حقول يوركشاير

796 104 30
                                    

-

تتسارعُ لهثاتي، بينما أشدُّ قبضتي على سلاحِي، لا يصدحُ سُوى صوتِ أنفاسنا في ذلك الخندقِ العميق، نظراتٌ صامتة يشوبها القلقُ و الخوف تدور بين الجميع، بينما رائحة الدماء المختلطة بالوحل و البارود تنفذُ إلى أنوفنا، ثم ينتهي كل شيء بانفجارٍ عظيم تهتزُ له الأرض قبل أن تهتز له نفوسنا، قبل أن أستيقظُ في فزعٍ حينما شعرتُ بنبضاتِ قلبي المتسارعة، و هُناك طنينٌ في أُذني و كأن الإنفجار قد حدث لتوِه، أما عن ألمِ رأسي فهو يفتكُ بي.

نهضتُ عن فراشي في صعوبة، أُحاول التغلبَ على رغبتي في البقاء في الفراش، كانت رؤيتي مُشوشة، و كذلك خُطواتي ليست مُستقيمة، حركتُ يدي اليُسرى أفتح بِها الباب، ثم ذهبتُ إلى دورة المياه ثم خرجتُ نزولاً على درجاتِ السُلَّم حيثُ جلست روزالين تُهدهد لورين الصغيرة النائمة في مهدها.

ابتسمت روزالين لِي قائلة "ويليام ،كنتُ سأصعد كي أُوقظك." جلستُ إلى جوارها هامسًا "لقد استيقظتُ." سألتني في قلقٍ "هل كانت نومك هادئًا؟" سخرتُ في داخلي دون أن أُجيب. حسنًا مُقارنةً بأيامي الماضية فهي أفضلهن.

سألتُها "أين التوأمان؟" فعرفت روز أنني أتهربُ من سؤالها، حملت روزالين ابنتها في رفقٍ قائلة "چون لا يزال نائمًا، بينما ذهبَ ليون برفقةِ مايكل إلى الحقولِ حيثُ سيبدأ رمي البذور للمحصول الجديد." ثم نهضت و سألتني "سأذهبُ الآن لكي ألحقً بهم، الشمس دافئة، هل ستأتي؟" أومأتُ لها مُستسلمًا.

كانت الأيام المتتالية سواء منذُ أن عدتُ من الحربِ. حتى كوابيسي لم تتنوع. قاطع أفكاري صوتِ روز قائلة "ويليام، لقد راسلتني ويندي." صمتُّ أنتظر المزيد، فاسترسلت روز في الحديث قائلة "و لقد عرفت بكل وضوح أن ذلك خط يدي و ليس خاصتك." ضحكتُ لأنني كنتُ أعرف جيدًا أن ويندي لن يفوتها ذلك. قلتُ "حسنًا سأُراسلها بالحقيقة.. أو أنتِ من ستفعلين تِقنيًا."

لقد كنتُ صادقًا في كل كلمةٍ قد كتبتُها في خطابي للعم روبرت، فبرغمِ قسوة الحرب و ما تخلف بِي من جروحٍ جُسمانية و نفسية، إلا أنني أصبحتُ شخصًا يجنح للسلم، شخصًا تمنت ويندي دومًا لو أكون عليه، لكنني أعلمُ جيًدا أن ويندي طيبةِ القلب، و ستغفر لِي كل ما اتركبته من حماقات.

حسنًا، و بخصوصِ ما حملتُه داخلي من عاطفةٍ إلى ويندي، فلا زلتُ أستنكر كيف خفتت تلك العاطفة منذُ أن غادرت إلى برلين. إن الليالي التي قضيتُها في ذلك الجحيم جعلتني أنظرُ إلى ما فعلتُه من قبل، و كم كنتُ قاسيًا عليها. لقد فكرتُ فيها كل ليلة و أنا أشعرُ بالندمِ يأكلني على أنني لم أُصلح الأمور برفقتها قبل أن ترحل.

و قد أخبرتني روز عن ذلك الرجل التي تُواعده ابنةُ عمي – أو أعني رفيقها، لأن ويندي تُصِّرُ في خطابتها على أنهما رفقاء و ليس إلا – و قد كنتُ لأول مرة سعيدًا لأجلِ الصهباء، بالإضافةِ إلى سعادتي لعدم زواجها من الرجل الذي كانت مخطوبة له، فعسى أن تكون وجدت من يفهم ما يدور داخلها بسهولةٍ.

مُتجهان إلى الحقل أسفل شمس الصباح الدافئة، انتبه إلينا ليون فلوّح لنا في سعادة مُتجهًا إلينا ركضًا كي يحمل لورين العزيزة. تلك الصغيرة التي قد ألانت قلوبنا كلها، أقسم على ذلك. و يرجعُ أيضًا بعض الفضل إلى العائلة التي ستعمل في حقلنا مُقابل أجرًا فقد كانت لينة القلب أيضًا.

كانت تتكون من أبٍ مُزارع قد جاء من ريف مقاطعة هُل برفقةِ عائلتِه، أمّا عن زوجتِه فقد كانت لا تعمل لِكبّر سنها، لديهما ابنًا في سنِ التوأمين، و ابنًا آخر يكبرهُ قد ذهب إلى الحربِ، و أخيرًا ابنة قد بلغت التاسعةِ عشر و تُدعى إيڤ.

لوحت لنا إيڤ راكضةً نحونا و خُصلاتها الذهبية تطاير خلفها. و قالت لـ روزالين بلكنتها الريفية "سيدة براندون، لقد أعدت أُمي ذلك الخبزَ طازجًا ذلك الصباح." ابتسمتُ بينما أراها تُخرج الخبزَ الأسمر من لفةٍ ربطتُه بها. تناولت روزالين منه، قبل أن تمدُّ إيڤ الشقراء بالخبزِ نحوي قائلةً في خجل "سيد ويليام، تفضَّل."

كان صعبًا عليّ أن أقطعه بيدٍ واحدة فساعدتني إيڤ دون أن تُزيل ابتسامتها الخجلة عن ثغرِها، ولأول مرةٍ لم أشعرُ بالشفقةِ تجاه نفسي.

كانت صاحبة الخصلات الذهبية تتجنب نظراتي التي لم أتعمدها قط، حيثُ أشحتُ ببصري سريعًا عندما لاحظتُ توردُ خديها عندما طالت حملقتي بها. قالت روزالين "لم أتناول خُبزًا طيبًا كهذا البتة، أليس كذلك يا ويليام؟" فهمهمتُ كإجابةٍ.

فابتسمت إيڤ باتساع، لكنني اعترضتُ "لكن هكذا سنتذمرُ عندما نتناول أي خُبزٍ آخر." ضحكت روزالين تُوافقني في حديثي، في حين ابتسمت الفتاة في خجلٍ، ثم رحلت قاطعةً الحقل راكضة نحو المنزل الصغير المُقام لعائلتِها.

قالت روزالين "إن إيڤ فتاة طيبة للغاية." همهمتُ مرةٍ أُخرى بينما أراها تركضُ بعيدًا، ثم قلتُ "بلا، و نقيةً للغايةِ أيضًا." رمقتني روزالين في هدوء دون أن تنبثّ بحرفٍ آخر. لكن ما لم أبُح بِه قط ،هو أن إيڤ لم تنظر إليّ تلك النظرةِ المختلطة بالشفقة. فمنذُ أن فقدت ذراعي اليُمنى فأصبحت نظرات الجميع لا تخلو من الشفقةِ تجاهي.

لقد كان ذلك هو السببُ الذي جعل روزالين تكتبُ الخطابِ عِوضًا عني، كان الخطاب فعليًا مني، لكنني خشيتُ أن أُصيب عمي بالهم إنْ أخبرتُه بذلك. ما أتعجبُ منه هو الرضا الذي أشعرُ بِه تجاه نفسي، و الذي لم أشعرُ بِه على مدار السبع السنواتِ السابقة، منذُ أن فارقنا أبي.

لا أُنكرُ أنني تألمتُ و لا زلتُ أتألم لفقداني ذِراعي، لكنني حمدتُ الله فلولا ما حدث لكنتُ في الحربِ حتى الآن أخوضُ معاركًا المعركة تلو الأخرى، لكن بعد ما حدث لذراعي، استغنوا عني و أعطوني ميدالية زينت صدري يوم عودتي.

قضمتُ قطعةً من الخبزُ الشهي، و أنا أُدركُ جيدًا في داخلي بأنني أصبحتُ شخصًا جديدًا، شخصًا لم يصبح للغضب مكانًا في داخلِه.

-

Cherry Trees | أشجار الكرزحيث تعيش القصص. اكتشف الآن