الحرب

2.4K 257 21
                                    

-

- الثالث من يونيو ، من عام 1940

كان صباحٌ جديد هواؤه ثقيل عليّ كثيرًا، جلستُ في الحديقة برفقةٍ عمي و زوجته، أُدخن سيجارًا، لم أكن أدخن دائمًا، فقط أحيانًا عندما تجتاحني الكثير من الخواطر. كان صوتُ المذياعِ يصدح بأخبارِ جلاءِ الجنود من دونكيرك الفرنسية، راقبتُ حركة أصابعي المرتعشة و الدخان الذي يهربُ من السيجار حتى قاطعني صوتُ العمة "ويليام، يا بني.. أيمكنك أن تُطفئ ذلك المذياع، إنه يُصيبني بالتوتر."

سبقتني أصابع ويندي إلى ذلك المذياع، فرفعتُ نظري لها مُبتسمًا في تكلفٍ. لم يسمح لي كبريائي بأن أُحادث ويندي بشأن تلك الليلة حين تعرَت لها ندوبي، و ظهرَ لها ضعفي، كُلما تذكرتُ دموعي المنهمرة، يجتاحني فيضانٌ من الغضب، كانت تجمعنا فقط أحاديث عن الموسيقى و الكتب، لكنها لم تكن أحاديث عميقة البتة.

نظرتُ إلى ويندي التي اتخذت مكانًا إلى جوار والدتها، و التي كانت تُطالع مجلة الموضة بتمعنٍ. اتجهتُ بنظري إلى العم روبرت مُتسائلاً "أتظنُ دخول ونتسون تشرشل الحرب قرارًا صحيحًا؟" ضحك العم مُستنكرًا "أتفكر في قرارٍ بالفعل تم اتخاذه و تنفيذه، بل ليس لنا اليد في تغييره؟" أطفأت السيجار قائلاً "بالطبع أفكر، أليس ذلك هو موطننا؟" لم يُعطيني العم جوابً، فسألتني ويندي عن رأيي.

"بالطبع أُقدّرُ ذلك القرار، كان يجب على أحدهم أن يضع حدًا لذلك الجزار النازيّ." لم أتعمد أن أطرد تلك الكلمات من حلقي، لكن مزاجي المتعكر قد تكفّل بذلك، دافعت ويندي "أرى أن هتلر يسترد حق بلاده بعد ما أصابها في الحربِ الأولى." سخرتُ "إن بلادَه هي التي ألقت بنفسها في تلك المصائب، و لكلِ شيءٍ عواقبه."

"ليندا، أتريدين تفحص الحديقة قليلاً؟" قال العم ناهضًا عن مقعدِه، فأخبرتُه ليندا بأنها تود ذلك. نظرت إليّ ويندي في عتابٍ قائلة "لم يجدر عليكَ أن تتحدث عن أمر الحرب أمام أمي، إنها تتحسس كثيرًا تلك الأيام، ففي نهايةِ الأمر إنها ألمانية، و أنتَ قد كدت أن تذمّ أرضها التي مات لأجلها أخويها." انتابني الخجل كثيرًا، فاعتذرتُ "آسف، لم يجدرعليّ ذلك بالفعل."

"أترى حقًا أن الحربَ صوابٌ؟" سألتني في خذلان، أومأتُ لها متيقنًا "لأجل الوطن، كما دافعتِ عن هتلر و ما ارتكبه." هزّت رأسها نفيًا "لم أقل قط أن الدماء هي الحق، و لم أدافع عنه.. أنا لا أطلبُ سوى السلام، و كلما ازدادت الدول الُمشاركة في الحرب، كلما زادت الدماء التي ستروي الأراضي." ألقت حديثها في نبرةٍ يأس كبيرة هامسة بينما تُجمع أغراضِها "لو كنت تعرف ويندي صِدقًا لعرفت أني أكره النازية، و لما جادلتني قط بشأن الحرب، لكن يبدو أننا لم نعد نعرف شيئًا أبدًا عن بعضِنا البعض." ثم غادرتني دون كلمةٍ أُخرى، فزفرتُ في ضيقٍ، لأن الأمور لم تتحسن حتى تزداد سوءًا.

و لحق بالأيام السابقة يومان آخران، كان واضحًا فيهما أن ويندي تتجنب الحديث إليّ، فيبدو أنها كانت غاضبة بشأنِ حديثي عن الحرب، فوعدتُ نفسي بألا أذكرُ أمرَها مُجددًا أمامها. كنتُ أجلسُ في الشرفةِ حينما جاء چوناثان "هل يمكنك اصطحابنا إلى السينما الليلة؟ "

زفرتُ في ضجرٍ هامسًا "لا يمكنني." غادر چوناثان حانقًا و من ثَمّ دلف ليون بدلاً منه "كلا، لن أُغادر ذلك المنزل." باغتُّه قبل أن يتحدث، رفع ليون كتفيه في غير اهتمام قائلاً "جئتُ أتساءل إن كان چون قد أخبرك أن ويندي قد ترغب في الذهاب إلى السينما، لكن يبدو رفضك نهائيًا."

"تبًا." همست تحت أنفاسي، فالتوأمان حيلهما لا تتوقف، تحدثت غاضبًا "فليكن ما تريد يا ليون، لكن إن رأيتُكما إلى جواري فستحصلان على ما لا تشتهيان." صاح چوناثان ضاحكًا "لا تقلق، سنترك لكَ الطريق فارغًا."

لا أستطيع إسترداد نفسي، فكيف لِي أن أستردكِ؟ إلام أحنُّ، يا ابنة العم؟ أخبريني كيف العودة؟ أردتُ منكِ أن تُرشديني إلى صوابي، لكنك أكثر الناس حاجة إلى المساعدة و كنتِ تُخبئين ذلك طوال الوقت.

انتبهتُ بعد لحظات لذلك الجسد الضئيل الذي يجلس راكعًا على ركبتيه أمام جزع الشجرة المقطوع، نهضتُ من مجلسي سريعًا لمّا لاحظت ويندي منكفئة للأمام تنظر لجزع الشجرة في حزن. شاهدتُ كيف تحركت يدها لتمسح على ذلك السطح الخشبي. انتظرتُ منها أن تنهض من جلستها ، إلا أنني قد شعرتُ بأن هناك خطبًا لمّا طالت في وضعها.

غادرتُ الشرفة سريعًا، قاطعًا الحديقة نحو الصهباء، و صحتُ في قلق "ويندي, ما الأمر؟ أهناك خطبًا قد أصابك؟" لم ترفع ويندي رأسها نحوي حتى دنوتُ أنا منها. كررتُ سؤالي بينما جثيتُ إلى جوارها، كان صوت أنفاسها المتهدج هو الصوت المسموع حتى همست منتحبة "لماذا قطعتم تلك الشجرة؟" انتفض قلبي عندما رأيتُ الأدمع محبوسة في عينيها، فتذكرتُ حينهها أن تلك كانت الشجرة المفضلة لويندي.

حاولتُ أن أُبرر لها ضاحكًا في تعجبٍ "لقد قطعناها منذُ عامين، فقد أصبحت شجرةً عجوز و لم يعتنِ بها أحد بعد أن غادرتِ." زفرت في ضيق بينما تُشيح نظرها عني، حاولتُ أن أتفهم سبب غضبها. سألتها في تهكمٍ، فقد كانت درامية للغاية "ويندي، لا أفهم سبب حزنك المفرط، أنتِ لم تكوني موجودة و ستسارعين في المغادرة مجددًا."

"لن تفهم، لأنك لا تُحاول أبدًا." ألقت حديثها جافًا، ألا أُحاول أن أفهم؟ ذلك اتهامًا قاسيًا للغاية. تنهدتُ و حاولتُ أن أضع يدي على قبضتها لكنها سحبتها مني طالبةً إليّ "دعني و شأني الآن، رجاءً."

-

Cherry Trees | أشجار الكرزحيث تعيش القصص. اكتشف الآن