حطام الأحلامِ

6.1K 474 36
                                    

-

وقفتُ مستندًا على نافذةِ غرفتي أُراقب القمر الذي انتصف السماء الداكنة، رُبما كانت هناك سعادة تنمو بداخل صدري لعودة عمي و عائلتِه، و بالأخص عودة الصهباء ، فحاولتُ كبحَ الإبتسامةِ التي تحاول السيطرة على شفتيّ لكنني عوضًا عن كبحها هربت ضحكة من ثغري، فقد كنتُ أشعرُ بداخلي أن الأمور ستتحسنُ حتمًا.

استمعتُ إلى صوتِ طرقٍ على الباب، فأسرعتُ بفتحِه لأجدها تقف أمامي برداء نومها الأرجواني و قد سدلت خصلاتها النارية على كتفيها. و لو تعلمين كم اشتاقت نفسي إليكِ، كنتُ أستمتع بالصمتِ الذي يتراقصُ بيننا حتى تحدثت هي "لم أستطع الانتظارَ حتى الصباح لكي أُعطيك هذه."

مدت يدها بمذكرةٍ زرقاء قد تزينت حوافها بلونٍ ذهبي، أردفَت مجددًا "رغم أن هُناك الكثير قد تغير،فآمُل أن حبك للكتابة لم يتغير حتى الآن." ضحكتُ في هدوء غير مصدق أنها تتذكر مدى حبي للكتابة حتى بعد هذه السنوات.

اتسع ثغري مُطلقًا تنهيدة من صدري "رُبما فقدتُ كلماتي، يا ويندي." حقيقةً أشعر أحيانًا كثيرة أنني قد فقدت شغفي بالكلماتِ مع فقدان نفسي القديمة، لكنني ابتسمتُ لها شاكرًا " أنا ممتنٌ لكِ، يا ويندي.. ممتنٌ كثيرًا لتذكركِ أمري." ضحكت هي ثم أزاحت خصلة قد سقطت على جبينها و سقط فؤادي معها "يجدرُ عليّ تذكرك، يا ابن العم."

تأملت المذكرة مرة أخيرة قبل أن أُلقي حديثي "يجب أن تتفرغِي لي غدًا، هناك الكثير يجب أن نتحدث عنه." كنتُ أشيرُ نحو خاتم الخطبةِ بإصبعها، كنتُ أضحك و كأن الأمر رائع لكن ما كنتُ أشعرُ بِه ليس إلا شيءٍ مُريع و لكن كعادتها لا تُعطي إجابة حاسمة "ليلة هنيئة لكَ، يا ويليام." ثم غادرت ضاحكة إلى غرفتها المجاورة لغرفتي.

مُجرد تواجدها هنا بالقربِ مني ، بعد غيابٍ قد طال لسنوات كفيل أن يُزيل أي حزن قد يصيب قلبي، كفيل أن يجعلني أغضُ النظرَ عن أمرِ خطبتها. أغلقتُ باب الغرفة دون أن أزيح نظري عن المذكرة في حين أن نسيم الليل البارد قد احتل الغرفة، اتجهتُ إلى خزانتي كي أحصل على ذلك الصندوق الخشبي الذي أضع به كل ما أحرص عليه، أو أحلامي المحطمة أيضًا.

وضعت المذكرة بداخل الصندوق، حتى شاهدتُ تلك العلبة المخملية التي تصنف تحت عنوان حُطام الأحلام، كان بها الخاتم الذي أردتُ أن أهديها إياه منذُ ست سنوات لكن خوفي كان مستوليًا عليّ، و حين قررت أن أهديها إياه وقعت حادثة أبي و من ثمّ رحيلهم، فظلت العلبة منذ حينها حبيسة ذلك الصندوق.

عدتُ إلى فراشي بعد أن أعدت الصندوق داخل الخزانة، أتمنى من اللّٰه أن يكون الغد يومًا أفضل لجميعنا، و أن تقضي أيامي المقبلة على التعاسة التي وشمت فؤادي لسنوات.

لم أكن أعلم أن الصهباء لم يزر جفنيها النعاس كما حدث معي ليلتها، فقد كانت الذكريات تتوالى إلى عقلها، شجارتها برفقتي بين أرجاء المنزل، ثرثرتها برفقة روزالين إلى وقفٍ متأخر من الليل، و حكمها العادل بين شجارات التوأمين حين يلجآن إليها للفصل بينهما.

لقد اشتاقت إلى حياتها القديمة، مثلي تمامًا. و لكن ماذا عن ألمانيا؟ جيرانها و أصدقائها، أتبقى في بريطانيا؟ بينما هناك جزء من فؤادها متعلق برفاقها بألمانيا، إنها تحب برلين و لن تستطيع أن تتخلى عن صديقتها كارلا ، كما تتيقنُ أن خطيبها لن يقبل ببقائها بعيدًا عنه، أصبحت تتعجب كثيرًا، فلماذا الحياة تقسو أحيانًا و تجبرها على التضحية بالأَحِبَة لأجل أَحِبَةٍ آخرين.

مرت ليلة هادئة ظاهريًا، صاخبة بداخل نفوس الجميع، لكن أبي كان يخبرني دومًا عليكَ الشعور بيومك و لا تُرهق نفسَك فيكفي عليها قسوة الليالي، لذلك وقفتُ أمام المرآة أستمع إلى المذياع الذي يصدح بتلك الأغنية الصباحية، بعد أن عدلت إشارته من القناة الإخبارية، بينما أعدلُ ربطة عنقي المزركشة، و من ثمّ ارتديت سترتي السماوية، و وجدت أصابعي طريقها لترتيب خصلاتي الداكنة.

دندنتُ مع الأغنية حتى فتحت الباب و أسرعت إلى ردهة المنزل فوجدت السيدات يجلسن في الصالون، و يثرثرن عن أحدث صيحات الفساتين رُبما "صباح الخير، سيداتي." تحدثت مبتسمًا لأجدهن يُجبنني "صباح الخير." عدا العمة ليندا التي تفضل أن تُجيب بالألمانية.

"أين عمي روبرت؟" سألتهن أحاول تحاشي النظر إلى ويندي التي اتخدت مكانًا مُجاورًا لأمي، لكن لم يساعدني إجابتها لِي "ستجده بالحديقة، يدخن سيجارًا." كدتُ أتصبب عرقًا حين انتبهتُ إلى نظرات روزي المتحاذقة فهي الوحيدة التي تعرف الحكاية كاملة.

فحاولتُ أن أتهربُ "أعذركن، سأذهب لِرؤيتِه." طلبت أمي إليّ "عزيزي، لا تجعل الحديث يأخذكما عن الفطور الذي سيكون جاهزًا بعد خمسة عشر دقيقة." أومأت لها، لكنها أردفت مجددًا "و يجب أن تتحدث إلى التوأمين بشأن دروس الفروسية." أجبتها مُسرعًا إلى الخارج قبل أن أغرقُ في عرقي من فرطِ توتري "حسنًا، أمي."

چوناثان و ليون التوأمان متمردان قليلاً، فبعد أن بلغا السادسة عشر وجد كلاهما أن الرقص أفضل من ركوب الخيل، لا أستطيع التدخل في هواياتهما بالطبع فذلك يرجع إليهما، لكن أمي تفعل.

وجدتُ روبرت يقف في الحديقة ينظر إلى ما يُحيط به في غير اكتراث، مهمومًا أو تواجهه بعض الذكريات رُبما. مازحته "أتشتاق إلى الأيامِ الخوالي، يا عمي؟" ضحك قائلاً " صباحُكَ خيرًا، بُني."

"هل حظيت بليلة هنيئة؟" سألته مبتسمًا ليُجيبني بإيماءة بسيطة، كان يبدو شاردًا للغاية، فسألته بنبرة قلقة "ما الذي يشغلك إلى هذا الحد، عمي؟" نظر لي مُطولاً نظرة خلت من التعابير، قبل أن يُلقي حديثه" يُراودني خاطرًا منذٌ زمنٍ ، يُراودني شعورٌ يحثني على البقاء تحت سماءِ وطني حتى ألفظُ أنفاسي الأخيرة ."

-

Cherry Trees | أشجار الكرزحيث تعيش القصص. اكتشف الآن