة مغلقة. ومع ذلك، لم تستطع مقاومة التفكير فيما قد تخفيه تلك الغرفة.
خطت خطوة صغيرة باتجاه الممر، ثم تراجعت بسرعة وهي تهز رأسها، وكأنها تذكر نفسها بضرورة احترام كلمات أندرو. ركضت عائدة للأعلى، مكملة بحثها عن مكان اختبائه. كانت تلهث قليلاً من الجري المستمر، لكنها لم تكن مستعدة للاستسلام. أندرو! سأجدك مهما طال الأمر! قالت بصوت مرتفع مليء بالإصرار.
بينما كانت تستدير عند منعطف السلالم المؤدية للطابق العلوي، لمح بصرها حركة خاطفة على الدرج. توقفت في مكانها، تعقد حاجبيها وهي تحاول تحليل ما رأت للتو. شخص كان يركض بخفة على السلالم نحو باب القصر، لكنه لم يكن أندرو. كان أقصر منه بشكل واضح، وشعره كان أشقر لامعًا. أكثر ما لفت انتباهها كان السلسال الفضي الملفوف حول يده، والذي يلمع عليه حرف "M".
تقدمت خطوة صغيرة نحو السلالم، وكأنها تفكر في الركض خلف هذا الشخص المجهول، لكنها توقفت فجأة. "هذا ليس أندرو..." تمتمت بخفوت، وعقدت ذراعيها أمام صدرها بتوتر. أندرو أطول، وشعره أسود، ولا يرتدي أي شيء بهذا الحرف. من
يمكن أن يكون هذا؟ وكيف دخل إلى القصر؟ شعرت بقلبها ينبض بسرعة، وبدأت الأفكار تتزاحم في رأسها.
تراجعت ببطء للخلف، محاولة تنظيم أفكارها. قررت أن تعود للبحث عن أندرو أولاً قبل أن تتخذ أي خطوة. أندرو سيعرف ما يجب فعله... لكن يجب أن أجدك أولاً!
حملت هاتفها بيدها المرتعشة وضغطت على رقم أندرو بسرعة، وهي تتنفس بصعوبة. بعد لحظات، سمعت صوت هاتفه يرن من اتجاه المطبخ. لم تصدق ذلك في البداية، لكن عندما أغلقت الخط،
ظهر أندرو فجأة من باب المطبخ وهو ينظر إليها بتذمر واضح.
قال بصوت خافت لكنه ممتلئ بالتهديد المزاح: ياااه، إليف! أنتِ تغشين! هذا ليس عدلاً أبدًا. لقد أخبرتك أن تبحثي، لا أن تتصلي بي. تعالي هنا الآن... سوف أعاقبك على هذا الغش.
شعرت إليف بمزيج من الراحة والخوف الطفولي. ابتسمت بخجل وهي تضحك لتخفف من توترها وركضت نحو السلالم بسرعة. لكنها لم تكن تنتبه جيدًا، وبينما كانت تنزل على عجل، شعرت بقدمها تنزلق فجأة عند آخر درجتين. صدر منها صرخة مفاجئة مليئة بالذهول والألم: أندروووو!
تجمد أندرو في مكانه للحظة، وكأن الزمن توقف، عندما رأى جسدها الصغير يسقط على الأرض بقوة. عينيه الواسعتين عكستا مزيجًا من الخوف والصدمة، لكنه لم يستطع أن يظل واقفًا. انطلق كالسهم نحوها، ركض بأسرع ما يمكنه، وجلس بجانبها على الفور، متجاهلاً كل شيء حوله. كانت إليف ملقاة على جانبها، أنفاسها ثقيلة وعينيها مليئتين بالدموع التي لم تتوقف عن السقوط.
قالت بصوت ضعيف ومكسور، وهي تنظر الى يدها: أندرو... أشعر بألم شديد في يدي... ورأسي... رأسي يؤلمني جدًا. كانت كلماتها كافية لتحطم قلب أندرو. عينيه تمعنت في وجهها الشاحب، وحاول جاهدًا ألا يظهر توتره أمامها.
حسناً، صغيرتي، اهدئي... أنا هنا، لا تقلقي. سأعتني بك، لكن عليكِ أن تحافظي على هدوئك، لا تتحركي كثيرًا. قال ذلك بصوت مملوء بالحنان، لكنه لم يستطع إخفاء ارتجافه الخفيف. وضع يده برفق
على رأسها، يحاول تهدئتها ومساعدتها على
الجلوس
كانت إليف بين ذراعي أندرو، مستلقية بشكل يبدو وكأن الحياة قد بدأت تفلت منها. كان يحملها بحرص وكأنها أثمن ما يملك في هذا العالم. شعر بخفقان قلبها الضعيف وهو يحتضنها، وحاول أن يتحكم في روعه كي لا يزيد من قلقها. كانت تشعر بدوارٍ شديد، فتحت عينيها ببطء ورفعت رأسها قليلاً لتستقر على صدره. همست بصوت متقطع وضعيف: أندرو... أرجوك... لا تأخذني إلى المنزل. أريد البقاء معك... هنا فقط.
توقفت خطوات أندرو فجأة، وكأن كلماتها جمدته في مكانه. نظر إليها بملامح ممتلئة بالقلق، وارتجفت شفتاه وهو يحاول أن يتمالك نفسه. عينيه، كانت مليئة بالخوف، لكنه أجبر نفسه على الصمود من أجلها. قال بصوت متهدج، محاولاً تهدئتها: حسناً، صغيرتي. لن نعود إلى المنزل. فقط... فقط حاولي أن تبقي مستيقظة. سنذهب إلى المشفى، وكل شيء سيكون بخير. أنا هنا معك، لا تخافي.
إليف، التي بدأت تشعر بأن قواها تخور، لم
تستطع أن تمنع نفسها من ملاحظة نبرة الخوف في صوته. رفعت يدها بصعوبة، لتلامس وجهه بحنان، وقالت بصوت بالكاد يسمع: لا تبك... أرجوك أندرو، لا تبكِ.
تجمد أندرو في مكانه، شعر وكأن كلماتها اخترقت أعماقه. لم يستطع منع صوته من الانكسار وهو يرد عليها: إليف، أنا... أنا لا أبكي... أنا فقط... أنا خائف. خائف أن يحصل لكِ شيء.
ابتسمت له ابتسامة ضعيفة ومليئة بالألم، وكأنها تحاول أن تخبره بأنها ستبقى قوية من أجله. لكنه لاحظ كيف بدأت عينيها تغلقان ببطء، وكأن النعاس يجرها بعيدًا عنه. أدركت هي أيضًا أن الدوار بدأ يسيطر عليها، لكنها لم تستطع المقاومة.
لا تغلقي عينيك!، إليف، استيقظي! كان صوته مختنقًا.
حاولت فتح عينيها بصعوبة، همست بصوت مبحوح: أنا... أنا آسفة... أندرو... أشعر بالتعب. كانت كلماتها كالسكاكين تخترق قلبه. ضغط عليها برفق أكثر، وكأنه يحاول أن ينقل لها قوته. قال بصوت مملوء بالرجاء: إليف، لا تعتذري. فقط ابقي معي. ابقي معي، أرجوكِ. أنا هنا، لن أتركك أبداً.
وصل أخيراً إلى سيارته، فتح الباب بسرعة ووضعها برفق على المقعد، مع الحرص على ألا يزيد من ألمها. جلس بجانبها. وضع يدها الصغيرة بين يديه وهو يقول بصوت مضطرب: أرجوكِ، إليف، تحدثي معي. قولي أي شيء، فقط لا تصمتي.
لكن إليف بدأت تفقد وعيها تدريجياً. ملامحها الشاحبة وصمتها كانا يزيدان من توتر أندرو انطلق بأقصى سرعة إلى أقرب مشفى كان صوت المحرك وصوت أنفاسه المتسارعة هما الشيء الوحيد الذي يسمعه.
أندرو، الذي كان دائماً يبدو قوياً وقاسياً أمام الجميع، أصبح الآن مجرد رجل مكسور، خائف من فقدان الشخص الذي يعني له كل شيء. أمسك بيدها ورفعها إلى شفتيه، قبل أن يهمس بصوت بالكاد يسمع: إليف، لا تتركيني. أنتِ حياتي، لا أستطيع أن أكمل من دونك. أرجوكِ، فقط تمسكي. سأفعل أي شيء... فقط ابقي معي.
عندما وصل أندرو إلى المشفى، اندفع نحو قسم الطوارئ بسرعة جنونية، حاملاً إليف بين ذراعيه وكأنها أغلى ما يملك، كانت الدماء تنساب ببطء من رأس إليف، تسيل بخطوط دقيقة على وجهها الصغير البريء، مرورًا بعنقها النحيل، وتتساقط على ملابسها البيضاء التي امتلأت بالبقع الحمراء الداكنة. بدا وكأن كل قطرة دم تحمل جزءًا من روحها، وكأن حياتها تتسرب منها أمام أعين أندرو، الذي كان يشعر كأن الزمن قد تجمد تمامًا.
نظر إلى يديه المرتجفتين، التي كانت تضغط على الجرح في محاولة يائسة لإيقاف النزيف، لكنه كان يرى كيف تلطخت يديه وملابسه بالكامل بلون أحمر قاتم. الدماء كانت تسرب بين أصابعه، وكأنها تسخر من جهوده العقيمة لإنقاذها. شعر بالعجز ينهشه، وكأن أحدهم انتزع منه قوته، وتركه وحيدًا في مواجهة كابوسه الأكبر.. صوته المرتعش كان مليئاً باليأس والغضب وهو يصرخ: فليأتِ الطبيب فوراً! إنها تنزف! كانت عيناه حمراوين من شدة القلق. مزيج من
الحب والخوف واليأس كان واضحاً في ملامحه وصوته.
التف حوله الأطباء والممرضون، حاولوا تهدئته ليتمكنوا من التعامل مع الحالة، لكنه لم يستطع تركها بسهولة. بقي يحملها حتى وضعوها على النقالة، ويده لا تزال تمسك يدها الصغيرة. كانت إليف شاحبة جداً وملامحها هادئة، وكأنها استسلمت تماماً. شعر أندرو بأن قلبه يُعتصر من الألم وهو يراها تُدفع بعيداً عنه نحو غرفة الطوارئ.
وقف هناك، يحدق في الباب الذي أغلق خلفها، وكأنه عائق يحول بينه وبينها. بدأ يسير ذهاباً وإياباً في الممر، يركض يديه في شعره بعصبية، يضغط على رأسه ويحاول جاهداً أن يسيطر على نفسه. كانت أفكاره تدور في دوامة من الخوف والندم، يلقي باللوم على نفسه. كيف سمح لها أن تتأذى؟ كيف لم ينتبه لما حدث؟ كانت تلك اللحظات أطول ساعات مرت عليه في حياته.
مرّت ساعة، ثم ساعتان، ولم يخرج أي خبر عنها. في كل لحظة كان يحدق في الساعة، يركل الأرض بعصبية، أو يجلس ثم يقف مجدداً. عينيه لم تفارقا باب غرفة الطوارئ، وقلبه يكاد ينفجر مع كل ثانية تمر.
أخيراً، فتح الباب، وخرج الطبيب منهكاً بعد أن
أتم مهمته. وقف أندرو على الفور، وكأن جسده استجاب تلقائياً. ركض نحو الطبيب بخطوات سريعة، وعينيه مليئتان بالرجاء والخوف. قال بقلق واضح وصوت مضطرب: كيف حالها؟ فقط أخبرني... أهي بخير؟
الطبيب، الذي بدا متفاجئاً من شدة القلق والاهتمام في صوت أندرو، ابتسم قليلاً ليهدئ من روعه. قال بصوت هادئ ومطمئن: لا تقلق، سيدي. حالتها مستقرة الآن. لقد قمنا بتقطيب الجرح في رأسها، ولكنه لم يكن عميقاً بما يكفي ليشكل خطراً كبيراً. أيضاً، هناك التواء بسيط في يدها اليمنى، وقد قمنا بربطها وستحتاج إلى الراحة لبعض الوقت. سأصف لك مجموعة من المراهم والمسكنات لتخفيف الألم. إن اعتنت بها جيداً واتّبعت التعليمات، فستكون بخير قريباً.
كانت كلمات الطبيب بمثابة شريان الحياة الذي أعاده إلى الواقع. تنفس أندرو بعمق لأول مرة منذ ساعات، ووضع يده على صدره وهو يشعر براحة كبيرة، وكأن صخرة ثقيلة قد أُزيلت من فوقه. لكنه لم يستطع منع نفسه من القلق قليلاً عندما سأل مجدداً: ومتى ستستيقظ؟ أريد أن أراها.
رد الطبيب بابتسامة مطمئنة: ستستيقظ قريباً.
ربما تحتاج لبعض الوقت لتستعيد وعيها
بالكامل، لكنها بخير. يمكنها الخروج غداً صباحاً
إن شعرت أنها قادرة على ذلك. أتمنى لها الشفاء العاجل.
غادر الطبيب، تاركاً أندرو وحده في الممر. وقف
هناك للحظة، مستنداً إلى الحائط، يغطي وجهه بيديه وهو يحاول تهدئة أنفاسه. شعور الفرح والارتياح اختلط مع بقايا التوتر والخوف الذي لازمه طوال الوقت.
لم يستطع البقاء بعيداً عنها أكثر من ذلك. توجه بسرعة نحو الغرفة التي نُقلت إليها. عندما دخل، كانت إليف مستلقية على السرير الأبيض، وجهها لا يزال شاحباً، ولكن ملامحها كانت هادئة. تقدم نحوها ببطء، وكأن أي حركة خاطئة قد توقظها أو تسبب لها ألماً. جلس على الكرسي بجانب سريرها، أمسك يدها بلطف، ورفعها إلى شفتيه، يقبّلها بحنان ويمسح دموعاً لم يستطع منعها.
همس بصوت خافت، وكأنه يخشى أن يزعجها: إليف... لقد أخفتني كثيراً. لا تفعلِ هذا بي مجدداً، أرجوكِ. نظر إلى ملامحها الصغيرة البريئة، وكأنه يرى للمرة الأولى كم هي ضعيفة أمام العالم، وكم هو ضعيف أمام فقدانها.
ظل بجانبها طوال الليل، يراقبها وهي نائمة. كلما تحركت قليلاً أو أصدرت صوتاً خافتاً، كان يستقيم على الفور ليتأكد أنها بخير. تلك الليلة، أدرك أندرو أن إليف لم تكن مجرد شخص قريب منه، بل كانت كل عالمه. ولم يكن مستعداً لخسارة ذلك العالم، مهما كلفه الأمر.
استيقظت إليف ببطء، عينيها بالكاد تفتحتا بسبب أشعة الشمس التي تسللت عبر نافذة الغرفة. كانت الأشعة دافئة، لكنها بدت وكأنها تثقل جفونها المتعبة. حاولت رفع يدها لتغطي وجهها من الضوء، لكن
ألم يدها منعها، فتأوهت بخفة، ووضعت يدها
الأخرى خلف رأسها لتخفف الضغط الذي شعرت
به. أصابعها لامست ضمادة على رأسها، فتذكرت
فجأة ما حدث بالأمس. ارتسمت ملامح الذعر على وجهها وهي تتذكر سقوطها والدماء وصوت أندرو القلق.
رفعت رأسها بسرعة رغم الألم وهي تنادي بصوت ضعيف ومضطرب: أندرو؟ نزلت دموعها بخوف دون أن تدرك، قلبها ينبض بسرعة وكأنها خائفة من أن تكون وحيدة في هذا المكان. وقبل أن تتمادى أفكارها، فتح الباب بسرعة، ودخل أندرو مهرولاً نحوها. بدا وكأنه لم ينم طوال الليل، وجهه متعب وعيناه محمرتان، لكنه ركض إليها فور سماع صوتها. جلس بجانبها على السرير، يضع يديه بلطف على كتفيها ليهدئها، وقال بصوت مطمئن ومليء بالحنان: إليف، أنا هنا. لا تخافي، صغيرتي، لقد مرّ كل شيء. أنا بجانبك.
نظرت إليف إليه بعينيها المليئتين بالدموع، وكأن رؤيته كانت كل ما تحتاجه لتشعر بالأمان. أطلقت شهقة صغيرة، ثم قالت بصوت متقطع: أندرو؟ لقد خفت حقاً... خفت ألا أراك مجدداً. كانت كلماتها تخرج مع دموعها التي لم تستطع السيطرة عليها. لم يتحمل أندرو رؤية دموعها، فأمسك وجهها بيديه، ومسح دموعها بإبهامه بلطف، قائلاً بابتسامة حنونة: لا تخافي، صغيرتي. أنا هنا ولن أتركك أبداً. كل شيء انتهى، أنتِ بأمان الآن.
أمسكت إليف يده بقوة. قالت بصوت ضعيف مليء بالرجاء: أندرو، أرجوك، لنعد إلى القصر. لا أريد البقاء هنا. أريد العودة معك فقط. كانت كلماتها تحمل خوفاً طفولياً واضحاً، وكأن هذا المكان يمثل كل شيء سيئ يمكن أن يحدث لها.
ابتسم أندرو بلطف وربت على رأسها برفق، قال بصوت هادئ وحنون: بالطبع، صغيرتي. سنعود إلى القصر. لكن أولاً، يجب أن يفحصك الطبيب لنتأكد أنك بخير تماماً. لا أريد أن أراك تتألمين، وأريد أن أطمئن على صحتك.
هزت إليف رأسها ببطء، لكنها لم تستطع كبح دموعها. نظرت إليه بعيون مليئة بالقلق والخوف، وقالت بصوت مرتجف: لكن... لم تخبر أحداً، أليس كذلك؟ لا تخبرهم، أرجوك. إن علموا بما حدث، سيطلبون منك أن تعيدني إلى القصر... ولكنني لا أريد العودة. أريد البقاء معك هنا، فقط معك.
نظر إلى عينيها، ورأى الخوف العميق الذي يختبئ خلف دموعها. أمسك بيدها الصغيرة بين يديه وقال بالطف: إليف، لن أخبر أحداً. أعدك بذلك. لن يطلب منك أحد العودة إن لم تردين.
ابتسمت بخفة من كلماته، لكنها كانت ابتسامة ضعيفة مليئة بالتعب. شهقت شهقة صغيرة ومسحت دموعها بأطراف أصابعها، ثم قالت بصوت خافت: أنا آسفة، أندرو. أزعجتك كثيراً... قاطعها فوراً وهو يضغط على يدها برفق، قائلاً: لا تقولي هذا، إليف. أنتِ أهم شيء في حياتي. لن يزعجني شيء إذا كان يتعلق بك. المهم أن تكوني بخير.
لم تستطع الرد، لكنها شعرت بالطمأنينة من كلماته. أغلقت عينيها للحظة، تتنفس بعمق محاولة تهدئة نفسها. جلس أندرو بجانبها طوال الوقت، يمسح على شعرها بلطف، يهمس لها بكلمات مطمئنة، وكأنه يحاول أن يمحو كل أثر للخوف الذي عاشته في الساعات الماضية.
بعد دقائق، دخل الطبيب ليطمئن على حالتها. استيقظت إليف من استراحتها القصيرة عندما سمعت صوت الطبيب، ونظرت إليه بخوف. لكن أندرو، الذي ظل ممسكاً بيدها، قال بصوت مطمئن: لا تقلقي، صغيرتي. هذا فقط للتأكد من أنك بخير. لن يأخذ وقتاً طويلاً.
أجرى الطبيب الفحص بسرعة، وطمأنهم أن حالتها تتحسن، وأنها يمكنها العودة إلى القصر بعد ان يوقع اندرو على إستمارة الخروج، وشرط أن تلتزم بالأدوية والراحة التامة. بعد أن غادر الطبيب، تنفس أندرو بارتياح وابتسم لإليف، قائلاً: هل سمعتِ؟ سنعود.
نظرت إليه بابتسامة خفيفة، وقالت بصوت هادئ: شكراً، أندرو. شكراً لأنك دائماً بجانبي. لم يقل شيئاً، لكنه أمسك يدها وقبلها بلطف مسح على شعرها بهدوء.
أمسك أندرو بقلم على طاولة المستشفى ليوقع على استمارة خروج إليف. عينيه كانت مركزة على الأوراق، لكن عقله كان مشغولاً بحالتها. بعد التوقيع، رفع رأسه وتأكد من أن كل شيء جاهز. استدار
نحو السرير حيث جلست إليف بنظرة مرهقة
ولكن مطمئنة بوجوده. تقدم نحوها ببطء، وحملها بين ذراعيه بحرص كأنها شيء ثمين لا يحتمل
الكسر. تمسكت إليف بسترته بقوة، وكأنها تخشى
أن يتركها.
عند وصولهما إلى السيارة، فتحت عينيها ببطء ولاحظت وجود سائق في المقدمة. هذا الأمر أثار استغرابها؛ فهي تعلم جيداً أن أندرو نادراً ما يسمح لأي شخص بأن يقود مكانه، فهو يحب أن يتحكم بكل شيء بنفسه. لكن نظراته الهادئة جعلتها تتردد في السؤال، ففضلت أن تتجاهل الموضوع في الوقت الحالي.
كان الجو بارداً داخل السيارة، وبدأت إليف ترتجف قليلاً. لاحظ أندرو ذلك على الفور، فخلع سترته دون تردد وغطاها بها برفق، ثم جذبها نحوه حتى أصبحت قريبة من صدره، وكأنه يريد أن يمنحها دفئه. همس لها قائلاً: إذا شعرتِ بأي برودة، فقط أخبريني. هزت رأسها بخفة، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من التمسك به أكثر، تستمد الأمان من حضنه.
عند وصولهم إلى القصر، لم ينتظر أندرو حتى يفتح السائق الباب. نزل بنفسه من السيارة، واتجه نحو جانبها، وفتح الباب ليحملها مجدداً. رغم ضعفها، إلا أنها شعرت بقوة ذراعيه التي منحتها شعوراً بالحماية.
بينما كان يدخل الى القصر، لفتت انتباهه بقعة الدم التي ظلت على الأرض بجانب الدرج. تجمدت عيناه للحظة، لكنه سرعان ما استأنف السير، محاولاً أن يحجب المشهد عنها حتى لا تتذكر الحادثة وتخاف. كان كل تفكيره منصباً على جعلها تشعر بالراحة، مهما كلفه الأمر.
دخل إلى غرفته. وضعها على السرير بلطف، وكأنها مصنوعة من الزجاج، وأحضر لها كوب ماء مع أدويتها. جلس بجانبها وهو ينظر إليها بعناية، قائلاً: عليكِ أن تتناولي ادويتك الآن وتستريحي. تناولت إليف الأدوية وهي تنظر إليه بامتنان. همست بصوت خافت: أندرو... أنت أيضاً لم تنم طوال الليل. لماذا لا تستريح؟
رد بصوت حازم لكن لطيف: لا يهمني ذلك. المهم أن أطمئن عليك. لكنها لم تقبل إجابته، وبدأت تصر عليه: أندرو، من فضلك. أريدك أن تنام بجانبي. أعلم أنك متعب. أرجوك، من أجلي فقط.
لم يستطع أن يرفض إصرارها، خاصة مع عينيها التي تنظر إليه برجاء. بعد أن أطفأ الأضواء، تمدد بجانبها على السرير، محافظاً على مسافة صغيرة. لكنها لم تكن تريد تلك المسافة. اقتربت منه ببطء، وضعت رأسها على ذراعه وكأنها تبحث عن الأمان في قربه. شعر بحرارة أنفاسها على جلده، مما جعله يشعر براحة غريبة، لكنه بقي صامتاً.
مد يده بهدوء ليمرر أصابعه عبر شعرها، ثم قبل جبينها بلطف. همس: نامي الآن، صغيرتي. شعرت بالدفء يغمرها مع كلماته، وابتسمت بخفة قبل أن تغفو ببطء.
غطاها جيداً بالبطانية، وأحكم الغطاء حولها ليتأكد أنها لن تشعر بالبرد. وبينما كانت هي تغرق في النوم، بقي هو مستيقظاً للحظة أخرى، ينظر إلى وجهها المرهق، ويتساءل كيف يمكن لوجود شخص واحد أن يغير حياته بهذا الشكل.
مع مرور الوقت، بدأ التعب يغلبه، فأغمض
عينيه، لتصبح الغرفة هادئة تماماً. لم يكن
صوت سوى أنفاسهما المتناغمة، وكأنها دليل
على السلام الذي شعر به كل منهما في حضرة
الآخر.
مرت الساعات ببطء شديد، وكان الهدوء يلف غرفة أندرو تمامًا. النوافذ مغطاة بستائر سميكة تمنع الضوء من التسلل، مما جعل المكان غارقًا في سكون مريح. كانت الأنفاس الهادئة لأندرو مسموعة بالكاد، تنساب بتوازن وانتظام، وملامحه التي اعتادت أن تكون حادة وجادة بدت الآن مسترخية بشكل غير مألوف. النوم العميق أخذ منه ما لم يكن قد أخذه منذ الليلة السابقة، فقد أنهكته الأحداث وأخذته إلى عالم من التعب المستحق.
على الجانب الآخر من السرير، كانت إليف تجلس بهدوء، مائلة قليلاً إلى أندرو وهي تنظر إليه بابتسامة لطيفة، تتأمل ملامحه كما لو كانت تكتشفها لأول مرة. عيناها تراقبان تفاصيل وجهه، حاجبيه المرسومين بإتقان، أنفه المستقيم، وشفتيه التي طالما كانت تسلبها عقلها. شعرت براحة كبيرة، وكأن كل مخاوفها وآلامها التي عصفت بها في الساعات الماضية قد تلاشت تمامًا.
مدت يدها برفق ووضعتها على شعره، تمرر أصابعها بين خصلاته السوداء الناعمة بحركات بطيئة
وكأنها تخشى أن توقظه. تنهدت بخفة وهمست بصوت خافت، مليء بالعاطفة والعشق: هل تعلم أن
لا فرق بينك وبين قلبي؟ كلاكما تبقيني على قيد الحياة.
توقفت للحظة، تتأمل كلمتها وكأنها تحاول أن تعي مدى صدقها. عضّت شفتيها بخفة وهي تنظر إليه مرة أخرى، تدقق في ملامحه المتراخية وكأنها لوحة فنية ترغب في حفظ تفاصيلها للأبد. عندما وقعت عيناها على شفتيه، احمرّ وجهها قليلًا وشعرت بالحرج مما خطر على بالها للتو. حاولت كبح ابتسامتها، لكنها لم تستطع منع نفسها من التفكير بصوت خافت، وهمست بخجل: بماذا أفكر أنا الآن؟! لقد أصبحت منحرفة بسببك...
ثم استدركت وهي تضع يدها على وجهها
محاولة إخفاء خجلها، لكن عينيها عادت لتتأمل شفتيه، وكأنها لا تستطيع مقاومة جاذبيته. أغمضت عينيها قليلاً وتابعت بهمس لطيف وكأنها تخاطب نفسها: استيقظ بسرعة... أريد قبلتي... في الحقيقة، أريد اثنتين. تعلم أنني مدللتك، ولا أرضى
إلا بقبلتين.
نظرت إليه بنوع من المزاح وهي تضغط على يديها كأنها تحاول دفع الحرج بعيدًا عنها، ثم ضحكت بخفة وقالت بصوت هامس يكاد لا يُسمع: آه... نومك قبيح، يسرقك مني وأنا أريدك لي وحدي. هل تعلم أنني
كلما نظرت إليك أرغب في تقبيل عنقك؟ لكن... آه، طولي دائمًا يخونني. أنا قصيرة وأنت طويل، كم هو مزعج!
توقفت للحظة، تضع يدها على قلبها وهي تبتسم برقة، وكأنها تحاول تبرير أفكارها. لم تكن إليف تعرف لماذا شعرت برغبة في قول كل هذه الأمور، ولكنها شعرت براحة غريبة وهي تتحدث، حتى لو كان أندرو نائمًا ولا يسمعها. بالنسبة لها، مجرد وجوده بجانبها كان كافيًا ليبعث الطمأنينة في قلبها.
وضعت رأسها على الوسادة بجانبه، تنظر إليه عن قرب وكأنها تريد التقاط كل تفاصيل وجهه. همست له مجددًا، وكأنها تتحدث إلى روحه: أندرو... لماذا كلما اقتربت منك أشعر أن العالم بأسره يختفي؟ أنا لا أريد شيئًا من هذا العالم سوى أن أكون بجانبك... فقط أنت.
مرت دقائق أخرى وهي تنظر إليه بصمت، تراقب حركة صدره وهو يتنفس بعمق، وكأنها تجد في هذا الإيقاع شيئًا يريح قلبها. مدّت يدها مرة أخرى ولمست وجنته بخفة، ثم ابتسمت وهي تهمس:
"أعرف أنك قاسٍ وعنيد عندما تكون مستيقظًا، لكنك الآن مثل طفل صغير... هادئ جدا.
أغمضت عينيها للحظة، تستمتع بالهدوء الذي يغلف الغرفة، ثم همست بهدوء: أنا أحبك، أندرو... أكثر مما تتخيل.
غابت في أفكارها للحظة، تتخيل ردة فعله إذا سمع كل ما قالته للتو، لكن فكرة استيقاظه جعلت خديها يحمران خجلًا. قررت أن تتركه ليكمل نومه، فقامت ببطء وحرص حتى لا توقظه. وقفت بجانب السرير للحظة أخرى، تنظر إليه بابتسامة قبل أن تهمس مجددًا: فلتستيقط بسرعه حسنا أريد ان احصل على طلاباتي. اعدك ان إستيقطة سأتركك تقبلني.. لا ماذا اقول انا.
ثم خرجت من الغرفة بهدوء، تاركة خلفها شعورًا بالدفء والاطمئنان يملأ المكان.
بمجرد أن أغلق الباب خلفها، فتح أندرو عينيه ببطء. كان وجهه خاليًا من التعبيرات للحظة، ثم ارتسمت ابتسامة خفيفة مشوبة بالخبث على شفتيه. وضع يده أسفل خده مستندًا عليها وهو يراقب الباب الذي خرجت منه إليف، وكأنها تركت خلفها أثرًا لا يمكن محوه.
همس بصوت منخفض ولكنه مليء بالسخرية المحببة: يالكِ من منحرفة صغيرة... من أين أتيتِ بكل هذا الكلام؟
توقف للحظة، وكأنما يعيد في ذهنه كلماتها التي سمعتها أذناه للتو. استرجع تلك العبارات التي همست بها برقة وعشق، والتي كشفت له عن أعماق قلبها دون أن تدري أنه مستيقظ. لم يستطع كبح نفسه عن الابتسام مرة أخرى، لكنه هذه المرة ابتسم ابتسامة واسعة مليئة بالدفء. مرّر يده في شعره بتكاسل، ثم أكمل بهمس ساخر لكن نبرته حملت حنانًا خفيًا: ولكن كما تأمرين يا أميرتي، سأنفذ كل طلباتك... وأزيد عليها إن أردتِ.
اعتدل في جلسته ببطء، وألقى نظرة سريعة على الغرفة من حوله. كل شيء كان هادئًا، وأثر وجودها لا يزال يغمر المكان برائحة عطرها الخفيف الذي يملأ الهواء. مرر يده على الوسادة التي كانت تجلس عليها قبل لحظات، وكأنه يحاول التقاط أثر دفئها.
سحب قميصه وخلعه بحركة سريعة قبل أن يتجه إلى الحمام. دخل وأغلق الباب خلفه، بمجرد أن دخل الحمام، أشعل الإضاءة الخافتة ووقف أمام المرآة، ينظر إلى انعكاس وجهه. مرر يده على شعره مرة أخرى، ثم على وجهه وكأنه يزيل أي أثر للإرهاق. قال لنفسه بهدوء: إليف... ما الذي فعلتهِ بي؟
بينما قطرات الماء بدأت تنساب من الدش وتملأ المكان ببخار دافئ. وقف تحت الماء الساخن،
يغسل عنه بقايا الإرهاق والتعب. لكن ذهنه لم
يكن خاليًا، بل كان مشغولًا بكلمات إليف. كل
جملة قالتها جعلته يشعر بشيء جديد لم يعهده
من قبل. ذلك المزج الغريب بين براءتها وجرأتها، وبين عشقها وخجلها، كان يثير فيه مشاعر يصعب وصفها.
ابتسم بخفة وهو يمرر الماء على وجهه، وقال لنفسه بصوت مرتفع بما يكفي ليغطي صوت الماء: إليف... كم أنتِ صغيرة، لكنك تمكنتِ من قلب عالمي رأسًا على عقب.
أنهى استحمامه وخرج من الحمام بعد دقائق، وبخار الماء يملأ الجو من حوله. لفّ منشفة حول خصره وبدأ يمسح قطرات الماء عن شعره. اتجه نحو خزانة الملابس الكبيرة التي تحتل جزءًا من الجدار، فتحها وبدأ في اختيار ملابس بسيطة ولكن أنيقة. اختار قميصًا أسود بأكمام طويلة، وسروالًا رماديًا يناسبه. ارتدى ملابسه بعناية، وأزرّ قميصه حتى منتصف صدره ليتركه مفتوحًا قليلاً، ما أضفى عليه مظهرًا جذابًا ومريحًا.
وقف أمام المرآة، يضبط أزرار كمه ويمرر يده على أكمام القميص. ثم استقام بظهره، وضرب بيده بخفة على جيب سرواله وكأنه يجهز نفسه لمواجهة شيء ممتع.
بعد أن انتهى، وضع عطراً خفيفًا له رائحة خشبية داكنة، تضيف إلى حضوره المميز هالة من الجاذبية التي لا تقاوم. نظر إلى نفسه في المرآة للمرة الأخيرة وقال بابتسامة مليئة بالثقة: لنرى كيف ستطلب مني ذلك هذه المرة.
خرج من الغرفة بخطوات واثقة وهادئة، متجهًا إلى الأسفل. كيف سيستغل كلماتها لصالحه، لكنه كان يعلم جيدًا أن كل هذا ليس سوى وسيلة ليبقى قريبًا منها، لأن قربها كان الشيء الوحيد الذي يمنحه ذلك الشعور بالسلام.
أندرو وقف عند قمة السلالم، يستند على الحاجز بنظرة تتداخل فيها مشاعر الخبث والعشق، وكأنه يرسم في ذهنه سيناريو مسبق لما سيحدث. عيناه الحادتان كانت تتابع تحركات إليف، التي بدت منشغلة في المطبخ، تحاول إعداد شيءٍ بسيط. تفاصيل صغيرة كانت تجذب انتباهه، كحركات
يديها الدقيقة وهي تحرك الملعقة، والطريقة التي تدندن بها لنفسها بخفوت. ابتسم بهدوء وهو يستحضر الكلمات التي سمعتها أذناه حين كان متظاهرًا بالنوم.
كل همسة منها كشفت له أشياء لم تكن تنوي الاعتراف بها. هذه الصراحة غير المقصودة
منحت أندرو شعورًا بالسيطرة، لكنه لم يرد
استغلالها بالطريقة التقليدية. أراد أن يستمتع بلعبته الخاصة.
بدأ أندرو بالنزول عن السلالم بخطوات بطيئة وواثقة، وكأنه مفترس يراقب فريسته. ظله انسدل على الأرض، لكنه لم يصدر أي صوت قد ينبهها. عندما اقترب من المطبخ، وقف بجانب الإطار الخشبي للباب، مستندًا عليه بذراعه. كانت إليف مشغولة بالكامل، تضع مقلاة صغيرة على الموقد وتحرك محتوياتها.
تفاصيل مظهرها لفتت نظره بشدة: قميص منزلي بسيط كان يبدو أكبر من مقاسها، وشعرها الأشقر الطويل مرفوع بشكل عشوائي تاركًا بعض الخصلات تتساقط على وجهها، مما أضفى عليها جمالًا طبيعيًا. حركاتها العفوية جعلتها تبدو في عينيه أكثر من مجرد فتاة عادية.
كانت تتحدث مع نفسها بخفوت وهي تفكر بصوت مسموع: حسنًا، إليف... أنتِ الآن وحدك، لن يعترض طريقك أحد. سأحضر له شيئًا بسيطًا... ولكن ماذا بيض؟ لا، يبدو مملًا... ربما قهوة؟ توقفت قليلًا وضغطت شفتيها الصغيرة وهي تفكر بعمق.
أندرو كتم ضحكة خفيفة كادت تفلت منه، لكنه
قرر أخيرًا أن يكسر هذا الهدوء. بصوته العميق المميز، قال: في الحقيقة، أنا أفضل القهوة في الصباح.
إليف ارتعشت وكأن صاعقة أصابتها. التفتت
بسرعة، وعيناها الواسعتان تعكسان مزيجًا من الصدمة والإحراج. يدها التي كانت تحمل الملعقة الخشبية كادت تفلتها، لكنها أمسكتها في اللحظة الأخيرة. قالت بتلعثم:أ... أندرو! متى... متى استيقظت؟
أندرو تقدم نحوها بخطوات هادئة وواثقة، عيناه مسلطتان عليها كأنها مركز عالمه. عندما أصبح قريبًا بما يكفي ليشعر بأنفاسها المرتبكة، انحنى قليلاً، واضعًا يديه على الطاولة خلفها ليحاصرها بينه وبين الطاولة. همس بصوت هادئ وحميم: منذ أن سمعت تلك الكلمات الجميلة التي كنتِ تهمسين بها وأنا بجانبكِ.
إليف احمرّ وجهها بشدة، نظرت إلى الأسفل تحاول الهروب من عينيه. أ... أنت كنت مستيقظًا؟!
أندرو ابتسم بخفة، رد بسخرية محببة: بالطبع كنت مستيقظًا. كيف لي أن أفوّت سماع أشياء بهذا الجمال؟ ثم أضاف، متعمدًا إثارة ارتباكها: لكنني أريد شيئًا الآن، وعدتني به.
استمر في الاقتراب منها خطوة بعد خطوة، يقترب أكثر فأكثر حتى أصبح الهواء بينهما ثقيلًا. كانت إليف تشعر بتسارع نبضات قلبها، في كل لحظة كان يقترب فيها منها، وكأنها تخشى أن تفقد نفسها تمامًا تحت تأثيره. كان أندرو يراقب كل تعبير على وجهها بعناية، وكل حركة كانت تُظهر له مدى تأثرها. كانت نظراته تحمل شيئًا من المتعة، وكأن كل لحظة تمر تكشف له تفاصيل جديدة حولها.
فجأة، ومع اقترابه أكثر، شعرت إليف بشيء من الضعف. فماذا يحدث لها؟ كان يكاد يلمس شفتيها، وقد شعرت بحرارته تلامس بشرتها. كان قاسيًا، لكنه في نفس الوقت كان قريبًا جدًا، كان يبعث في قلبها مشاعر معقدة، مزيج من الخوف والرغبة في البقاء معه إلى الأبد.
وقفت إليف، لم تستطع التفكير بوضوح، كل أفكارها تتداخل. كانت محاصرة بينه وبين الطاولة، وكان جسده يقترب أكثر فأكثر. في تلك اللحظة، بدأ يهمس برقة، وعيناه تلتقيان بعينيها بشكل غير مسبوق: لا يمكنك الهروب مني الآن، صغيرتي، ما وعدتني به هو كل ما أحتاجه...
وفي تلك اللحظة، استطاعت إليف أن تشعر بأن قلبها قد انفجر، وكان صوت نبضاته يكاد يملأ المكان. تمتمت بصوت منخفض، رغم أنها كانت لا تزال تشعر بالارتباك: أندرو، ماذا... ماذا تفعل بي؟
أندرو ابتسم ابتسامة هادئة، ثم رفع يده ليأخذ الملعقة من يدها برقة، لكنه لم يبتعد عن وجهها. وهو يقترب أكثر، قال: أنتِ تعلمين ماذا أفعل بك، إليف. أنا فقط أستمتع بكل لحظة.
إليف حاولت أن تتمالك نفسها، كانت عيناها تدوران في كل اتجاه، لكنها لم تستطع التراجع. أندرو كان قريبًا جدًا، وكان يفرض عليها كلماته بنعومة قاسية، وكأنها لا تملك القدرة على الهروب.
أندرو... أرجوك، أنا... أنا فقط كنت أمزح! تمتمت إليف محاولًا الدفاع عن نفسها، لكن أندرو لم يظهر أي أثر للرحمة. بل اقترب حتى أصبح أنفها يلامس أنفه،
وتنفسها أصبح سريعًا ومتسارعًا.
أنتِ لا تمزحين، إليف. أنتِ تقولين ما في قلبك، وأنا هنا فقط لأحقق رغباتك. كانت كلماته تصل إلى
أعماق قلبها وكأنها سكاكين تلامس أعصابها. وكلما حاولت أن تنأى بنفسها عنه، زادت رغبته في الاقتراب.
رفع يده بلطف ليمسك بذقنها، يجبرها على أن تنظر إليه مباشرة، كانت عيناه مليئة بالعزم والتهديد اللطيف. أنتِ ستكونين ملكتي، إليف. وكما وعدتني، الآن حان الوقت لتوفّي بوعدك.
الآن، لم تستطع إليف أن تجد الكلمات المناسبة، وكأن عقلها قد توقف عن العمل. في تلك اللحظة، اقترب منها أكثر وأخذ شفتيها بقبلته الأولى، كانت القبلة الأولى التي جمعت بينهما بشكل كامل. كانت ناعمة في البداية، ثم تحولت إلى شيء أكثر حدة. شعرت إليف بكافة أحاسيسها تتناغم مع قبلة أندرو، وكأنها كانت تقاوم لكنها لا تستطيع التراجع.
أندرو لم يتركها تبتعد، بل استمر في الاقتراب أكثر، وتابع تحركاته بعناية شديدة، يقيس كل لحظة وكل حركة، بينما إليف كانت تذوب في قبله، كل قبلة كانت تثير فيها مشاعر جديدة وغريبة لم تشعر بها من قبل.
توقف أندرو قليلاً، ليتنفس بعمق، وعيناه لم تتركها للحظة: اريد منكِ أكثر من ذلك، إليف. وعديني، لن تتهربي مني بعد الآن. قالها بصوت خافت، لكن نبرة صوته كانت تحمل تهديدًا خفيفًا وقوة غير قابلة للإنكار.
إليف، التي كانت تشعر بمزيج من الرغبة في الهروب والتمسك به، لم تستطع الرد في البداية. كانت الكلمات تتجمع في حلقها، ولكنها لم تستطع إخراجها. كانت عيناها تتنقل بينه وبين شفتيه، كأنها تود أن تعرف ما سيحدث بعد. أخيرًا، وبصوت منخفض، قالت: أندرو... أنت... أنت لست عاديًا.
أندرو ضحك بخفة وهو يبتعد عنها قليلًا، يواصل تحريك الأكل.

𝑰 𝑾𝑨𝑵𝑻 𝒀𝑶𝑼 𝑭𝑶𝑹 𝑴𝒀𝑺𝑬𝑳𝑭 𝑶𝑵𝑳𝒀 ❀حيث تعيش القصص. اكتشف الآن